أحدث المقالات

معايير الدراسة وأخطاء المؤرّخين

حوار مع: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي(*)

التاريخ واليقين ــــــ

_ هل هناك يقين في التاريخيّات أم أنّ الدراسات التاريخيّة لا تنتج سوى مجموعة معطيات ظنيّة على أحسن حال؟

^ إنّ الأمور التاريخيّة لا تؤدي إلى يقين إلا بمقدار ما يعطيه حساب الاحتمالات، حسب تعبير الشهيد الصدر.

طبعاً، حين نقول: الشهيد الصدر فإننا نقصد ما أدخله الصدر في الدراسات الحوزوية، وإلاّ فحساب الاحتمالات يعود لـ«پاسكال»، الفرنسي المعروف.

وعليه يصح حتى في المسائل التاريخية إعمال حساب الاحتمال، بمعنى تجميع القرائن، مما قد يؤدي إلى اليقين.

ولكي نعطي مثالاً نقول: في مسائل القضاء الإسلامي ثمة مسألة تدور حول كفاية علم القاضي في الأمور القضائية. فبناءً على المعروف المشهور من كفاية علم القاضي في هذه المسائل، سواء الحقوقية منها أو الجزائية، كثيراً ما يحصل هذا العلم بتجميع القرائن، أي من تجميع القرائن يصل القاضي إلى مستوى العلم العادي، وهو علمٌ يكفي في كثير من الأمور والحالات.

والأمر كذلك في المسائل التاريخية، أي أحياناً يحصل للمتتبع الممارس من تجميع القرائن ظنٌّ متاخم للعلم أو العلم العادي. إلاّ أنّ هذا لا يجري في المسائل التاريخية كافّة، بل إن تجميع القرائن إنّما يكون في مواضع متعددة أو مختلفة.

سقطات البحث التاريخي ـــــ

_ هل توجد ملاحظات ـ منهجية أو بيانية ـ على السائد في الكتابات التاريخية الموجودة دعتكم إلى القيام بمشروع موسوعة التاريخ الإسلامي؟ وما هي النقاط التي حاولتم تلافيها في موسوعتكم التاريخية هذه؟

^ آخر النتاجات الحوزويّة في مجال التاريخ كان محاولة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي أو صياغته من المنظار الشيعي تقريباً، وليس من منظار أشمل. وقد لاحظنا أن هذا النتاج الحوزوي لم يكن كافياً للاعتماد عليه والاستناد إليه حتى في هذا الإطار.

وفي كتابتي للموسوعة التاريخية لاحظت جملة من الإشكاليات المنهجية والبيانية.

1 ـ مع العلاّمة المجلسي& ــــــ

لنبدأ أولاً من المجلسي& في موسوعته الكبرى «بحار الأنوار». فقد حاول المجلسي ملء الفراغ التاريخي حسب إمكاناته في وقته، إلاّ أنّ الأوضاع الكتابية والتأليفية لم تبقَ على تلك الحال التي كانت عليها في عصره. فقد تغيرت الكثير من الأمور؛ نتيجة ظهور مستندات ومصادر وكتب عديدة لم تكن قد بلغتها يد المجلسي.

ومن هنا نرى أن محاولة المجلسي قابلة للتجديد، بل ينبغي تجديدها. وقد كان المجلسي مهتماً بأن تكون مصادره شيعية في كثير من الأحيان. ولهذا وجدناه يملأ الفراغ بكتب يراها أقرب إلى المناخ الشيعي، رغم أنها قد لا تكون الأقدم أو الأقوم، أي إنها مصادر ثانوية تنقل بالواسطة عن المصادر الأولية.

وهنا أعود وأؤكد على المستجدات التي طرأت، عنيت ظهور كتب كانت مفقودة، وقد غدت اليوم متوفرة محقَّقة. إذاً فقد اختلف الوضع كثيراً من حيث المصادر.

إضافةً إلى ذلك نحن نرى أنّ الفراغ التاريخي يمكن أن يملأ بنحوين: تارةً عبر النظرة التاريخيّة الدقيقة، أي عبر التسلسل التاريخي؛ وأخرى عبر التبويب التاريخي. والذي يبدو أنّ العلامة المجلسي& لم يعتمد النظرة التاريخيّة التسلسليّة، أي التاريخ الحولي، ونعني به الأحداث السنويّة المتتالية بحسب الوقوع.

ولا بدّ أن نضيف نقطة أخرى هنا، وهي أنّ العلاّمة المجلسي، حيث استخدم الطريقة التبويبيّة، اعتمد على المصادر التفسيريّة الشيعيّة، وجملة من منقولاتها، وإن كانت هذه المنقولات غير شيعيّة بالأصل أحياناً. وهذه نقطة جديرة بالاهتمام والملاحظة؛ إذ سدّ بها العلاّمة فراغاً.

وقد لاحظنا أنّ علماء السنّة قد استخدموا هذه الطريقة عندما رجعوا إلى تفسير «مجمع البيان»؛ إذ يكثر النقل التاريخي فيه عن التابعين. ولذلك طبعت مشيخة الأزهر هذا الكتاب ثلاث مرّات حتّى الآن.

2 ـ العرش ثمّ النقش، توثيق التاريخ ثم تحليله ــــــ

وهناك ملاحظة أخرى أساسية، وهي أن السائد من البحث التاريخي هو التاريخ التحليلي، أي ذاك التاريخ المبنيّ على النقل. ومن هنا تظهر إشكالية أنه لا بد من تثبيت العرش، ثم الشروع في النقش. فنحن بحاجة ماسة في البداية إلى نص مختار، تتركز عليه في المرحلة التالية عمليات التحليل.

وقد لاحظنا أن كثيراً من الأقلام المتأخرة ـ بما فيها الأقلام الشيعية ـ لم تقدم كتاباً مسلسلاً أو موسوعة شاملة، وإنما كتباً موردية أو مقطعية، تعالج بحثاً من البحوث التاريخية، سواء منها تاريخ السيرة النبوية أو تاريخ صدر الإسلام أو ما يلحق بالسيرة النبوية في عصور أئمة أهل البيت^. فهذه الدراسات كانت تأخذ الجانب التحليلي، دون أن تستند إلى نصوص محققة مختارة. فقد كانت عملية اختيار النص لأجل ممارسة التحليل. وهذه نقطة ضعف يجب تلافيها، أي لا بد من سدّ فراغ النصوص المختارة.

إنّ الكتابة بلغة العصر أو قلمه أمرٌ جيّد، إلاّ أنّنا في البحث التاريخي نريد استحضار المصادر نفسها، أو لا أقل مع ممارسة نوع من التلخيص والاختصار، بحذف المقدار الخارج عن محل الشاهد فيها، دون ممارسة نقل بالمعنى.

3 ـ إقحام النقد، الخلط بين التاريخي والكلامي ــــــ

ومن الملاحظات إقحام النقد التحقيقي في محاكمة النصوص المنقولة، بل إدخال المحاكمات الكلامية والعقائديّة، وكأن المؤرّخ قد نسي أنّه بصدد ممارسة درس تاريخي، فخلط بين المقال التاريخي والمقال الكلامي.

4 ـ تطويل النصّ المختار ــــــ

إنّ هذه الإطالة تعيق كثيراً من الناس عن مراجعة هذا النصّ. دع النص المختار لا يخرج عن إمكانية المراجعة، فلا يغدو الكتاب التاريخي متروكاً في غياهب المكتبات و…، بل نحن نريده أن يتحوّل إلى مرجع يلجأ إليه الباحثون والمحقّقون.

5 ـ النقص في التتبّع والاستقصاء ــــــ

ومن الملاحظات على المحاولات الحوزوية الأخيرة عدم التزامها بالنصوص المختارة، أي إن ما كان يحصل هو انتقاء مجموعة نصوص، ونقلها بالمعنى، ثم ممارسة شيء من النقد والتحقيق. ونعني بذلك أنه لم يكن هناك تتبعٌ واستقصاءٌ كافيان للوصول إلى أقدم النصوص المتوفرة والمتيسرة.

وقد أدى ذلك إلى بروز ظاهرة الخلط بين المصادر الأقدم وتلك اللاحقة لها، ممّا يجعل تكثير المصادر بمثابة عطف اللاحق على السابق. وقد بلغ الحال في تكثير المصادر حدّاً أن غدت نصف صفحة أو ربعها كمّاً متراكماً من المصادر المتتالية، دون أن تراعى حتى عملية تقديم المصادر الأقدم ذكراً على تلك التي تأخرت عنها زمانيّاً، بل كان يحصل نوعٌ من الجمع بين الأصل والفرع، وهو أمرٌ يعرف أهل العلم أنّه غير علميّ ولا فنيّ؛ فإن ضمّ الفرع إلى الأصل ليس إضافة على ذاك النقل السابق، وليس شيئاً جديداً.

وهكذا وجدنا حالة من عدم التمييز بين المصادر الشيعية وأخرى غير الشيعيّة، أي حصل نوع من الامتزاج بين هذين النوعين من المصادر.

وخلاصة الكلام: لم يجْرِ الالتزام بأقدم المصادر وأقومها.

6 ـ الاستعانة بالمصادر السنيّة ــــــ

ومن الملاحظات تقديم المصادر الشيعية على غيرها، إلا في الحالات الاستثنائيّة، وذلك فيما إذا تعسر علينا الجمع بين وصفي (الأقوم) و(الأقدم)، أي يكون أقدم دون أن يكون من حيث النص أقوم، أو يكون نصا شيعياً لكن نجد في مصادر غير شيعية ما هو أقرب إلى الموازين وإلى التفاصيل المطلوبة في الحدث، فيما يكتفي النص الشيعي بالإشارة أو الإيماء.

وهنا يمكن الاستفادة من الاثنين، لكن بجعل المصادر الشيعيّة هي الأصل والمتن، ثمّ أخذ التفصيلات الأخرى من أقدم المصادر غير الشيعية، التي تلوح منها علائم الصدق، فنجعل المصادر غير الشيعية متكفّلةً لتفصيل ذلك الإجمال المشار إليه في المصادر الشيعية.

7 ـ عدم إقحام المناقشات ـــــ

ومن الملاحظات تدوين النصوص المختارة، دون إقحام المناقشات أو المحاكمات فيها، أي أن نفرد هذه النصوص، ونؤخر مقارنتها أو استجلاء قرائن وترجيحات فيها إلى مرحلة أخرى، إلاّ ما شذّ وندر، كالخطأ الفاضح الذي ينبغي إلفات النظر إليه.

هذه مجمل الملاحظات التي حاولنا تلافيها في موسوعتنا.

طرق الإثبات التاريخي وقيمة الروايات ــــــ

_ ما هي طرق الإثبات التاريخي التي تعتمدون عليها؟ وما قيمة الإسناد الروائي لإثبات الواقع التاريخي؟ فهل الإسناد الروائي حجة في الإثبات التاريخي، كالفقهي؟

^ إن محاولة الوصول إلى أقدم النصوص وأقومها تتطلب مقارنة النصوص المتوفرة في الموضوع، وملاحظة المرجحات التي تنصر نصاً على آخر، أو خلو نصٍّ من الكثير من نقاط الضعف دون النص الآخر. وهذا معناه أنه لا بد من ممارسة المؤرّخ لعمليّات مقارنة ونقد فاحص؛ لكي يحصل على النص المختار.

إنّ النظر إلى السند الروائي في البحوث التاريخية يجرّني إلى ملاحظة تطال الحوزويّين عامّة. إنّ الاعتناء بالأمور التاريخية معدوم أو شبه معدوم في أوساطنا. ويمكنني القول: إنّه يقرب من درجة العدم. إنّ قلّة ممارسة البحث التاريخي، وكثرة ممارسة البحث الفقهي والتعامل مع النصوص والمستندات الفقهية، أدّى ويؤدّي إلى مطالعة المصادر التاريخيّة بنفس الآليات التي تطالع بها النصوص الفقهية.

وهذا هو ـ من باب المثال ـ ما دعاني إلى دراسة وقعة الطف. فقد لاحظت أنّ رواية الطبري عن الكلبي، عن أبي مخنف، هي أوّل جامع لأخبار مقتل الإمام الحسين×.

لا يجدر مناقشة الموضوعات التاريخيّة بآليات النقد السندي الفقهيّة، ولا سيما أخبار كربلاء، فإنّنا إذا أردنا مناقشتها بهذه الكيفية فلن يسلم فيها شيء، ولن يبقى إلا الموضوع الموثوق به، كأن يقال: قُتل الحسين في يوم عاشوراء أو عصره عطشاناً في أرض كربلاء. وهذا ما يحزُّ في نفس أيّ حوزوي، بل أيّ شيعي يعتقد بقضيّة الإمام الحسين×.

وكنت أرى أنّه إمّا أن يفتح الباب على مصراعيه، فقل ما شئت وكيفما أردت، وإمّا أن ننسف اعتبار كلّ الأخبار، وتبقى هذه الكلمة: «قتل الحسين× عطشاناً في عصر كربلاء».

كان أحد المحقّقين في النجف قد انتهى إلى نفي رؤيا الإمام الحسين لجدّه في المدينة، مستدلاًّ بأدلّة خمسة، وقد دفع بي هذا الأمر إلى التحقيق في المسألة شخصياً، وقد أدّى بي ذلك إلى المصادقة على ما توصّل إليه مضيفاً عشرة أدلّة.

وقد حملت ذلك إلى السيّد عبد الرزاق المقرّم، صاحب (المقتل) المعروف، وكان رجلاً كبيراً في السن، والتقيت به في بيته، وعرضتُ عليه مقالتي، وعندما انتهيت ظلّ ساكتاً، فسألته عن رأيه، فقال: «تريدنا أن نبحث أخبار كربلاء بهذا الشكل، إذا بحثنا بهذا الشكل فلن يبقى شيء».

وقد ذكر لي السيد المقرم أن الداعي إلى تأليف المقتل هو أن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء كان قد أعدّ مقتلاً يقرأه في اليوم العاشر؛ التزاماً بوقفية دار جدّه الشيخ جعفر الكبير، ثمّ طبعه ونشره. وقد رأيت أنّ هذا المقتل الصغير لا يتناسب مع هذه القضية الكبيرة، فقلتُ في نفسي: أنت صغّرتها أكثر فأكثر.

ومن هنا عرفت الوجه في تقسيم السيّد المقرّم مقتله إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: في دفع الشبهات المثارة حول ثورة الإمام الحسين، وشبهة التباكي، واللطم، وحمل العيال…؛ والثاني: في المقتل؛ والثالث: في المراثي. وكان هدفه من ذلك هو إيجاد الحجم المناسب مع واقعة كربلاء.

ونحن إذا أردنا أن نسير في أخبار كربلاء على الطريقة الحوزويّة فإنّ أبا مخنف ـ وهو جامع الكتاب، وليس الراوي [المباشر] ـ يعتمد على الوسائط، وبالتالي فإنّ ذلك يعني وجود أخبار مجهولة، أو في رواتها مَنْ هو من أصحاب ابن سعد.

ولكنّنا نجد أنّه من غير الصحيح أن نتعامل مع روايات كربلاء كما نتعامل مع الروايات الفقهيّة، التي تريد أن تثبت حكماً أو تنفيه.

أمّا في المقام فيكفي أن يكون موجباً للوثوق. وهذا ما حمل النجاشي على التعبير بـ «يركن إلى رواياته». والوثوق يحصل عبر تجميع القرائن، التي تتراكم، وتؤدّي؛ بحساب الاحتمالات، إلى الاطمئنان العرفي والوصول بهذا الشخص الراوي إلى درجة الاعتماد. وهذا هو المطلوب في الروايات التاريخية.

_  قلتم إنّه من الضروري اختيار النص الذي نريد أن نعتمد عليه في دراسة التاريخ. وقلتم أيضاً: إنّ المفترض بالمؤرِّخ أن لا يقحم تحليلاته في مرحلة انتقاء النصّ… والآن تقولون: إنّه يجب على المؤرِّخ تقييم المصادر ومقارنتها وملاحظة المرجِّحات المتوفرة فيها… وسؤالنا: كيف يمكن ذلك للمؤرِّخ من دون أن يكون قد مارس مسبقاً نقداً لمصادر التاريخ؟!

^ هذا صحيح، لكن ما قلتُه هو أن يبقي هذه التقييمات مضمرة. وقد كان مقصودي عدم إدخالها في النصّ المدوّن. فإنّ المرحلة الأولى تتطلّب جمع النصّ المختار، وهذه الانتقادات والتقويمات إذا دخلت في هذا النصّ أخذت حيّزاً كبيراً منه.

هل الخوف من انهيار التاريخ مبرّرٌ للأخذ بالروايات الضعيفة؟! ــــــ

_ يبدو أنّ الذي دفعكم إلى عدم تبنّي الآليات الفقهية في تقييم الأحاديث هو قلقكم من أن يزول التاريخ، فهل هذا الأمر مبرّرٌ معرفيّاً وعلميّاً؟

^ في الأحكام الفقهيّة يبحث عن الحجّة الشرعيّة؛ لأنّه يراد نسبتها إلى الحجج الإلهيّة^، بينما في الأحداث التاريخيّة تكون طرق إثبات الوقائع التاريخيّة هي المقاييس العرفيّة القائمة على حساب الاحتمالات.

ومن هنا يظهر أنّ لكلٍّ من المسائل الفقهية والمسائل التاريخية طريقة خاصّة يتمّ التعامل بها معها. ومنشأ الإشكال المتقدّم هو إعمال الطريقة الفقهيّة في الأخبار التاريخيّة. وهذا خلطٌ بين الميادين.

أذكر أنّ السيّد مدني التبريزي أشار عليّ مرّةً بمقدّمة كتاب «نفس المهموم»، للشيخ عباس القمّي، وذكر أنّ أبا مخنف رجل معتبر في كلّ المصادر الرجاليّة، ولكنّ المقتل المتداول في الأسواق غير معتبر.

وعند مراجعتي كتاب الشيخ القمّي وجدتُ أنّ المستشرق س. مارجيليوس يعتبر في كتابه «دراسات في التاريخ والمؤرّخين» أن أبا مخنف هو أوّلُ مؤرّخ فنّي، وصاحب كتاب موثوق ومعتبر. ووجدتُهم يعبّرون عنه في المصادر الرجاليّة بأنّه شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، ووجههم، وكان يركن إلى ما يرويه.

_ إذا جاءت رواية صحيحة السند على المنهاج الفقهي، ولكنّها لا تنطبق عليها تلك القرائن والشواهد التي بنيتموها، هل ترفضونها إذا لم يكن المعيار هو المعيار الفقهي؟

^ نعم، لِمَ لا.. ولكنّ هذا الأمر الذي فرضتموه له بعض المصاديق، لا من الأخبار الصحيحة، بل على بعض الأخبار الحسنة أو المعتبرة. فإذا كان الخبر بالمقاييس الروائيّة الحديثيّة معتبراً، ولكنّه اصطدم مع مسلّمات تاريخيّة، أو ما يكاد يكون من المسلّم حسب تجميع القرائن، فلا مفرّ من أن لا تعتبره، أو إذا نقلناه ننبّه إلى نقطة الاصطدام مع المسلّم التاريخي على خلافه. وقد استخدمت هذه الطريقة في كتابي.

مصادر التاريخ والطابع الأسطوري ــــــ

_ ربما لا يخلو مصدر تاريخي من نقل بعض الخوارق والأحداث الغريبة، بل ثمة مصادر تاريخية يغلب عليها الطابع الأسطوري، فيما امتازت أخرى بمقاربتها للواقع وانسجام مقولاتها مع العقل البشري. هل هناك تقييم يمكنه أن يكون معياراً لهذه المصادر؟ وما هو موقف المؤرِّخ من النقل الأسطوري؟

^ دعنا ـ بدايةً ـ نأخذ العلامة المجلسي مثالاً. ففي ما يتعلّق بانعقاد نطفة رسول الله‘ اعتمد المجلسي على كتاب «الأنوار»، للبكري. والذي يبدو أنّ المجلسي تصوّر البكري هذا أحد أساتذة الشهيد الثاني غير الشيعة، حيث كان للشهيد أساتذة من الشيعة وغيرهم. وحيث إنّ البكري سنيّ المذهب فمن البعيد جدّاً أن يسكن الشهيد الثاني إليه إذا كان ناصبيّاً معانداً، ممّا يعني إمكانيّة الاعتماد على نقولاته.

وكتاب البكري يشتمل على الكثير ممّا وصفتموه في سؤالكم بالخوارق والأحداث الغريبة. من هنا أحسن العلاّمة المجلسي الظنّ به، ونقل عنه في أوائل المجلّد الخامس عشر، بحسب الطبعة الأخيرة للبحار، ما يقرب من سبعين صفحة. وقد علّق المحقّق الربّاني الشيرازي& تعليقة قيّمة هنا([1])، حينما أكّد على أنّ البكري المنقول عنه في «البحار» متقدّمٌ على البكري أستاذ الشهيد الثاني&، وأنّ الأوّل منهما موصوفٌ لدى كلّ من تعرّض لحياته بأنّه رجلٌ قصّاصٌ وضّاعٌ، فكتابه لا يعدّ كتاب تاريخٍ، بل كتاب أسطورة، وإنّما صنّفه لتلك المجالس التي راجت تدريجيّاً في العالم السنّي حول مولد النبي‘، حيث كانوا يحيون سابقاً الأيّام العشرة لمولد النبي‘، لا سيما في الأوساط الصوفيّة.

إذاً فالعلاّمة المجلسي& أحسن الظنّ بهذا الرجل؛ لسببين:

الأوّل: عدّه من مشايخ الشهيد الثاني.

الثاني: اشتمال كتابه على كثير من الخوارق.

وعصارة ما يمكن قوله: إنّ جعل الملاك في النقل التاريخي ما كان أقرب إلى المعاجز والكرامات خطأ واشتباه.

ولعلّك تسأل: لماذا كانت الأقربيّة إلى المعاجز والكرامات معياراً عند العلاّمة المجلسي؟

والجواب: اصطباغ المذهب الشيعي بصبغة معجزيّة. ومن ثمّ نلاحظ أنّ المذهب الشافعيّ أقرب المذاهب السنية إلى الشيعة من هذه الزاوية، وإن كان في المجال الفقهي يُمكن أن يكون أبعد من الحنفي في بعض الموارد. ولعلّ ذلك هو ما دفع العلاّمة المجلسي& إلى الاعتقاد بشافعيّة مؤلّف كتاب «الأنوار».

وأنتم تلاحظون أنّها ترجيحات بسيطة جدّاً لا يمكن اعتمادها.

وفي ملاحظتنا على العلاّمة المجلسي نقول: إنّ المعجزة على العكس من ذلك تماماً؛ ذلك أنّها مفارقة للنظام الطبيعي. فإذا أردت أن تثبت شيئاً مختلفاً مع النظام الطبيعي فمن المنطقي أن تكون خطوتك هذه أكثر صعوبةً وعسراً ممّا لو أردت إثبات شيء غير خارق منسجم مع الطبيعة. إذاً المعجز لا يثبت إلاّ بدليل قطعيٍّ أو مقاربٍ للقطعيّ، أي المتواترات أو ما يمكن الاعتماد عليه من النصوص المستفيضة. وهذا معناه أنّه لا يمكن الاعتماد في مثل المعاجز على أخبار الآحاد، فكيف نجعل كثرة ذكرها عنصراً مقرّباً؟!

هل العقلية الشيعية عقلية معاجزية؟ وما المشكلة في ذلك؟ ــــــ

_ أشرتم في مطاوي كلامكم إلى نقطةٍ في غاية الأهميّة، وهي أنّ العقليّة الشيعيّة عقليّة معاجزيّة إنْ صحّ التعبير. وهذا معناه أنّ تقويم المصادر التاريخيّة يتبع طبيعة انتماء الباحث إلى هذا المناخ المعاجزي الشيعي سلباً أو إيجاباً. وعليه كيف يمكن لباحث من داخل الجو الشيعي أن يتهم كتاباً بالأسطوريّة؛ لروايته الكثير من الكرامات، فيما تعزّز الأبحاث الكلاميّة الشيعيّة قيمة مثل هذه الكرامات، ومن ثمّ هذه الكتب؟!

^ لا يوافق علماؤنا علميّاً على الكثرة العدديّة والكميّة للمعاجز. نعم، إذا ثبتت المعجزات بدليل معتبر فلا يتنكّرون لها، وإنْ كانت كثيرة. فالملاك ليس صرف الكثرة، حتّى تكون شفيعاً لصحّة المصادر التاريخيّة، وإنّما العكس هو الصحيح.

ينبغي نقد  نصوص المعاجز نقداً علميّاً، حتّى لا ننسب معجزةً إلاّ بدليل معتبر، ولا ينبغي علينا التأثّر بهذا الجوّ.

نعم، حيث كان عدد المعصومين^ عند الشيعة أكبر منه عند السنّة كان من الطبيعي أن تتكاثر المعاجز من الناحية الكميّة عمّا هو الحال لدى السنّة، رغم أنّ بعض التيّارات السنيّة، وخصوصاً الصوفيّة، قد أكثرت من ذكر المعاجز والكرامات.

هل تظهر العقلية المعاجزية عند المتأخرين أكثر من المتقدّمين؟ ـــــ

_ ذكرتم في مقدّمة موسوعتكم التاريخيّة أنّ المصادر القديمة كانت أقلّ ذكراً للخوارق من مثيلاتها المتأخّرة. وقد جعلتم المدرك في ذلك معتقدات المؤرّخ ومبانيه الفكريّة.

أوّلاً: ما هو السرّ في كون المصادر المتقدّمة أقلّ ذكراً للمعاجز والخوارق؟

ثانياً: ما هو مبناكم الخاص في هذا المجال؟

^ الظاهر أنّ البعض يحبّ أن يأتي بشيء جديد. فمثلاً: بالنسبة إلى مقتل الحسين× يأتي قرّاء السيرة كلّ يومٍ بأخبار جديدة، غير معتبرة، ما سمعنا بها في آبائنا الأوّلين، لا لشيءٍ إلاّ لأنّه يرى أنّه لو اقتصر على المعروف من السيرة فلن يؤدّي ذلك إلى تحريك المستمعين، كما يقول الشهيد مطهّري&. فقرّاء السيرة أصحاب مهن، يرغبون في تسخين قضيّتهم. ومرجع هذا كلّه إلى الرغبة في التقديس؛ إذ كلّما مرّ الزمان تضاعفت هذه الهالة القدسيّة حول قضايا التاريخ. فالشهيد محمّد باقر الصدر يذكر في مقدّمة الحلقة الأولى أن ليس هناك ما يستدعي الالتزام بالكتب الدراسيّة الحوزويّة السابقة سوى هالة التقديس التي أضفيت عليها، فكلّ ما غدا قديماً غدا مقدّساً.

والشيء الذي يحدث أنّ الخبر الجديد الذي يظهر يجري تلقّيه عن حسن نيّة بوصفه مسموعاً من المسموعات. ومن هنا نلاحظ بعض القضايا المنقولة مليئةً بالإضافات المعاجزيّة والخوارقيّة في المصادر التاريخيّة المتأخّرة، دون القديم منها. وهذا ما من شأنه أن يشكّل لنا قرينةً على حصول إضافات أو زيادات بمرور الوقت والزمن.

بين العقدي والتاريخي ـــــ

_ ما هي العلاقة بين العقدي والتاريخي؟ وهل يجب أن يكون الباحث متكلّماً، ثمّ مؤرّخاً، أو أن اللازم تناول التاريخي بشيء من التجرد عن العقائد الدينية؟

^ لا داعي للتجرّد عن العقائد الدّينيّة. فلسنا مردّدين بين طرفين؛ إمّا تجرّد الباحث التاريخي عن العقيدة؛ أو إقحامه العقيدة في التاريخ. إنّما الراجح الالتزام الظني بالبحث التاريخي دون أن يساوق ذلك التخلّي عن المتبنّيات العقائديّة.

وبناءً عليه فإذا ما واجه المؤرّخ مستنداً تاريخيّاً يضادّ المفردات العقائديّة التي قام الدليل عنده عليها فلا يخلو أمره من:

أوّلاً: أن يتخلّى عن البناء العقائديّ الذي كان التزم به سابقاً، حيث ينكشف له ـ بالشواهد التاريخيّة وعبر كثيرٍ من القرائن ـ بطلانه وفساد أدلّته. ومن ثمّ لا تكون هناك مضادّة بين العقيدة الصحيحة والتاريخ؛ إذ قد كشف التاريخ لنا زيف عقيدةٍ كنّا قد تبنّيناها سابقاً. فهي صورة عقيدة، وليست عقيدة.

ثانياً: أن يكون المدرك العقائدي سليماً بالقطع واليقين، بحيث لا يقع المستند التاريخي على درجة واحدة معه، بحيث لا يكافئه أو يضارعه. وهنا لا بدّ من الأخذ بالمعتقد كمرشدٍ ودليل، ويجعل هذا المعتقد مؤشّراً على ضعف النقل التاريخي.

وحسب تجربتي الشخصيّة يغلب وقوع مثل هذا الأمر عندما يعارض خبرٌ ما فكرةً عقائديّة، سواء كانت من الأصول أو الفروع. وقد لاحظت أنّ المعارف العقائديّة بشكل عام مستدلٌّ ومبرهنٌ عليها بالدليل القاطع، الأعمّ من العقل وغيره، ممّا يكوّن عندي مؤشّراً على ضعف الخبر، فأسعى للتفتيش عمّا يؤيّد هذا الضعف من هنا أو هناك.

هل يمكن كتابة تاريخ بمصادر شيعية فقط؟ إشكاليات على العلامة جعفر مرتضى العاملي ـــــ

_ هل يمكن تدوين التاريخ الإسلامي وفق مصادر تاريخية شيعية؟ وهل نملك فعلاً مصادر من هذا النوع أم أن المؤرخ الشيعي غير قادر على تجاوز المصادر السنية في قراءته لتاريخ الإسلام؟ وما هي المصادر الأوثق في الوسط السني التي يمكن للمؤرِّخ الشيعي الاعتماد عليها؟

^ إنّنا نعترف بأنّه قد تمّ تجاوز المصادر السنيّة أحياناً. ونعترف بوجود حلقات مفقودة. والذي نلاحظه أنّ كثيراً من المدوّنات التاريخيّة ـ بما فيها المدوّنات الشيعيّة الحوزويّة ـ لم يستفرغ الوسع. ولا أحبّ التصريح بأسماء، إلاّ أنّني لا أمانع من ذكر اسم أخينا العلاّمة السيّد جعفر مرتضى العاملي؛ إذ كثيرٌ من الإشكاليّات التي أثرتُها آنفاً ينطبق على تجربته في كتاب «الصحيح من سيرة النبي الأعظم‘». وطبعاً إنّني أقدّر هذه الجهود المشكورة، وأقول كما قال الشاعر حافظ إبراهيم: إنّ المناقشة والنقد العلمي لا يفسد في الودّ قضيّة.

يعتذر صاحب كتاب «الصحيح» في مقدّمة الكتاب بأنّه قد كتب مدوّناته التاريخيّة بوصفها دراسات هامشيّة جانبيّة، فاختلفت حسب اختلاف الفرص والظروف؛ فقد تقصر الفرصة؛ وقد تطول. وهذا ما جعل كتابه لا يسير على نمطٍ واحد، إذ تجده مطنباً حيناً؛ وموجزاً حيناً آخر. وقد اعترف هو نفسه بذلك. كما اعتذر المؤلّف عن قلّة التتبّع والاستقصاء.

أمّا محاولتي الشخصيّة فلم تكن على هذا النسق؛ إذ لم أكن على عجلةٍ من أمري، بل في راحة وفسحة. وقد قيل: إنّ العجم أكثر جلادةً وأشدّ صبراً.

لهذا لم أستعجل، ولم أَرفَعْ يدي عن بحث إلاّ بعد استفراغ الوسع، حتّى أنّك إذا عثرت على موضعٍ قد اعتمدنا فيه على مصدر غير شيعي فبإمكانك الاطمئنان بعدم وجود شيءٍ حول الموضوع في المصادر الشيعيّة. وهذا أمرٌ هامٌّ وقيّمٌ لا يمكننا التصريح به في المقدّمة، وإنّما يضمر إضماراً.

مثلاً: من جملة الإشكاليّات العامّة في أخبارنا التاريخيّة أنّ أكثرها خرافيٌّ وشبه أسطوري، أو غير موافقٍ للمسلّمات التاريخيّة، وهذا ما يضاعف مسؤوليّة المؤرّخ لاستخراج النقاط السلبية في تلك الأخبار. ومن ثمّ فالمؤرّخ الشيعي غير قادر على تجاوز المصادر السنيّة تجاوزاً مطلقاً، بل لا بدّ له من ملء الفراغ الذي يصطدم به أحياناً بتلك المصادر نفسها.

طبعاً، إنّ مصادرنا من هذا النوع ليست كثيرة، بل هي قليلة. كما أنّها متناثرة تحتاج إلى جهد كبيرٍ لجمعها.

وقد تسأل: لماذا لم يُصَرْ إلى هذه المحاولة من قبل؟

والجواب: إنّ من حقّ جماعة الباحثين أن يتركوا الجهد واستفراغ الوسع. فأنا أحياناً أشعر بارتباك كبير واضطرابٍ شديد في بعض الموضوعات بالغة التعقيد؛ إذ تجد بعضها متداخلاً متشابكاً، بحيث تسأل نفسك: من يقدر على أن يرفع رأسه سالماً في هذا الخضمّ؟!

فمشاجرات عثمان ومحاصرته من الموضوعات المعقّدة جدّاً والمتشابكة. وفي كثيرٍ من الأحيان يقول: كان الله في عون مَنْ يريد البحث في هذا الموضوع. نعم، إنّه معذورٌ لعدم متابعته له.

لو أراد العلاّمة المجلسي أن يستفرغ الوسع في «بحار الأنوار» لما تسنّى له كتابة هذه الموسوعة. نعم، لقد كان مضطراً لتجاوز هذا الأمر بشكلٍ أو بآخر.

وعلى أيّة حال لقد سعيتُ في هذا الكتاب أن أجعله في أصغر حجمٍ ممكن؛ إذ يغدو بذلك أقرب إلى التداول. وقد أخذنا هذه العبرة من تجربة مؤلّف «الصحيح».

أمّا في ما يتعلّق بالمصادر الأوثق في الوسط السنّي فيمكن القول من حيث المبدأ بأنّ العبرة بالأقدم زمناً، إلاّ ما خرج بالدليل، أي لو عثرنا على نقاط ضعفٍ في المصدر الأقدم انتقلنا إلى غيره وفقاً للمرجّحات نفياً وإثباتاً؛ والسبب في ذلك أنّ المصادر المتأخّرة يزداد فيها احتمالُ الإضافة والدسّ، أمّا المتقدّمة فالأمر فيها على العكس من ذلك؛ لقلّة الوسائط.

ومن هذه المصادر الأقدم ما كتبه محمّد بن إسحاق، وهذّبه ابن هشام. وكذلك مغازي الواقدي. ثمّ يستعان بعد ذلك بالمختصرات. لكن على أيّة حال لا مفرّ من تاريخ الطبري، ذلك الكتاب الجامع؛ فإنّه ضروريٌّ على ما فيه من علاّت.

ولستُ أخفيكم أنّ السيّد أحمد الحسيني كان يقصد قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران أن يأخذ منّي كتاب «وقعة الطف»، الذي استخرجته من تاريخ الطبري. وفي تلك الفترة كان العلاّمة السيّد مرتضى العسكري قد جاء حديثاً إلى إيران، فدعاه السيّد الحسيني إلى بيته، ودعاني معه. وقد طرحت الفكرة عليه؛ بوصفه الأكثر تخصّصاً في تاريخ الطبري في أوساطنا، فاستحسن العمل. وقد كان المحدّث القمّي، بتبع أستاذه الشيخ حسين النوري، وزميله آغا بزرگ الطهراني، ومعاصرهما السيّد محسن الأمين العاملي، وكذلك السيّد عبد الحسين شرف الدّين، قد أشاروا جميعاً إلى أنّ الأخبار التاريخيّة المعتبرة في مقتل الإمام الحسين× لأبي مخنف موجودة في تاريخ الطبري، إلاّ أنّ أحداً منهم لم يلتفت إلى ضرورة استخراج هذا المقتل من «التاريخ».

والملاحظ هنا أنّ الشيخ المفيد كان قد اعتمد على عين ما اعتمده الطبري، أي أنّهما اعتمدا معاً على مقتل هشام الكلبي، الذي يعدّ واسطة النقل عن أبي مخنف. غاية ما في الأمر أنّ المفيد قد حذف الأسانيد. ولولا ذلك لما احتجنا إلى الطبري قط. إلاّ أنّه حيث فعل ذلك غدا كتاب الطبري بالنسبة إلينا الكتاب الوحيد المتبقّي في أخبار كربلاء. ومن دونه كانت هذه الأخبار مبتورةً لا أصل لها.

لقد سئل رئيس كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في طهران، أثناء مقابلة صحفيّة معه، عن أسطوريّة أخبار كربلاء، وأنّها لا تملك اعتباراً تاريخيّاً، فكان جوابه: إنّ هذه المقولة كان يمكن الأخذ بها قبل صدور كتاب «وقعة الطف» المستخرج من تاريخ الطبري. وكأنّني أتيت في هذا الكتاب بشيءٍ جديد، فيما الأمر ليس كذلك أبداً. فأنا مجرّد شارحٍ ومترجمٍ لكلّ راوٍ ومعيّنٍ للطبقات.

هذه هي حقيقة أخبار كربلاء وعلاقتها بالطبري.

إنّ السيّد العسكري يعتقد أنّه إذا كان بالإمكان اتّهام الطبري بشيءٍ فمن غير الممكن اتّهامه بسوء الأمانة أو ارتكاب الخيانة.

نعم، لقد مارس الطبري انتقاءً مزيّفاً للنقل التاريخي، إلاّ أنّ ما نقله لنا لم يكن فيه تزييف.

العلاقة بين التاريخ وسائر العلوم الدينية ـــــ

_ هل هناك علاقة بين التاريخ والعلوم الدينية عامة؟ وكيف يمكن أن يخدم الدرس التاريخي العلوم الدينية؟ وما هي الدائرة التي تدور فيها هذه العلاقة؟

^ إنّ الدروس التاريخيّة تخدم بلا شكّ العلوم الدّينيّة، بل لا غنى لتلك العلوم عنها.

إنّ الحوزة العلميّة لا غنى لها اليوم عن دراسة التاريخ الإسلامي. والذي يؤكّد كلامنا هذا بعض الزلاّت التي وقع فيها بعض علمائنا، لا لشيءٍ إلاّ عدم ممارستهم فنّ التاريخ.

فعلى سبيل المثال: ما وقع فيه السيّد كاظم الحائري عندما نقل روايةً حول بعض الأحداث الكربلائيّة، التي تشتمل على كلمة (بلنجر)، فقرأها (بالبحر)، ثمّ أخذ يتعجّب من الكلمة؛ انطلاقاً من عدم مناسبتها. ولمّا نبّهته إلى هذا الأمر عاد وكرّر المسألة مرّة أخرى، مشيراً إلى التنبيه، ومقرّاً بخطئه. فهذا مجتهدٌ عالمٌ فقيهٌ مطلقٌ فاته مثل هذا الأمر.

ومثال آخر: ما أثاره الشيخ علي كوراني من ملاحظات أخيرة على الشهيد الصدر، وترتّبت عليه بعض ردّات الفعل. إنّ كلامه في الأصل صحيح؛ فإنّه لمعتوبٌ على الشهيد الصدر ما ذكره في بعض بياناته الثوريّة من حمل عليٍّ× السيف تحت لواء الخلفاء.

إنّ الشهيد الصدر لا يشكّ في تشيّعه، إلاّ أنّ قلة الاعتناء بالتاريخ يفضي إلى مثل هذه الاشتباهات.

ومن النماذج الأخرى التي وقع فيها السيّد الصدر ما ذكره في كتاب «فدك» من أنّ أمير المؤمنين× لم يستشهد بحادثة غدير خم إلاّ في قضيّة (الرحبة).

نعم، إذا لم يكن هناك في المصادر السنيّة ما يشير إلى استشهاد الأمير× بحادثة الغدير فإنّ في مصادرنا مثل ذلك. وقد غفل التحقيق الأخير للشيخ عبد الجبّار شرارة عن هذا الأمر أيضاً؛ وسبب ذلك كلّه ضعف الاهتمام بالتاريخ.

إنّ الحوزة تعتبر التاريخ درساً جانبيّاً. وهذا خطأ؛ فإنّ تجاهل الدرس التاريخي يضرّ ضرراً فاحشاً وكبيراً، بل يطال حتّى الشخصيّات الكبيرة.

ويجدر أخيراً أن نشير إلى أنّ الحوزة الإيرانيّة قد اهتمّت مؤخّراً بالدراسات التاريخيّة، وجعلتها واحداً من التخصّصات.

التاريخ وعاشوراء ــــــ

_ باعتبار أن قصة عاشوراء من الأحداث التي لها مكانة خاصة في تاريخنا، مما يجعلها محطّ أنظار العامة والخاصة، هل هذا الواقع يجعل لها خصوصيةً في البحث التاريخي أم أن منهج بحثها يخضع للضوابط العامة في البحث التاريخي؟ وما هي المصادر المعتبرة لهذه السيرة من وجهة نظركم؟

أمّا بالنسبة للمصادر المعتبرة في السيرة الحسينيّة فإنّ ما عدا أخبار بي مخنقثلقلق
قلثثقلثقلثقلأبي مخنف مشكوكٌ فيه حتّى تثبت صحّته. وأنا أعتقد أنّ في أخبار أبي مخنف غنى وكفاية.

_ أليس هناك روايات متفرّقة في المصادر الحديثيّة، كـ (وسائل الشيعة)، يمكن أن نرجع إليها في موضوع عاشوراء؟

^ إنّ في «أمالي» الشيخ الصدوق مجلسين فقط. وهذا مقتلٌ مختصر. على أنّها بحاجة إلى الكثير من الإثبات التاريخي؛ إذ تتصادم مع العديد من الأخبار المعتبرة.

وقد قام بعضهم مؤخّراً ـ وهو السيد سردبودي ـ بجمع الأخبار الروائيّة الشيعيّة الواردة حول الإمام الحسين×. ولو أنّه استشارني لأشرت عليه بعدم فعل ذلك. وقد دعوني كثيراً لتعريب كتاب «الملحمة الحسينيّة»، للشهيد المطهّري، فتوسّلتُ إليهم أن لا يترجموه قربةً إلى الله تعالى، إلاّ أنّهم ترجموه مع الأسف، فأحدث العديد من المشاكل. وعمدة الخلل في هذا الكتاب أنّه ليس تأليفاً، بل خطابة.

_ نشكركم على إتاحتكم الفرصة لنا بهذا اللقاء الكريم.

 

 

الهوامش

________________

(*) مؤرّخ، صاحب «موسوعة التاريخ الإسلامي»، ناقد ومحقق في سيرة النبي‘ وأهل البيت^. وقد أجرى هذا الحوار وأعدّه: مهدي الأمين، حيدر حب الله، أحمد أبو زيد، زين العابدين شمس الدين، علي عباس الموسوي.

([1]) بحار الأنوار 15: 26، هامش رقم 1.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً