أحدث المقالات

قد يكون المكان جغرافيا ليس ذا ثقل يعتد به وفق الحسابات الجغرافية في العقل السياسي، وقد يكون ديموغرافيا لا يشكل خطرا وجوديا في حسابات القوة والضعف والربح والخسارة في الذهنية السياسية، وقد يكون عسكريا ليس بعديد مقلق لخصمه .

إذا لماذا كل هذا الضجيج حول الحسين عليه السلام؟

المسألة ليست كمية أبدا في ثقلها وأهميتها، فرغم اعتيادنا تاريخيا على الكم بل سلوكنا استراتيجيا عليه، إلا أن المسألة في كربلاء لها بعدا نوعيا خاصا يجعلها ثقلا في ميزان الكيف رغم ضحالتها في موازين العقل الكمي في ذاك الزمن وفي زماننا.

إنها حركة نوعية غيرت مسار التاريخ ،وأثقلت قراءه بالذهول ، فمن أي زاوية ينظرون لها، وكيف يمكنهم تصنيفها وفق التصنيفات العلمية الحديثة؟

كيف يمكن للعقل الكمي والرأسمالي أن يقرأ هزيمة كهذه بأنها شكلت مفصلا تاريخيا غير المسار ودك مدامك  حكم كان فتيا في خطواته في السلطة ؟

بأي معيار انتصر الحسين عليه السلام؟ وكيف لثلة بهذا العدد القليل أن يتم إبادتها بكلها وكلكلها أن تضرب جذورها بعمق في تاريخ الانتصارات وصناعة الثورة والاجابة على سؤال وجودي هو : كيف تكون إنسانا ؟ كيف تكون مظلوما فتنتصر رغم الموت؟

مازال الكتاب والمفكرين يكتبون وكلما توغلوا في ثورة كربلاء كلما اكتشفوا أنهم مازالوا على السطح وأقدامهم غير قادرة على الثبات في رمالها المتحركة فكريا وتاريخيا.

ثورة بحجم الحسين ع وأهل بيته وأصحابه لا يمكن أن تنضب قصصها وعبرها ومدارسها، فكلما تراكمت المعرفة واتسعت مدارك العقل ، كلما اكتشفنا وسبرنا أغوار هذه الثورة.

إنها مدرسة بنبض حي لا ينضب معينها ويجف ماؤها العذب ، هي ملهمة للجميع دون استثناء.

فلو تخيلنا المشهد من الفضاء كنا سننظر له كبقعة صغيرة جدا في مساحتها يتقاتل عليها بشر لا نكاد نرى أحجامهم لصغرها بمنظار علوي فضائي كمن ينظر للأرض من القمر ، ولكن الحقيقة أن هذه البقعة الجغرافية الصغير صنعت تاريخ هذه الأرض ، وهذه الأحجام الصغيرة وفق منظور العين الحسية ، شكلت معالم الإنسان من بعدها ليصبح من خلالها عملاقا حينما يقول “لا” لكل سلطة تشبه يزيد ، وحينما يرفض أن يبايع مَن على ذات النهج ، إنها “لا” الرافضة للظلم والاستبداد، إنها “لا” الصانعة للعزة والكرامة والساعية على درب الاصلاح لا أشرا ولا بطرا …

هي “لا” المقرة للألوهية لله وحده ونافية عنه كل شريك ، إقرارا طهر تلك النفوس الكربلائية بماء التوحيد الخالص ، بحيث آثروا بهذه ال ” لا ” الله على أنفسهم وجسدوا مصداق ” النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم” ، وحيث حدد النبي “ص” المسار في مسيرة الصرط قائلا :” حسين مني وأنا من حسين ” ، فبات الحسين يكسب ذات المقام في التولي والتبري والإيثار، إيثار الحسين على النفس ليكون هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فالقلة العددية هنا تكتنف قوة معنوية استطاعت أن تتحرر من كل متعلقاتها الدنيوية والمادية ، بل تتحرر من كل مخاوفها ، فلا يعيقها في طريقها إلى الله لا مال ولا ولد ولا مسكن ولا شيء

فقد قال الله تعالى :

” قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 

التوبة ٢٤

فحينما اشتد الحب في قلوب الكربلائيين وتلألأت كلمة ” لا ” أصبح الله أشد حبا في قلوبهم ، وحينما يشتد الحب تنجذب القلوب للجهة المنشدة إليها ، ويصبح وجودهم كله متوهجا بمعالم هذا الحب منهجا وسلوكا ومعاييرا .وتحقق الوعد الالهي ” لأغلبن أنا ورسلي ” غلبة ليست وفق معايير الكم ومعايير المادة ، بل غلبة تتحقق اذا ما توافرت الشروط التي هي مدار ارادة الانسان في تحقيقها وتوفيرها ، غلبة منهج وصراط وسبيل للوصل من خلال اقصر الطرق لله تعالى .

فقال الله تعالى :

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ “

البقرة ١٦٥

 

فالمعيار هنا معيار القرب من الله ومدى تجلي الوجود الالهي في الوجود الإنساني ، فكلما ازداد تجلي الله كلما تخلصت النفس من المتعلقات الدنيوية وبات أكثر قدرة على تقديم الله على كل إِنيَّتَها ، لذلك نجد مجتمعات تضحي بإقدام لأجل الحق وطريقه ولأجل كرامة الإنسان،  وتحقق كل موازين الغلبة وشروطها وتعد ما استطاعت من قوة لترهب بها عدو الله ، ومجتمعات لا تملك حتى قرار نفسها ، بل هي رغم ظاهرها المؤمن إلا أنها غير قادرة على التحرر الثوري .

 

ففي كربلاء إعادة لرسم موازين ،معايير الأرض وفق إرادة السماء،حيث المعركة باتت بين التيار الإلهي والتيار المادي،معركة بذل فيها التيار المادي كل ما يملك من مكر سياسي في عملية الهدم المنهجي لثقافة وهوية الأمة فحول بوصلتها نحو الأرض بعد أن كانت نحو السماء،ثم أسقط القدوة التي تحدثت عن مشروع الله في الأرض وفق إرادة الله،ثم انقض على ما هو من موجود من بقايا أفكار حول الله ومحمد والمعاد.

 

في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة حجما تجلت فيها ثقافة التيار المادي وفهمه للدين الذي صنعه فقهاء السلطة بأموال المسلمين التي سيطرت عليها تلك السلطة بعد أن قامت ببناء شبكة لوضع الحديث على لسان النبي ص، بعد أن منعت سابقا وجرمت كل من ينقل أو يروي حديثا عن لسان النبي ص خارج نطاق هذه الشبكة التي شرعنتها السلطة وهي شرعنت ملك السلطة العضود باسم الدين الذي صنعوه وفق مقاسات حكام تلك الأزمنة.

 

فكان قطع الرؤوس ثقافة رسختها تلك السلطة بحجة الخيانة والخروج عن ولي الأمر الذي نصبته فتوى فقيه السلطة على رقاب الناس ليصبح الخروج عليه خروج على الله والخروج على الله يستوجب النحر انتصارا لله.

ففي كربلا يوم عاشوراء تجسدت البشاعة في الذبح وقطع الرؤوس تحت نداءات الله اكبر اقتلوا أعداء الله.

فهل كان سبط النبي الحسين عدوا لله ليحز رأسه ؟

إنها شعارات داعش اليوم وسلوكها حينما تحز رؤوس مخالفيها وهي تصرخ الله أكبر وتبني رؤيتها على قتال المنافقين والرافضة والنصيريين بحجة كفرهم ، كجيش يزيد حينما قتل سبط النبي ص بل قال بعضهم عجلوا قتل الحسين كي نلحق بصلاة الجماعة ، فداعش تركت الأنظمة الفاسدة وتركت الصهاينة يعيثون فسادا وجعلت أولويتها قتل الأبرياء وكل من يختلف معها في العقيدة والمنهج متكئين على تاريخ يعود بنا لكربلاء حيث يستلهم الفرع نهجه من الأصل .

فداعش كنهج وفكر سلك طريقه عبر التاريخ ، يجسد الرفض للآخر والاقصاء والتكفير والتضليل لكل مختلف ومخالف ، رغم أن النهج الحسيني كان “وجادلهم بالتي هي أحسن” ، كان يقيم الحجة تلو الحجة على عدوه قبل القتال ، ولم يبتدئهم ويبادرهم ، بل بادروه فشرع في رد العدوان ، رفض أن يبايع يزيد وهو رفض تاريخي أسس لمنهج الرفض والتبري لكل منهج يزيدي في كل عصر ، لتصبح مثلي لا يبايع مثله منهجا تغييريا اصلاحيا يوضح علاقتنا بالسلطة من جهة ومعالم طريق التحرر من جهة أخرى.

اليوم يواجه جيش يزيد أي الدواعش ، جيش الحسين ع متمثلا بكل مقاوم شريف ، وستدور رحى المعركة لكن اليوم المفارقة أن الحسين ليس وحيدا وحينما سينادي هل من ناصر ينصرنا سيجد حوله رجالا لله إذا أرادوا أراد.

لكن هناك محاولات حثيثة لكي وعي المسلمين وتحويل منهج الرفض والاصلاح الثوري الذي أسسه الحسين ، إلى منهج المهادنات مع السلطات الظالمة اليزيدية بحجة الاستقرار والتغيير التدريجي الذي تستطيع من خلاله تلك السلطات تدجين المعارضين والسيطرة عليهم وتوجيههم بهدوء ودون أدنى مقاومة .

فالملاحظ اليوم أن جل الدراسات الغربية تحاول دراسة نتاج الثورات العربية بنوع من التوجيه باتجاه وضع خياران لا ثالث لهما : الأول القبول بالاستبداد والديكتاتوريات بحجة الحصول على الاستقرار

والثاني : الفوضى

بل هي تحاول ترسيخ فكرة الاصلاح السلمي المهادن للسلطة والمدجن بما تريده تحت شعارات الديموقراطية والشراكة في السلطة ، أما التغيير الثوري فبات في حكم العدم كونه بعد تجربة ثورات ما يسمى بالربيع العربي ينتهي للفوضى والقمع والموت.

ولكن لنقف قليلا وننظر في المعايير الحسينية للنصر ومقارعة الظالمين :

فوفق معايير بعض هذه المراكز الغربية التغيير الثوري الذي قام به الحسين عليه السلام لأجل الاصلاح أدى إلى موته وأهل بيته وأصحابه بطريقة بشعة يندى لها جبين التاريخ ، وبعد موته استمرت الثورات في عهد بني أمية من ثورة التوابين إلى ثورات العلويين المتكررة والعباسيين حتى سقط الحكم الأموي ، وبقيت الثورات مستمرة إلى يومنا هذا ، فهل يعني ذلك أن التغيير الثوري الذي يقارع الظلم ويواجه حكومة كحكومة يزيد اشتهرت بالفساد الأخلاقي والمالي والظلم وقلب المعايير والموازين التي جاء بها المشروع الاسلامي وإعادتها إلى المربع الجاهلي الذي يقوم على الولاء للحاكم والقبيلة بعد أن رسم المشروع الاسلامي معالم الولاء لتكون للحق ومعايير التفاضل لتكون للتقوى، هل يعني هذا التغيير الثوري الفوضى ؟

إن العدالة من مصاديقها قلب الموازين والمعايير لتتوافق مع الرؤية الالهية فاذا اعتدلت انكشفت الحجب التي وضعتها الأنظمة الحاكمة ، وباتت رؤية الحقيقة للناس أي الشعوب أكثر تجليا وقربا .

فالحسين ع أراد بالاصلاح أن يعيد النصاب للمعيار الالهي كي تعتدل العقول فترى الواقع كما هو لا كما رسمته الحكومات الظالمة لتحمي سلطانها .

إن انحراف الأمة وصل مرحلة بدا فيها الاصلاح الثوري هو الخيار القادر على الحفاظ على ما تبقى من معالم المشروع الاسلامي من جهة وإلى إحياء ما تبقى من ضمائر في وجدان الأمة من جهة ثانية .

وما أشبه حالنا اليوم بحال المجتمع الذي وقعت فيه ثورة الحسين عليه السلام ، فهم رغم بكائهم على الحسين عليه السلام وحثهم الرمال على رؤوسهم ولطمهم الخدود إلا أنهم خذلوا الحسين ع ولم ينصروه وتركوه وحيدا في كربلاء ينازع الموت لأجل حياتنا بكرامة.

لأنهم لم يتحرروا من القيود والمتعلقات ولم يكن الله في قلوبهم أشد حبا .

ففي كل بقعة يحكمها ظالم بمنهج يزيدي يكون الشعار “مثلي لا يبايع مثله”، كون السير على الصراط لا يقبل بأنصاف الحلول وفي تلك البقعة تعلو كربلاء فوق كل صوت ليكون هنا الفداء وهنا الولاء وهنا يطيب الموت تحت عرش الله ، ولأجل حقه وتحقيق كرامة الإنسان التي هي عطاء الله الذي لا يحق لمخلوق سلبه عنه.

فتجسيد بأبي أنت وأمي ومالي ونفسي يكون بتطبيق ذلك على أرض ميدان الدنيا محل ابتلاءنا واختبارنا.

وهو ما يتطلب أن لا يكون شيء أحب إلينا من الله والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته.

فالسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا .

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً