تمهيد
تعتبر قضيّة الشخصيّة النبويّة (وشخصيّة الإمام عند الشيعة) من المباحث المهمّة التي انتبه إليها العديد من العلماء المسلمين، فقد تطرَّق غيرُ واحدٍ منهم لهذا البحث، انطلاقاً من تحديد أنواع فعاليّات النبيّ وأنشطته بما يخدم عمليّة فهم خطاباته وكلماته، من خلال فهم مقاصده وشخصيّاته التي يقوم من خلالها بإصدار هذا الكلام أو ذاك.
وليس هدفي هنا دراسة الموضوع على مختلف الصُّعُد، بل أودُّ فقط أن أُضيء على شيءٍ بسيط من تطوّرات هذا الموضوع وزواياه عبر أمثلةٍ، تكشف لنا أنّ الاجتهاد الإسلامي ـ بجناحَيْه الشيعي والسنّي ـ تحدَّث عن تنوُّع الشخصيّة النبويّة والدَّوْر النبويّ، بما ينوِّع فهم مراداته، ويساعد أكثر فأكثر على وَعْي غاياته من كلامه. وقد برز المقاصديّون على هذا الصعيد أكثر من غيرهم تاريخيّاً.
وسأكتفي هنا بالإشارة لبعض العيِّنات القليلة؛ بهدف فتح الأفق أكثر، والتنبُّه لهذا الموضوع بالغ الأهمِّية.
1ـ القَرافي(684هـ) وبدايات الحديث عن الشخصيّة النبويّة أو مقاصد الرسول
الإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس بن الرحمن الصنهاجي المصري المالكي(684هـ)، المعروف بالقَرافي، شخصيّةٌ علميّة بارزة جدّاً، متَّفق على مكانتها المرموقة في تاريخ الفقه الإسلامي.
يمكن تصنيف القرافي على أنّه من المحطّات الأولى التي انتقلت فيها نظريّة المقاصد من الفضاء الشافعي إلى الفضاء المالكي، دون أن نجد حساسيّة من النظريّة في الوَسَط المالكي، بل رأينا أنّ تقبُّلها بدأ يزداد شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى مشيّد الصورة الأكثر اختماراً للنظريّة، وهو الشاطبي المالكي. فهذا الانتقال مهَّد لتداول نظريّة المقاصد عند سائر المذاهب، بمَنْ فيهم الحنابلة. ورغم انتقالها لم يقُمْ القرافي بإعطائها صبغةً مالكيّة خاصّة، عدا ما يمكن الحديث عنه في قضيّة إطلاقه فكرة فتح الذرائع وعدم الوقوف على مقولة سدّ الذرائع. والذرائعيّة فكرةٌ مالكيّة حنبليّة في الغالب، ففتح الذرائع ينسجم كثيراً مع فكرة المقاصد؛ لأنّ المقصد يُراد الوصول إليه، وفتح الذرائع يسهِّل عملية الوصول هذه. وبهذا تتعاون فكرة فتح الذرائع التي أطلقها القرافي مع النظريّة المقاصديّة في تعبيد السبل المفضية لتحقيق المقاصد. ورُبَما لوجود الفكر الذرائعي عند المالكيّة كان استقبالها للمقاصديّة ممكناً جدّاً.
لكنّ القرافي، رغم تلمُّذه على العزّ بن عبد السلام، لم يسلك مسلكه في السعة التي تناول فيها فكرة المقاصد والمصالح، بل وجدناه يركِّز أكثر على استحضار الفكرة في باب القياس، ورأيناه ـ رغم تأثُّره بالعزّ ـ تأثَّر كثيراً بصيغة المقاصد التي قدَّمها الغزالي، حتّى كأنّه بدا مقلِّداً له في كثيرٍ من الأمور.
ترك القرافي سلسلةً من المصنّفات في أصول الفقه، لعلّ من أهمّها: نفائس الأصول في شرح المحصول، وتنقيح الفصول في اختصار المحصول، وشرح تنقيح الفصول، وأنوار البروق في أنواء الفروق المعروف بكتاب الفروق، والعقد المنظوم في الخصوص والعموم. وله كتابٌ يحظى بأهمِّية بالنسبة إلينا، وهو كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفات القاضي والإمام. وهو يفكِّر بذهنيّة التمييز بين أنواع القوانين والتشريعات الصادرة، تلك الفكرة التي ضمَّنها القرافي في كتابه الفروق.
يقرِّر القرافي في الفرق السادس والثلاثين من فروقه ثلاث شخصيّات للنبيّ، هي: المفتي المبلِّغ، وإمام المسلمين، والقاضي الحاكم. ويعتبر أنّ الغالب في شخصيّته هو التبليغ، بينما البقيّة ليست هي الغالبة. ويميِّز بين الشخصيّة التبليغيّة وغيرها بأنّ ناتجها باقٍ إلى يوم القيامة، شاملٌ لكلّ المكلَّفين؛ بعكس الشخصيّتين الباقيتين، فهما خاصّتان، والفقهاء قد يتَّفقون في سلوكٍ أو قولٍ نبويّ أنّه من إحدى هذه القواعد الثلاث حَسْب تسمية القرافي، أي قاعدة التصرُّف بالقضاء، والتصرُّف بالتبليغ، والتصرُّف بالإمامة، وقد يختلفون ويلتبس الأمر. ثمّ يذكر القرافي ـ في ضمن أربع مسائل ـ بعض التصرُّفات النبويّة؛ ليدرجها في واحدةٍ من هذه القواعد، مثل: قيادة الجند وصرف الأموال وقسمة الغنائم وغير ذلك، ويتحدَّث عن وجود خلافٍ بين الفقهاء في أنّ النصّ النبويّ: «مَنْ أحيا أرضاً فهي له» هل هو نصٌّ تبليغي أو هو نصٌّ سلطاني؟ ليختم بعد سلسلة توضيحات بالقول: «وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرّج ما يَرِدُ عليكَ من هذا الباب من تصرُّفاته|، فتأمَّلْ ذلك، فهو من الأصول الشرعيّة»([1]).
لقد فتح القرافي هنا ما يمكننا اعتباره مقاصد الرسول، وهو يعني من هذه الفكرة أنّ النبيّ لا يقول كلَّ شيءٍ بما هو مبلِّغٌ، بل قد يقوله بما هو قاضٍ أو حاكمٌ أو نحو ذلك، ومن ثمّ فللنبيّ من وراء ما يصدر منه مقاصد يلزم على الفقيه معرفتها من وراء التشريع. ورغم أنّ القرافي لم يكن يقصد هنا تطوير نظريّة المقاصد أو طرح هذه الفكرة في سياق الحديث عنها، لكنّ هذه الفكرة التي أصَّلها عادت وظهرت في القرن العشرين مع ابن عاشور في مشروع المقاصد، حيث اعتبرها الأخيرُ جزءاً من نظريّة المقاصد وفهمها واستيعاب الشريعة وفقها، كما سنلمح قريباً.
بهذه الطريقة شكَّل القرافي بذرةً أولى للدمج بين فكرة تنوُّع الشخصيّة النبويّة، أو فقُلْ: شكل من أشكال تاريخيّة السنّة الشريفة، وبين فكرة المقاصد، وقد رأينا أنّ المقاصديّين فيما بعد اشتغلوا على موضوع التاريخيّة من زاويتهم؛ لأنّ تحديد نوعيّة الحكم الصادر من النبيّ يترك تأثيراً على فهم المقصد من وراء هذا الحكم، والعكس صحيحٌ.
2ـ الشخصيّة النبويّة، من ثلاثيّة فهم القرافي إلى اثني عشريّة ابن عاشور
يطرح الشيخ محمد الطاهر بن عاشور(1973م) فكرة تنوُّع الشخصيّة النبويّة، مستشهداً بكلام القرافي الذي ذكرناه آنفاً، لكنّه لا يقف عنده، بل يذهب إلى تنوُّع الدَّوْر النبويّ في ما يصدر من النبيّ إلى اثنتي عشرة شخصيّة، مطوِّراً من فكرة مقاصد الرسول، كما ألمحنا من قبل، وهي:
1ـ التشريع، وهذا هو الغالب. ويبدو أنّ ابن عاشور يقصد منه التبليغ.
2ـ الإفتاء، ويظهر أن ابن عاشور يقصد منه اجتهاد النبيّ، فالنبيّ يجتهد فيفتي على اجتهاده، مطبِّقاً الكبريات على الصغريات.
3ـ القضاء، وسياقه هو حال التقاضي، أو تعبير «قضى» ومشتقّاته.
لكنّ ابن عاشور يعتبر هذه الثلاثة راجعة إلى كلِّية التشريع؛ لأنّ الإفتاء والقضاء تطبيقات لكلِّية التشريع على الموارد، فالنبيّ في الإفتاء يقوم بتطبيق قاعدة كلِّية، فيُفتي في الحالة الجزئيّة، وليس هناك حكمٌ جديد.
وتظهر النتيجة عنده في أنّ خصوصيّة مورد القضاء أو الفتوى لا تكون عامّةً، بل هي بملاحظة الكلِّية الشرعيّة الأصليّة، ومثاله: النهي عن الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فإنّ هذا النهي عند ابن عاشور فتوىً، وليس تشريعاً؛ إذ النبيّ طبَّق القاعدة على الحالة الخارجيّة التي رأى أنّها ممّا يُسرع فيه تحقُّق المسكريّة، ولهذا لو حصل الانتباذ عينه في البلاد الباردة لم يكن معنى للإفتاء بالحرمة، بل الحلِّية هي الأصل؛ لأنّ أصل الحكم ليس حرمة الانتباذ، بل الحكم الأصليّ هو حرمة تناول المسكر.
4ـ الإمارة، وهي القوانين التي يصدرها النبيّ في سياق الإدارة الحكوميّة، مثل: ما يسنّه في الحروب.
5ـ الهَدْي والإرشاد، وهي نصوصٌ نبويّة ليس الهدف منها التشريع الإلزامي، بل هي إرشادٌ لأمرٍ خيرٍ أو لطريقِ خيرٍ. والظاهر أنّ ابن عاشور يريد بعض النصوص التي لا تحمل صفةً قانونيّة بقدر ما تحمل توجيهاً سلوكيّاً لأمرٍ هو من مكارم الأخلاق، فليس له صفةٌ ذاتيّة قائمة به.
6ـ المصالحة بين الناس، وهو يميِّزه صراحةً عن القضاء. وهي نصوصٌ تصدر عن النبيّ بهدف تحقيق الصلح والتوصُّل لصيغةٍ توافقيّة، فليس هو بالذي يريد بيان حكم شرعيّ إلهيّ، بل هو يريد حلّ المشكلة القائمة بطريق المصالحة.
7ـ الإشارة على المستشير، فبعض المواقف والنصوص النبويّة ليست سوى طلب مشورة يوجَّه للنبيّ، فيشير عليهم بحلٍّ أو برجحان فعلٍ.
وكأنّ ابن عاشور يعتبر أنّ هذه ليست مواقف كلِّية؛ لأنّ المشورة والرأي في حالتها يتّخذ في الغالب طابعاً جزئيّاً يتبع ملابسات الموضوع الخاصّ.
8ـ النصيحة، وهي تشبه المشاورة، ويمثِّل لها بفاطمة بنت قيس لمّا جاءت النبيّ، وقالت له بأنّه قد خطبها رجلان: معاوية؛ وأبو جهم، فقال لها بأنّ أبا الجهم لا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوكٌ لا مال له، حيث لا يفهم ابن عاشور هنا توجيهاً شرعيّاً في عدم التزوُّج بمَنْ لا مال له، وإنّما يريد أن ينصحها هي.
9ـ تكميل النفوس، وهو يرى أنّ النبيّ له كثيرٌ من النصوص والمواقف التي تنضوي تحت هذا الباب، فليس الهدف تشريعات، بل حمل مجتمعه على ما هو الأحسن والصورة الأكمل، وإلاّ لو حمل الناس عليها لوقعوا في حَرَجٍ. وكأنّ ابن عاشور يريد أن يميِّز بين شخصيّتين للنبيّ: شخصيّة لجمهور الناس؛ وشخصيّة لوضعٍ خاصّ يُراد منه بناء مجتمعٍ أو فردٍ بمستوىً عالٍ. ومن ثمّ فالخلط بين المقامين يوجب التشوُّش والوقوع في الحَيْرة في فهم النصوص النبويّة.
10ـ تعليم الحقائق العالية، ويبدو لي شبيها جدّاً بما قبله في الروح.
11ـ التأديب، بمعنى أنّ النبيّ يستخدم وسائل تأديبيّة، مثل: التهديد، لا يريد بيانَ حكمٍ شرعيّ منها، بل استخدام أسلوب مؤثِّر دافع لتحقيق التأدُّب خارجاً، ومثاله: التهديد بإحراق بيوت مَنْ لم يحضروا صلاة العشاء، فإنّه لا يريد منه عند ابن عاشور سوى التهويل لدفع الطرف الآخر للحضور، وليس إنشاء تشريعات كلِّية حتّى نفتي مثلاً بحرق بيوت مَنْ لا يشاركون جماعةً في صلاة العشاء.
12ـ حال التجرُّد عن الإرشاد، وهو السلوكيّات الجِبِلِّية التي تصدر من النبيّ والناتجة عن طبعه وشخصيّته، أو يكون حالاً عادياً، كما لو نزل النبيّ في الطريق في مكانٍ فهذا لا يعني أنّ هذا المكان له خصوصيّة، أو أنّه يريد إيصال رسالةٍ دينيّة حتى يجعل هذا المكان محجّةً، أو يُقال باستحباب النزول فيه([2]).
بهذه الأوجه ينوِّع ابن عاشور أشكال تناول الشخصيّة النبويّة، ويضيف إليها أفكاراً علاوةً على ما طرحه القرافي من قَبْلُ.
3ـ تنوُّع أدوار المعصوم بين ابن عاشور والسيّد السيستاني
تحليلات ابن عاشور هنا، خاصّة في الشخصيّة التاسعة والعاشرة، تذكِّرنا ـ وإنْ لم تطابق بالتأكيد ـ بما يطرحه المرجع المعاصر السيّد علي الحسيني السيستاني، ورُبَما متابعاً فيه أستاذه الميرزا مهدي الإصفهاني، من جعل النبيّ والأئمّة يتكلَّمون في مقامين:
مقام الإفتاء، وهو تحديد الحكم الشرعي للمكلَّف بشكلٍ قاطع وناجز، وهو مقامٌ لا يجوز فيه ـ مثلاً ـ استخدام القرائن المنفصلة؛ لأنّ ذلك خلاف وظيفة هذا المقام.
ومقام التعليم، وهو أشبه بالإلقاء على المتخصِّصين بهدف التثقيف وبيان الشريعة لهم بمستوىً أعلى، لهذا يمكن فيه استخدام القرائن المنفصلة، تماماً كما هي حال أستاذٍ يلقي دروساً عديدة، ويقوم ببيان قيوده لاحقاً، فلا يكون كلُّ مجلسٍ تعبيراً ناجزاً عن تمام الحيثيّات والموضوعات المتّصلة بالفكرة التي يتكلَّم عنها.
وقد رتَّب السيستاني على هذه الفكرة نتائج في تحليل أسباب التعارض بين النصوص من جهةٍ، وكيفيّة حلّ هذا التعارض. فمثلاً: لو تعارض نصٌّ تعليميّ مع نصٍّ فتوائيّ عنده قدّم الفتوائيّ، ولو كان ظهور التعليميّ بالعموم وظهور الفتوائي بالإطلاق، وغير ذلك. وتفصيل نظريّة السيستاني يمكن مراجعتها في محلّها([3]).
المهمّ بالنسبة لي أنّ السيد السيستاني التقط بقوّةٍ فكرة تنوُّع الشخصيّة وتغاير المقامات وتعدُّد المقاصد في البيانات، بما يغيِّر من طريقة فهمنا للنصوص، وينوِّع بالتأكيد وَعْيَنا بالجمل والكلمات تَبَعاً لخلق سياقات متعدِّدة حاليّة للمتكلِّم تتضمَّن مقاصد نوعيّة له من كلامه.
4ـ الشهيد الأوّل (786هـ) وظهورٌ مفاجئ لمقولات مقاصديّة وتعليليّة
يبدو لي أنّ الشهيد الأوّل من أبرز الشخصيّات الإماميّة التي تكلَّمت في وقت مبكِّر ـ إماميّاً ـ عن أفكار تتّصل بمقاصد الشريعة وسدّ الذرائع وثنائيّة الوسائل والغايات وغيرها من مقولات التفكير المقاصدي في الاجتهاد الإسلامي. ونصوصُه في هذا المجال عديدةٌ، لا داعي لذكرها هنا، ويمكن مراجعتها في كتبه([4]).
ويبدو لي أيضاً أنّ الشهيد الأوّل تأثَّر ـ في غالب الظنّ ـ بالقرافي والعزّ بن عبد السلام، ولهذا فهو يفاجئنا في أخذه فكرة مقاصد الرسول التي كان طرحها القرافي(684هـ) من قَبْلُ، فيعقد في ذيل القاعدة الثانية والستّين من كتاب القواعد والفوائد بعضَ المسائل والفوائد، وفي آخرها خصَّص فائدةً للحديث عن موضوع مقاصد الرسول، حيث قال: «تصرُّف النبيّ| تارةً بالتبليغ، وهو الفتوى؛ وتارةً بالإمامة، كالجهاد والتصرُّف في بيت المال؛ وتارةً بالقضاء، كفصل الخصومة بين المتداعيين بالبيِّنة أو اليمين أو الإقرار. وكلُّ تصرُّفٍ في العبادة فإنّه من باب التبليغ. وقد يقع التردُّد في بعض الموارد بين القضاء والتبليغ، فمنه قوله×: «مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهي له»… لا رَيْبَ أنّ حمله على الإفتاء أَوْلى؛ لأنّ تصرُّفه× بالتبليغ أغلب، والحمل على الغالب أَوْلى من النادر…»([5]).
هذا النصّ لعلّه أقدم نصٍّ إمامي بهذا الوضوح في مقاصد الرسول وتنوُّع الشخصيّة النبويّة. وقد رأينا بالمقارنة أنّه مأخوذٌ بعينه تقريباً من القرافي، حتّى في الأمثلة التي ذكرها.
بهذا نلاحظ أنّ الشهيد الأوّل نقل للإماميّة، ولأوّل مرّةٍ، مصطلحات وتقسيمات عامّة وخاصّة وُلدَتْ ونَمَتْ وترعرعَتْ في فضاء الاجتهاد العللي والذرائعي والمقاصدي، لكنّ السؤال: هل يمكن أن نلمس انعكاساً لهذا النمط من التفكير في اجتهاد الشهيد الأوّل في كتبه الفقهيّة أو أنّ هذه النصوص جاءت لمجرّد المواكبة والبحث التنظيري العامّ، وأنّ القراءة الكلِّية التي تقدّمها هذه النصوص للشريعة قد استهوَتْ الشهيد الأوّل؟
إنّ المُراجع لأعمال الشهيد الأوّل الفقهيّة لا يجد حضوراً جادّاً لفكرة المقاصد أو التعليل، ولا لفكرة الشخصيّة النبويّة. لكنّ عيِّنات من أعماله اعتبرها الأخباريّون قياساً، ورُبَما يلمس الإنسان نمطاً من التفكير العفويّ في الاجتهاد عنده، لكنْ لا يُحْسَب بأيّ حالٍ من الأحوال مقاصديّاً، بحيث يدخل فكرة المقاصد الشرعيّة أو مقاصد الرسول في استنباط الأحكام الشرعيّة بشكلٍ استثنائي، قياساً بما عليه حال الطائفة الإماميّة.
5ـ الصدر(1980م) ومقاصد الرسول، تحوُّلٌ جدير بالاهتمام
كانت للإمام السيد محمد باقر الصدر مساهمةٌ مهمّة في موضوع الشخصيّة النبويّة ومقاصد الرسول|؛ فقد أكَّد في «اقتصادنا» أنّ النبيّ له شخصيّةٌ تبليغيّة؛ وأخرى ولائيّة حكوميّة، فقال ـ وهو يتحدَّث عن منطقة الفراغ ـ: «إنّ النبيّ الأعظم| قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلَّبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصاديّ، على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلاميّ يعيشها، غير أنّه| حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبيّاً مبلِّغاً للشريعة الإلهيّة، الثابتة في كلّ مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاصّ من سير النبيّ لذلك الفراغ… معبِّراً عن صيغ تشريعيّة ثابتة، وإنما ملأه بوصفه وليَّ الأمر، المكلَّف من قِبَل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظرف… إنّ نوعيّة التشريعات التي ملأ النبيّ| بها منطقة الفراغ من المذهب بوصفه وليّ الأمر ليست أحكاماً دائميّة بطبيعتها؛ لأنّها لم تصدر من النبيّ بوصفه مبلِّغاً للأحكام العامّة الثابتة، بل باعتباره حاكماً ووليّاً للمسلمين. فهي إذن لا تعتبر جزءاً ثابتاً من المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنّها تلقي ضوءاً إلى حدٍّ كبير على عمليّة ملء الفراغ التي يجب أن تمارس في كلّ حينٍ وفقاً للظروف، وتيسِّر فهم الأهداف الأساسيّة التي توخَّاها الفراغ دائماً في ضوء تلك الأهداف»([6]).
هذا التمييز الذي رأيناه سنِّياً مع القرافي في صيغه الأولى، ومتطوِّراً في صيغة عليا مع ابن عاشور، يظهر الآن بوضوح مع السيد الصدر، بل إنّ الصدر يقدِّم لنا لاحقاً عيِّنات وأمثلة لمقاصد الرسول وفقاً لهذا التقسيم الثنائي.
إنّه يعتبر أنّ النبيّ نهى عن منع فضل الماء والكلأ، ويفهمه أنّه صدر منه بوصفه وليّ الأمر؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجةٍ شديدة إلى إنماء الثروة الزراعيّة والحيوانيّة، فألزمَتْ الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين؛ تشجيعاً للثروات الزراعيّة والحيوانية. وكذلك نهي النبيّ عن بيع الثمرة قبل نضجها كان نهياً ولائيّاً؛ لمصالح تقتضيها المرحلة.
ويعتبر أيضاً أنّ توجيهات الإمام عليّ× في عهده للأشتر بتحديد الأسعار كانت حكماً حكوميّاً، وهو استعمالٌ لصلاحيّاته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعيّة التي يتبنّاها الإسلام… إلى غير ذلك من النماذج([7]).
هذا التمييز الذي قدَّمه الصدر في النصف الأوّل من العقد السادس من القرن العشرين تحوَّل لاحقاً([8]) في أدبيّات الفقه السياسيّ الإسلاميّ إلى ما يُشبه الحقيقة القطعيّة، بل ساد في أوساط الفقهاء والباحثين من غير إطار الفكر السياسي الإسلاميّ، مثل: السيّد علي السيستاني وغيره الكثير من العلماء، وهو اليوم أشبه بالحقيقة القطعيّة التي تقبَّلها الفكرُ الإماميّ بشكلٍ حاسم أو شبه حاسم. ونحن نجد أنّ الإمام الخميني في نصوصٍ عديدة له، تعرَّضنا لها في كتابَيْنا: «فقه المصلحة»، و«شمول الشريعة»، يتكلَّم بوضوحٍ عالٍ عن هذه الشخصيّة في النبيّ والأئمّة، بل يعتبر أنّه لولا هذه الشخصيّة لا معنى لجعل الولاية لهم في إدارة الاجتماع السياسيّ.
إنّ الحديث في مقاصد الرسول تابعه العديد من العلماء، مثل: الشيخ المنتظري والشيخ شمس الدين والسيد فضل الله وغيرهم.
أكتفي بهذا القدر من العيِّنات القليلة؛ لتأكيد ضرورة التنظير لوضع معايير في تمييز الشخصيّات والمقاصد النبويّة، حَذَراً من الفوضى، بهدف الذهاب بالاجتهاد نحو مرحلةٍ أكثر أهمِّيةً وعمقاً من المرحلة التي نعيش، إنْ شاء الله تعالى.
الهوامش
([1]) انظر: القرافي، الفروق 1: 346 ـ 350، وانظر أيضاً: المصدر السابق 4: 1180 ـ 1184 (الفرق 224).
([2]) انظر: ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة: 207 ـ 230.
([3]) انظر: علي السيستاني، تعارض الأدلّة واختلاف الحديث: 188 ـ 211، بقلم: هاشم الهاشمي.
([4]) انظر: الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد 1: 33 ـ 35، 36 ـ 40، 60، 61 ـ 63؛ 2: 81 ـ 83.
([5]) المصدر السابق 1: 214 ـ 217.
([6]) الصدر، اقتصادنا: 380 ـ 381.
([7]) المصدر السابق: 690 ـ 692.
([8]) يجب أن أؤكِّد أنّ ثمّة شواهد على مبدأ قبول الفكرة عند الكثير من العلماء، ومنهم: قدماء الإماميّة، لكنّها فكرةٌ مبثوثة في التطبيقات برأيي، وليست موضوعةً على بساط التنظير الكلِّي، خاصّةً منه التنظير الأصولي، فانتبِهْ.