أحدث المقالات

دراسةٌ مقارنة تحليلية

د. الشيخ خالد الغفوري الحسني(*)

المقدّمة

من المسائل المهمّة المطروحة في باب الإرث مسألة المنع؛ نظراً لتأثيره الكبير على عملية التوريث وكيفية تقسيم التركة ومقدار الحصص. قال ابن عباس: «مَنْ تعلّم سورة النساء، وعلم مَنْ يحجب ومَنْ لا يحجب، فقد علم الفرائض»([1]) . ولعلّ مراده من الحجب ما يشمل الموانع أيضاً، لا خصوص الحجب المصطلح.

قال الدكتور برّاج: «وموضوع الحجب يُعتبر من أهمّ مواضيع الفرائض. ويحرم على مَنْ لم يعرف الحجب أن يُفتي في الفرائض؛ لأنّ مَنْ لم يعرف هذا الباب لا يستطيع تقسيم التركة على الوجه الذي أراد الله، بل ربما حرم مَنْ يستحقّ وأعطى مَنْ لا يستحقّ؛ لجهله بموضوع الحجب»([2]) .

أقول: إنّ حرمة التصدّي للإفتاء لا تختصّ بالجاهل بمسائل المنع أو الحجب، ولا تختصّ بباب الفرائض، بل هي شاملةٌ لكلّ مَنْ يُفتي بغير علمٍ.

ويتعرّض الفقهاء عادةً لأكثر مسائل المنع وملحقاته في موضعٍ واحد، لكنّهم أهملوا التنصيص على بعض الحالات، وأنّها من أقسام المنع أو الحجب، ممّا أثّر على عدم امتلاك صورة واضحة، بل مجتزأة وتقسيمات غير وافية. لذا فقد ارتأينا أن نُفرد المنع ببحثٍ مستقلّ؛ فإنّ لهذا الجمع ثمرات بحثية ـ كما سوف ترى ـ لا تحصل لدى بحثها بشكلٍ مبثوث، وإنْ كنّا لسنا بصدد استيعاب جهات بحث المنع جميعاً؛ فقد استهدفت الدراسة بحث بعض الزوايا العامّة، ومن هنا سوف نقتصر على التركيز على الماهية وتحليلها والتقسيمات، مُضافاً إلى أنّنا قدّمنا في طيّات البحث ما لدينا من الرؤى الفقهية الاستدلالية أو الاستنباطية أو التحليلية الخاصّة بنا، والتي هي بحاجة إلى فتح ملفّ البحث فيها من جديدٍ؛ لعدم إعطائها حقّها من التنقيح والتحقيق، فطرحنا رؤى تجديدية هنا وهناك، كما أنّنا عرضنا المعالجة وفقاً للمنهج المقارن بين الفقه الإمامي والفقه السنّي.

فهرسة جهات البحث

نظراً لسعة البحث وكثرة فروعه، التي تتطلّب عقد دراسة مفصّلة، فسوف نقتصر على بحث بعض الجهات، دون استيعابها طرّاً، وهي: تعريف المنع، تقسيمات المنع، أقسام الموانع ولواحقها، والإشارة الى الفرق بين المنع والحجب.

الجهة الأولى: مصطلح المنع

وفي البدء لا بُدَّ أن نتعرّض الى بيان تعريف هذا المصطلح، ثمّ بيان الفرق بينه وبين ما يُشابهه.

أـ المنع لغةً

الموانع: جمع مانع، من المنع، بمعنى الحيلولة بين شيئين، وهو ضدّ الإعطاء([3]) . ويُقال: هو تحجير الشيء. وقال ابن فارس: «(منع): الميم والنون والعين: أصلٌ واحد هو خلاف الإعطاء. ومنعته الشيء منعاً. وهو منّاع. ومكان منيع، وهو في عزٍّ ومنعة»([4]) . وقال الجوهري: «منعت الرجل عن الشيء فامتنع منه. ومانعته الشيء ممانعة»([5]). وقال الخليل: «(منع): منعته أمنعه منعاً فامتنع، أي: حُلْت بينه وبين إرادته. ورجل منيع: لا يُخْلَص إليه. وهو في عزّةٍ ومنعة، ومنعة يثقّل ويُخفَّف([6]) . وامرأة منيعة: متمنّعة لا تؤاتى على فاحشة، قد منعت مناعة، وكذلك الحصن ونحوه. ومنع مناعة: إذا لم يُرَمْ»([7]) . ولأنّه بمعنى الحيلولة صحّ أن يُقال: منعه من حقّه، ومنع حقّه منه. ومنَع يمنَع، فهو مانع ومنوع ومنّاع للمبالغة: الرجل الضنين المُمْسِك. ومنعت الرجل عن الشيء ومن الشيء فامتنع منه. ومانعته الشيء ممانعة([8]): رادعه على الكفّ. وتمنّع عنه: انكفّ. ومَنُع: صار منيعاً. ورجلٌ منيع: لا يخلص إليه([9]) . ومن المجاز الممتنع: الأسد القويّ في جسمه، العزيز في نفسه، الذي لا يصل إليه شيء ممّا يكرهه؛ لعزّته وقوته وشجاعته. الامتناع: الكفّ عن الشيء([10]) .

ب ـ المنع اصطلاحاً

تعرّض الفقه السنّي إلى تعريف المنع. ورُبَما أطلقوا عليه الحرمان. وإليك بعض كلماتهم:

1ـ قال سيّد سابق: «الحرمان: منع شخص معيّن من ميراثه؛ بسبب تحقّق مانع من موانع الإرث، كالقتل ونحوه من الموانع»([11]) .

2ـ وقال علاء الدين: «المانع: الحائل. واصطلاحاً: ما ينتفي لأجله الحكم عن شخصٍ لمعنى فيه بعد قيام سببه، ويُسمّى محروماً… والمُراد بالمانع هاهنا المانع عن الوراثية، لا المورثية، كما حرَّرته في الرحيق المختوم»([12]) .

3ـ وذكر الدكتور برّاج تعريف المانع، ناسباً ذلك للفرضيين، قال: «المانع: ما تفوت به أهلية الإرث مع قيام سببه وتوافر شروطه، أو هو أمرٌ خارج عن الحكم يستلزم وجوده عدم الحكم، بخلاف الشرط؛ فإنّ تأثيره من جانب العدم»([13]) . ومَنْ قام به المانع يُسمّى ممنوعاً ومحروماً([14]) . ثمّ تصدّى لبيان الفرق بين المانع والشرط فقال: «فكلٌّ من الشرط والمانع لا يُؤثّر في وجود الحكم، بل تأثيرهما في عدمه فقط، فالشرط يُؤثّر بعدمه، والمانع يُؤثّر بوجوده، فقتل الوارث مورِّثه بعد قيام سبب الإرث وتوفّر شروط الاستحقاق يمنع من استحقاق الإرث بالفعل. والمانع لا يُبطل سببية السبب، بل يبقى صحيحاً في ذاته، وإنّما يحول بينه وبين المُسبّب فقط. ولذلك لو زال هذا المانع ظهر عمل السبب»([15]) .

التعليق والمناقشة

أوّلاً: إنّ التعريف الأوّل الذي قدّمه سيّد سابق ليس تعريفاً فنّياً، بل هو تكرار لمفهوم (المنع)، وتفسيره بنفسه أو بمُرادفه.

ثانياً: وأمّا التعريف الثاني الذي قدَّمه علاء الدين أفندي فهو وإنْ كان أحسن حالاً من الأوّل، إلاّ أنّه مُبتلىً بعدم مانعيته من دخول الأغيار؛ فإنّ بعض الشروط، كحياة الوارث، هو أمرٌ قائم في نفس الوارث بعد افتراض تحقُّق السبب، وهو كونه قريباً للمورّث، فلو انتفى انتفى الحكم، وهو التوريث. كما أنّه يشمل المورّث أيضاً، فلو انتفى موته، رغم كونه أباً أو ابناً، انتفى الحكم، وهو التوريث.

ثالثاً: وأمّا التعريف الثالث، الذي ذكره البرّاج، فهو مشتمل على صياغتين، بل هو تعريفان متباينان:

أمّا أوّلهما ـ (ما تفوت به أهلية الإرث مع قيام سببه وتوافر شروطه) ـ فيَرِدُ عليه:

1ـ إنّ لفظ (الأهلية) لا يخلو من إجمالٍ، لأنّه يمكن تطبيقه على فاقد السبب والمُوجِب، فمَنْ لم يكن من أقارب الميّت ليس أهلاً للتوريث.

2ـ إنّ لفظ (الأهلية) وإنْ ورد في كلمات بعض الفقهاء ([16])، إلاّ أنّه عادة يُطْلَق على الخصائص الذاتية للشخص، فيُقال: مَنْ كان صغيراً ليس أهلاً للتصدّي للعقد في المعاملات.

وأمّا ثانيهما ـ (هو أمرٌ خارج عن الحكم يستلزم وجوده عدم الحكم) ـ فيَرِدُ عليه: إنّ هذا التعريف عامٌّ شامل لكلّ (مانع)، ولو كان في بابٍ فقهيّ آخر، كموانع الصلاة ومُبْطِلاتها، وموانع الصيام ومفطراته، بل يشمل المانع ولو كان في الأمور التكوينية، كالرطوبة المانعة من الاحتراق. فهذه الصياغة لم تُقدِّم تعريفاً للمانع في خصوص باب الإرث.

وأمّا الفقه الإمامي فبعد التتبُّع لكلمات الفقهاء عثرنا بصعوبة على بعض مَنْ تصدّى لتعريف المنع:

1ـ قال الشهيد الأوّل في تعريف المانع بصورةٍ عامّة: «المانع: هو الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجودٌ ولا عدم»([17]) .

2ـ وقال ابن أبي جمهور الأحسائي: «المانع من الإرث: هو ما ينفي سبب الإرث وشرطه»([18]) .

3ـ وقال الفاضل الإصفهاني: «موانع الإرث: أي يمنع الإنسان من أن يرث ممّا تركه الميّت ميراثاً أصلاً، مع كونه في طبقة الإرث ودرجته»([19]) .

4ـ وقال السيد عبدالله الجزائري: «الموانع: وهي أحوال يُمْنَع بسببها عن الإرث مَنْ شأنه الاستحقاق»([20]) .

5ـ كما أشار الطبرسي إلى المانع إشارةً عابرة أثناء تعداده للموانع، فقال: «والمانع من الإرث بعد وجود سبب وجوبه ثلاثة: الكفر، والرقّ، وقتل الوارث مَنْ كان يرثه لولا القتل»([21])، وقال: «ولا يمنع الأبوين والولد والزوج والزوجات من أصل الميراث مانع…»([22]). وتبعه بعضهم في هذا التعبير، كالحُرّ العاملي([23]) . وأصل هذا التعبير مأخوذٌ من عبارات القدماء، كالمراسم، لسلاّر([24]) .

6ـ وقال العاملي، في معرض ردّه على مَنْ أكثر في تعداده للموانع: «المراد [من قولهم موانع الإرث]([25]) ما يمنع الإنسان من أن يرث ما تركه الميّت ميراثاً أصلاً، مع كونه من أهل الإرث، وفي طبقة الإرث ودرجته، وكون المنع قائماً في نفسه، لا في غيره، وإلاّ كان حجباً. وهذا إنّما يتمّ بوجود وارثٍ ومال موروث…»([26]) .

وإذا أردنا صياغة كلامه في قالب التعريف نقول: المانع هو ما يمنع الإنسان من أن يرث ما تركه الميّت ميراثاً أصلاً، مع كونه من أهل الإرث، وفي طبقة الإرث ودرجته، وكون المنع قائماً في نفسه، لا في غيره، مع افتراض وجود وارثٍ ومال موروث.

7ـ واحتمل العاملي أيضاً أنّ مراد بعض الفقهاء بالمنع معنىً أوسع يشمل حتّى الحجب، قال: «المُراد بالمانع ما لولاه لوقع الإرث، من دون ملاحظة شيءٍ من تلك القيود… ولا مُشاحّة»([27]) .

8ـ وقال السيد كلانتر: «المانع ما يُبْطِل تأثير مقتضي الوراثة، ككفر الولد أو قتله أباه؛ فإنّهما يمنعان من تأثير اقتضاء سبب الوراثة ـ أي النسب ـ، فلا يرثه»([28]) .

مناقشاتٌ وتعليقات

يظهر للمطالع لعبارات الفقهاء وجود تسامحٍ في إطلاق لفظ (المنع) على ما يعمّ (الحجب) ؛ إذ من الواضح أنّ المعنى الاصطلاحي لكلا اللفظين مختلفٌ، بل متباينٌ. وهذا ما نلاحظه في العبارة المشهورة على ألسنة الفقهاء، وهو قولهم: (الأقرب يمنع الأبعد)([29])؛ فإنّه يقصدون بذلك أنّ الأقرب يحجب الأبعد، لكنّهم استخدموا لفظ (المنع) للتعبير عن (الحجب). أجل، قال أبو البركات الدردير: «ويحجب الأقرب الأبعد»([30])، وتبعه الدسوقي في حاشيته([31]). وأيضاً نلاحظ هذا التسامح عند بعض الفقهاء الذين ذكروا اللواحق للموانع، وأدرجوا فيها بعض موارد الحجب. كما نلاحظ هذا التسامح في عبارات بعض القدماء، كسلاّر([32]) .

أوّلاً: يَرِدُ على تعريف الشهيد الأوّل ما أوردناه على التعريف الثاني للبرّاح، من كونه عامّاً، ولا يختصّ بباب الإرث.

ثانياً: يَرِدُ على تعريف ابن أبي جمهور أنّ المانع لا ينفي السبب، كالنسب؛ فإنّ المانع لا ينفيه، ولا يُبطله.

ثالثاً: ويَرِدُ على ما ذكره الفاضل الإصبهاني بأنّه ليس تعريفاً فنّياً، بل هو تعريف المانع بالمنع.

رابعاً: ولعلّ التعريف الذي قدّمه السيد عبد الله الجزائري أفضل من التعاريف السابقة؛ حيث فسَّر الموانع في صدر عبارته بأنّها أحوال، فهو لم يستعمل المفاهيم نفسها في المعرَّف والمعرِّف، كما أنّه بيَّن في ذيلها أنّ انتفاء الإرث عمَّنْ يستحقّ الإرث، أي بافتراض توفّر الموجبات والشروط فيه. إلاّ أنّه لم يُوضِّح ما هي هذه الأحوال؟ وهل هي مرتبطة بنفس هذا الشخص المستحقّ أو عارضة عليه من خارجٍ؟

خامساً: إنّ عبارة الطبرسي وغيره تضمّنت بيان مصاديق المنع وموارده، ولم تُقدِّم تعريفاً لماهية المنع والمانع. مضافاً إلى عدم مانعيته من دخول الأغيار، كالشروط.

سادساً: إنّ التعريف الذي ذكره العاملي هو من أجود التعاريف وأدقّها. ولكنّه بحاجةٍ الى التعليقات:

1ـ الظاهر أنّ مراده من المنع من الميراث أصلاً أنّ هذا المنع من جميع التركة مطلقاً.

2ـ إنّ التعبير بـ (كون الممنوع من أهل الإرث) غير فنّي؛ إذ لم يُبيِّن ماذا يُراد به؟

3ـ إنّ التعبير بـ (كونه في طبقة الإرث ودرجته) أتى به لإخراج حجب الحرمان، الذي يكون بسبب اختلاف الطبقة أو الدرجة.

4ـ إنّ التعبير بـ (كون المنع قائماً في نفس الشخص، لا أمراً قائماً في غيره) لإخراج الحجب بكلا نوعَيْه.

سابعاً: إنّ التعريفَ الانتزاعي الذي احتمل العاملي كونه مراداً لبعض الفقهاء كما ترى واسعٌ فضفاضٌ، لا يمنع من دخول الأغيار، كموارد الحجب، بل وغيرها، كانتفاء أركان الإرث. وهذا لا ينسجم مع عنوان الباب (موانع الإرث) .

ثامناً: إنّ التعريف الذي ذكره السيد كلانتر غير مانع من دخول الأغيار، وهو موارد الحجب.

ومع وجود بعض الإبهامات والإشكالات في هذه التعاريف لا بُدَّ من السعي لتقديم تعريفٍ بديل، يخلو من هذه الإبهامات والإشكالات، كُلاًّ أو جُلاًّ.

التعريف المقترح للمنع

ومهما يكن من أمرٍ فيمكن انتزاع تعريف للمنع في خصوص باب الإرث من مجموع كلماتهم. فنقول: المراد بالمنع في باب الإرث: عدم توريث شخص إطلاقاً، مع تحقّق أركان الإرث وموجِباته وشروطه؛ بسبب وجود صفةٍ خاصّة قائمة فيه، كالرقّ؛ أو بسبب صدور فعلٍ خاصّ منه، كقتله لمورِّثه.

فبسبب طروّ أحد هذين الأمرين يُحْرَم هذا الشخص من الإرث، ويُمنع منه. فالممنوع لا يستحقّ الإرث في نفسه، ومع قطع النظر عن سائر الورثة، فحتّى لو لم يوجد أيُّ وارثٍ آخر فهو لا يرث؛ بخلاف المحجوب، فإنّه لولا الحاجب لورث ما حُرِم منه.

بيان عناصر التعريف المقترح للمنع

1ـ إنّ المنع هو انتفاء حكم التوريث عن شخصٍ حيّ.

2ـ إنّ هذا الانتفاء مع افتراض تحقّق أركان الإرث وأسبابه وتوفُّر شروطه.

3ـ إنّ هذا الانتفاء بسبب وجود أمرٍ قائم في الشخص الحيّ.

4ـ إنّ هذا الأمر غير قائم بالميّت، ولا بشخص ثالث غيرهما.

5ـ إنّ هذا الأمر هو أحد شيئين على سبيل مانعة الخلوّ: إمّا اتّصاف الشخص بصفةٍ خاصّة، كالرقّية، وإمّا صدور فعلٍ خاصّ منه، وهو قتله لمورِّثه.

 

بيان خصائص التعريف المقترح للمنع وامتيازاته

1ـ إنّه تعريفٌ فنيّ؛ لأنّه بمنـزلة التعريف بالحدّ، لا بالخاصّ.

2ـ إنّه تعريفٌ خالٍ من الدَّوْر.

3ـ إنّه تعريفٌ مانع من دخول الأغيار، كالشروط أو الأسباب أو الحجب.

4ـ إنّه تعريف جامعٌ لكلّ الموانع، لا يشذّ عنه منها شيء.

5ـ إنّه ناظرٌ إلى ما هو المعروف لدى المشهور من موانع.

الجهة الثانية: تقسيمات المنع

ويمكن تقسيم الموانع بتقسيمين:

التقسيم الأوّل: تقسيمها إلى نوعين([33]): ما يقبل الرفع، كالرقّ الذي يرتفع بعتق العبد؛ وما لا يقبل الرفع، كالقتل. فلو ارتفع المانع بعد موت المورِّث قبل تقسيم التركة شارك الورثة، ولو ارتفع بعد القسمة فلا شيء له.

التقسيم الثاني: تقسيمها إلى نوعين: بعضها مُتَّفق عليه؛ وبعضها مُخْتَلف فيه([34]).

وربما يُقْتَرح تقسيمٌ ثالث، وهو تقسيمها إلى نوعين: موانع تمنع عن التوريث مطلقاً؛ وموانع تمنع عن إرث بعض التركة، كما في منع كلالة الأمّ عن إرث الدية، على ما هو المشهور بين الإمامية أو أكثرهم([35]) .

ومن الواضح أنّ هذا التقسيم لا يتَّجه بناءً على القول بتوريثهم وعدم حرمانهم، كما عليه الفقه السنّي([36])، واختاره بعض الإمامية([37])، بل حتّى بناءً على القول بعدم توريثهم وحرمانهم فإنّه لا يصحّ عَدُّ ذلك وأمثاله ضمن الموانع؛ لأنّ المنع المصطلح هو الحرمان التامّ وعدم التوريث، بحيث يكون وجود الممنوع وعدم وجوده سواء؛ بلحاظ عدم إرثه، وأمّا حرمان الوارث من بعض التركة فليس منعاً اصطلاحاً.

الجهة الثالثة: بيان الموانع وتفصيلها

أـ الموانع في فقه أهل البيت^

وموانع الإرث بحَسَب فقه أهل البيت^ كثيرة؛ فقد ذكر بعضهم ستّة([38])؛ وآخر ثلاثة، وألحق بها أربعة، فتكون سبعة([39])؛ فيما أوصلها بعضهم إلى عشرة موانع إجمالاً([40])؛ وأوصلها آخر إلى عشرين مانعاً([41])؛ بل أوصلها ثالثٌ إلى ثلاثة وعشرين مانعاً([42]). لكنّ أهمَّها بل المتّفق عليها ثلاثة موانع، وهي([43]):

1ـ القتل([44]). فالقاتل لا يرث المقتول إذا كان القتل عمداً ظلماً([45]). قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (البقرة: 178)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً (الإسراء: 33).

2ـ الرقّ([46]). فالمملوك لا يرث من قريبه، سواء أكان الموروث حرّاً أو رقيقاً. وكذا لا يُورِّث الرقُّ، وماله لمولاه بحقّ الملك، لا بالإرث ([47]). قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (النحل: 75).

3ـ الكفر ([48]). فـالكـافر لا يرث المسلم، حتّى أنّ ضامن الجريرة المسلم والإمام يمنعانه من الإرث([49]). قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (الأحزاب: 6).

أقول: سوف يتَّضح لك أنّ الصحيح كون الموانع هي هذه الثلاثة، لا غير. وأمّا غيرها فهي ترجع في حقيقتها إلى نفي المقتضي للإرث، فيما تكون الموانع بعد افتراض وجود المقتضي للإرث.

سائر الموانع الأخرى، ولواحقها

وليُعْلَم أنّ بعض الفقهاء اقتصر على ذكر هذه الموانع الثلاثة([50])؛ وبعضهم أتبعها بثلاثة([51]) أو أربعة لواحق([52])؛ وبعضهم وسَّع من دائرتها على اختلافٍ في دائرة هذا التوسّع. ومهما يكن من أمرٍ فإنّ سائر الموانع التي ذكروها هي:

أوّلاً: اللعان.

وهو يقطع الإرث بين الزوجين، والإرث بين الولد المنفيّ ووالده وبين أقاربه من قِبَل الوالد، ولا يقطع الإرث بين الولد وأمّه، فيرث الابن أمّه، وترثه، وكذا يرثه وُلْدُه وقرابة الأمّ وزوجه وزوجته([53]) .

المناقشة: إنّ اللعان يرفع المقتضي للإرث، فلا يصحّ عدّه من الموانع، ولا من لواحقها.

ثانياً: الزنى([54]) .

وهو يقطع النسب من الأبوين، فلا يرثان الولد، ولا يرثهما، ولا مَنْ يتقرّب بهما، وإنّما يرثه ولده وزوجته، ثمّ المُعْتِق، ثمّ ضامن الجريرة، ثمّ الإمام([55]) .

المناقشة: إنّ الزنى لا يثبت به النسب. ففي حالة الزنى ـ والعياذ بالله ـ لا يوجد أيّ مقتضٍ للإرث منذ الأوّل، فلا يصحّ عدّه مانعاً، بل إنّ انتفاء الإرث فيه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

ثالثاً: التبرّي عند السلطان من جريرة الابن وميراثه.

فإنّه يمنع إرث الأب منه، ويرثه أقرب الناس إليه. وأنكره الأكثر، بل بعض القائلين بها تراجعوا عنه في كتبهم الأخرى([56]) .

المناقشة: إنّ انتفاء النسب أو الإرث بالتبرّي لم يثبت مستنده سنداً ودلالة([57]). ولو ثبت المستند لأمكن عدّه من الموانع أو من لواحقها على بعض الوجوه.

رابعاً: الشكّ في النسب. وأنكره بعض الفقهاء([58]) .

المناقشة: في حالة الشكّ في النسب أمامنا احتمالان، لا ثالث لهما؛ فإمّا أن يثبت النسب عند وجود الفراش، ويترتّب عليه التوارث؛ وإمّا أن يُنفى النسب ـ والقول به نادرٌ ـ، فالمقتضي للإرث غير موجود، فلا يصحّ عدّه من الموانع.

خامساً: الغَيْبة المُنقطعة.

وهي التي تنقطع فيها أخبار الشخص، فلا يُعْرَف أنّه حيٌّ أو ميّت. وهي مانعةٌ من نفوذ الإرث ظاهراً، حتّى يُعلَم موته ببيّنةٍ أو مضيّ مدّةٍ لا يعيش مثله إليها غالباً([59]) .

المناقشة: إنّ الغَيْبة المنقطعة ليس لها أيّ تأثير على عملية التوريث إطلاقاً؛ فإنّ الإرث يتحقَّق متى ما توفّرت شروطه، التي منها: إحراز موت المورِّث. وبمجرّد الغَيْبة لا يحصل إحراز هذا الشرط. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (الحجب)، فانتظِرْ.

سادساً: الدَّيْن المستَغْرِق للتركة.

إذ معه لا تنتقل التركة إلى الورثة، بل تكون حينئذٍ موقوفةً، كالرهن ـ بسبب تعلّق حقّ الدُّيّان بها ـ، حتّى يُقْضى الدَّين منها أو من غيرها([60]).

المناقشة: المعروف في هذه المسألة قولان: أحدهما: الانتقال إلى الورثة؛ والآخر: بقاؤها في حكم ملك الميّت. وعلى كلا القولين يثبت الحجب المؤقَّت والمتزلزل ـ عن أصل تمليك التركة للورثة أو عن استقراره خاصّة ـ حتّى يحصل الأداء، فلا منع في المقام أصلاً. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في أواخر البحث في (إرث الأبوين والأولاد)، فانتظِرْ.

سابعاً: علمُ اقتران موت المتوارثين.

فإنّه لا يتوارث الموتى، بل ميراث كلٍّ لورثته الأحياء([61]) .

المناقشة: في حالة العلم باقتران موت شخصين ـ يُمكن التوارث بينهما ـ لا يُحْرَز شرط الإرث، وهو حياة الوارث حين موت مورِّثه، فلا يصحّ عدّه مانعاً.

ثامناً: الحمل.

فإرثه ممنوعٌ ـ لا يَرِث ولا يُورَث ـ إلاّ أن ينفصل حيّاً، فلو سقط ميّتاً لم يَرِثْ([62]) .

المناقشة: إنّ عدم توريث الحمل وعدم الإرث منه هو إجراءٌ مؤقَّت، لا أكثر. وإن شئتَ قلتَ: حجبٌ مُتـزلزل حتّى يُعْلَم الموضوع للإرث، وهو وجود الإنسان الحيّ، أو يُعْلَم عدمه. فليس ذلك من المنع في شيءٍ. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (الحجب)، فانتظِرْ.

تاسعاً: بُعْد الدرجة مع وجود أقرب.

فلا يرث أبعد مع أقرب. وقد يكون وجوده مانعاً([63])؛ وذلك متحقّق في موضعين:

الأوّل: الولد بالنسبة إلى الأبوين، أو أحدهما،‌ وإلى كلٍّ من الزوجين؛ فإنّ الولد على الإطلاق يحجب الزوجين عن النصيب الأعلى إلى الأدنى؛ ويحجب الذكر الأبوين أو أحدهما عمّا زاد عن السدس؛ وتحجب البنت الأبوين أو‌ أحدهما؛ وتحجب البنات أحد الأبوين عمّا زاد على النصيب الحاصل من الأصل والردّ.

الثاني: الإخوة‌؛ فإنّهم يمنعون الأمّ عمّا زاد عن السدس إذا كان الأب موجوداً([64])، بشرط توفّر الشروط المذكورة مُفصّلاً.

المناقشة: إنّ هذه الموارد المذكورة كلّها معدودة من موارد الحجب، لا المنع، كما هو واضحٌ.

عاشراً: منعٌ يتعلّق بالزوجين خاصّة، وهو من وجوه([65]):

الوجه الأوّل: تجرُّد عقد المريض على امرأةٍ عن الدخول إذا مات في مرضه، فإنّ ذلك يمنع من إرثها على المشهور. ولو برئ من مرضه زال المانع على الأقرب.

المناقشة: في حالة العقد في مرض الموت يُشَكّ في تحقُّق هذا العقد؛ بسبب الشكّ في الإرادة الجِدِّية، فيؤول إلى الشكّ في إحراز مقتضي الإرث، وهو الزوجية، حينئذٍ، فلا يصحّ إدراجه ضمن الموانع. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (إرث الأزواج)، فانتظِرْ.

الوجه الثاني: لو كان العقد منقطعاً‌ منع من الإرث في الزوج والزوجة. ولو شرطا التوريث فقولان.

المناقشة: إنّ العقد المنقطع لا يقتضي التوريث، لا أنّ التوقيت في عقد النكاح يكون مانعاً، بل ليس مقتضياً للتوريث، فلا يصحّ عدّه مانعاً.

ثمّ إنّه بناءً على ترتُّب التوريث عند اشتراطه في المنقطع فمع تسليمه لا يكون التوريث هنا بسبب الزوجية، بل يثبت بسبب الشرط. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (إرث الأزواج)، فانتظِرْ.

الوجه الثالث: لو خلت الزوجة عن ولدٍ‌ لم ترِثْ من رقبة الأرض شيئاً، وتُعطى قيمة الآلات والأبنية والشجر، وقال المرتضى: تمنع من عين الأرض، لا من قيمتها. ولو كان لها ولدٌ فالمشهور يورِّثونها من جميع ما ترك.

المناقشة: إنّ حرمان الزوجة ـ ولو في الجملة ـ من إرث العقار لا يصحّ عدُّه مانعاً؛ لأنّه يؤول إلى تحديد حصّة المرأة من الأوّل وحرمانها من بعض الحصّة، فهذا تضييقٌ في التركة، ولا ينطبق عليه ضابط المنع. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (الحجب)، فانتظِرْ.

الوجه الرابع: لو زوَّج الفضوليّان الصغيرين، فبلغ أحدهما وأجاز، ثمّ مات، عُزِل من تركته نصيب الآخر؛ فإنْ مات قبل البلوغ فلا إرث؛ وإنْ بلغ وردّ فلا إرث؛ وإنْ بلغ وأجاز رغبةً في الإرث فلا إرث، ويُعْلَم ذلك بقوله؛ وإنْ أجاز مُخْبِراً عن عدم الرغبة في الإرث أُحْلِف على ذلك، فإنْ امتنع فلا إرث.

المناقشة: من الواضح أنّه بالتأمّل يظهر أنّ الشكّ هنا في العقد بسبب الشكّ في الإرادة، فهنا شكٌّ في المقتضي، فلا يصحّ عدُّه ضمن المنع، نظير: ما مرّ من العقد في مرض الموت. وسيأتي لذلك مزيد من التوضيح في بحث (إرث الأزواج)، فانتظِرْ.

الوجه الخامس: لو طلَّق رجعيّاً ومات في العدّة أو ماتت توارثا. ولو كان الطلاق بائناً فلا إرث، وإنْ ماتا في العدّة، إلاّ أن يكون الطلاق في المرض، فترثه إلى سنةٍ ما لم تتزوَّج أو يبرأ من مرضه. ولو كان بسؤالها ففيه وجهان. ولو فسخ نكاحها بعيبها ففي إجراء الحكم وجهٌ بعيد. أمّا لو فسخت نكاحه بعيبه لم يتوارثا قطعاً. وكذا لو فسخ النكاح بسبب الرضاع، سواء كانت هي المرضعة أو بعض قرابة الزوج.

المناقشة: إنّ المطلَّقة الرجعية في حكم الزوجة، دون البائن التي خرجت عن حبالة الزوج، وانتفَتْ بذلك الزوجية التي هي مقتضي التوارث، فلا يصحّ عدُّ البينونة مانعاً. وكذا الحال في الفسخ، الذي هو ليس طلاقاً، بل رفعٌ للزوجية من الأساس.

الوجه السادس: لو تزوَّجت زوجة المفقود، ثمّ ماتت، وحضر الأوّل‌؛ فإنْ كان التزويج الثاني فاسداً؛ لعدم استيفاء الشرائط، ورثها الأوّل؛ وإنْ كان صحيحاً فالمشهور إرث الثاني.

المناقشة: إنّ التوارث يدور مدار مقتضيه، وهو هنا الزوجية، فينتفي بانتفائها، ويترتّب لدى ثبوتها. ولا علاقة لذلك بمسألة المنع، لا من قريبٍ ولا من بعيد.

الوجه السابع: لو طلَّق بائناً، واشتبه، ثمّ مات،‌ فالأقرب القرعة. وكذا لو مات المسلم عن كفرٍ، وله زوجات تبعنه في الإسلام، ولمّا يتخيّر.

المناقشة: إنّ ثبوت أو انتفاء المقتضي للإرث ـ وهو هنا الزوجية ـ تارةً يُحْرَز وجداناً؛ وأخرى حكماً، ولو بسبب القرعة. ولا علاقة لذلك بالمنع.

الوجه الثامن: لو طلَّق معيَّنة، واشتبه‌، ثمّ تزوّج أخرى، ومات عن أربعٍ غير المطلّقة،‌ فالمرويّ أنّ للمعيّنة ربع نصيب الزوجيّة، ويُقسَّم الباقي بين الأربع بالسويّة. ولو اشتبهت بواحدةٍ أو باثنين ففي انسحاب الحكم أو القرعة نظرٌ.

المناقشة: إنّ الكلام فيه كسابقه.

الوجه التاسع: قال ابن الجنيد: لو زوَّج الأب ابنه بنتاً في حجره‌ فمات الابن ورثته، ولو ماتت لم يَرِثْها الابن، إلاّ أن يكون قد رضي بالعقد وَرَثَتُها.

المناقشة: إنّ الكلام فيه كالكلام في الوجه الرابع. ولا نقبل الفرق في التوريث بين موت الابن وموت البنت؛ فإنّ التوارث هنا يترتَّب على الزوجية، وإلى ذلك أشار الشهيد الأوّل بقوله: «ويشكل بأنّ العقد إنْ صحّ توارثا، وإلاّ فلا، ورضا الورثة لا عبرة به إذا لم يكن فيهم وليٌّ شرعي»([66]) .

الوجه العاشر: منع المولود المُستهلّ من الإرث إذا لم يَكْمُل شهودُ الاستهلال؛ فلو شهدت امرأةٌ واحدة مُنِع من ثلاثة أرباع النصيب، ولو شهدت اثنتان مُنِع من النصف، ولو شهدت ثلاث مُنِع من الربع. ونقل ابن الجنيد: قبول شهادة الواحدة في الجميع([67]) .

المناقشة: إنّنا لا نقبل القول بتبعيض التوريث؛ فإنّ شهادة الواحدة إمّا أن تُقْبَل أو تُرَدّ، ويترتّب على ذلك التوريث أو عدمه. وحينئذٍ لا علاقة لهذا الأمر بالمنع.

الوجه الحادي عشر: اشتباه الحُرّ الوارث بالعبد، فيما لو سقط بيتٌ على قومٍ فماتوا، وبقي منهم صبيّان: أحدهما حُرّ؛ والآخر مملوك، واشتبها، ففيه قولان: أحدهما: أنّه يُقْرَع لتعيين الحُرّ، فإذا تعيَّن أعتق الآخر، وصار الحرّ مولاه. فهذا منعٌ من إرث الحُرّ العبد إنْ أوجَبْنا عتق الآخر؛ والقول الآخر: لا يُعْتَق، ويرثه الحُرّ ([68]) .

المناقشة: إنّه بناءً على القول الأوّل لا منع، بل تحديدٌ للحصّة، وتضييق لدائرة التركة. وأمّا بناءً على القول الثاني لا حرمان في المقام؛ كي يُعَدّ منعاً.

الوجه الثاني عشر: قَدْر الحَبْوة، فإنّه لا ينفذ فيه ميراث غير المحبوّ، وهو الولد الأكبر([69]) .

المناقشة: بناءً على مجّانية الحَبْوة يكون حرمان غير المحبوّ من باب تضييق التركة، وليس من باب المنع. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (الحجب) .

الوجه الثالث عشر: الكفن ومؤونة التجهيز، وهو مانعٌ من الإرث في قدره، فلو لم يفضل شيءٌ فلا إرث([70]) .

المناقشة: هذا كسابقه من كونه تضييقاً في دائرة التركة، وليس منعاً. بل هو أوضح من سابقه؛ لخروج الكفن ومؤونة التجهيز عن التركة تخصّصاً، كالدَّيْن. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (التركة)، فانتظِرْ.

الوجه الرابع عشر: الوصية، فإنّها مانعة ما لم تَزِدْ على الثلث، فإنْ زادت ولم يُجِزْ الورثة نفذ الإرث في الباقي([71]) .

المناقشة: هذا أيضاً كسابقه. وسيأتي لذلك مزيدٌ من التوضيح في بحث (التركة)، و(إرث الأبوين والأولاد) أيضاً، فانتظِرْ.

الوجه الخامس عشر: كون العين موقوفة، فإنّه لا ينفذ فيها الإرث([72]) .

المناقشة: إنّ هذا المورد كسابقَيْه في كون الموقوف خارجاً عن التركة.

الوجه السادس عشر: كون العبد جانياً عَمْداً، فإنّه إذا اختير استرقاقه أو قتله تبيَّن عدم نفوذ الإرث فيه، ويُحتَمَل تملّك الوارث ثمّ يُنْتَزَع منه([73]) .

المناقشة: إنّه بناءً على الأوّل يكون العبد الجاني خارجاً عن التركة، لا أنّ ثمّة منعاً. وأمّا بناءً على الاحتمال الأخير فيحصل التوريث بلا أيّ حرمان للورثة، فلا موضوع للمنع. وأمّا انتـزاعه منهم بعدئذٍ فهو حكمٌ آخر متأخِّر عن التوريث.

الاستنتاج

1ـ إنّه بعد هذا العرض المفصَّل لما ادُّعي كونه من الموانع أو ملحقاتها لم يثبت أمامنا مورد واحد يصلح عدُّه مانعاً ـ بالمعنى المصطلح ـ أو مُلحقاً بالموانع.

2ـ من المظنون قوّياً أنّ مَنْ عدّ هذه الموارد ضمن الموانع أو ملحقاتها ـ كالشهيد الأوّل ـ لا يقصد المنع بالمعنى المصطلح، وإنّما لاحظ المعنى اللغوي والعُرْفي العامّ، وهو مطلق الحرمان الطارئ على الوارث، الشامل للمنع والحجب المصطلحين، بل ولغيرهما، كما يُستفاد من كلمات بعضهم. قال السيد الخميني: «وهنا أمور عُدَّت من الموانع. وفيه تسامحٌ»([74])، ثمّ ذكر تحت هذا العنوان ثمانية موارد: أوّلها: الحمل، وقد عرفت البحث فيه، وأنّه خارج عن الموانع؛ والسبعة الباقية كلّها معدودةٌ من الحواجب أو من ملحقاتها([75]). وقال العاملي في معرض كلامه على مَنْ أكثر في تعداده للموانع: «نعم، بملاحظة هذه القيود يسقط كثيرٌ من الأقسام»([76]).

وقال أيضاً: «نعم، لو كان المراد بالمانع ما لولاه لوقع الإرث من دون ملاحظة شيءٍ من تلك القيود لصحّ العدّ»، ثمّ قال: «ولعلّ مَنْ عدّ أراد ذلك. ولا مُشاحّة»([77]).

ولكنّ هذه الأعذار ــ كما ترى ـ لا تنسجم مع عنوان باب (موانع الإرث).

أهمّ نتائج البحث

1ـ استعرضنا تعريف الفقه السنّي للمنع، وناقشناه.

2ـ ناقشنا التعاريف التي عثرنا عليها في كلمات الإمامية.

3ـ حاولنا انتـزاع تعريفٍ فنيّ يتناسب مع الفقه الإمامي.

4ـ استعرضنا تقسيمين للمنع، وأشَرْنا إلى تقسيمٍ ثالث محتمل، ثمّ ناقشناه.

5ـ حاولنا عرض الموانع وتفصيلها بحَسَب الفقه الإمامي، وهي ثلاثة.

6ـ ناقشنا ما ألحق بالموانع من أمور، وأثبتنا عدم وجاهة إلحاقها بالموانع، واحتملنا عدم كون مراد مَنْ ألحقها بالمنع المنع بالمعنى المصطلح.

7ـ كما استعرضنا الموانع وتقسيمها في الفقه السنّي.

8ـ وأهمّ الأمور التي استهدفناها هو تقديم رؤية شاملة دقيقة حول مفهوم المنع، من حيث الماهية والتقسيم والأقسام والمصاديق.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى| العالميّة، ورئيس تحرير مجلّة فقه أهل البيت^. من العراق.

([1]) الراوندي، فقه القرآن 2: 327.

([2]) برّاج، أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية: 533.

([3]) ابن منظور، لسان العرب 8: 343؛ الفيروزأبادي، القاموس المحيط 3: 86؛ الزبيدي، تاج العروس 11: 463 ـ 464؛ الجوهري، الصحاح 3: 1287.

([4]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 5: 278.

([5]) الجوهري، الصحاح 3: 1287.

([6]) (يُثقّل) أي بالتحريك، أي: مَنَعَة، و(يُخفّف) أي بالسكون، أي: مَنْعَة. [انظر: الصحاح 3: 1287].

([7]) الفراهيدي، كتاب العين 2: 163.

([8]) لسان العرب 8: 343. القاموس المحيط 3: 86. تاج العروس 11: 463 ـ 464. الصحاح 3: 1287.

([9]) كتاب العين 2: 163.

([10]) القاموس المحيط 3: 86. تاج العروس 11: 463 ـ 464.

([11]) سيّد سابق، فقه السنّة 3: 630.

([12]) علاء الدين، تكملة حاشية ردّ المحتار 1: 358.

([13]) برّاج، أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية: 199.

([14]) المصدر السابق: 200.

([15]) المصدر السابق: 199 ـ 200.

([16]) انظر: ابن قدامة، المغني 7: 193. وانظر أيضاً: جواد العاملي، مفتاح الكرامة 8: 16.

([17]) الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد 2: 288.

([18]) ابن أبي جمهور الأحسائي، الأقطاب الفقهية: 153.

([19]) الفاضل الإصفهاني، كشف اللثام 9: 345.

([20]) الجزائري، التحفة السنية: 360.

([21]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 36.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 26: 66، باب 1 من أبواب موجبات الإرث، ذيل ح5.

([24]) سلاّر، المراسم العلوية: 217، 229.

([25]) هذه الإضافة منّا؛ من أجل مزيد توضيحٍ للعبارة.

([26]) انظر: مفتاح الكرامة 8: 16.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) الشهيد الثاني، الروضة البهية 8: 15، الهامش 1.

([29]) العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 3: 355؛ إرشاد الأذهان 2: 131.

([30]) أبو البركات، الشرح الكبير 4: 466.

([31]) حاشية الدسوقي 4: 466.

([32]) المراسم: 215، 216، 228.

([33]) انظر: برّاج، أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية: 200.

([34]) المصدر السابق: 201.

([35]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 39: 46؛ السبزواري، كفاية الأحكام 2: 801.

([36]) انظر: المباركفوري، تحفة الأحوذي 6: 244؛ الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد 9: 181؛ ابن قدامة، المغني 7: 204؛ الشوكاني، نيل الأوطار 6: 194. أقول: إنّ بين فقهاء السنّة خلافاً في جهةٍ أخرى، وهي حرمان الزوجين من الدية؛ فقد اختار المالكية ذلك [انظر: أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية: 220]؛ فيما ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وجمهرة أهل العلم إلى عدم حرمان أحدٍ من الورثة من الدية، عدا القاتل، ولم يستثنوا كلالة الأمّ، ولا الزوجين، وإنْ ذهبت المالكية إلى حرمان الزوجين فقط من الدية، ووافقوا سائر الفقهاء في عدم حرمان كلالة الأمّ أيضاً [انظر: أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية: 219].

([37]) الطوسي، الخلاف 4: 114 ـ 115، المسألة 127؛ المبسوط 7: 53 ـ 54. وقد أصرّ الشيخ الطوسي هنا على هذا الرأي، مُعلناً تراجعه عمّا كان قد ذكره في كتبٍ أخرى له، كالنهاية والإيجاز، من حرمان كلالة الأمّ [النهاية: 673؛ الإيجاز: 277، مطبوع ضمن كتاب: الرسائل العشر، وهي الرسالة العاشرة فيه]. ويظهر اختيار هذا الرأي من الفاضل [انظر: العلاّمة الحلّي، إرشاد الأذهان 2: 122؛ قواعد الأحكام 3: 346]. وحُكي عن ابن حمزة [الوسيلة: 344]. ونُسب إلى ابن إدريس والمختلف [السرائر 3: 328؛ العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة 8: 57؛ وانظر: الشهيد الأوّل، الدروس 2: 348]. وردّ الطباطبائي هذه النسبة [رياض المسائل 12: 472 ـ 473؛ وانظر: السرائر 3: 336]، وأرجع قولهما إلى أمرٍ آخر [انظر: النراقي، مستند الشيعة 19: 53].

([38]) الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقية: 222 ـ 223.

([39]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام 4: 814 ـ 818؛ العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 3: 343 ـ 354.

([40]) العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية 5: 55 ـ 72. أقول: إنّ هذا مجرّد تعداد، ولا يستلزم الاعتقاد بكونها موانع بحَسَب نظر العلاّمة الحلّي، بل صرَّح في أوّل الكتاب بأنّ الموانع ثلاثة.

([41]) الشهيد الأوّل، الدروس الشرعية 2: 342.

([42]) نظام الدين الساوجي، تكملة الجامع العبّاسي [باللغة الفارسية]: 872 ـ 878.

([43]) انظر: جواهر الكلام 39: 15.

([44]) انظر: الجصّاص، أحكام القرآن 3: 112؛ الحُرّ العاملي، الوسائل 26: 30 ـ 42، باب 7 ـ 14 من أبواب موانع الإرث.

([45]) الدروس الشرعية 2: 347.

([46]) انظر: الوسائل 26: 43 ـ 61، باب 16 ـ 24 من أبواب موانع الإرث.

([47]) الدروس الشرعية 2: 342.

([48]) انظر: مستند الشيعة 19: 162، 164؛ الجزائري، قلائد الدرر: 244؛ الوسائل 26: 11 ـ 29، باب 1 ـ 6 من أبواب موانع الإرث.

([49]) الدروس الشرعية 2: 344.

([50]) المحقّق الحلّي، المختصر النافع: 255.

([51]) وهي: اللعان، والحمل، والغيبة المنقطعة. [انظر: اللمعة الدمشقية: 222 ـ 223].

([52]) وهي: اللعان، والغيبة المنقطعة، والحمل، واستيعاب الدَّيْن للتركة. [انظر: شرائع الإسلام 4: 818؛ قواعد الأحكام 3: 354 ـ 355].

([53]) الدروس الشرعية 2: 348 ـ 349؛ الخميني، تحرير الوسيلة 2: 370.

([54]) تحرير الوسيلة 2: 369.

([55]) الدروس الشرعية 2: 350.

([56]) المصدر السابق: 351.

([57]) انظر: جواهر الكلام 39: 273 ـ 274.

([58]) الدروس الشرعية 2: 351.

([59]) المصدر السابق: 351.

([60]) المصدر السابق: 352.

([61]) المصدر السابق: 352 ـ 353.

([62]) المصدر السابق: 354 ـ 355.

([63]) المصدر السابق: 355.

([64]) المصدر السابق: 355 ـ 358.

([65]) المصدر السابق: 358.

([66]) المصدر السابق: 361.

([67]) المصدر نفسه.

([68]) المصدر السابق: 361 ـ 362.

([69]) المصدر السابق: 362.

([70]) المصدر السابق: 363.

([71]) المصدر السابق: 363 ـ 364.

([72]) المصدر السابق: 364.

([73]) المصدر نفسه.

([74]) تحرير الوسيلة 2: 371.

([75]) المصدر السابق: 371 ـ 373.

([76]) مفتاح الكرامة 8: 16.

([77]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً