محاولة لإنتاج علم اقتصاد إسلامي
د. الشيخ حسن آقا نظري(*)
المقدمة ـــــــ
لا يمكن التفكيك ـ دون شك ـ بين الفلسفة والعلم؛ فالعلم بلا فلسفة يفقد اتجاهه الاجتماعي وأرضيّته في البحث والدراسة؛ وما لم يكن في طريق العلم هدفٌ ومسار فلن يتسنّى لمصباح العلم معرفة الطريق أو الجهة التي يمكن أن يضيئها. فالفلسفة تحدّد ما ينبغي أو لا ينبغي مما يرتبط بالحياة الاجتماعية، لينطلق العلم في ظلّ ذلك، كما تفقد الفلسفة ميدان انطلاقتها في العلاقات الاجتماعية المختلفة، وذلك نتيجة لما للخاصيتين الضروريتين وهما «بيان العوامل المؤثرة والمتأثرة» والنصائح البنّاءة من دور مهم في التمهيد لحضور الفلسفة في إطار المجتمع([1]).
يهدف هذا البحث أساساً إلى جعل التعاليم الإسلامية بديلاً عن الفلسفة في مجال القضايا الاقتصادية، ويستقي الاتجاه والمسير والهدف وما ينبغي أو ما لا ينبغي من هذه التعاليم؛ بحيث تقوم النظريات العلمية الاقتصادية على أساس هذه التعاليم الإسلامية؛ لأنّ نظريات علم الاقتصاد كانت قرينة فلسفة معيّنة وتحققت وفقاً لرؤية خاصة حول الإنسان والعالم وما ينبغي أو لا ينبغي مما ينسجم مع هذه الرؤية الخاصة.
وبديهي أن اتجاه جعل التعاليم الإسلامية في مجال العلاقات الاجتماعية الاقتصادية بديلاً عن الفلسفة لا يمكن أن يتحقّق دون منهج مناسب، وبعبارة أخرى: إنّ تبلور النظريات العلمية الاقتصادية وفقاً للتعاليم الإسلامية لا يختلف عن تبلورها على أساس فلسفة خاصة من حيث الحاجة إلى تعريف المنهج، فكما أن التنظير على أساس التعاليم الإسلامية، وفوق ذلك فإن منشأ اختلاف الرؤى في العقود الأخيرة حول الاقتصاد الإسلامي كان ينبع من عدم وجود منهج للتنظير العلمي للاقتصاد الإسلامي. من هنا فما لم يتم تقديم منهج للتنظير العلمي القائم على التعاليم الإسلامية فلن يتوفر مناخ الاعتقاد ببلورة الاقتصاد الإسلامي أو التنظير العلمي له.
يدرس هذا المقال الموضوع المذكور، في إطار عناوين من نوع بيان مفاهيم العلم، النظرية، الاقتصاد الإسلامي، مراحل تكوين النظرية العلمية للاقتصاد، نسبة النظرية إلى الإسلام وتأييدها، وعرض نماذج للنظرية العلمية للاقتصاد الإسلامي فيما يرتبط بسعر ربح رأس المال.
1- بيان المفاهيم ـــــــ
لابد من بيان المفاهيم الأساسية الواردة في عنوان المقال لرسم صورة واضحة لا غبار عليها عنها، وهذه المفاهيم هي: العلم، النظرية (الفرضية والنظرية)، الاقتصاد الإسلامي.
أ ـ مفهوم العلم ـــــــ
هناك عدة معان لمصطلح العلم نشير إلى أهمها باختصار:
1- مجموعة من القضايا المنظّمة حول محور ما (كلية كانت أم جزئية) ـــــــ
لاشك أنّ القضايا المتناثرة لا يمكنها أن تمتلك صورة واحدة ومتكاملة عن عالم الحقيقة وحسب، بل يتبعها اضطراب في معرفة العالم الخارجي، من هنا فتنظيم القضايا على أساس محور واحد ضرورة لا تنكر سواء كان مدلولها كلياً أم جزئياً كالجغرافيا والتاريخ، فالعلم ـ في الحقيقة، وفقاً لهذا المصطلح ـ عبارة عن مجموعة من القضايا الجزئية أو الكلية التي تتبلور حول محور واحد. وهذا الرأي يؤكد على وحدة الموضوع أولاً ويعني بالعلم المعلوم ثانياً.
2- القضايا الكلية التـي تنصبّ على موضوع واحد ـــــــ
من البديهي أن لا تكون القضايا الخاصة مؤدّية إلى المعرفة العامة بالنسبة إلى الموضوعات المقصودة، كما لا يمكن الاستفادة منها في إطار أوسع من الإطار الشخصي؛ وذلك من حيث التطبيق. إنّ ما يهم المفكّرين هو كلية وشمولية القضايا العلمية سواء كان النتاج اعتبارياً أم حقيقياً؛ ولذلك فالعلم عبارة عن مجموعة من القضايا الكلية المنتظمة حول محور واحد. وهو ـ في هذا الاصطلاح ـ يعني المعلوم. فيما يمتاز هذا المعلوم بكونه كلياً، أما ماهية هذا المعلوم الكلّي فلا يهم كونها اعتبارية أم حقيقية.
3- مجموعة القضايا الحقيقية المنتظمة حول موضوع واحد ـــــــ
تنبثق العلوم الاعتبارية من الحاجات الاجتماعية وتختلف نتيجة اختلافها في المجتمعات المختلفة، كما تختلف عن العلوم الحقيقيّة التي تمتلك قوانين ثابتة لا تتغيرّ حول العالم، وقد أدّت رغبة المفكّرين في الوصول إلى قوانين تمتاز بالثبات وكذلك سعي الإنسان لمعرفة الوجود ومبدئه أو التصرّف في الأشكال المختلفة للطبيعة في مجال إشباع الحاجات المختلفة .. إلى انفكاك العلوم الاعتبارية عن العلوم الحقيقية؛ فالعلم عبارة عن مجموعة من القضايا الكلية الحقيقية التي نظّمت من خلال محور واحد، وفي هذا الاصطلاح يعتبر العلم بمعنى «المعلوم» ويعتبر العنصر الأساس لهذا المعلوم كونه حقيقة، وذلك أعم من المسائل الطبيعية وما وراء الطبيعية.
4- مجموعة قضايا كلية ناتجة عن المناهج التجريبية ـــــــ
حصر بعضهم العلوم الحقيقية بالعلوم التجريبية؛ وذلك لعدم وجود منهجية معرفية فاعلة وقويّة في حلّ مشاكل المعرفة غير التجربية، وكذلك النجاحات الباهرة التي أحدثتها العلوم التجريبية في تفسير الظواهر الطبيعية وكونها عملية فيما يحتاج إليه المجتمع؛ وعليه فالعلم عبارة عن مجموعة القضايا الكلية الناتجة عن المنهجية التجريبية. والاختلاف الرئيس لهذا الاصطلاح مع بقية الاصطلاحات الأخرى هو أنّ العلم إنما هو المعلوم الذي تمّ الحصول عليه من خلال المنهج التجريبي. ومن الطبيعي أن يكون هذا المعلوم محدوداً بما يقبل التجربة([2]).
5- مجموعة القضايا الكلية الناتجة عن منهجي: التجربة والقياس ـــــــ
ترى هذه النظرية أن العلم هو القضايا الكلية التي يمكن أن تخضع للتجربة كما يمكن تأييدها من خلال البحوث العقلية والمناهج المنطقية. وفي الحقيقة إن المنحى السائد والمسيطر والمجدي في العلوم الطبيعية هو أن يتم تأييدها وفقاً للمنهجية التجريبية، أما العلوم الإنسانية فلا تنحصر بالتجربة بل يمكن أن نستخدم القياس للوصول إلى نفس الدرجة من التأييد الذي يمكن الحصول عليه من خلال المنهج التجريبي.
وتختلف القضايا في العلوم الإنسانية فيما تهدف إليه؛ فبعضها يؤكد على النتيجة الكمية والمقدارية فيما يهتم بعضها الآخر بالنتيجة الكيفية، رغم أنّ مدلولها كميّ. فمثلاً تعد قضية (الإدمان على المخدرات عامل مؤثر في مشاكل الطلاق) مسألة كيفية؛ لأنها تهدف إلى إثبات علاقة بين أصل الإدمان ومشكلة الطلاق. فهذه القضية يمكن اختبارها بالتجربة وكذلك بالطريقة المنطقية [الاستدلالية]. لكن قضية (الإدمان العامل المؤثر في حدوث 60 % من الطلاق في المجتمع) تلحظ الجانب الكمّي؛ لأنها تهدف إلى إثبات العلاقة بين الإدمان وحدوث 60 % من حوادث الطلاق في المجتمع. وكذلك قضية «كلما انخفض حجم ضرائب تصدير البضائع غير النفطية سينتج عن ذلك زيادة تصدير هذه البضائع» فهي تأخذ طابعاً كيفياً، أي أنها تعمد إلى إثبات علاقة تأثير انخفاض الضرائب على ارتفاع تصدير البضائع غير النفطية. لكن قضية (تأثير انخفاض 2% من الضرائب على صادرات المنتجات غير النفطية يؤدي إلى ارتفاع تصدير هذه البضائع إلى مستوى 4%) تلحظ الجانب الكمّي، ولا يمكن أن نقطع بها إلا عن طريق التجربة.
أمّا القضايا العلمية التي يكون مفادها كيفياً وتقتصر على بيان العلاقة والترابط بين المتغيرّين الكميين فقط، فيمكن تأييدها بالمنهجين: التجريبي والقياسي، وليس تأييدها في بعض الأحيان بالمنهج القياسي أضعف من التأييد الناتج من خلال التجربة؛ لذلك يمكن القول بأنّ لدينا في الكثير من فروع العلوم الإنسانية بشكل عام وفرع علم الاقتصاد بشكل خاص نوعين من القضايا: القضية التي تبيّن العلاقة بين مقدار متغيرين، والقضية التي توضح أصل العلاقة بين متغير واحد أو متغيّرات متعدّدة مستقلة أو تابعة. (رغم أنّ مفاد هذين المتغيرين يمكن أن يكون كميّاً)، لكن القضية ناظرة إلى أصل العلاقة بين المتغيرات وليس العلاقة بين مقدارين معينين من النسبة المئوية المحددة لهذه العوامل المؤثرة والمتأثرة.
وعلى هذا، فإن مصطلح العلم يعني القضايا الكلّية التي تقبل التجربة، رغم أنّ بعضها يمكن إثباته عن طريق القياس أيضاً. فالقضايا التي تنظر إلى المقادير والكمّيات المحددة لا يمكن أن تدعم إلاّ من خلال التجربة، لكنّ القضايا التي تلحظ الكيفية يمكن أن تدعم من خلال المنهج التجريبي وكذلك من خلال منهج القياس([3]).
ب- مفهوم النظرية ـــــــ
يعتبر مفهوم النظرية من المفاهيم غير المحسوسة من حيث التصوّر، فبعض المفاهيم من قبيل الماء والتراب والسماء والأرض الموجودة في الخارج تعدّ من المفاهيم المحسوسة؛ لإمكان إدراكها بإحدى الحواس، وفي المقابل ثمّة مفاهيم رغم كونها حقائق عينية في علاقتها بالعالم، لكنها غير محسوسة، ومثالها مفهوم الطاقة، الذكاء، العقل، الحافظة، والضمير اللامحسوس [اللاشعوري]، والمتغيرّ المستقل والمتغيرّ التابع و… فمفهوم النظرية من المفاهيم التي ترتبط بالحقائق الخارجية إلا أنها لا يمكن أن تدرك بالحسّ؛ لأنّ النظرية في حقيقة الأمر نوعٌ من أنواع النشاط الذهني الذي يبيّن ما يقع في الخارج.
إن جميع النشاطات الإنسانية التي في العالم الخارجي سواء الاكتسابية أم غير الاكتسابية (طبيعية) يحتاج الذهن إلى بيان علتها وكيفيتها. فالنظرية في الواقع نوع جهد وسعي ذهني لتفسير وتحليل علّة الحوادث والوقائع وكيفيتها، من هنا يمكن القول بأنّ النظرية عبارة عن تبيين العلاقة أو الانفكاك بين متغيرين أو أكثر، مستقلّين أو تابعين، في الميادين المختلفة من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ففي العلاقات الاقتصادية يمتاز السلوك الاقتصادي في جانبه الجزئي وكذلك الظواهر الاقتصادية على مستوى الاقتصاد التجميعي بوجود عوامل مؤثرة ومتأثرة؛ فالنظرية تبيّن بشكل دائم عوامل التأثر والتأثير، فمثلاً توضح النظرية العوامل المؤثرة على كساد السوق والتضخّم وارتفاع مستوى الإنتاج الوطني أو انخفاضه، وكيفية تكوّن ظاهرة الطلب الشخصي أو المؤسّسات الاقتصادية وارتفاع أو انخفاض مستوى إنتاجها، وكذلك تقوم بدراسة مسائل أخرى وحوادث اقتصادية في المجال الجزئي والتجميعي.
فالنظرية بهذا المعنى مرادفة ـ في الحقيقة ـ لمفهوم النظرية الفرضية؛ لأنّ هذين المفهومين يعنيان القضايا المشتملة على العنصرين المتغيرين والمستقل والتابع، وعلى هذا الأساس يرى «فريتز مكلاب» من جانب أن الفرضية هي «القضية التي يمكن تجربتها وذلك فيما يخصّ العلاقات بين متغيرين اثنين أو أكثر»([4]) لكنه من جانب آخر لم يضع فرقاً أساسياً بين المفاهيم الثلاثة: الفرضية والنظرية والحدس الذكي([5]).
جـ – مفهوم الاقتصاد الإسلامي ـــــــ
هذا المصطلح يضاف إلى القانون والمذهب والعلم، وفي النتيجة هناك ثلاثة مصطلحات متمايزة فيما بينها على الأقل:
أ- قانون الاقتصاد الإسلامي ـــــــ
ويعني الاقتصاد الإسلامي الأحكام والقوانين المستنبطة من المصادر الإسلامية الأصيلة أو التي يمكن استنباطها واستخراجها، وذلك كالملكية الفردية وعناصر ظهورها، والأسباب الاضطرارية والاختيارية لانتقال الملكية، والملكية العامة، وملكية الدولة الإسلامية، ومنع الربا، وجواز المشاركة و..
ب ـ مذهب الاقتصاد الإسلامي ـــــــ
ويعني مجموعة الأوامر والنواهي الكلية التي ترتبط ببعضها وتستنتج من القوانين والأحكام والمفاهيم والتعاليم الاقتصادية الإسلامية، وتسمّى في إطار تحقّق العدالة الاقتصادية في المجتمع بالمذهب الاقتصادي الإسلامي([6]).
ج- علم الاقتصاد الإسلامي ـــــــ
إن مجموعة القضايا الخبرية التي يمكن تجربتها أولاً، وتبلورت بصورة منظمة حول موضوع محدد ومعرّف ثانياً، وتستند منطقيّاً إلى التعاليم الإسلامية ثالثاً، تسمّى علم الاقتصاد الإسلامي. وبتعبير آخر إن القضايا التي يمكن تجربتها ويرتبط بعضها ببعض ارتباطاً منطقيّاً والتي تكوّن منظومة معرفية من جانب وتعتمد التعاليم الإسلامية من جانب آخر بحيث يمكن إسنادها منطقيّاً إلى هذه التعاليم ـ والتي تعتبر في الواقع نظريات وفرضيات علمية ـ تسمّى علم الاقتصاد الإسلامي.
فعنوان الاقتصاد الإسلامي يمكن أن يضاف إلى القانون والمذهب والعلم. كما أنّ لكل واحد من هذه المفاهيم الثلاثة نسبة مشتركة، وهي الارتباط والاستناد إلى التعاليم الإسلامية([7])، وهي تتمايز بشكل جوهري وأساس، كما ألمحنا إليه باختصار.
2- مراحل تكوين النظرية العلمية الاقتصادية ـــــــ
تنبثق الفرضية (النظرية) من مسألة؛ فما لم تطرح مسألة ومشكلة فلن تتكوّن الفرضية. وتدوين الفرضية وظهورها يستندان إلى المسألة المطلوبة؛ من هنا تبحث المسألة بوصفها نقطة انطلاق لتكوين الفرضية، ثم تبحث عملية تدوين الفرضية وخصائصها عقب ذلك.
أ- خصائص المسألة ـــــــ
1 ـ الاطلاع على المسألة المطلوبة: لا يمتلك أيّ إنسان القدرة على طرح أسئلة علمية إذ ليس لكل شخص مشكلة علمية. وفي الحقيقة إن هذا النوع من المشاكل لا يتبلور في مجال اللاوعي الفني، بل توفّر مجموعة من أنواع الوعي المستهدفة لموضوع ما أرضيةَ الإبهام والسؤال بالنسبة لبعد من أبعاد ظاهرة، وبتعبير آخر: حينما نطرح سؤالاً علمياً عن خصائص ظاهرة ما أو ارتباطها بالظاهرة الأخرى، فلابد بشكل طبيعي أن تكون لدينا معرفة ولو إجمالية بتلك الظاهرة وارتباطها المحتمل بالظواهر المحيطة بها؛ ولذلك ليس بإمكان كلّ شخص أن يطرح مسألة فيما يخصّ الظواهر الاقتصادية.
إنّ توفر العلم حول العلاقات والحوادث الاقتصادية وتأثيرها المتبادل يؤدي إلى تهيئة الظروف لتكوين السؤال، حالها حال ضرورة التعرف على تعاليم الإسلام بالنسبة إلى موضوعات الاقتصاد الإسلامي، فمن دون هذا التعرف لا يمكن أن نقيم ارتباطاً منطقياً بين السؤال والتعاليم الإسلامية.
2 ـ تحديد مكانة السؤال: ينشأ كل سؤال من التنقيب العلمي، ويؤدي إلى أن يختار الباحث في مسيرته العلمية اختياراً منطقياً. إن معرفة المتغيرين المؤثر والمتأثر لها أهمية ملحوظة، تؤدي إلى أن يوفر تراكم المتغيرات والعوامل المؤثرة أرضية الحيرة وفي النتيجة لا يوفق المسار العلمي؛ لذلك ينبغي ملاحظة طابع خاص في السؤال الأساس حول ظاهرة اقتصادية واجتماعية، فتعيين الطابع الخاص يمثل مركز ثقل السؤال. وفي الحقيقة، أي ظاهرة وحدث اقتصادي في صميم واقع المجتمع لا يقول لكم في أيّ نظرية يقع، فتعيين هذا الطابع سؤال أساس يحدّد وقوع الظاهرة أو الحدث الاجتماعي أو الاقتصادي تحت أي فرضية أو نظرية.
ب ـ تدوين الفرضية ـــــــ
للفرضية ارتباط منطقي بالمسألة المبحوث عنها؛ لأنّ الإجابة عن السؤال المطروح يبلور هيكلية الفرضية (النظرية) في إطار جملة خبرية تجربية، ومن البديهي أن السؤال الرئيس كما يتطلّب التعرف الواسع على الآليات العلمية للاقتصاد والقدرة على تحليل الظواهر الاقتصادية؛ فإنّ تدوين الفرضية شبيه بطرح السؤال لا يتسنّى من دون الإحاطة العلمية بالظواهر الاقتصادية، وعلى فرض الارتباط المنطقي للفرضية بالتعاليم الإسلامية فإنّ الإحاطة الكافية بها أمر ضروري في مجال الاقتصاد، وعلى هذا الأساس فإنّ الفرضية العلمية إنما تتم في منهج التنظير الاقتصادي في ظلّ الاطلاع على أساسها ومهدها العلمي، فعلى سبيل المثال فرضية «تأثير استهلاك الأسر المدنية في إيران من الدخل المتاح» تقوم على أساس علمي، وهو عبارة عن نظرية الاستهلاك بالقياس إلى الدخل المتاح، والذي تمّ تبيينه في علم الاقتصاد، إلا أنّ تدوين هذه الفرضية في الاقتصاد الإسلامي يتطلّب ـ بالإضافة إلى تحديد الأساس والإطار العلمي للفرضية ـ تحديد مبدأ ارتباطها بالتعاليم الثابتة والمتغيرة للاقتصاد الإسلامي.
وعليه، فأسس النظرية إذا لم يمكن قبولها من حيث التعاليم الإسلامية فلا يمكن نسبة الفرضية إلى الإسلام، مثلاً فرضية «زيادة سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الإيداع المصرفي» لا يمكن أن تكون لها علاقة بالتعاليم الإسلامية؛ لأنّ الأساس العلمي لهذه الفرضية ـ وهو زيادة سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الإيداع في المجتمع، وبالنتيجة زيادة الإيداع المصرفي ـ لا علاقة له بالتعاليم الإسلامية. فالتنظير في علم الاقتصاد التقليدي يدرس المتغيّر المستقل والتابع دون نسبة حقيقية إلى التعاليم الإسلامية، كما أنّ المقنّن الاقتصادي التقليدي يأخذ نموّ الإنتاج الداخلي بنظر الاعتبار دون الالتفات إلى أنّ هذه الوسيلة والآلية التي تنتهي إلى هذا الهدف تنسجم مع التعاليم الإسلامية أو لا. فهو يحفز على الاستثمار تحقيقاً لهذا الهدف وليس المهم لديه أن يتم الاستثمار من خلال المشاركة أو القروض ذات الفائدة، أما في التنظير العلمي للاقتصاد الإسلامي فلابد أن يكون المتغير المستقل أو التابع متصلاً بالتعاليم الإسلامية الثابتة أو المتغيرة، فانخفاض التضخّم في ظلّ خفض عجز الميزانية إنما يتم بحثه في إطار نظرية ناظرة إلى تغيير التضخم الموجود في المجتمع باعتبار أن انخفاض التضخّم أحد أهداف السلطة الإسلامية، وبما أنّ الإسلام لا يرتضي الضرر العام فلا يريد مصاديقه أيضاً، والسلطة الإسلامية مسؤولة ـ بما تسمح لها الإمكانات الموجودة ـ عن إيقاف مصاديق الضرر العام بصورة نسبية أو خفضها.
ويمكن الاستنتاج من هذا كلّه أنّ الفرق الرئيس بين المنظّر وفقاً لتعاليم الإسلام والمنظّر التقليدي يكمن في مسألتين أساسيتين هما:
1 ـ إنّ المنظر التقليدي لا يهتم بارتباط أحد المتغيرين المستقل والتابع أو كليهما بالتعاليم الإسلامية الثابتة والمتغيرة، أما المنظر الإسلامي فيهتم بذلك.
2 ـ إنّ المتغير المستقل والتابع يعتبر فرضية أو نظرية علمية إسلامية حينما يكون مسموحاً به وفقاً للتعاليم الإسلامية، فقضية: «زيادة سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الإيداع العام» قضية علمية تقبل التجربة، لكنها ليست إسلامية ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام. وبصورة عامة فالنظرية العلمية المشتملة على عنصري: المتغير المستقل والتابع لابد أن يعتمد أحد عنصريها على الأقل على التعاليم الإسلامية، وسيتم دراسة كيفية ذلك في البحث اللاحق.
3- اعتماد الفرضية على الإسلام ـــــــ
لابدّ من تفكيك مرحلة الحكم على الفرضيات العلمية عن مرحلة تدوينها. وما يقتضيه المنهج العلمي (التجريبي) هو أن تكون القضية قابلة للتجربة بحيث يمكن الحكم عليها على أساس التجربة، وليس المهم تدوين القضية (الفرضية) على أساس هذا المنهج أيضاً أو لا. وبعبارة أخرى: إنّ المنهج العلمي يؤكّد على كيفية إثبات تأييد مفاد القضية أو عدمه ولا علاقة له بمرحلة التدوين. من هنا يمكن الاستفادة من التعاليم الإسلامية الثابتة والمتغيرة في مجال الاقتصاد واستنتاج المتغير المستقل والتابع في إطار هذه التعاليم، فعلى سبيل المثال يمكن تقديم فرضية منع الربا وجعل معدل ربح رأس المال مكان ذلك، والذي يعدّ من الأحكام الإسلامية الثابتة مفادها «أن معدل ربح رأس المال بالمقايسة إلى سعر الفائدة يؤدي إلى انخفاض نفقة إنتاج السلع والخدمات»، كما يمكن استخراج فرضية من الأحكام الحكومية أو الأهداف الاقتصادية التي تؤكّدها السلطة، فالمفروض ـ مثلاً ـ أنّ السلطة توصي بخفض التضخم، وعلى أساس أن انخفاض التضخم في ظلّ الحكم الحكومي ينسب إلى التعاليم الإسلامية يمكن اعتبار انخفاضه مما يؤدي إلى خفض التضخم، ونسبة تلك القضية إلى التعاليم الإسلامية، وذلك بعد معرفة السبب أو الأسباب المؤثرة في التضخم، وفي الحقيقة بما أن حكم السلطة هو خفض التضخم فإنّ إزالة السبب الأساس لذلك من اهتمامات السلطة نفسها، فإذا كان العجز الحقيقي للميزانية ـ مثلاً ـ سبباً رئيساً للتضخم، يمكن استنتاج هذه القضية وهي «أن خفض عجز الميزانية يؤدي إلى انخفاض التضخم» وهذه القضية تعتمد التعاليم الإسلامية المتغيرة والأحكام الحكومية؛ وعليه فالقضيتان المذكورتان التي تعدّ إحداهما من التعاليم الإسلامية الثابتة والثانية من التعاليم والأحكام المتغيرة «الأحكام الحكومية» لا فرق بينهما من حيث الاستناد إلى الإسلام؛ لأنّ الأحكام الحكومية تعتمد بصورة منطقية على التعاليم الإسلامية.
4- تأييد النظرية العلمية ـــــــ
لقد كان المؤمل في إحدى مراحل تاريخ فلسفة العلم بلوغ الوضعية التامة (strong Positivsm) لكنهم عدلوا عن ذلك إلى وضعية ناقصة (Weak Positivism) ولما لم يتحقق هذا النوع من الوضعية حلّ التأييد محلها ولكن التأييد ذو مراتب مختلفة، فهناك نظرية تحظى بتأييد أكبر وأخرى أقلّ، من هنا اختلف التأييد تماماً عن الصدق والكذب (أو القبول والرد) في المنطق القديم أو الصدق والكذب في المنطق التجريبي. ومن الواضح أن نقطة انطلاق التأييد إنما هي مشاهدة عينات موافقة للنظرية، لكن لابد من الالتفات إلى أن العينات الخارجية الموافقة للنظرية إنما تتحول إلى قضية، وعندها يتم البحث المنطقي بين النظرية التي تعدّ قضية من القضايا، والقضية النابعة من مشاهدة العينات الموافقة في عالم الخارج والتي تبلورت في الذهن؛ وعليه فليس المقصود من نسبة التأييد بين النظرية العلمية ومشاهدة العينات الموافقة تصوّر حدوث ارتباط منطقي بين النظرية العلمية والحقيقة الخارجية؛ لأنّ البحث المنطقي إنما يتحقق دائماً في القضايا وليس هناك ارتباط منطقي بين الموجودات الخارجية أو الموجود الخارجي والقضية، وبعبارة أخرى إنّ الرابطة المنطقية رابطة في عالم الفكر وحيث يتجلّى الفكر تتبلور القضية.
فالمراد من تأييد النظرية وفقاً لمشاهدة العينات الموافقة أنّ ما توفر بالمشاهدة يمكن بيانه بصورة قضية، ثم يعمل على تقديم هذه القضية بوصفها شاهداً على النظرية. ليكون مؤيّداً لها أو عليها، ومن الواضح أنّ التأييد مهما كان قويّاً ليس بمقدوره الوقوف أمام الحكم بالبطلان، فآلاف العينات الموافقة والقرائن المؤيدة لا يمكن أن توصل عينة مخالفة إلى مستوى الصفر وربما كانت مشاهدة عينات عديدة موافقة للنظرية أدّت إلى مضاعفة احتمال القبول وتضاؤل احتمال البطلان إلا أنّ احتمال البطلان بالقوة لا يمكن أن يزول بأيّ شكل من الأشكال كما أنّ عينة مخالفة تؤثر بصورة أكبر مما عليه العينة الموافقة في تضاؤل تأييد التأثير.
فالعينات الموافقة ـ عموماً ـ إنما يمكن أن تدعم النظرية حينما يحتمل وقوع العينات المخالفة أيضاً، فالنظرية العلمية تستفيد من مشاهدة النماذج الموافقة حينما يكون بإمكانها تحمّل البطلان بالقوة. والبطلان بالقوة يعني بالدقة أنّ طريق البطلان لا يغلق بواسطة العينة المخالفة الخارجية، وإن لم يوجد مثل تلك العينة المخالفة في الخارج.
5- نماذج تبويب النظرية العلمية للاقتصاد الإسلامي ـــــــ
اتضح ممّا أسلفناه أنّ بالإمكان استنتاج القضية العلمية للنظرية وفقاً للتعاليم الإسلامية الثابتة والمتغيرة للقضية العلمية باعتبارها أساساً للفرضية؛ وعليه ومن خلال التأكيد على التعاليم الإسلامية في منع الفائدة وجواز الربح في رأس المال يمكن تقديم نماذج من هذه القضايا حول الاستثمار للسير قدماً نحو تدوين نظرية علمية على أساس هذه التعاليم. نأمل أن تكون هذه الخطى الحقيقية بداية لتحليل القضايا الاقتصادية المختلفة وفقاً لتعاليم الإسلام.
قضايا حول الاستثمار ـــــــ
1 ـ إن معدّل ربح الثروة في الدول الإسلامية له تأثير أكبر في مقارنة سعر الفائدة في الإيداع وزيادة مجال الاستثمار.
2 ـ إنّ معدّل ربح رأس المال يؤدي إلى انخفاض نفقة الإنتاج بالمقارنة مع سعر الفائدة.
3 ـ إن معدّل ربح رأس المال أكثر تأثيراً في استقرار قيمة البضائع والخدمات من سعر الفائدة.
4 ـ إن معدّل ربح رأس المال ذو تأثير أكبر من سعر الفائدة في التوزيع العادل للدخل (انخفاض الفقر).
5 ـ إن معدّل ربح الثروة له تأثير أكبر من سعر الفائدة في تضاعف مستوى المصروفات الكلية.
النتيجة ـــــــ
إن النظرية العلمية لها هيكليتها المحددة من حيث اللفظ والمدلول. ومن الممكن تدوين قضايا منظّمة وتجريبية تعتمد على التعاليم الإسلامية الثابتة والمتغيرة في حقل الاقتصاد، ولا يمكن التعويل على نتائج أكبر في المنهج التجريبي قبل التأييد، ومن الممكن أن تعتمد هذه الدرجة من التأييد على أساس المنهج القياسي أيضاً، وعلى كل حال فتدوين ما ذكر يمثل أرضية لتكوين علم الاقتصاد الإسلامي. ويمكن للعلماء والخبراء في حقلي: علم الاقتصاد والتعاليم الإسلامية، قطع أشواط مهمة في مجال العلاقات الاقتصادية.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد، وعضو الهيئة العلمية لمركز أبحاث الحوزة والجامعة، متخصّص في الاقتصاد الإسلامي.
([1]) همايون كاتوزيان، ايدئولوزي وروش در اقتصاد (الأيديولوجية والمنهج في الاقتصاد): 5.
([2]) يراجع كتاب علم وجامعة شناسى معرفت لمايكل موبكي، ترجمه إلى الفارسية حسن كجوئيان (طهران، نشر، 1376 هـ ش، الطبعة الأولى): 45 ـ 11، در آمدى تاريخى به فلسفه علم، لجان لازي، ترجمه إلى الفارسية علي بابا (طهران، نشر دانشكاهى 1362هـ. ش، الطبعة الأولى): 4 ـ 1؛ عقل سليم علم جيكوب برونوسكى ترجمه إلى الفارسية كاميز عزيزى، (طهران نشر ني، 1376هـ.ش، ط 1): 21 ـ 9؛ كارل هامبر، فلسفه علوم طبيعي: 3 ـ 11، ترجمه إلى الفارسية حسن معصومي، طهران، نشر دانشكاهى، 1369هـ. ش، ط1؛ عبد الكريم سروش، علم چيست فلسفة چيست: 11 ـ 16، طهران، انتشارات صراط 1375هـ.ش، ط 12؛ رضا داوري، درباره علم: 1 ـ 16، طهران انتشارات هرمس، 1379هـ. ش، ط1؛ منوجهر محسني، مبادئ علم الاجتماع: 36 ـ 39، طهران انتشارات طهورى، 1372هـ. ش، ط1؛ محمد توكل، علم اجتماع العلم: 11 ـ 19، طهران 1370، ط1؛ حيدر علي هيومن، شناخت روش علمى: 1 ـ 5، طهران، نشر بارسا، 1374هـ ش، ط 2؛ نيكولاس كابالدي، فلسفة العلم: 17 ـ 23، ترجمه إلى الفارسية علي حقي، طهران نشر سروش، 1377هـ ش، ط 1.
([3]) يؤمن همبل بهذه النظرية، ويرى أن الفرضية لا يشترط فيها أن تكون مؤيّدة من خلال الشواهد التجريبية؛ فقد تدعم الفرضية من الأعلى، أي أن تكون هناك فرضية أو نظرية شاملة تثبت هذه الفرضية الخاصة، فلا يمكننا مثلاً اختبار قانون (s /817t2) على سطح القمر، لكن بالإمكان دعمه من خلال منهجية القياس التي أطلقها نيوتن في نظريته المسماة بـ (الطاقة والحركة)؛ فانظر: فلسفه علوم طبيعي: 48 ـ 49، ترجمة حسين معصومي.
(4) lauren H.meyer، macroeconomics، Amodel Building Approach.
(5) Fritz Mchlup، Methodlogy of conemics and Social Scienes.
([6]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا 2: 9 ـ 377.
([7]) ينبغي طبعاً أن نلحظ أن التعاليم الإسلامية لها أبعاد متعددة، فهي تختلف من حيث البعد القانوني وإيجاد الأرضية لتدوين القضايا التي يمكن تجربتها (الفرضية والنظرية العلمية). فهذه التعاليم تشمل «الشريعة» توجِدُ أرضية لاستنباط القانون الاقتصادي واكتشاف المذهب الاقتصادي، ومن جانب آخر فهي تتمكن من إخضاع جميع وقائع الحياة الاقتصادية في المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي تكوّن الأرضية المناسبة لتدوين القضايا العلمية والتجريبية.