أحدث المقالات

     مقدّمة تمهيدية

وفيها أمور:

الأول: إن البحث في قاعدة تنقيح المناط يصنَّف في خانة الأبحاث البكر التي لم تطرح من قبل بطريقة موسَّعة، كما جرت عادة العلماء في سائر الحقول العلمية والمسائل المختلفة، وخاصة في الفقه والأصول. ولذا كان البحث فيها متعِباً، يتطلَّب جهداً مضاعفاً، وإعمالاً للذهن، ومزيداً من الاطلاع على المصادر المتعدِّدة في الفقه والأصول.

الثاني: إنّ هذا البحث يُصنَّف في خانة المباحث الأصوليّة. ولكنّنا؛ لندرة المادة العلمية في الأصول حوله، قمنا بعملية مراجعة للمصنَّفات الفقهيّة؛ للاطلاع على رأي العلماء فيه وفي تفريعاته المختلفة. كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّه وإنْ طرحنا رأي علماء السنّة في المقام، لكنّ هذا لم يكن بلحاظ كون البحث بحثاً مقارناً بين المدرستين الإماميّة والسنّيّة، وإنّما كان ذلك لأجل معرفة المسالك والاتّجاهات عند الطرف الآخر في ما يتعلق بالقاعدة محلّ البحث، إضافة إلى معرفة بعض المصطلحات الأخرى التي تشابه إلى حدٍّ ما، ولو بالنظرة البدوية، بحثنا هذا.

الثالث: وجدنا بعد الخوض في غمار هذا العنوان أنه من اللازم التوسُّع في الأبحاث المهملة من قبل علمائنا، مع كون الحاجة إليها ملحّة في حقل الاستنباط الفقهي، نحو: قاعدة تنقيح المناط؛ العرف وأقسامه؛ نظرية المقاصد؛ القياس الجديد عند السنّة، وذلك بغضّ النظر عن النتيجة التي يمكن الوصول إليها في نهاية البحث. وهذا لا يشكّل دعوةً جديدة، بحيث تقع محلاًّ للاستغراب، وإنما هذه هي سيرة علمائنا في طرح المباحث الأصولية للسنّة وقواعدهم ومبانيهم على بساط البحث الأصولي. ومن نافلة القول الحديث عن الأهمّية والفائدة المترتّبة على ذلك، حيث يمكن للباحث في هذه الحالة أن يكون باحثاً إسلاميّاً، لا إمامياً فقط. كما لا يخفى أيضاً أنّ الحوار معهم طبقاً لمبانيهم العلمية له الأثر الكبير.

وبناءً على ما تقدَّم نقول: لا مجال للمقارنة والمقايسة بين الحوار القائم على أساس المباني التي يؤمن بها الخصم والحوار القائم على أسسٍ لا يؤمن بها الآخر؛ وذلك لأنّ الفرق شاسع، والطريق واضح، وما علينا إلاّ السير باتّجاه المزيد من التوسّع والعمق في الحقول العلمية المختلفة في الحوزة. هذا ونستحضر في ختام هذا الأمر حديثاً عن الإمام الباقر×، حيث قال لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة، وأَفْتِ الناس؛ فإني أُحِبُّ أن يُرى في شيعتي مثلك([1]).

 

   الجهة الأولى: البحث التصوُّري في بيان مفاهيم عديدة والموازنة بينها

وهنا نقاط تتصل بتفسير مفهوم تنقيح المناط:

    الأولى: المعنى اللغوي

إنّ هذا المفهوم يتكوّن من مفردتين. وعليه ينبغي البحث في كلمات اللغويين لمعرفتهما، فنقول:

 

   1ـ تنقيح

ذكر الخليل في كتاب العين: النقح: تشذيبك عن العصا أُبَنَها. وكلّ شيء نحّيته عن شيء فقد نقحته من أذى. والمنقح للكلام الذي يفتِّشه ويحسن النظر فيه([2]).

وأما ابن فارس فقال في معجمه: نقح النون والقاف والحاء أصلٌ صحيح، يدلّ على تنحيتك شيئاً عن شيء. ونقّحت العصا: شذّبت عنها أُبَنَها. ومنه شعر مُنقَّح، أي مفتَّش، ملقى عنه ما لا يصلح فيه. ونقحت العظم استخرجت مخَّه([3]).

وأما ابن منظور فقال في لسان العرب: النقح في التهذيب تشذيبك عن العصا أبنها، حتّى تخلص. وتنقيح الجذع تشذيبه. وكلّ ما نحَّيت عنه شيئاً فقد نقحته([4]).

 

 2ـ المناط

قال الخليل في العين: النوط مصدر ناط ينوط نوطاً، تقول: نطت القربة بنياطها نوطاً، أي علقتها. والنوط علق شيء يُجعل فيه تمر ونحوه… وناط عنّي فلان أي تباعد([5]).

وقال ابن فارس في معجمه: النون والواو والطاء أصلٌ صحيح، يدلّ على تعليق شيء بشيء. ونطته به أي علّقته به… والجمع أنواط([6]).

وقال ابن دريد في جمهرة اللغة: النوط مصدر نطت الشيء أنوطه نوطاً، إذا علّقته([7]).

وبهذا يظهر أنّ معنى المناط هو الشيء المعلّق.

وإذا جمعنا بين المفردتين أي تنقيح المناط كان معناها تهذيب الشيء وإخراج ما عداه عنه. هذا في الأمر المادي. والتدقيق في الشيء، بحيث يتبيَّن المعلَّق والمعلَّق عليه في الأمر المعنوي، كالكلام مثلاً.

    النقطة الثانية: المعنى الاصطلاحي

إذا رجعنا إلى كلمات الأصوليين والفقهاء فسوف نجد أنّهم قد اختلفوا كثيراً في تحديد معنى هذا المصطلح. ولعل هذا يعود إلى أنّ المصطلحات التي لا تقع في دائرة البحث المعمَّق في حقلي الفقه والأصول تبقى غامضة إلى حدٍّ ما، أو على الأقلّ يقع الاختلاف في تحديد مفهومها، وبيان حدودها.

ونحن نذكر عدداً من الحدود التي عثرنا عليها في المصادر الإسلاميّة عند الشيعة والسنّة. وكان لا بدّ من الرجوع إلى المصادر السنّية؛ لكثرة ما تعرَّضوا إلى هذا المصطلح، وما يقاربه بنظرة بدوية، كالقياس وغيره.

التعريف الأوّل: ما ذكره السيد السبزواري في المهذَّب، من أنّه الملاك الواقعي للتشريع([8])، أي معرفة أو محاولة المعرفة للعلّة الحقيقية التي على أساسها صدر التشريع من المولى.

كما يمكن فهم هذا المعنى من كلمات الشيخ السبحاني في مصادر الفقه الإسلامي([9]).

ولا يمكن الاعتماد على هذه القاعدة بناءً على هذا التفسير؛ لأنّ عقول الناس عاجزةٌ عن معرفة مناطات وعلل التشريع الإلهي ما لم يصدر النصّ ببيانها من المولى.

التعريف الثاني: وهو ما ذهب إليه السيد الخوئي، من المساواة بين القياس وتنقيح المناط، أو أنه من جملة حالات القياس ومصاديقه، فقد قال: إلاّ أنّ التمسُّك بها من جهة تنقيح المناط… واضح البطلان؛ لكونه مبنياً على جواز العمل بالقياس والاستحسان. ونحن لا نقول به([10]).

وقال في محلّ آخر: وتنقيح المناط قياسٌ لا نقول به([11]).

وفي مورد ثالث: إن تنقيح المناط أشبه شيء بالقياس، بل هو هو بعينه؛ وذلك لعدم علمنا بمناطات الأحكام وملاكاتها([12]).

وهو ما يفهم أيضاً من كلمات العلامة مصطفوي في فقه المعاملات([13]).

ويمكن لنا أن نعلِّق على كلام السيد الخوئي باختصار؛ إذ التعليق عليه وعلى غيره سيأتي في نقطة مستقلّة، فارتقب ذلك.

ولكنْ نقول: ما هو الفرق بين قاعدة تنقيح المناط وما سمّاه السيد الخوئي مذاق الشارع؟ وقد استند إليه، واستدلّ به، أكثر من مرّة في مصنَّفاته الفقهية. وهو وإنْ استند إليه غيره أيضاً، كالميرزا النائيني في كتاب الصلاة([14])، والسيد الحكيم في المستمسك([15])، والإمام الخميني في المكاسب المحرّمة([16])، والشيخ مكارم الشيرازي في القواعد الفقهية([17])، فإنّنا نرى أن القاعدتين من باب واحد. فإمّا الذهاب إلى رفضهما، أو قبولهما. ولا نرى وجهاً للتفصيل بينهما. هذا وقد ذكر السيد الخوئي الاعتماد على مذاق الشارع في التنقيح، حين الحديث عن شرط الرجولة في مرجع التقليد([18])، وفي فقه الشيعة([19])، وكذلك في مصباح الفقاهة([20]).

وهذا النوع من الاستدلال لا يعدو كونه فهماً خاصّاً لمناطات الشارع في أحكامه وتشريعاته, إلاّ أنّ الإنصاف أنه سيأتي الحلّ المعالج لهذه المشكلة 0

التعريف الثالث: القول: إنّ تنقيح المناط هو القياس المنصوص العلّة.

وقد ذهب إلى هذا التعريف الوحيد البهبهاني في الفوائد فقال: وربما يخرّج بقاعدة تنقيح المناط، وهو مثل القياس… والتنقيح لا يحصل إلاّ بدليل شرعي يقيني… وإنّما قلنا بعنوان اليقين؛ لأن الظنّ إنْ كان بغير النصّ فهو بعينه القياس الحرام، وإن كان النصّ فهو القياس المنصوص العلّة([21]).

كما ذكر السيد المرعشي في كتاب القصاص أنّ تنقيح المناط على ثلاثة أقسام، منها: المنصوص، وهو ما ورد النصّ في بيان العلة في لسان المعصوم، كما لو قال: الخمر حرام؛ لأنه مسكر، فنقول من باب تنقيح المناط المنصوص: كلّ مسكر حرام([22]).

التعريف الرابع: ما ذهب إليه المحقِّق الحلي في معارج الأصول، من أن تنقيح المناط هو الجمع بين الأصل والفرع، حيث قال: الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق، ويسمّى تنقيح المناط. فإن علمت المساواة من كلّ وجه جاز تعدية الحكم إلى المساوي، وإنْ عُلم الامتياز أو جُوِّز لم تجز التعدية، إلاّ مع النصّ على ذلك؛ لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية([23]).

وقد مثّل لما جاز التعدية فيه بالأعرابي الذي سأل النبيّ عن مواقعة زوجته في نهار شهر رمضان.

التعريف الخامس: القول: إنّ تنقيح المناط هو عبارة عن إلغاء الخصوصية. وهذا ما يفهم من كلمات بعض الأعلام، كالإمام الخميني، في كتاب الطهارة، حيث قال: ولعدم إمكان تنقيح المناط وإلغاء الخصوصية([24]).

وهو أيضاً ما يفهم من كلمات العلاّمة اللنكرودي في الدرّ النضيد، حيث جمع مرّات عديدة بينهما، فقال: وذلك لأنّ مورد إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط هو ما إذا ألقي أمر إلى العرف والعقلاء، فإذا فهموا منه أنّ المذكور من باب ذكر المثال، وأنه أحد مصاديق الحكم…، فينسحب الحكم المعلَّق في ظاهر الخبر على إصابة دم رعاف زرارة بثوبه إلى إصابة الدم، بل النجس الرطب، بكلّ شيء([25]).

وهو ما يفهم من كلمات العلاّمة البحراني في الحدائق، حيث قال: وكأنّهم بنَوْا على عدم ظهور الخصوصية لهذا الميقات، الذي هو عبارة عن تنقيح المناط([26]).

التعريف السادس: وهو ما ذكره صاحب المهذَّب، وقال بحجّيته، وهو: عبارة عن التقريبات العرفيّة المحاورية في مقام الإثبات والاستظهار. والظاهر اعتباره([27]).

وهو ما يُفهم أيضاً من كلمات العلاّمة البجنوردي في القواعد الفقهية، حيث قال: وليس هذا من باب استخراج الحكم الشرعي بالظنّ والتخمين…، بل هو من قبيل: تنقيح المناط القطعي، بل يكون استظهاراً من الأدلّة اللفظية القطعية([28]).

ونحن نرى أنّ هذا هو الصحيح؛ وذلك من باب أنّ أيّ أسلوب عرفي يدلّ على التعليل، أو المثالية، أو الأولوية، أو مناسبة الحكم والموضوع، فإنّه يكون حجّة من باب حجّية الظهور. وهذا ينسجم مع المعنى اللغوي لهذا اللفظ (تنقيح المناط)، حيث إن التدقيق في النصّ واستظهار ما علّق عليه الحكم يشكِّل صغرى لكبرى حجّية الظهور.

 

   النقطة الثالثة: تعريف تنقيح المناط عند الأصوليّين السنّة

ذكر الشيخ الحسن بن شهاب العكبري الحنبلي أنّ تنقيح المناط هو أن يضيف الشارع الحكم إلى شبه تقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار ليسع الحكم، مثاله: قوله للأعرابي الذي قال: هلكتُ يا رسول الله. قال: ما صنعت؟ قال: وقعتُ على أهلي في نهار رمضان قال: أعتِقْ رقبة، فكونه أعرابيّاً لا أثر له، فيلحق به الأعجمي؛ لأنه وقاع مكلف، لا وقاع أعرابي؛ إذ التكاليف تعمّ جميع المكلَّفين، وكون المرأة منكوحة لا أثر له؛ فإن الزنا أشدّ في انتهاك الحرمة. فهذه إلحاقاتٌ معلومة تبنى على مناط الحكم، تحذف لما علم من عادة الشرع في مصادره أنّه لا مدخل له في التأثير([29]).

وأما من المعاصرين فقد قال عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه البيان المأمول في علم الأصول: البحث عن العلّة عن طريق النصّ تسمى تنقيح المناط؛ وذلك أنّ النصّ قد يأتي بملابسات لا علاقة لها بالحكم. فلا بدّ للفقيه من العمل لإخراج الملابسات عن التعليل، وإثبات العلّة الحقيقية. ومثاله المشهور: الأعرابيّ الذي سأل النبيّ عن وقاع زوجته في شهر رمضان([30]).

وأما الدكتور محمد أديب الصالح فقال: الاجتهاد في تعيين علّة الحكم، التي قد تستفاد من مجموع ما اشتمل عليه نصّ من الأوصاف التي ناط الشارع الحكم بها، وذلك باستبعاد الأوصاف غير المناسبة التي لا مدخل لها في العلّية، بحيث ينتهي المجتهد إلى الوصف المناسب الذي يصلح علّة، بعد التهذيب والتشذيب؛ لأن النصّ لم يدلّ على علّة بعينها([31]).

 

    النقطة الرابعة: الموازنة بين التعاريف ومناقشتها

ونذكر ذلك في ملاحظات:

1ـ إنّه لا يمكن المصير إلى الحدّ الذي ذهب إليه السيد الخوئي، من أن تنقيح المناط هو القياس عينه؛ لوضوح الفرق بينهما، مفهوماً ومصداقاً. ودليل ذلك أن قاعدتنا محلّ البحث هي أضيق دائرة ومفهوماً من القياس؛ لأنه يبتني على مسالك عديدة في الكشف عن العلّة، ومنها: تنقيح المناط. ومعه يتحقَّق الفرق المفهومي، ولو بالعموم والخصوص. وأما الاختلاف المصداقي فإنّ القياس يرجع إلى تخمين العلّة من خلال وسائل وطرق عديدة. وبالتالي فهذا ليس من الظهور اللفظي العرفي في شيء، بينما قاعدتنا تُبنى على الظهور العرفي للكلام.

وما يساعد على ما ندّعي أن علماء الإمامية لا يأخذون بالقياس أبداً كبرويّاً، وإنْ وقع الكلام في بعض المصاديق صغروياً، مع أن عدداً كبيراً منهم على مرّ العصور، ومنذ أن ولدت هذه القاعدة، اعتمدها، واستند إليها في مقام الاستدلال الفقهي.

وإذا قال أحدٌ: إنّ السيد الخوئي إنّما قصد معنى خاصّاً يغاير مفهوماً ومصداقاً ما عليه علماء الإمامية. ولذلك ذهب إلى القول: إنه القياس بعينه، مع علمه بأن غيره اتَّخذ مسلكاً آخر في تفسير هذا المصطلح.

قلنا: إنّه وإنْ عرّف المصطلح بأنه القياس بعينه، إلاّ أنّه لم يكن في صدد الإتيان بتعريف آخر؛ لأنه عندما رفض الاستناد إلى هذه القاعدة كان في مقام الجدل والنقاش مع غيره في موارد عديدة من الفقه، ومعه لا يُحتمَل أبداً أنْ يكون في صدد تحويل النزاع إلى خلافٍ لفظي. وسيأتي البيان الوافي لمعالجة هذه الإشكالية.

2ـ لا يمكن لنا القبول والاستناد إلى التعريف الذي ادُّعي فيه أن تنقيح المناط عبارة عن السعي وراء العلّة الواقعية للأحكام؛ إذ إن ذلك غير متيسِّر للمكلَّفين، بل سائر المخلوقين، عدا المعصومين. وإنْ أراده أحدٌ في مقام البحث التصوُّري فلا مجال للاعتماد عليه في مقام الإثبات.

3ـ يمكن لنا أن نجمع ما بين التعريف الثالث والرابع، حيث إنّ الحدّ واحد، والاختلاف لفظي؛ لأن الجمع ما بين الأصل والفرع في حالة المساواة التامّة بينهما إنّما يكون في قياس منصوص العلّة، وإنْ كان من فرق فهو بالعموم والخصوص. وهذا ليس محلاًّ للأخذ والردّ، بعد الاعتماد على كلَيْهما.

4ـ يمكن لنا أن نجمع ما بين التعريفين الخامس والسادس، حيث إنّ إلغاء الخصوصية إنْ قصد به ما يرجع إلى التقريب العرفي، أي أن يستظهر المجتهد من النصّ أنْ لا خصوصية للموضوع المذكور، وعليه يكون المعنى إلغاءها في كلّ مورد عرفي، ففي هذه الحالة يلتقي التعريفان مع بعضهما، مفهوماً ومصداقاً.

وإنْ قصد به إلغاء الخصوصية مطلقاً، أي سواء تمّ ذلك عن طريق التقريب العرفي أم عن طريق التقريب التخميني والاستحساني، كما في طريق السبر والتقسيم لاكتشاف العلّة، فإنه على هذا يكون مساوِقاً للقياس المرفوض عند الإمامية.

5ـ إن المعنى المطروح عند السنّة لتنقيح المناط أوسع وأشمل ممّا هو عند الإمامية. وهذا حاله كحال القياس؛ حيث إنّه عندهم أوسع ممّا هو عندنا بلحاظ المفهوم، كما المصداق؛ لأن الاجتهاد في تعيين العلّة إنْ كان بالطرق المعروفة عندهم لاكتشاف العلة، كما هو حال القياس، فلا مجال للمصير إليه؛ وإن كان المقصود استظهار العلّة في النصّ فهذا عين ما تقول به الإمامية. ولكنْ يبعد أن يريدوا هذا؛ لأنّ الاجتهاد المأخوذ قيداً في التعريف يختلف عن الظهور العرفي المستفاد من النصّ.

 

    النقطة الخامسة: تعريف القياس عند السنّة

من المعلوم أنّه لا بدّ في المباحث التصوّرية من تحديد التعريفات؛ حتّى لا تختلط المفاهيم والمصطلحات مع بعضها. بل يمكن القول: إنه لا يمكن الدخول إلى البحث التصديقي ما لم يكن التصوُّري واضحاً ومحدَّداً. ولهذا كان لا بدّ لنا من التفصيل قليلاً في هذه المباحث، باستعراض آراء علماء الأصول عند السنّة؛ لمعرفة بعض التحديدات حول القياس وتنقيح المناط عندهم. وهنا نقول:

ذهب أبو الحسين البصري في كتاب المعتمد في أصول الفقه إلى أنّ القياس هو إثبات حكم الأصل في الفرع؛ لاشتراكهما في علّة الحكم. ولا بدّ في ذلك من أمارة يستدلّ بها على علّة الأصل، ومن دليل يدلنا على وجوب إلحاق حكم الأصل بالفرع الذي وجدت فيه علّة الحكم([32]).

وقال الزركشي في البحر المحيط: القياس هو تعدية حكم الأصل إلى الفرع بالجامع المشترك([33]).

وليس المهمّ البحث عن هذا التعريف المذكور في كلماتهم؛ لأنه يشكّل جامعاً وعنواناً عامّاً يجمع ما بين التعدية العرفية وغيرها. ولذا لا بدّ من البحث عن ضوابطه وشروطه.

يظهر لنا بعد التتبُّع في كلمات علماء الأصول في المدرسة السنّية أنّهم قد عدّلوا ونقّحوا القياس بطريقة تختلف عمّا كان موجوداً في بداية ظهور هذه القاعدة في استنباط الأحكام الشرعية. وكلامنا هذا لا يعني أنّ هذه القاعدة قد أصبحت محلاًّ ومركزاً للقبول، وإنّما غرضنا القول: إنّه لا يمكن لنا أن نحاكم شخصاً أو فئة تبعاً لنظريات تاريخية قد تمّ تعديلها مع الزمن. وعليه فإنْ كان لا بدّ من المناقشة فلتكن للنظرية القديمة؛ ومَنْ أراد المناقشة مع النظريات الجديدة فلا سبيل أمامه إلاّ الاطّلاع على مستجدّات المعرفة في هذا الحقل.

ثم إنه إذا أردنا التعرُّف على إمكانية الأخذ بالنظرية الجديدة للقياس فإنّ ذلك يتمّ إمّا من خلال مناقشة الضوابط الجديدة، وقد ذكرها العديد من الكتّاب المعاصرين، كما في «مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط»، أو «أصول الفقه الذي لا يَسَع الفقيه جهله»، أو «الوجيز في أصول استنباط الأحكام»؛ وإما ـ على الأقلّ ـ من خلال التعرُّف على العلّة التي أخذت جزءاً أساسيّاً من تعريف القياس عندهم، قديماً وحديثاً. وفي هذا الإطار نودّ الإشارة السريعة إلى ضوابط العلّة وسعتها؛ لمعرفة إمكان الأخذ بها أو لا، فنقول:

لقد ذكر الدكتور عياض السلمي في كتابه أصول الفقه المتقدِّم شروط العلّة، وهي:

1ـ أن يكون الوصف ظاهراً، لا خفياً، نحو: الإسكار، في كونه علّة لتحريم الخمر.

2ـ أن يكون الوصف منضبطاً، أي لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة.

3ـ أن يكون الوصف متعدّياً، أي وجوده في الفرع كوجوده في الأصل.

4ـ ثبوت العلّية بالقطع أو بالظنّ.

5ـ الاطّراد في وجود الحكم في كلّ مورد وجد فيه الوصف([34]).

وأمّا طرق معرفة العلّة فهي:

1ـ النصّ على العلة من خلال نصّ صريح أو غير صريح.

2ـ الإجماع على العلّة.

3ـ الإيماء، وهو فهم التعليل من لازم النصّ، لا من وضعه للتعليل.

4ـ المناسبة والإخالة.

والأولى: هي ملاءمة الوصف المعلَّل به للحكم الثابت في الأصل.

والثانية: هي غلبة الظنّ بعلّية الوصف.

5ـ الدوران: أي ثبوت الحكم عند وجود الوصف، وانتفاؤه عند انتفائه.

6ـ السبر والتقسيم: أي حصر الأوصاف التي توجد في الأصل وتصلح للعلية في بادئ الرأي، ثم إبطال ما لا يصلح منها، فيتعيَّن الباقي([35]).

وقريبٌ منه ما ذكره عبد الرحمن عبد الخالق أيضاً، في كتابه البيان في المأمول في علم الأصول([36]).

ونحن يمكن لنا التعليق بعدّة ملاحظات:

1ـ كيف يمكن الاعتماد على الإجماع في الكشف عن العلّة، مع أنّ فئة كبيرة من المسلمين، وهي الشيعة الإمامية، لا تعتمد القياس، ولا تقبل بكشف الإجماع عن العلّة. هذا وقد ثبت النهي عن أئمّة أهل البيت^ عن الاعتماد عليه، وهم لا يُقاس بهم أحدٌ علماً وفضلاً. ومعه فلا يصحّ القياس اعتماداً على الإجماع على العلّة.

وقد وجدنا جواباً للدكتور السلمي ينقله عن إمام الحرمين، وهو أنّ أهل التحقيق لا يعدّون المنكرين للقياس من علماء الأمّة وحملة الشريعة؛ لأنهم من المباهتين، ويمكن عدُّهم مع العوامّ([37]).

ونحن نقول: كيف يمكن الاقتناع بهذا الكلام مع أنّ الرافضين للقياس هم من أساتذة أئمّة المذاهب الأربعة؟!

نعم، إذا ما تخلّى أحدٌ عن عقله في سبيل الدفاع عن القياس، بالقول: إنّ أئمّة أهل البيت هم من عوامّ المسلمين، فهذا ممَّنْ لا ينفع معه النقاش.

والحقُّ أن هذا الإشكال صحيحٌ، ولا مجال لردّه. نعم، هو لا يبطل أصل العمل بالقياس، طبقاً لمباني أهل السنة، ولكنّه يبطل الموجبة الكلّية، حين يثبت أن الإجماع لم يتحقَّق للكشف عن العلّة.

2ـ إنه لا يمكن الاعتماد على طريقة السبر والتقسيم والمناسبة والإخالة والإيماء في الكشف عن علل الأحكام؛ إذ إنها مجرّد طرق ظنية، لا علاقة لأكثرها بالظهور المستفاد من النصوص الشرعيّة. ومعه لا دليل على شرعيّتها وحجيتها.

والمتحصِّل أنّه حتّى مع النظرية الجديدة في القياس لا مجال لاعتمادها؛ لأنها من الظنّ غير المعتبر. ومن المقطوع به أصوليّاً أن الظنّ يجب أن يرجع إلى دليل قطعيّ، وإلاّ فلا حجّية له.

 

    النقطة السادسة

وفيها عدّة أمور:

الأول: لقد اختلف أهل السنّة في أن تنقيح المناط من القياس أو لا. فأشار الغزالي إلى أنّ الجاري في الحدود والكفّارات ليس قياساً، بل هو تنقيح المناط([38]).

وأما بدر الدين الزركشي فقال: والحقّ أن تنقيح المناط قياس خاصّ، مندرج تحت مطلق القياس، وهو عامّ يتناوله وغيره… وقال الغزالي: تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأمّة خلافاً في جوازه([39]).

والإنصاف أن يقال: إن قاعدة تنقيح المناط إمّا أن تكون خارجة عن القياس، فتسلم من الإشكالات المطروحة عليه؛ وإما أن تكون داخلة تحته. ومع ذلك يمكن الدفاع عنها بالقول: إن القائلين بالمنع من اعتماد القياس إنّما يقصدون نفي الموجبة الكلّية؛ لأن بعض ضوابط القياس قد تنطبق على القياس المنصوص العلّة، ومن المعلوم أن الكثيرين من علماء الإمامية يذهبون إلى حجّيته. وبناءً عليه فإذا دخلت قاعدة تنقيح المناط تحت كبرى القياس، الذي حمل معنى واسعاً، فقد يصحّ الاعتماد على بعض حالاتها وطرقها، وخاصة بناءً على التعريف الذي ذكرناه، وأرجعناها إلى التقريب العرفي المحاوري. وهو حجةٌ حينئذٍ من باب الالتزام بحجّية الظهور.

الثاني: لقد ذكر الإمام الخميني عبارة في كتاب البيع، وهي: وهذا ليس من القياس أو تنقيح المناط في شيءٍ، بل هو من التمسُّك بالظهور العرفي للكلام([40]).

ومن الواضح أنّ هذا الكلام يدلّ على أن تنقيح المناط ليس داخلاً تحت الظهور العرفي، وبالتالي ليس محلاًّ للاعتماد. ولكنْ قد ظهر معنا في ما سبق أنّا قد ذهبنا إلى التعريف الذي ذكره صاحب المهذَّب، وقال بحجّيته، وهو أنه عبارة عن التقريبات العرفية التي توجب الظهور.

الثالث: بناءً على التعريف الذي اعتمدناه يظهر الفرق بين تنقيح المناط وبين السبر والتقسيم؛ فإن السبر هو الاختيار؛ والتقسيم هو التجزئة. وأمّا اصطلاحاً فهو حصر الأوصاف التي توجد في الأصل، وتصلح للعلية في بادئ الأمر، ثم إبطال ما لا يصلح منها، فيتعيَّن الباقي([41]).

ومن المعلوم أنها لا تولِّد ظنّاً معتبراً، بحيث يوجب ظهور الكلام في بيان العلّة؛ وذلك لأسباب عديدة، وإشكالات مديدة، منها أنّ عملية الحصر ليست عقلية، بل ظنية واستقرائية وتخمينية.

الرابع: مصطلحات مشابهة:

الأوّل: تحقيق المناط. وقد ذكر الدكتور الفرفور في الوجيز أنّ تحقيق المناط هو أن يقع الاتّفاق على علّية وصف بنصّ أو إجماع، فيجتهد في صورة النزاع، كالتحقيق في أنّ النباش سارقٌ؛ لأنه حقّق أخذ المال خفية، فتقطع يده، وهذا يسمّى بتحقيق المناط؛ لأن المناط وهو الوصف معلومٌ، وبقي النظر في تحقيق وجوده في الصورة المعينة، التي خفي فيها العلّة([42]).

وهذا إنْ كان مقصوده الاتفاق على الكبرى، مع الجدل في الانطباق على الصغرى، فهو أمرٌ واضح، لا ينبغي أن يقع محلاًّ للنقاش. فإنْ تحقّقت الصغرى تم الاستدلال، وإلا فلا. هذا مع الإشارة إلى أنّ هذا المصطلح لم يستعمل في الفقه الإمامي، وإنْ وُجد بصورةٍ نادرة جدّاً، ولكنّه ورد كثيراً عند السنّة.

الثاني: تخريج المناط. وهو أن ينصّ الشارع على حكمٍ، دون أن يتعرَّض لمناطه أصلاً، فيقوم المجتهد باستنباط العلّة([43]).

وهذا لا يعدو التخرُّص والتخمين.

     الجهة الثانية: النظرية الرافضة، عرضٌ وتقييم

     استعراض المباني التي قامت عليها هذه النظرية، ومناقشتها

المبنى الأول: ما ذهب إليه الشيخ علي كاشف الغطاء في شرح خيارات اللمعة، من فقد المنقّح، مضافاً إلى عدم كون العلّة منصوصة، حيث قال: ودعوى تنقيح المناط بينهما؛ للاشتراك في المضمونية، لا وجه له؛ لفقد المنقّح. والعلّةُ ليست منصوصة، فلا اعتبار بها([44]).

وفي محلٍّ آخر يشرح لنا كيفية وجود المنقّح، فقال: وتنقيح المناط ممنوعٌ؛ لفقد المنقّح، من نصّ أو إجماع([45]).

وإذا أردنا الخروج برؤية شاملة من كلامه يظهر لنا أنّه لا يرفض نظرية تنقيح المناط، بل يبني عليها في دائرة وجود الإجماع، أو كان القياس منصوص العلّة.

وبناءً عليه لا يمكن لنا عدّه من الرافضين والمنكرين لها.

المبنى الثاني: ما ذهب إليه جمعٌ من علماء الطائفة، من أنّ المناط غير حاصل في القضايا التعبُّدية، فيما ذهب فريقٌ آخر إلى الإطلاق في كلامه بالقول: إنّه غير حاصل لنا.

ومن أنصار الاتّجاه الأول الهمداني في مصباح الفقيه، حيث قال: …لاختصاص دليله بالثوب والبدن، فإلحاق المكان بهما قياسٌ. ودعوى الأولوية أو تنقيح المناط غير مسموعة في مثل هذه الأحكام التعبُّدية([46]).

ويمكن أن نفهم من عبارته أمرين:

1ـ الفرق بين القياس وتنقيح المناط.

2ـ لا مجال للاعتماد على قاعدة المناط في الأحكام التعبُّدية. وهذا يشكّل إشارة منه لإمكان الاعتماد عليه في المعاملات.

وأمّا الاتجاه الثاني فمن رموزه الشيخ الأراكي في كتاب البيع، حيث قال: إذ مورد الأخبار لا شبهة في أنه صورة انفراد المظروف بالبيع، فلا بدّ من دعوى تنقيح المناط القطعي، وأنّى لنا ذلك([47]).

وقال في كتاب الصلاة: وتنقيح المناط غير حاصل لنا، فالتعدي إلى هذه المسائل لا وجه له([48]).

ويمكن التعليق بما يلي:

1ـ إن ظاهر كلام الشيخ أنّه يشكِّك في إمكان تحصيل المناط ومعرفته. ولعلّ ذلك أنه يبني على عدم الفرق بين المناط والقياس. وبالرغم من ذلك فقد وجدناه في كتاب الطهارة يطرح احتمالاً لإمكان الاعتماد على القاعدة بالقول: فهل يمكن استفاده البعض الآخر من جهة تنقيح المناط؟ فإنْ أمكن فهو([49]).

وهو بهذا الكلام لا يرفض القاعدة بالمطلق، وإنما يؤكِّد أنّه إنْ أمكن تحصيل المناط فيمكن الاعتماد عليها.

2ـ سوف يأتي معنا في النظرية المؤيّدة أنّ العلماء قد وضعوا لها من الضوابط بحيث يظهر الفرق الواضح بينها وبين القياس. ومن جملة ضوابطها أنها لا تجري في دائرة الأمور التعبُّدية.

ونختم بالقول: لقد وجدنا كلاماً لبعض العلماء ينفي إمكان تحصيل المناط في القضايا الشرعية؛ فإنْ كان مقصوده الأمور التعبُّدية فلا إشكال؛ وإنْ كان منظوره الأعمّ من الأمور التعبُّدية، بحيث يشمل المعاملات، فليس صحيحاً؛ حيث يمكن معرفة المناط في بعض أنواع وتفاصيل المعاملات؛ حيث إنّها قواعد عقلائية، وخاصّة بناء على المختار من تفسير هذا المصطلح.

ومن جملة هؤلاء الذين استخدموا لفظ (الشرعيّات) الشاهرودي في كتاب الحجّ، فقال: …وتنقيح المناط القطعي في الشرعيات غير ممكن؛ لأنّ غاية ما يحصل منه الظنّ بالحكم، وهو لا يغني من الحقّ شيئاً([50]).

المبنى الثالث: وهو الذي اعتمده السيد الخوئي،من أنه لا فرق بين قاعدة تنقيح المناط والقياس. وقد ذكر ذلك في العديد من مصنَّفاته وتقريراته.

ففي مباني تكملة المنهاج قال: وتنقيح المناط قياسٌ لا نقول به([51]).

وفي الموسوعة قال: إن تنقيح المناط أشبه شيء بالقياس، بل هو هو بعينه؛ وذلك لعدم علمنا بمناطات الأحكام وملاكاتها([52]).

وغيرها موارد كثيرة لمَنْ راجع وفحص([53]).

ويمكن لنا أن نسجّل الملاحظات التالية.

1ـ إنّ السيد الخوئي الذي يتعامل مع القاعدة معاملة القياس قد ذهب إلى تبنّي هذه القاعدة في مصباح الفقاهة، حيث قال: أمّا الأوّل فلا شبهة في صحّة تنقيح المناط؛ لأن نسبة البيع إلى البائع والمشتري، وإلى الثمن والمثمن، على حدٍّ سواء([54]).

وفي الصفحة نفسها قال أيضاً: فهل له خيار الرؤية هنا؛ بتنقيح المناط، أو لا؟ فالظاهر هو عدم الجزم بذلك، وإنْ كان محتملاً.

وبهذا ثبت أنه لم يتعامل هنا معه معاملته مع القياس.

2ـ إن الفرق بين القياس وتنقيح المناط في غاية الوضوح، وخاصّة بناء على عدد من التعريفات التي ذكرناها في البحث التصوُّري. وهناك العشرات من علماء الإماميّة قبل السيد الخوئي قد فرَّقوا بينهما، فهجروا القياس، واعتمدوا على تنقيح المناط. فالسؤال هو: لماذا انفرد السيد الخوئي بين هؤلاء ليقول: إنّ القياس والمناط من بابٍ واحد.

والإنصاف أن يُقال: إن نظر السيد الخوئي حين رفض القاعدة إلى أنّ المناط هو عبارة عن الجزم بالعلل الواقعية للأحكام، وبناءً على هذا لا يمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه في مقام استنباط الأحكام الشرعية. ولذلك صنَّفه في خانة القياس؛ حيث إنه بناء عليه يكونان من باب واحد.

وأما إذا فسّرنا المناط بأنّه التقريب العرفي في مقام المحاورة، وأرجعناه إلى الظهور، فلا ينكره السيد الخوئي. وهنا يتَّضح لنا الفرق بين الاعتماد على مذاق الشارع، دون تنقيح المناط لديه؛ فإنّه أرجع الأوّل إلى وجود المرتكز المتشرِّعي أو الدلالة الالتزامية لعدّة نصوص، وإلاّ فلا عبرة به([55]).

والمتحصِّل من جميع المباني التي استند إليها الأعلام أنه لا يوجد وجهٌ معتبر لردّ القاعدة، بناءً على تفسيرنا من أنّها لا تخرج عن الظهور العرفي.

وأمّا الحديث عن عدم الاعتماد عليها في باب الشرعيات فسوف يأتي التعليق عليه.

    الجهة الثالثة: النظرية المؤيّدة، عرضٌ وتقييم

وهنا مطالب:

 

    الأول: ضوابط النظرية

بعد المراجعة والبحث في كلمات الأصوليين والفقهاء يمكن لنا الخروج بعدّة ضوابط للاعتماد على قاعدة تنقيح المناط في الاستدلال الفقهي.

الأول: عدم جريان القاعدة في الأمور التعبُّدية.

وهذا ما يُفهم من كلمات عدد من العلماء والمصنِّفين في موسوعاتهم، فنجد أن البحراني في الحدائق الناضرة يقول: اللهم إلاّ أنْ يقال: إنه من باب تنقيح المناط، وهو متوقِّف على عدم الخصوصية لشهر رمضان بذلك. وعدم العلم بالخصوصية لا يدلّ على العدم([56]).

وهذا النصّ وإنْ لم يصرِّح بالضابطة الكلّية، إلاّ أنّه يحقِّق صغراها، من باب أن الأمر العبادي لا يُحتَمَل في عقول البشر إدراك علّته من دون بيان من الشارع.

ولكن الأوضح منه دلالة على المدَّعى ما جاء في كلمات الهمداني في مصباح الفقيه، حيث قال: لاختصاص دليله بالثوب والبدن، فإلحاق المكان بهما قياسٌ. ودعوى الأولوية أو تنقيح المناط غير مسموعة في مثل هذه الأحكام التعبُّدية([57]).

وهذه الفكرة نفسها قد ذكرها السيد الشاهرودي في كتاب الحجّ، وكرّرها عدّة مرات في مصنَّفه هذا، فمنها: قوله: نعم، يجوز التعدّي إذا حصل تنقيح المناط القطعيّ. ولكنه لا سبيل لنا إلى ذلك في الشرعيّات؛ لقصور عقولنا عن إدراك الملاكات. فتسرية الحكم من المورد… إلى غيره قياسٌ، وهو باطلٌ. فلا بدّ من الاقتصار على المورد([58]).

وكذلك ما ذكره من المعاصرين السيد محمد سعيد الحكيم في مصباح المنهاج: وتنقيح المناط فيه غير ظاهر؛ لكون الاجتزاء بالناقص تعبُّدياً، لا عرفيّاً([59]).

وبهذا يظهر لنا وضوح هذا الشرط. وهو شرطٌ صحيح؛ لأن الأمر التعبُّدي لا مجال للوصول إلى علّته؛ حيث لا يمكن الجزم بعدم الخصوصية، وهو المطلوب للتعدية من المورد إلى غيره حيث يوجد المناط. ومن المعلوم أنّ الفارق كبير بين عدم العلم بالخصوصية والعلم بالعدم، والمطلوب هو الثاني، دون الأوّل، وهو غير حاصل في الأمر التعبُّدي.

نعم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض العلماء قد أجرَوْا القاعدة في دائرة الأمر التعبُّدي. وما صدر منهم لا يتنافى مع الضابطة المذكورة، بل إما أن يكون مجرد خلاف في الصغرى؛ أو أن يكون المراد من الأمر التعبدي ليس دائرة العباديات مطلقاً، بل النصّ الذي يذكر أمراً تعبُّدياً. وبناء عليه فقد تجري القاعدة في دائرة الأمر التعبُّدي، ولكنّ النصّ يمكن فهمه بطريقة عرفية، لا تعبُّدية. ومن نماذج ذلك: ما ذكره البحراني في الحدائق، في مسألة تقدُّم المأموم سهواً أو ظنّاً منه بهوي الإمام للركوع، فقال: وكأنّهم بنَوْا على عدم ظهور الخصوصية للركوع، فعدّوا الحكم إلى السجود، من باب تنقيح المناط القطعي… وهو غير بعيد([60]).

وكذا ما ذكره النراقي في مستند الشيعة، في حال المزاحمة ما بين صلاة الليل وصلاة الكسوف، فقال: واختصاصها بصلاة الليل غير ضائر؛ لعدم القائل بالفرق، وتنقيح المناط القطعي، بل طريق الأولوية لأفضلية صلاة الليل عن سائر النوافل([61]).

الثاني: تحديد النصّ الشرعي للعلّة؛ إما بالتنصيص؛ أو بالفهم العرفي.

ونحن نستعرض بعض الكلمات للدلالة عليه.

فقد ذكر المحقِّق الحلّي في معارج الأصول: الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق، ويسمى تنقيح المناط. فإنْ علمت المساواة من كلّ وجه جاز تعدية الحكم إلى المساوي؛ وإنْ عُلم الامتياز أو جُوِّز لم تجز التعدية، إلاّ مع النصّ على ذلك؛ لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية، وعدم ما يدلّ على التعدية([62]).

وكذا ما ذكره صاحب الحدائق: والظاهر حجّيته مع علم العلية، وعدم مدخلية خصوص الواقعة في ذلك. وهذا أحد قسمَيْ تنقيح المناط([63]).

وهذا ما يفهم أيضاً من كلمات الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية([64]).

وهنا أيضاً لا بدّ من التنبيه على أنّ الميزان في المقام هو العلم بعدم الخصوصية، ولا يكفي مجرّد عدم العلم بها. وهذا ما ذكرنا سابقاً دلالة كلمات البحراني عليه.

وعليه فهذا الشرط في غاية الوضوح؛ لأنه إنْ حصل القطع والعلم بالمناط فالاعتماد عليه؛ أو يمكن فهم الدلالة من خلال الظهور العرفي للنصّ. وفي غير هذين الموردين لا مجال لتطبيق النظرية، كما هو الحال في القياس عند أهل السنّة، حيث يُعتمد التخمين في استكشاف العلة.

الثالث: العلم بوجود العلّة في الفرع.

والدليل على هذا الشرط أنّ الانطباق على الجزئيات والمصاديق أمرٌ قهريّ؛ فإنّ قولهم بضرورة العلم بالعلّة يستلزم العلم بموارد انطباق العلّة.

هذا وقد وجدنا كلاماً للشيخ الفقيه المجدِّد محمد جواد مغنية ينفع في المقام، ذكره في فقه الإمام الصادق، حين الحديث عن زكاة الأموال (الأوراق النقدية)، فقال: قال فقهاء العصر، كلّهم أو جلّهم: إنّ الأموال إذا كانت من نوع الورق، كما هي اليوم، فلا زكاة فيها؛ وقوفاً على حرفيّة النصّ، الذي نطق بالنقدين الذهب والفضّة. ونحن على خلاف معهم، ونقول بالتعميم لكلّ ما يصدق عليه اسم المال والعملة… وهذا ليس من باب القياس المحرَّم؛ لأن القياس مأخوذٌ في مفهومه وحقيقته أن تكون العلة المستنبطة مظنونة، لا معلومة… ونحن نعلم علم اليقين أنّ علّة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في الورق، لا مظنونة… وإذاً هي من باب تنقيح المناط المعلوم، لا من باب القياس المظنون، المجمع على تحريم العمل به([65]).

 

    المطلب الثاني: دائرة التقريبات العرفيّة للنصّ

بناءً على المختار من تنقيح المناط، وهو عبارة عن التقريبات العرفية المحاورية في مقام الإثبات، يمكن لنا عدّ العديد من الأساليب اللغوية العرفية تحت هذا التعريف؛ وذلك انسجاماً ما بين المعنى اللغوي لتنقيح المناط مع المعنى الاصطلاحي؛ حيث إنه عبارة عن تهذيب الشيء وإخراج ما ليس له ارتباط به. وهناك العديد من الأساليب التي يمكن فيها تحديد العلّة التي يدور مدارها الحكم، من خلال الاعتماد على الظهور العرفي للكلام، وحجّية هذا النوع من باب حجّية الظهور، وليس كالقياس الظنّي الذي يسعى وراء تخمين العلّة، كما مرّ سابقاً.

ونحن نذكر بعضاً منها، لا على سبيل الحصر.

الأول: قياس منصوص العلّة. وهنا نقاط:

1ـ التعريف: عبارة عن تعدية الحكم الثابت على موضوع إلى موضوع آخر؛ لاتّحادهما في العلّة المنصوصة، والتي تمّت معرفتها اعتماداً على الاستظهار، الذي يراه أهل المحاورة والتفاهم العرفي([66]).

وعرّفها آخر: ما نصّ الشارع فيه على علّة الحكم، كما إذا قال: لا تشرب الخمر؛ لأنه مسكر([67]).

2ـ مستند الحجية: من الواضح أن مستند الحجية في هذا الأسلوب هو الدلالة اللفظية. وقد صرّح العلماء بذلك. فقال الشيخ مكارم الشيرازي: ودلالته أظهر من سابقه؛ لأن قولهم: (لأنه دلَّسها) من قبيل منصوص العلّة، فيتعدّى منه إلى غيرها([68]).

وقال السبحاني أيضاً: إنّ العمل بالقياس في منصوص العلة راجعٌ في الحقيقة إلى العمل بالسنّة، لا بالقياس؛ لأن الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل([69]).

وهذا كلام سليمٌ لا غبار عليه.

وكذلك ما ذكره السيد العاملي، صاحب مفتاح الكرامة. ونِعْم ما قال: إذ منصوص العلّة من دلالة اللفظ([70]).

وهناك العشرات من الموارد في كلمات العلماء تحمل دلالة على أن قياس منصوصة العلة يدخل في دلالة الألفاظ، ومن مصاديق العمل بالسنّة، لا القياس والتخمين.

3ـ الضابطة في منصوص العلة: ذكر السيد المدرّسي في نموذج في الفقه الجعفري ما نصّه: وضابطة منصوص العلة هو ما يكون مصدَّراً بلفظ: إنّ، فيكون منصوص العلّة. ومعناه أوّلاً ذكر الصغرى منه، ثم بعد ذلك ذكر الكبرى الكلّية لتمام أفراده([71]).

وقال البجنوردي: وهذا في مقام الإثبات لا بدّ وأنْ يكون إمّا منصوص العلة، بقوله: لأنه أو فإنّه([72]).

ويمكن التعليق على ما ذكره بأنّه لا يشترط في الضابطة لفظ محدَّد، بل المطلوب أن يكون النصّ في مقام التعليل بحسب الظهور العرفي للكلام.

4ـ الاختلاف في حجية منصوص العلة: ذكر صاحب الحدائق أنّ ظاهر كلام المرتضى إنكاره([73]). وكذلك أشار صاحب الجواهر إلى وقوع الخلاف في حجّيته([74]).

بينما ذهب آخرون إلى أنّ منصوص العلّة لا ينبغي التأمّل في حجّيته واعتباره([75]).

وكذلك ذهب الشهيد الثاني في مسالك الأفهام إلى حجّيته([76]).

ولم نعثر في حدود ما تتبَّعناه على كلام واضح للذين أنكروا الحجية عن سبب ذلك. ولعل ذلك منهم من باب النفور من مصطلح القياس الموجود عند السنّة، والذي وقع محلاًّ للنهي عن الاستناد إليه في روايات أهل البيت^. وهذا ليس أمراً غريباً، فقد وقع ما يماثله، حين كان علماء الشيعة ينفرون من مصطلح الاجتهاد في سالف الأزمان؛ لأنه كان يحمل معنى القياس وإعمال الرأي في استنباط الأحكام الشرعية. ومن الواضح أنّه إذا كان يرجع إلى دلالة الألفاظ وظهور الكلام فلا مبرِّر لإنكاره.

الثاني: مناسبات الحكم والموضوع. وهنا أمران:

1ـ بيان الحدّ: يمكن لنا أن نستنتج من كلام السيد الشهيد تعريفاً لما ذكره في الحلقة الثانية في هذا البحث، حيث قال: إن للحكم مناسبات ومناطات مرتكزة في الذهن العرفي، يحصل التبادر منها للسامع، فيستفاد التخصيص تارة، والتعميم أخرى. ومثال الثاني أنّه إذا ورد دليلٌ يقول: لا تتوضّأ من القربة التي وقع فيها النجس فإنّ العرف يرى الحكم ثابتاً لبقية الأواني، كالكوز، وأنّ القربة أُخذت مجرّد مثال في النصّ الشرعي([77]).

2ـ ما هو دليل الحجية؟: لقد أرجع علماؤنا مناسبات الحكم والموضوع إلى الظهور العرفي، فدخلت حجّيتها تحت حجّية الظهور. يقول السيد الشهيد في بحوث العروة: وإنّما ندعي أنّ ارتكازية عدم دخل الخصوصية في النظر العرفي بحسب ما يفهمه العرف من مناسبات الحكم والموضوع تكون منشأ لظهور الدليل في إلقائها، وكونها مجرّد مورد تعلّق الحكم بالجامع المحفوظ، حتّى بعد الاعتصار. وبذلك نتمسَّك بالإطلاق([78]).

الثالث: مفهوم الموافقة. وهنا أمران:

1ـ بيان الحدّ: هو تعدية الحكم من موضوعه المذكور في الدليل إلى موضوع آخر، على أن تكون تلك التعدية خاضعة لمبرِّرات يقتضيها الفهم العرفي للدليل. والتعبير عنه بالموافقة ناشئٌ من أنّ الحكم المستفاد ثبوته مسانخ للحكم الثابت لموضوعه في المنطوق، وذلك نحو: استفادة حرمة الضرب والشتم من الآية التي تنهى عن قول: (أُفٍّ) للوالدين. وهذا المعنى قد ذكره صاحب الجواهر حين قال: وهو التنبيه بالأدنى إلى الأعلى، أي كون الحكم في غير المذكور أَوْلى منه في المذكور، باعتبار المعنى المناسب المقصود من الحكم([79]).

وهو أسلوبٌ تعبيريّ جميل؛ للدلالة على معنى غير مذكور في ظاهر اللفظ، ولكنّه يُفهَم بالدلالة الالتزامية الواضحة التي تدخل في عالم الظهور.

2ـ الحجّية: نصَّ علماؤنا على حجّية هذا المفهوم. فالمحقِّق الكركي قال في رسائله: ومفهوم الموافقة حجّة اتّفاقاً([80]).

وأما الشهيد الثاني فقال في تمهيد القواعد الأصولية: مفهوم الموافقة حجّة عند الجميع([81]).

وهو يدخل تحت حجّية الظهور. ولهذا أخذ به العلماء، واستدلوا به في عشرات الموارد([82]).

وهذا الشيخ في جامع المقاصد يقول: والذي يقتضيه النظر ثبوت التحريم المؤبَّد بإفضاء الأجنبية، بزنا أو شبهة؛ من باب مفهوم الموافقة؛ فإنّ وطء الزوجة قبل البلوغ وإنْ حرم، إلا أنّ وطء الأجنيبة أبلغ منه في التحريم وأفحش([83]).

نعم، قد شكّك به البعض، ووضع له شروطاً، نحو: ما جاء في كلمات المقدَّس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ومفهوم الموافقة موقوفٌ على العلم بعلّية ما يدّعى علّيته، وبوجوده في الفرع. وذلك في ما نحن فيه غير ظاهر([84]).

وهذا منه يشكِّل نقاشاً في الصغرى، لا الكبرى.

ويمكن أن تكون هناك بعض الموارد التي يقع فيها النقاش؛ بسبب عدم وضوح العلّة التي بني عليها الحكم.

 

    المطلب الثالث: الاختلاف في التطبيق الفقهي

من الواضح أنّ التسليم بأيّ قاعدة على مستوى الكبرى لا يستلزم الاتفاق على تطبيقاتها ومصاديقها. ونحن في المقام نورد بعض الأمثلة التي اخترناها من عشرات المصاديق المنثورة في المصنَّفات الفقهية.

الأول: اختلف السيد الخوئي مع الشيخ الأعظم في أنّ الحيوان المتولِّد من كلب وخنزيرة هل هو نجس أم لا؟

فقد قال الشيخ: يقال: إنّه وإنْ كان حقيقة ثالثة، إلا أنّ النجاسة إنّما جاءت من تنقيح المناط؛ إذ لا يفرِّق أهل الشرع في النجاسة، وهي القذارة الذاتية، بين المتولِّد من كلبين والمتولِّد من كلب وخنزير([85]).

بينما قال السيد الخوئي: ويدفعه أنّه إن رجع هذا البيان إلى ما ذكرنا من نجاسة الملفَّق منهما، بحيث يعدّ المتولِّد منهما مركَّباً من الكلب والخنزير، فهو، وإلاّ فلا قطع بالمناط، وعهدة دعواه على مدَّعيه([86]).

ومن الواضح عرفاً أنّ المتولد منهما يعدّ مركَّباً منهما، فهو إمّا أن يكون من حقيقة أحدهما، أو ملفَّقاً منهما. وعلى كلا الحالتين يكون نجساً. والظاهر في المقام أنّ عرفية الشيخ الأعظم كانت أنسب من دقّة السيد الخوئي، التي تقترب من الدقة الفلسفية في تفسير الحالة، ولا ينبغي إدخالها في الأمور العرفية.

الثاني: ما وقع الخلاف فيه بين الأعلام، من أنه إذا كان عند شخص وديعة ومات صاحبها، فهل يجب أو يجوز أن يدفع عنه مال الخمس والزكاة والدَّيْن منها، كما يجوز الحجّ، أو لا؟

نقل الميرزا الآملي في مصباح الهدى عن صاحب المدارك: وهل يتعدّى الحكم إلى غير حجّة الإسلام من الحقوق الماليّة، كالدَّيْن والزكاة والخمس، فيه خلافٌ. والقول بالتعدية مبنيٌّ على قاعدة تنقيح المناط([87]).

بينما ذهب صاحب المصباح إلى القول بالمنع؛ لعدم تحقُّق المناط في المقام، حيث قال: للمنع من حصول القطع بكون المناط في الحكم في المقام هو مطلق أداء دَيْن الميت من ماله؛ وذلك لأنّ حجّ الإسلام مذكور في كلام السائل، وظاهره السؤال عن قضية خارجية، لا عموم لها كي يشمل كلّ واجب على الميت([88]).

وما ذهب إليه صاحب المصباح من المنع عن التعدية والشمول هو الأنسب؛ لعدم وضوح المناط من النصّ.

وفي الختام نقول: إذا كانت الكبرى حجّة فينبغي إعمال الدقّة في مرحلة التطبيق؛ لمعرفة وضوح العلّة والمناط من النصّ أو لا. وللعلم بأساليب اللغة العربية ودلالتها مدخليّة كبرى في ذلك.

     نتائج البحث في نقاط

1ـ ذكرنا العديد من الحدود لمفهوم تنقيح المناط. ولكنّ مختارنا هو ما ذكره السيد السبزواري في المهذَّب، من أنه التقريب العرفي في مقام الإثبات.

2ـ من اللازم الاطّلاع على التراث الأصولي عند السنّة، وخاصّة المصنَّفات الحديثة؛ فإن الحوار معهم إنّما يدور حول الجديد، لا القديم.

3ـ إنّ النظرة الجديدة للقياس عند السنّة تواجه إشكاليات عديدة، ذكرناها في ثنايا البحث.

4ـ تبيَّن لنا من خلال استعراض المباني المتعدِّدة لنظرية الرفض وإشكالاتها أنّها لا ترِدُ على المختار في تعريف هذا المفهوم.

5ـ ظهر لنا من خلال بيان الحدّ وضوابط هذه النظريّة عند مَنْ يتبنّاها الفرق بينها وبين القياس عند السنّة.

6ـ التقريبات العرفيّة للعلّة متعدّدة، وما ذكرناه كان من باب المثال، لا الحصر.

7ـ الاختلاف في التطبيق الفقهي للقاعدة بين علمائنا يعود إلى القراءة المتعدِّدة للنصّ.

 

 

الهوامش

([1]) رجال النجاشي: 10.

([2]) الخليل بن أحمد، كتاب العين 3: 50.

([3]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 1005.

([4]) ابن منظور، لسان العرب 2: 624.

([5]) الخليل، العين 7: 455.

([6]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 967.

([7]) ابن دريد، ترتيب جمهرة اللغة 3: 484.

([8]) السبزواري، مهذَّب الأحكام 12: 190.

([9]) السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي: 212.

([10]) الخوئي، مصباح الفقاهة 7: 528.

([11]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج 42: 508.

([12]) الخوئي، الموسوعة 6: 173.

([13]) مصطفوي، فقه المعاملات: 115.

([14]) النائيني، كتاب الصلاة 1: 115.

([15]) الحكيم، مستمسك العروة 14: 126.

([16]) الخميني، المكاسب المحرمة 1: 171.

([17]) مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 51.

([18]) الخوئي، التنقيح 1: 226.

([19]) الخوئي، فقه الشيعة 4: 121.

([20]) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 115.

([21]) البهبهاني، الفوائد الحائرية: 147 ـ 148.

([22]) المرعشي، القصاص على ضوء القرآن والسنة 1: 107.

([23]) المحقق الحلّي، معارج الأصول: 185.

([24]) الخميني، كتاب الطهارة 1: 181.

([25]) اللنكرودي، الدر النضيد 1: 290.

([26]) البحراني، الحدائق الناضرة 14: 452.

([27]) السبزواري، مهذَّب الأحكام 12: 190.

([28]) البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 83 ـ 85.

([29]) الحسن بن شهاب العكبري، رسالة في أصول الفقه 1: 83 ـ 85.

([30]) عبد الرحمن عبد الخالق، البيان المأمول في علم الأصول: 159 (بتصرُّف).

([31]) محمد أديب الصالح، مصادر التشريع الإسلامي: 222.

([32]) أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه 2: 206.

([33]) بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه 4: 166.

([34]) عياض السلمي، أصول الفقه: 154 ـ 156.

([35]) المصدر السابق: 160 ـ 166.

([36]) البيان المأمول في علم الأصول: 156 ـ 163.

([37]) عياض السلمي، أصول الفقه: 161.

([38]) الزركشي، البحر المحيط 4: 51.

([39]) المصدر السابق: 227.

([40]) الإمام الخميني، البيع: 48، تقرير: الشيخ قديري.

([41]) عياض السلمي، أصول الفقه: 166.

([42]) الفرفور، الوجيز في أصول استنباط الأحكام 1: 249.

([43]) الحكيم، الأصول العامة: 315.

([44]) علي كاشف الغطاء، شرح خيارات اللمعة: 164.

([45]) المصدر السابق: 193.

([46]) الهمداني، مصباح الفقيه 11: 90.

([47]) الأراكي، البيع 2: 329.

([48]) الأراكي، الصلاة 1: 132.

([49]) الأراكي، الطهارة 2: 40 ـ 41.

([50]) الشاهرودي، الحجّ 1: 274.

([51]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج 42: 508.

([52]) الخوئي، الموسوعة 6: 173.

([53]) المصدر السابق 27: 126 0

([54]) الخوئي، مصباح الفقاهة 7: 57.

([55]) الخوئي، الموسوعة 1: 187.

([56]) البحراني، الحدائق الناضرة 13: 95.

([57]) الهمداني، مصباح الفقيه 11: 90.

([58]) الشاهرودي، الحجّ 1: 274.

([59]) الحكيم، مصباح المنهاج 2: 442.

([60]) البحراني، الحدائق الناضرة 11: 143.

([61]) النراقي، مستند الشيعة 6: 264.

([62]) المحقّق الحلّي، معارج الأصول: 185.

([63]) البحراني، الحدائق 1: 56.

([64]) البهبهاني، الفوائد الحائرية: 147 ـ 148.

([65]) الشيخ مغنية، فقه الإمام الصادق 2: 70.

([66]) صنقور، المعجم الأصولي 2: 410.

([67]) السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي: 206.

([68]) مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 2: 285.

([69]) السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي: 207.

([70]) السيد جواد العاملي، مفتاح الكرامة 10: 93.

([71]) المدرسي، نموذج من الفقه الجعفري: 546.

([72]) البجنوردي، القواعد الفقهية 2: 288.

([73]) البحراني، الحدائق 1: 63.

([74]) النجفي، الجواهر 29: 317.

([75]) كشف الغطاء: 32.

([76]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 324.

([77]) الصدر، الحلقة الثانية: 129.

([78]) الصدر، بحوث في شرح العروة 1: 54.

([79]) النجفي، جواهر الكلام 8: 280.

([80]) رسائل المحقّق الكركي 2: 82.

([81]) الشهيد الثاني، تمهيد القواعد الاصولية: 108.

([82]) الشهيد الثاني، روض الجنان 1: 439.

([83]) الكركي، جامع المقاصد 12: 334.

([84]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 5: 289.

([85]) الشيخ الأعظم، كتاب الطهارة 5: 95.

([86]) الخوئي، فقه الشيعة 3: 80.

([87]) الآملي، مصباح الهدى 12: 292.

([88]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً