أحدث المقالات

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)

 

هناك مقولة أكاديمية تقول بأنّ «المعارف موجودة في عموم الفكر الديني، وفي العلوم، وعلى كلّ المستويات، وما على الباحث إلاّ اكتشاف منطقها، ومسار تطوّرها، ومكانتها في هيكل المعرفة، ومدى تأثيرها في الآخرين، وتأثرها بما سبقها من آراء ونظريّات وأفكار».

والمعرفة الدينيّة بصورةٍ خاصّة معرفة تاريخية متراكمة، معتنى بها، تفسيراً وتدويناً، ويحوطها شعور بالقداسة والاحترام، وتبذل فيها جهود متميِّزة بالانشداد إليها.

لقد كانت المعرفة الدينيّة معرفة تتطلَّب نمط التلقّي الوجداني، حتّى مع اعتماد المسالك الأخرى للتلقّي، مثل: النظر العقلي، الذي يقوم بتحليل مركّباتها وتحرّي مكوناتها وأسباب ظواهرها، ومناقشة رؤاها. ويعدّ المسلك العقلي في الغالب مقاربة غير مرحَّب بها، ولا سيّما من اتّجاهات تحول المعرفة الدينيّة إلى (القدسي والمقدَّس)، على أنّه لا ينفرد النظر العقليّ، حتّى من وجهة نظر أغلب العقلانيّين، في كونه المسلك الوحيد لتلقّي هذه المعرفة، إنّما لا بدّ من التربية المقصودة والموجَّهة عندما نتعلَّم الدين.

ولعلّ هذا ما درج عليه عُرْف المشتغلين بالمعرفة الدينيّة، حتّى بات من قوانين التعامل البشري المعهود مع الأفكار والمفاهيم والنظريّات الدينية. لكنّ هذا النوع من التلقّي يتعارض مع متطلَّبات دراسة الأديان كظاهرة اجتماعية؛ لأنها تستبطن التعامل مع الأديان بوصفها منتجات المجتمع، ونواتج تجربته المصاغة، وعلى وفق مقاساته، فهو الذي ينتجها، وهو الذي يستهلكها. وهذا المسلك ليس من المسالك التي تضع نفسها فوق النقد والتحليل، إنّما يعاملها المسلك كظاهرةٍ حالها حال بقيّة الظواهر الاجتماعية، التي تخضع لأدوات البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي. وعلى هذا المسلك صاغ يوسف شلحت كتابه الذي بين أيدينا، ومن منطلق إنتاج محاولة لعلم اجتماع دينيّ، وبضابط غير أيديولوجي، متجاوزاً السائد المعرفي وتداعياته.

وعند التمعُّن في الكتاب تظهر التداعيات التالية:

1ـ إنّ أوّل ميزة في هذا الكتاب أنّه ينتقل من مقولات علم الاجتماع العامّ إلى مقولات تخصُّصية في علم الاجتماع الدينيّ، ثم يصف المقولات الدينيّة، ويحلِّلها على أساس مقدّمات وطرق البحث الأنثروبولوجي، دون الاهتمام بمقتضيات التجربة الإيمانية، واللوازم الميتافيزيقية، وضرورات الانقياد الروحي الحدسي لنبض العقيدة.

2ـ يلاحظ المؤلِّف يوسف شلحت أنّ الديانة كمفهوم كينوني عبارة عن تكليف مزدوج، يتكوَّن من مزدوج (الحلال؛ والحرام)، وأنّ العالم القديم انتقل من السحر اللازم والممنوع إلى الدين الحلال والحرام، وأنّ قوام الأديان جميعها خمسة عناصر: «المعبد، والعقائد، والصلاة، والذبائح، والأساطير». والأسطورة مجموعةٌ من المعارف والتوصيفات للأشياء والأفكار التي نقلها جيلٌ عن جيل، فأصبحت من متقبَّلات المجتمعات، وجزءاً من تراثه.

3ـ لقد تعرَّض كتاب يوسف شلحت إلى تساؤلات مهمّة جدّاً، منها:

أـ هل الدين ظاهرة وحيانية إلهيّة ـ متعالية؟ أم ظاهرة سوسيولوجية يمكن توظيفها على أصعدة الأيديولوجيات المقارنة؛ لكي تدرس التداعيات الإنسانية إزاء المقولات الدينية. هذا هو المنطلق الأساس للمؤلِّف.

ب ـ ويتساءل هل ظاهرة عبادة الأموات ظهرت قبل ظهور فكرة المعاد والعالم الآخر في الفكر الديني أو بعده. وهو هنا لا يرى أنّ الديانة الأولى نشأت كعبادة للأموات، إنّما يعتقد أنّ دفن الموتى وتقديس مقابرهم حصل في زمانٍ يؤمن بوجود عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فجعلت الأضرحة نقطةً للتواصل مع عالم الأحياء. وهذا عكس السائد في الفكر الذي يحلِّل الأديان؛ إذ ينتقل فيه الإنسان من الطوطمية إلى فكرة اليوم الآخر.

ج ـ ويضع شلحت سؤالاً ثالثاً: هل العقائد صناعة (أفراد)، كرجال الدين، أو صناعة مجتمع؟ فيرى شلحت أنّ العقائد هي (صناعة مجتمعية)، وليست نتاج أفراد، أقصد (رجال الدين)؛ فهؤلاء يحترفون نقل المعرفة الدينيّة، ولا يخلقونها. وهذا أيضاً موضوعٌ يثير جدلاً واسعاً.

4ـ ويقرِّر أن هناك مفردات مشتركة في الظاهرة الدينية لكلّ الأديان: ففي كلّ الأديان هناك الشعائر والمراسم والطقوس؛ وفي كلّ الأديان هناك سلوكٌ إنساني معبِّر عن الاعتقاد، فحتى لو اختلف من حيث الشكل فهو متوحِّد من حيث الباعث، كالتطهُّر، ويتمّ بالماء أو النار أو الدم أو الاعتراف، وهذه من الظواهر المشتركة بين كلّ الأديان.

5ـ إنّ الفارق بين الرؤية (المتديِّنة) والرؤية السوسيولوجية للدين أنّ الأولى ترى أنّ المقدَّس مطلق، والمدني نسبيّ، والمقدَّس مهيمنٌ على النسبي .

وترى أنّ العقيدة مقدَّمة على المنفعة الإنسانية. فالتضحيات يجب أن تكون للعقيدة.

بينما ترى الثانية أنّ المدني (لا متناهٍ)، وأنّ الديني محدودٌ بالنصوص وأفعال الاقتداء، وأنّ العقيدة المفضَّلة هي تلك التي تجلب المنفعة للإنسان؛ لأنّ الإنسان هو غاية العقيدة، ومحلّ خطابها.

إنّ علم الاجتماع الديني يفسِّر الظاهرة الدينية كأيّ ظاهرة اجتماعية على ضوء مبادئ التحليل الأنثروبولوجي، أي إنّه يفسِّرها من داخلها، وليس من خارجها، ولا من فوقها، وهذا هو منطق السببية الاجتماعية. في حين أنّ هذا يفترق عن فقه الأديان، الذي يفسِّر الظاهرة الدينيّة معتمداً فقط على نصوصٍ من خارجها، وأفكارٍ غيبيّة تعزِّزها.

6ـ في دراسة الأديان منهجان: منهج دراسة، تتمّ فيه دراسة كلّ دين منفصلاً عن الديانات الأخرى؛ ومنهج تتمّ فيه دراسة الأديان عبر تطوّرها التاريخي كسلالة اعتقادية موصولة بثقافة المجتمعات. ومن متطلَّبات المنهج الثاني أنْ لا يتمّ التعامل مع الديانات كظاهرةٍ قدسيّةٍ متعالية، وذلك بفصل المتنزِّل عن المنزلة، والمنزَّل عن المنزَّل إليه، وتطبيق أدوات التحليل والتفكيك، والربط بين المسبَّبات الاجتماعية والتاريخية والمنتج الديني.

إذن فالمنطق الاجتماعي للسلوك الديني هو أسلوب الباحث د. يوسف شلحت في كتابه.

7ـ يرى الدارسون أنّ تحرّي تأثير الدين على المجتمع، أفراداً ومجموعات بشرية، والبحث في آثار تنوُّع الأديان، نابعٌ من تنوُّع المجتمعات، ويتمّ تحديد نطاق هذا التأثير بلا إطلاق سلبي، أو إطلاق تأثيري يتطلَّب منهجاً علمياً تحليليّاً يأخذ كلّ العوامل التي تفسِّر الظاهرة بنظر الاعتبار، ويتعامل مع المنتج الديني بوصفه معرفة استهلاكيّة.

8ـ وينشغل المؤلِّف (يوسف شلحت) بمحاولة للإجابة عن مجموعة من الإشكاليّات، ومنها:

أـ هل العلم الدنيوي لا قيمة له أمام العلم الديني في نظر المشتغلين بالمعرفة الدينيّة؟

ب ـ هل العلم الدنيوي يلغي المعرفة الدينية في نظرهم أيضاً؟ وما حقيقة هذا الفهم؟

ج ـ هل النخبة من رجال الدين تلغي جمهور المتديِّنين ودورهم في تعزيز المعرفة الدينية؟

د ـ كيف نفسِّر لجوء (مجموعات دينية) إلى استعمال أيديولوجيا الدين لمقارعة الأيديولوجيّات الأخرى، ولا سيّما السياسيّة، بأساليب (النفي، والإقصاء،  والتكفير)، بحيث نشهد تعاظماً في استعمال السياسة للدين كأداةٍ للصراع، رغم أن الدين ـ كما يُفتَرَض ـ هو الجامع للناس على سبيل التضامن.

هـ ـ كيف يقف العلم والمعرفة البرهانيّة وقفة موضوعيّة ومحايدة إزاء الآراء المتعدِّدة في مستقبل الديانات؟ وكيف يقدِّم التنبؤ الإحصائي العلمي مشهداً للدّين في المستقبل؟

9ـ يرى المؤلِّف أنّ الخلق الاجتماعي للدين يتمّ عبر مجموعة من الطرق:

أـ الإكراه الاجتماعي.

ب ـ الأحداث الاجتماعيّة الكبرى القابلة لكي تفسَّر غيبياً.

ج ـ الشعور المشترك.

د ـ مادّية الحَدَث الاجتماعي.

10ـ ويرى أنّ الديانة في علم الاجتماع إمّا:

أـ ديانات عاطفيّة فرديّة.

ب ـ ظاهرة اجتماعيّة مشتركة.

11ـ ينقل المؤلِّف تعريفات الديانة، فينقل عدّة رؤى وتصوُّرات، منها:

أـ ما يعرِّفها فيور باخ بأنّها غريزة تدفع الإنسان للسعادة.

ب ـ وما يعرِّفها برغسون بأنّها شعورٌ داخلي بالحقائق، ويعدّ ردّ فعل على الاستعمال المفرط للعقلانية.

ج ـ وما يراه فرازر من أنّها الإيمان بكائناتٍ عليا، هي: الأرواح، والجنّ، والقوى الإلهيّة. لذلك كان فرازر يرى أنّ البوذية فلسفةٌ، وليست ديانة؛ لأنّه ليس فيها أرواحٌ، فلما أدخلتها صارت ديناً.

أمّا دركايم فيعرفها بأنّها كلّ ما يقسّم الأشياء إلى: حلال؛ وحرام، وما يقسّم المحرّم إلى: طاهر محرّم؛ ونجس محرّم.

12ـ ويحدِّد المؤلِّف ما يسمّيه بـ «أقوام الديانات» بعدّة أمور، أبرزها في:

أـ المعبد: ويرى أنّ فكرة المعبد المتحوِّل من الكهف، الذي أصبح فيما بعد (المدفن)، إلى هيكل مقدَّس قد صار مستودَعاً للقدّيسين (قبور العظماء المحاطة بالإجلال، والمتحوّلة إلى مزارات)، وتحوَّلت أرواحهم الى أرواح أرفع من مستوى البشر. وقد نشأ هذا في ظلّ تصوّرات الإنسان لعالمٍ آخر، وتفرَّع عن عقيدة تناسخ الأرواح.

ب ـ ألمانا: وهي قوى روحيّة يمكن للإنسان أن يسخِّرها لمصالحه (طاقات سحرية خلاقه) (mana).

13ـ يعتقد المؤلِّف أنّ قوانين تطوّر العقائد هي:

أـ قانون الانتقال من النفي إلى الإثبات، مثل: (لا إله إلاّ الله).

ب ـ قانون الزيادة. فالبابا في الأصل مطران روما، لكنّه أصبح الرجل الأوّل في الديانة المسيحية، فهو الذي يقرِّر مصير الديانة، واقتضى أن يعدّ معصوماً؛ لأنّه الناطق لكلمة الله.

ج ـ قانون التعقيد: إذ الأديان تبدأ بسيطةً، ثم يتوالى الجهد التفسيريّ، فيدخل عليها المزيد من التعقيد.

14ـ يعتقد المؤلِّف أنّ الذبيحة عبارة عن خطبٍ لودّ الآلهة، والذبيحة البشرية هي أقدم الذبائح، والأصل في الضحية أنّها قربان لقوى خفيّة.

15ـ هناك مجموعة ممّنْ يرى تفسير التديُّن بما فسّره المؤلِّف، وأهمّها:

أـ تفسير تايلور: إنّ الاعتقاد بأنّ النفوس بعد الموت لا تضمحلّ، بل تتحوّل إلى أرواح متحرّكة وواعية وفاعلة، هو الأصل في تفسير التديُّن.

ب ـ ماكس مولير: يعتقد أن الإنسان محاطٌ بالأسرار، ولأنّه لا قدرة له على تفكيكها اضطر إلى أن يعبد القوى اللانهائيّة والمطلَقة، وبذلك يفسِّر التديُّن بانغماره في أسرار الكون.

ج ـ تفسير نيتشِه: يرى أنّ التديُّن بواعثه التعطُّش إلى السعادة.

د ـ برغسون: يرى الديانة غريزة مضمَرة في الفطرة الإنسانية.

16ـ يقرِّر المؤلِّف أنّ العلاقة بين الدين والسلطة متنوِّعة.

فيرى فرازر أنّ السحر أسبق من الدين في التحكُّم بالمسار البشري، فلقد تحوَّل الساحر إلى كاهن، ثم إلى الكاهن الأعظم، حتّى دخل في مصافّ الآلهة، وجمع السلطتين المدنية والدينية معاً، رغم أنّ السلطة كانت موزَّعة على الناس، كلّ فرد يملك قدراً منها، فلما حصل انتقالهم إلى القرية، وامتهن الإنسان الزراعة، أفرز هذا الاستقرار رؤساء القبائل، فصار كلُّ واحدٍ منهم الحاكم والقاضي والمدبِّر والمحارب والمطاع، فتركَّزت السلطة في فردٍ، رئيس العشيرة، على مجموعةٍ من الفلاحين. وباندماج القبائل تحوَّلت السلطة من سلطة الفرد إلى «مجمع للملأ»، فصار هذا المجمع يقرِّر مصائر مجموعة القبائل، من خلال التحالفات أو الاندماج المجتمعي، فظهر نظام نبلاء المقاطعات، وأمراء الدويلات. ثم تطوَّر الأمر إلى نظام الدولة الملكيّة والإمبراطوريّات فيما بعد. فلما جاءت المسيحيّة، وحكمت المقاطعات ودويلات الأمراء، حكمت هذه الدويلات باسم الله.

ويقول المؤلِّف: لقد كانت المسيحية أوّل نشأتها جمعيةً للإصلاح الديني، لكنْ لمّا استتبّ الأمر لها أَمْلَتْ إرادتها على السلطة الحاكمة، ثمّ ضمّت لها السلطة المدنية. فلمّا ضعفت اضطرّت للتخلّي عمّا اكتسبت. واليوم تحاول العودة إلى سابق عزّها بالتأثير على السياسات الكبرى للدول المسيحيّة.

17ـ يرى شلحت أنّ غاية الإسلام عند إشراقته الأولى كانت تنوير العقول، ولكنّه لم يتمّ له ذلك إلاّ بالجهاد المسلَّح؛ لأنّ الحرب كانت أشدّ الوسائل إقناعاً عند قومٍ شأنهم الغزو والقتال، فصارت الحركة الدينية عبارةً عن جهادٍ ارتبطت به النهضة القومية والسياسية في الإسلام. لذلك يتطابق عند المسلمين مفهوم الدولة ومفهوم الأمّة.

18ـ يتابع المؤلِّف أثر الديانة في الحياة الإنسانية، فيبدأ من:

أـ الدين وتأثيراته على الأصول الفلسفيّة. ويرى أنّ الدين ـ كالفلسفة ـ مجموعة متماسكة من المبادئ التي يفسِّر بها الإنسان أسرار الكون. ويقول: إنّ هناك مقولة: «إنّ ظهور الفلسفة كان مع ظهور الديانة»، فهي الباعث والدافع والمحرِّك. فالأديان أوجدت بذور المعارف الأولى، ومنها تشعَّبت الفلسفة؛ لتحلِّل وتراكم المعرفة.

ب ـ وإنّ الدين له أثره على الأخلاق. فالحياة الخلقية تستمدّ قوّتها من الدين. «فللدّين والأخلاق هدفٌ واحد»، هو صنع الإنسان الإيجابي الذي يخلق السعادة.

ج ـ إن الافتراض السليم أنّ الدين يساعد على احترام السلطة المدنيّة، ويوطِّد دعائم الملكيّة الفرديّة، ويؤمِّن للفرد أتعابه، ويخلق الضابط النفسيّ لعدم الاعتداء، ويشكِّل الدافع للتعاون بني البشر .

د ـ إنّ الدين يقوّي في النفوس احترام الأسرة، ويشدّها إلى ذاتها، ويترتَّب عليها تنوُّع المجتمعات.

هـ ـ إنّ الدين والفنّ توأمان يظهران من خلال النقوش، والجماليات المعمارية. وقد شجعت البروتستانتية الفنّ، حتّى اتُّهمت بأنّها ذات نزعة (وثنيّة).

19ـ يرى شلحت أنّ قوانين التطوُّر الديني في الأديان كافّة:

أـ من القوانين رقيّ الديانات وتقهقرها، كما يعتقد أوغست كونت أنّ التحوّلات من اللاهوتي إلى الميتافيزيقي إلى الوضعي.

وتحوُّلات العبادة من عبادة الأشياء التي يخاف منها إلى عبادة الآلهة المتعدِّدة، إلى عبادة توحيدية لله الواحد. ويعتقد (غويو) و(دركايم) أنّ مآل الديانة إلى الاضمحلال، وأنّ العلم سيحلّ محلّ الدين؛ لأنّهما ينطلقان من أنّ الدين يكون قويّاً في نطاق (البداوة)، ويضعف مع بيئات الحضارة؛ لأن الفرد في الحضارة قد أمَّن احتياجاته، واطمأن إلى عالمه الخاصّ، فزال عنه الخوف الذي يجعله متعلِّقاً بالدين. لكنّ الحقيقة الآن أنّ هناك عجزاً في المادّيات من تحقيق الاطمئنان النفسيّ، ما يشكِّل دافعاً إلى التديُّن؛ للشعور بالسعادة.

فنحن هنا أمام عدّة قوانين:

1ـ قانون التوحيد الديني: الأديان تنتقل من التعدُّد إلى الوحدانية.

2ـ قانون الاتّساع: تعاليم الدين تشمل مستويات الفعل الإنساني كلّه.

3ـ قانون الانتقال من العامّ إلى الخاصّ.

4ـ قانون الانتقال من المادّيات إلى الروحانيّات.

20ـ يختم المؤلِّف كتابه بأنّ مستقبل الديانات، كما استقرأ المؤلِّف الدراسات الخاصّة في هذا الصدد، هو:

أـ إنّ البشرية منتقلة من الماديات إلى الروحانيات، في حاضرها ومستقبلها.

ب ـ إنّ السلطة المدنية آخذةٌ في الاستقلال عن السلطة الدينيّة، لكن يبقى الدين فعّالاً، وإنْ كان خارج السلطة في القِيَم النفسيّة الفردية والاجتماعيّة.

ج ـ إنّ العبادة قوّة روحيّة تمنع اليأس من أن يتسرَّب إلى الإنسان، وهذا خير رادعٍ عن المنكَرات، وترقية للذوق، وترقية للوعي، فإذا رحل الدين حلَّت الخرافة. لكنّ هذا لا يمنع من القول: إنّ العقل الصحيح هو وليد التفكُّر العلمي. وهذا يتطلَّب ديانة صحيحة منزَّهة عن الخرافة. وإنّ من الضروري أن تبقى العاطفة الدينيّة فعّالة في النفس الإنسانية، وأن يبقى الإنسان يحتفظ بها وهي أكثر نقاوةً، بل يفضَّل أن يبقى معجباً بها، وبالكون المملوء بالإبداع والجمال والنفع، وأن يتأمَّل في القوى غير المتناهية، ويسعى دائماً وراء هدفٍ اجتماعيّ وكونيّ صالح ونافع.

ويقول غويو: المتديِّن الحقيقي هو الذي يجدّ في طلب الحقيقة، ويفكِّر فيها، ويحبّها، ويسعى نحو نفع الإنسان أينما كان، وأيّ دينٍ اعتنق.

بهذا أستطيع القول: إنّي أقدِّم عرضاً كافياً للكتاب، أرجو أن أكون قد قدَّمتُ خلاصةً وافية لمضمونه وخطابه النقدي.

(*) أستاذٌ جامعي، وباحثٌ متخصِّص في علم الاجتماع الديني، من العراق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً