أحدث المقالات

وَنحن نقفُ على أعتابِ موسمِ مُحرَّمٍ للعامِ ١٤٤٧ هجري، ونستقبلُ مناسبةَ عاشوراء بما تحويهِ من ذكرياتٍ تجلَّت فيها مشاهدُ العزِّ والصبرِ والتضحيةِ والفداءِ والتفاني في سبيلِ المبادئِ والقيمِ الحقّةِ بأجلى معانيها، متمازجةً مع صورِ الفجائعِ والآلامِ والمآسي على بيتِ النبوةِ، بأظهرِ تجلِّياتها.

وتتجدَّد إلهاماتُها، وتتردَّد شعاراتُها عبرَ الزمن، وتتمازجُ أصداؤها بالدماءِ والدموعِ في اشتباكاتٍ داميةٍ بين من ينشدُ العدلَ والصلاحَ والاستقلال، ومن يُكرِّسُ الجورَ والفسادَ والاستبداد.

وهذا الموسمُ الجليلُ الذي يستذكرُ باستشهادِ سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنةِ الحسينِ بنِ عليٍّ والثُّلَّةِ الخيِّرةِ من أصحابِه وأهلِ بيتِه البَرَرَةِ(عليهم السَّلام) في واقعةِ كربلاء، تلك الواقعةُ التي أفجعتْ قلبَ رسولِ الله(صلى الله عليه وآله) قبلَ وقوعها بعدةِ عقودٍ حين أخبرهُ الوحيُ الإلهيُّ بما سيجري عليه وعلى كرائمِ بيتِ النبوة، حسبما ورد في أحاديثَ صحيحةٍ في مصادرِ المسلمين الحديثية.

وقد دأبَ المسلمون، بالأخصِّ أتباعُ أهلِ البيت(عليهم السلام) على الاحتفاءِ بهذه الذكرى عامًا بعد عام، ويعقدونَ لذلك مجالسَ ومآتمَ تُعرفُ بالمجالسِ الحسينية، حيث يَصدَحُ خطباءُ المنبرِ الحسينيِّ بقصائدِ الرثاءِ وعرضِ وقائعِ السيرةِ الكربلائية، كما يطرحونَ موضوعاتٍ فكريةً دينيةً متنوعةً مفيدة.

ونظرًا للموقعِ الهامِّ الذي يتمتَّعُ به المنبرُ الدينيُّ الحسينيُّ عبرَ التاريخ، وللدورِ الذي يضطلعُ به في ربطِ الأمّةِ بحركةِ سيِّدِ الشهداءِ وأبطالِ كربلاء وبالمبادئِ والقيمِ الخيِّرةِ التي صبروا وصابروا وجاهدوا واستشهدوا من أجلها، فإنَّ اعتلاءَ أعوادِ هذا المنبرِ مسؤوليةٌ كبيرةٌ إلى جانبِ أنّه شرفٌ عظيمٌ لمن يُؤدّيها خيرَ أداء.

والمتابعُ لوضعِ المنبرِ الدينيِّ عمومًا والحسينيِّ خصوصًا، يلحظُ منذ عقودٍ متعاقبة، وبعد رحيلِ عميدِه الوائليِّ ورعيلِه(رحمهم الله)، ولعواملَ وقتيةٍ أخرى طرأت، شغلتِ المنابرَ والمجالسَ والمحافلَ بها. ومن جرّائها تغيّبت عن الطرحِ المنبريِّ قضايا وعناوينُ هامَّة.

ولهذا ارتأيتُ في هذه المقالةِ القصيرة، أن أستذكرَ بعضَ القضايا التي أُقدِّرُ أن في تناولها عبرَ المنبرِ الدينيِّ عمومًا فائدةً وأجرًا، وفي الوقتِ ذاته تحقيقٌ لبعضِ أهدافِه المرجوّة.

وإذ أطرحُها كمقترحاتٍ على إخواني الخطباءِ الفضلاءِ الحوزويين، وفي النتيجةِ هم أصحابُ التجربةِ والنظر.

والداعي المُلحُّ لذلك ـ في نظري المتواضع ـ هو توارُدُ التساؤلاتِ الإشكاليةِ من قِبَلِ الأجيالِ الصاعدةِ في وسائلِ التواصلِ المتنوعة.

وليس من الصوابِ أبدًا أن تتراكمَ الأسئلةُ وتظلَّ عالقةً ولا تلقى أجوبةً شافيةً من المختصين بالتوجيهِ الديني.

ويظهرُ لي أن جملةً من تلكم التساؤلاتِ تتركَّز حول القضايا الآتية:

١ـ ما هي الحاجةُ الإنسانيةُ في مختلفِ العصورِ إلى الدين، وما هي أهميتهُ في المسيرةِ الإنسانية، وما الذي يُقدِّمهُ للبشريةِ عبرَ الأزمان؟

وما هي ضروراتُ الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ والارتباطِ بالمُطلق، وما هي حقيقةُ الافتقارِ إلى عبادتهِ سبحانهُ وهو الغنيُّ عن العالمين؟

٢ـ موقعُ القرآنِ الكريمِ المركزي، النظريِّ والفِعليِّ في التشريعِ الإسلاميِّ وفي عمومِ المعرفةِ الإسلامية، ومناقشةٌ ونقدٌ لما تستدعيهِ بعضُ الكتاباتِ من اتجاهاتِ الإستشراقِ حولَ القرآنِ الكريم.

٣ـ الإشكالاتُ والشبهاتُ الفكريةُ التي يموجُ بها المشهدُ الفكريُّ العربيُّ حولَ التوحيدِ وامتداداتهِ الفكريةِ وانعكاساتهِ السلوكيةِ الاجتماعية، وحولَ العدلِ والخيرِ والشرِّ، وعن حقيقةِ النبوةِ والوحيِ وعن الأنبياءِ والرُّسلِ وأدوارِهم الاجتماعية، وكذلك عن الإمامةِ ومرجعيةِ الأئمةِ وحُجّيتهم في الدينِ ونطاقها، وحولَ المعادِ وأهميتهِ في ضبطِ مساراتِ الحياةِ الاجتماعيةِ عبرَ التاريخ.

٤ـ دورُ أئمةِ أهلِ البيتِ الرساليِّ الفكريِّ والاجتماعيِّ والسياسيِّ في المسيرةِ الإسلامية، والخصائصُ التي يمتازُ بها عطاءُهم الفكريُّ في شتّى المعارفِ الإسلامية.

٥ـ القيمُ الإيمانيةُ والأخلاقيةُ والحقوقيةُ التي يعرضها الدينُ الإسلاميُّ في مصادرهِ في مختلفِ مناحي العلاقاتِ الأسريةِ والتربويةِ والاجتماعية، ودورها في المحافظةِ على تماسكِ الأسرةِ والمجتمع.

واستلهامُ (رسالةِ الحقوق) للإمامِ زينِ العابدين كوثيقةٍ حقوقيةٍ عُنِيَتْ بالأبعادِ الروحيةِ والقيميةِ والتربويةِ اللازمةِ لتماسكِ المجتمعات.

٦ـ إسهاماتُ مدرسةِ أهلِ البيتِ في الفكرِ الإسلاميِّ وفي رفدِ الحضارةِ العربيةِ الإسلامية، في شتّى المعارفِ الدينيةِ الإسلامية من علومِ القرآنِ والسنّةِ والسيرةِ والفقهِ والأصولِ والكلامِ والفلسفةِ والعرفانِ وسائرِ أبعادِ الفكرِ الاجتماعيِّ الحديث.

٧ـ خصائصُ الفقهِ الإسلاميِّ الإماميِّ ومميزاتهُ والإضاءةُ على اتجاهاتِه ومساراتهِ الاجتهادية، والمنجزاتُ الفقهيةُ على مستوى المنهجِ والتشريعاتِ الحقوقيةِ الراقيةِ التي قدَّمها ـ على الأقل ـ خلالَ قرنينِ أخيرين، وهما قرنا المدنيةِ الحديثة.

وكيفَ يتعاملُ الفقهُ الشرعيُّ مع معطياتِ العلومِ الطبيعيةِ في المساحاتِ المشتركةِ بينهما؟

٨ـ قراءةُ أحداثِ الملحمةِ الحسينيةِ وتحليلُ أهدافِها ونتائجِها وإلهاماتِها عبرَ التاريخ، وذلك من خلالِ التأملِ والتحليلِ لكلماتِ ومواقفِ أبطالِها، وكذلك لما وردَ عن أئمةِ أهلِ البيتِ عنها، وتصويبُ الإسقاطاتِ الناتجةِ عن ثقافاتِ المجتمعاتِ التاريخيةِ المتنوعةِ التي تحتفي بالذكرى الدامية.

٩ـ تناولٌ وقراءةٌ وتحليلٌ لتاريخِ الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ برؤيةٍ واقعيةٍ متوازنة، في نجاحاتِها وإخفاقاتِها، والنظرُ في صفحاتِها الناصعةِ والقاتمة، والتعاملُ الواعي المسؤولُ مع أحداثِ التاريخِ الكبرى وشخوصِه اللامعةِ لتنميةِ الوعيِ بالتاريخِ والتبصيرِ بكيفيةِ التعاملِ مع المنعطفاتِ الفاصلةِ التي تمرُّ بأمّةِ العربِ والمسلمين.

١٠ـ تحليلٌ ونقدٌ لاتجاهاتِ تأليهِ المنطقِ الوضعيِّ والمنهجِ الحسّيِّ ومنتجاتِه، ومحاولاتِ تعميمِه على الحقولِ الاجتماعيةِ الإنسانية، والتقليلِ من موقعِ المناهجِ العقليةِ والسمعية، مع تجليةِ ما تُحتِّمهُ الرؤيةُ الإيمانيةُ من تعاضُدِها وتكامُلِها ونفيِ التنافي بينها، إذ لا تضادَّ بين آياتِ اللهِ في الآفاقِ والأنفسِ وبين آياتِه في كتابِه المُنزَّل.

١١ـ توضيحُ الموقفِ الدينيِّ المُستقرِّ من التراثِ الروائيِّ المُكثَّفِ الواردِ حولَ حُقولِ الخَلقِ والكونِ والطبيعةِ والطِّبِّ والنفسِ والأممِ السابقةِ والسيرةِ والتاريخ، وما هي الجهودُ العلميةُ المبذولةُ من المؤسّساتِ الدينيةِ لتنقيتِه وتصفيتِه مما يتنافى مع مقرراتِ القرآنِ الكريمِ والسُّنّةِ الثابتة.

وما هو الموقفُ الدينيُّ فيما تعارضَ منه مع مبادئِ العقلِ ومعطياتِ العلومِ الطبيعية؟

١٢ـ ما هي النظرةُ الدينيةُ الإسلاميةُ حيالَ الخلافاتِ الفكريةِ الواقعةِ بين أهلِ الأديانِ المختلفة، وكذلك بين أتباعِ الدينِ الإسلاميِّ وتياراتِه الفكريةِ والفقهيةِ المتعددة، بل وبين المُنتمين إلى مذهبٍ إسلاميٍّ واحد؟

وما هي المُوجِّهاتُ الدينيةُ الإسلاميةُ لكيفيةِ التعاملِ مع الخلافاتِ الدينيةِ والمذهبيةِ بين الناس، الذين تربطُهم علاقاتٌ اجتماعيةٌ ومصالحُ حياتية؟

وكيفَ يُجابُ على من يُردِّد: أنَّ الأديانَ بدلًا من أن تكونَ جامعةً للناسِ في أوطانِهم ومجتمعاتِهم، أضحت ـ بسببِ بعضِ من يتحدّث باسمِها ـ عاملَ تأجيجٍ للنزاعاتِ بينهم؟

هذه باقةٌ من قضايا مطروحةٍ في المشهدِ الفكريِّ العربي؛ ومن منطلقِ التذكير، أضعُها بين يدي خطبائنا الأعزاء، مُدرِكًا أن جلَّهم على دِرايةٍ بها لكونِهم في قلبِ الميدان، فإن الذكرى تنفعُ المؤمنين.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email