وخلفيات القطيعة بين الحوزة والجامعة
حوار مع د. محمّد حسين البناهي(*)
ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي
بين الأصالة والأسلمة ـــــــ
نشكركم على الفرصة التي أتحتموها لنا للحوار معكم. تعلمون أنّ من المسائل المهمّة التي تمّ تداولها في بلادنا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة مسألة أسلمة العلوم. وبطبيعة الحال لم تكن هذه المسألة من الأمور المستحدثة فيما يتعلق بغير إيران، حيث برز في سائر البلدان الإسلاميّة من المفكرين الذين صدعوا بآرائهم حول العلوم الإسلاميّة. فكيف ترون واقع هذه المسألة في إيران؟ وهل هي مستحدثة، بمعنى أنها ظهرت بعد انتصار الثورة، أو أنها قديمة؟
* في حدود معرفتي لم يكن بحث أسلمة العلوم بمعناه الجامع والشامل مطروحاً قبل انتصار الثورة الإسلامية بشكلٍ جاد، وإنما تبلورت هذه المسألة بعد انتصار الثورة الإسلامية.
هناك مصطلحان فيما يتعلق بتعديل العلوم وتصحيح مسارها في مجتمعنا، وهما: أسلمة العلوم وتأصيلها، وهناك من يعتبر مفهوم التأصيل أوسع وأشمل من مفهوم الأسلمة، فما هو رأيكم؟
* أجل، هو كذلك، فالتأصيل أعم من الأسلمة، فإنّ ما يتمّ تداولـه في بلدان العالم الثالث هو كيفيّة الاستفادة من العلوم الوافدة من الغرب، بما يناسب وشعوب العالم الثالث، إسلاميّة كانت أو غير إسلامية، وعليه يكون مفهوم التأصيل أكثر استيعاباً، بينما لا يتداول مفهوم الأسلمة إلاّ في أوساط الشعوب الإسلاميّة، وقد تمّ طرح هذا المفهوم قبل ثلاثة عقود أو أربعة على أبعد تقدير، ولم يتمّ تداولها في إيران إلاّ بعد انتصار الثورة الإسلامية.
استحالة الأسلمة وإقامة التأصيل ـــــــ
ما هي أهم التصوّرات الممكنة بالنسبة لأسلمة العلوم، وما هو المعنى الصحيح لأسلمة العلوم برأيكم؟
* في الحقيقة لست أرى مفهوم (أسلمة العلوم) صحيحاً، إلاّ في حدود ضيّقة جدّاً، وذلك بأن نقول: إنّ أسلمة العلوم تعني الاستفادة منها لغايات إسلاميّة، كإقامة المجتمع الإسلامي، أو الإنسان المتكامل أو المسلم الحقيقي. فبهذا المعنى ـ وهو معنى بعيد بطبيعة الحال ـ ربما أمكن الحديث عن نوعٍ من أسلمة العلوم. إلاّ أنني أرى عدم صحّة ذلك بالمعنى الصحيح للكلمة، سواءٌ فيما يتعلق بالعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة أم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؛ وذلك لأنّ مفهوم (أسلمة العلوم) يعني معالجة العلوم القائمة، والتي تكاملت في غالبها في البلدان الغربيّة، وذلك من خلال إجراء عمليّة الأسلمة عليها جراحيّاً، بهدف جعلها قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا الإسلاميّة. وأرى أنّ هذه العمليّة غير ممكنة ولا معقولة. نعم، من الممكن بمعنىً آخر ربط أسلمة العلوم بتأصيلها في البلدان الإسلاميّة، وذلك بأن تعمل البلدان الإسلاميّة على تأصيل العلوم الغربيّة، وبما أنّ تلك البلدان إسلاميّة في واقعها، فستغدو تلك العلوم إسلاميّة تبعاً لتأصيلها. ولكن بالمعنى الدقيق للكلمة لست أرى مفهوم أسلمة العلوم صحيحاً.
ربما أمكن توضيح هذا البحث بشكلٍ أفضل فيما لو قسّمنا العلوم إلى: علوم تجريبية وطبيعيّة، وعلوم إنسانيّة واجتماعيّة، فالعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة بما تحمله من الخصوصيّة التي تجعل منها علوماً قابلة للتطبيق في مختلف الظروف والبلدان ولمختلف الغايات، فلا يختلف الأمر في تفسير ظاهرة مناخيّة فيما لو حدثت في بلد إسلامي أو غربي، حيث إنّ ماهيّة هذه الظاهرة واحدة في كلا البلدين، وعليه لا يكون هناك معنىً لأسلمتها إلاّ بذلك المعنى البعيد الذي تقدّمت الإشارة إليه. وأما العلوم الاجتماعيّة فلا تحمل خصوصيّة التعميم، كما هو الحال بالنسبة للعلوم الطبيعيّة، ولذلك يكون هناك معنىً لبحث تأصيلها وأسلمتها من عدمه، ولكن بدلاً من مفهوم أسلمتها يمكن برأيي الحديث عن (إنتاج علوم اجتماعيّة إسلاميّة). وذلك بأن يعمل علماؤنا على إبداع أُسس العلوم الاجتماعيّة الإسلاميّة، ومعرفة أساليب العلوم الاجتماعيّة في ضوء الفلسفة الإسلاميّة، ومن ثمّ يتمّ العمل من خلالها على صنع قوالب للخروج بنظريّات في تفسير ظواهر العلوم الاجتماعيّة، وعندها سيمكن إبداع علوم اجتماعيّة بعد صبّها في قوالب إسلاميّة مختلفة عن القوالب الموجودة في العوالم الغربيّة. وسيغدو من السهل علينا الحديث عن العلوم الاجتماعيّة الإسلاميّة. وهذا عملٌ إبداعي وتأسيسي، إذ ليس فيه أخذ للعلوم الاجتماعيّة القائمة والموجودة حاليّاً في العالم الغربي، والعمل على أسلمتها من خلال إجراء بعض التعديلات عليها. وعليه، لا أرى بحث أسلمة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الراهنة مناسباً.
وأمّا إبداع العلوم الاجتماعيّة الإسلاميّة بالشكل الذي أشرت إليه، فهو قابل للبحث، كما هو قابل للتحقق. وبالالتفات إلى أننا نروم من خلال هذه العلوم بيان وتفسير الظواهر الاجتماعية القائمة، فلو أمكننا التأسيس لمثل هذه العلوم الاجتماعية، ينبغي أن يكون تفسير وبيان هذا العلم للظواهر أسمى وأفضل مما هو واقع في البلدان الغربيّة، وأن يغدو نافعاً في فهم الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة في بلداننا، وأن يغدو نافعاً للآخرين أيضاً، وينبغي تسجيل امتياز الأسلمة بمعنى قابليّة هذه العلوم على تقديم معرفة أفضل عن الظواهر المبحوثة، وإلاّ كانت عمليّة الأسلمة هذه مجرّد تغيير ظاهري واسمي لا غير.
أستنتج من كلامكم أنّ العلوم الإنسانيّة لما كانت قائمة على قوالب مناسبة للمجتمع الغربي، يمكننا أيضاً إبداع علومٍ إنسانيّة من خلال قوالب تتناسب ومجتمعنا وثقافته الإسلاميّة، ويمكن حينها تسميتها بالعلوم الإسلاميّة، وإنّ أسلمة العلوم الإنسانية أنما تعقل في ظلّ هذا الافتراض.
* بطبيعة الحال يقع كلامي هذا ويكون صحيحاً في دائرة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، دون العلوم الطبيعيّة.
فقدان العلوم الاجتماعية قدرة التعميم ــــــ
ما هي برأيكم أدوات المنكرين حتى لهذا المستوى من الأسلمة والتأصيل الذي ذهبتم إليه؟ وما هي الأسس التي يعتمدونها في ذلك وتنكرونها عليهم؟ بعبارة أُخرى: على أيّ قاعدة يقوم إنكار جميع أنواع التأصيل أو إبداع علم الاجتماع الإسلامي؟ وهل هناك اتفاق في الغرب بشأن هذه الأُسس؟
* ربما كانت إحدى أُسسهم تكمن في اعتبار العلوم الاجتماعية كالعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة قابلة للتعميم، بمعنى إمكان اعتبار هذه العلوم منفصلة عن ظروفها التاريخيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وقد كان هذا الاتجاه سائداً في الغرب، حيث الرأي السّائد على إمكان دراسة العلوم والموضوعات والظواهر الاجتماعية على غرار الظواهر الطبيعيّة، واكتشاف القوانين الإثباتيّة، التي هي من قبيل القوانين الطبيعيّة قابلة للتطبيق في أنحاء العالم كافة وجميع التواريخ والحضارات والبلدان. حينما نأخذ العلوم الاجتماعيّة الغربية حالياً للإفادة منها نكون قد افترضنا ـ شئنا أم أبينا ـ تجرّد هذه العلوم عن ظروفها التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة الغربيّة، وأنّ بإمكاننا الإفادة منها على غرار علم الفيزياء والطب في حلّ مسائلنا. وهذا افتراض يتمّ التشكيك به حاليّاً حتى في البلدان الغربيّة أيضاً. ونحن بدورنا إذا أردنا العمل على تأصيل العلوم الاجتماعيّة، فعلينا قبل كلّ شيء أن نردّ هذا الافتراض، وبعد ذلك يكون هناك معنىً لتأصيل العلوم الاجتماعيّة الغربيّة بعد إجراء سلسلة من التغييرات والتعديلات عليها لجعلها ملائمة وناجعة في دراسة ظواهرنا الاجتماعيّة. وبطبيعة الحال لابد من توظيف مختلف الأساليب لتأصيل تلك العلوم، وهذا ما قام به حتى الغربيون أنفسهم بمعنىً من المعاني، حيث أخذ الغرب في برهةٍ زمنيّة كمّاً كبيراً من العلوم أو الأفكار الاجتماعيّة في البلدان الإسلاميّة، وعمل على تأصيلها، بمعنى تطبيق هذه العلوم وجعلها ملائمة لظروفهم التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فانتفعوا بذلك كثيراً، كما انتفعوا بهذا التأصيل في دراسة مشاكلهم ومسائلهم الاجتماعيّة إلى حدّ ما. وبإمكاننا حاليّاً عمل الشيء ذاته في تأصيل هذه العلوم بما يتناسب وتقاليدنا.
في الحقيقة ترمي رؤيتكم إلى بيان أنّ النظريّات المطروحة بشأن مختلف العلوم الإنسانيّة إنما كانت ردود فعل للمسائل والمشاكل التي واجهتهم وسعوا إلى حلها، فتمخضت تلك الحلول عن هذه النظريّات.
* هذا صحيح إلى حدٍ كبير، فإنّ أحد فروع علم الاجتماع يتمثل في علم الاجتماع المعرفي، ومن البحوث المهمّة لهذا العلم أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً لتأسيس العلوم وتطوّرها في الظروف الاجتماعيّة التي تشكل مهداً لها. أي هناك ارتباط وثيق بين الظروف الاجتماعيّة الخاصّة ونوع العلوم التي تنشأ وتترعرع في ظلّ ظروفها. فإذا أخذنا ذلك بنظر الاعتبار تعيّن علينا القول بأنّ العلوم التي تكوّنت وترعرعت في العالم الغربي إنما تنطبق على ظروفه الاجتماعيّة الخاصّة على الأصعدة الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. في حين أننا حينما نأخذ هذه العلوم من الغرب لا نجدها ملائمة لظروفنا الاجتماعيّة، أي أننا لا نستطيع القول من خلال علم الاجتماع المعرفي بأنّ هذه العلوم قد ترعرعت في هذا المهد، وأنّ ما تمخّض عنه هذا المهد مفيد، والجهود المبذولة لحل المشاكل العالميّة مفيدة، ويمكن تطبيقها وإجراؤها في كلّ مجتمع، بل إنّ علم الاجتماع المعرفي يضع أمامنا هذه الحقيقة التي تقول بأنّ العلوم الاجتماعيّة التي تطوّرت في المجتمعات الغربية إنما هي نتاج تلك المجتمعات، فهي تناسب ظروفها التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وليس من النافع تقليدها في البلدان الفاقدة لتلك الظروف، فلو أننا تركنا التقليد في معالجة المشاكل التي تواجهنا في بلدنا ومجتمعنا، وكان لنا نوعٌ من الاستجابات الفاعلة والخلاقة لخرجنا من ركام التحقيقات والدراسات بنظريّات مختلفة تناسب مجتمعنا، وستثبت صحتها من خلال فاعليتها على الصعيد العملي.
هل يمكن من خلال ما تقدّم التفريق بين مفهومي الأسلمة والتأصيل في أنّ التأصيل ناظرٌ إلى تلك الظروف والخلفيّات الاجتماعيّة التي تشكل مهداً للعلم، في حين أنّ الأسلمة تنظر إلى تلك الأُسس والقوالب المفترضة ويتمّ إثباتها في موضعٍ آخر، والتي لو تمّ الاهتمام بها لتركت تأثيرها على مختلف فروع هذا العلم؟
بعبارةٍ أُخرى: إنّ التأصيل يعني معالجة العلوم القائمة وجعلها صالحة لفهم ظواهرنا الاجتماعيّة، وإنّ تقليدها بحذافيرها لا يجدي شيئاً؛ لأنها إنما تناسب الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة التي تمخضت عنها، وأما إبداع العلوم الاجتماعيّة أو العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة فهو يستدعي أسسها وأساليبها الخاصّة بها، والتي ينبغي القيام بها بعد توفرها.
* يمكن التمثيل بماركس في بحوثه حول أساليب الإنتاج وما رسمه على أساسها من نماذج للثورة، وقد ظهر في الآونة الأخيرة نموذج إنتاجي آخر باسم أسلوب الانتاج الآسيوي، فيمكن إضافته إليه وإجراء الدراسات عليه، وعدّ ذلك نوعاً من التأصيل. أي لو دقق المفكرون الشرقيون والآسيويون وأضافوا أساليبهم الإنتاجيّة إلى الأساليب الأُخرى، لأمكن عدّ ذلك نموذجاً للتأصيل ينسجم مع مجتمعاتهم.
أجل، أي أنّ ماركس لم يكن وضعيّاً، ولذلك كان ملتفتاً للفوارق بين المجتمعات، واختلاف ظروفها التاريخيّة، فلم يصرّ على تعميم النموذج الذي رسمه للغرب ـ مستفيداً من ظروفه التاريخيّة والثقافيّة ـ على سائر بلدان العالم الأُخر، إذ أدرك من خلال دراسته التمهيديّة لتلك المجتمعات اختلاف ظروفها عن الغرب، فالتفت إلى أنّ هذا النموذج الذي أعدّه للبلدان الغربيّة من خلال تحوّلاتها التاريخيّة لا يقبل التعميم، بل تجدر دراستها بشكلٍ منفصل للوقوف من خلال ظروفها التاريخيّة على ما يناسبها. وعليه، إذا أردنا الاستفادة من هذا المثال يمكن القول بأنّ ماركس لم يكن وضعيّاً، ولم يؤمن بإمكانيّة تعميم النظام الفكري بالمطلق ونقله من مكانٍ لآخر.
لماذا فشلت مشاريعنا في أسلمة أو تأصيل العلوم الاجتماعية؟! ــــــ
ما الذي يمكن لجامعاتنا فعله في هذا المجال، وما الذي فعلته حتى الآن؟ فمثلاً هل بُذلت جهودٌ في علم اجتماع الثورة تنأى بنفسها عن النظريّات السائدة لتعمل على تحليل الثورة الإسلاميّة من خلال الالتفات إلى الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة لمجتمعنا؟ أو لا يزال التقليد واستنساخ النظريّات الغربيّة هو السائد؟
* تمّ طرح هذا البحث بجديّة بعد الثورة، ولكن برغم ذلك يبدو لي حتى الآن عدم توفر الظروف المناسبة لتأصيل العلوم الاجتماعيّة، ولم تبذل جهود كافية في هذا المجال، ولا زلنا مستهلكين للعلوم الغربيّة المستوردة، وذلك لافتقار التأصيل إلى عمل بحثي جاد.
أرى إمكانيّة طرح التأصيل في عدّة سطور، وربما كانت الخطوة الأولى نحو التأصيل تكمن في التعرّف على العلوم ومفاهيم النظريّات الغربيّة بشكلٍ عميق، وفي الخطوة الثانية لابد من التعرّف بشكلٍ جيّد على مجتمعنا من الناحية التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ومن ثمّ يتمّ السعي إلى توظيف تلك المفاهيم والنظريّات في فهم وتحليل ودراسة المسائل والظواهر الاجتماعيّة وعرضها في تلك القوالب، للوصول إلى أدنى أنواع التأصيل لهذه العلوم، ولكننا لا نرى حتى هذا المقدار البسيط من التأصيل، وذلك:
أوّلاً: لأنّ الكثير من الذين يتداولون هذه العلوم لم يتعرّفوا عليها بشكلٍ كامل وعميق، إذ لا تعدو معلوماتهم كونها مجرّد مدركات سطحيّة عن النظريّات وقوالب العلوم الاجتماعيّة الغربيّة.
وثانياً: عدم معرفة مجتمعهم وتاريخهم وثقافتهم بشكلٍ جيّد.
وأرى القليل من المتخصصين في العلوم الاجتماعيّة عندنا يستوفي كلا الشرطين، كما أنّ الأوضاع الراهنة تحول دون تحقق هذه الظروف، إلا أنّ التأصيل في أعمق المستويات بحاجة إلى دراسات أساسيّة وجادّة قلما حظيت باهتمامنا.
إنّ الدراسات الأساسيّة بغية نقد وتعديل النظريّات والمفاهيم المستوردة من الغرب عمليّة جادّة، تهدف إلى إعادة التعريف بهذه المفاهيم والنظريّات بغية رفع مستوى ملاءمتها وتطبيقها على أوضاع مجتمعنا ومسائلنا التاريخيّة والثقافيّة، والإفادة منها في دراسة مسائلنا الاجتماعيّة. وتعدّ هذه العمليّة أكثر تناسباً للتأصيل، ولكن قلما شاهدنا من يعمل عليها. فإنّ هذه العملية تستلزم الإيمان بالعلوم الاجتماعية. وللأسف الشديد فإن مستوى الإيمان بالعلوم الاجتماعيّة والإحساس بالحاجة إليها في مجتمعنا متدنٍ للغاية. وتبعاً لذلك كان شأن ومنزلة المختصّين في العلوم الاجتماعيّة منخفضاً للغاية أيضاً.
ومن هنا، لا يتمّ تمويل المشاريع اللازمة لهذه العلوم، خصوصاً في مجال التحقيقات الأساسيّة، وإذا كان هناك مثل هذا التمويل فهو على أدنى المستويات، ولذلك لا نرى تأصيلاً. وهكذا الأمر بالنسبة لما بعد الثورة، فبرغم الحديث حول تأصيل أو (أسلمة) هذه العلوم، لم يُقم بنشاط جادّ في هذا المضمار، ولذلك لا نزال مستهلكين في هذا المجال كما كنا.
لماذا حصل الانفصال بين الحوزة والجامعة؟! ـــــــ
في حدود ما بلغني فإنّ الجامعات هي التي تتكفل بموضوع التأصيل، وأمّا فيما يتعلق بالأسلمة بالمعنى الذي ذكرتموه فيبدو لي أنه من شؤون الحوزات العلميّة. فهل يتعيّن على الجامعات أن تكون ناشطة في هذا المجال أيضاً؟ أو أنّ ذلك متعيّن على كلتا المؤسّستين؟
* فيما يتعلق بإنتاج العلوم الاجتماعيّة الإسلاميّة يمكن للحوزة العلميّة الدينية بحسب القاعدة أن تضطلع بدورٍ مهم، خصوصاً في بعض الفروع الموجودة فيها، كما توجد هذه الإمكانيّة في الجامعات أيضاً، حيث يمكن لذوي المواهب الفكريّة العالية أن يضطلعوا بهذا الدور. وعلينا أن ندرك أنّ الانتاج والنشاط العلمي لم يعد أمراً فرديّاً وذوقيّاً، بل هو عمليّة منظمة ومنهجيّة تستغرق وقتاً طويلاً. بعبارة أُخرى: يجب قيام مجموعة من الذين يتمتعون بكفاءات فكريّة عالية ذات رغبة وحسّ ديني متين لتعمل بشكل منظم في مؤسسات تحقيقيّة ودعمها بالمستوى المطلوب؛ ليكون بإمكانها بذل كلّ ما بوسعها لإنجاز عمليّة الإنتاج العلمي الجاد. وعندها يمكننا التفاؤل بظهور النتاجات العلميّة الجادّة. وفي حدود علمي قلما عُمل على هذا الصعيد، وهذا بحاجة إلى افتراض تمهيدي يتطلب منا الإيمان بجدوائيّة العلوم الاجتماعيّة وضرورتها للمجتمع؛ لنتمكّن من اتخاذ الخطوات اللاحقة في هذا المضمار،وللأسف الشديد لا نرى مثل هذا الإيمان في المجتمع وعند غالبيّة المسؤولين، ولذلك لا نرى أيّ خطوات جادّة في هذا المجال.
البحث التالي المرتبط إلى حدّ كبير بأسلمة العلوم، يتعلق بمسألة الحوزة العلميّة والجامعة والوحدة بينهما، فقد كانت الحوزات العلميّة وعلماء الدين قادة العلم والثقافة في إيران لسنوات متمادية. ثمّ ظهرت الجامعات تدريجيّاً، وباتساع رقعة المؤسسات الجامعيّة ومهدها الخاص أخذت الهوّة تتسع بين هاتين المؤسستين شيئاً فشيئاً، حتى جرّدت الحوزة العلميّة ممّا كانت تضطلع به من الأعمال في مؤسّستها التعليميّة والعلميّة، لتدفع إلى مؤسّسة علميّة أخرى هي الجامعة، ما أردت معرفته منكم هو سبب الانفصال الملحوظ حتى هذه اللحظة بين الحوزة العلميّة والجامعة؟ هناك من يرجع هذا الانفصال إلى الاختلاف الماهوي للعلوم الموجودة فيهما، وهناك من يذكر سلسلة من الأسباب الاجتماعيّة لهذا الانفصال ويقول: لقد ظهر الانفصال بحدوث الانشقاق في البنية الاجتماعيّة للمجتمع الإيراني، وإنّ كلاً من الحوزة والجامعة يمثلان تلك البنية، وأما اختلاف علومهما فليس بالشيء الذي يؤدي إلى استحالة التوفيق والوحدة بينهما، هذا ونحن نشاهد في الغرب توافقاً إلى حدّ ما بين العلم والدين، كما كان هناك تعايش قبل ذلك في ذروة الازدهار الذي شهدته الحضارة الإسلاميّة بين العلم والدين، وعليه فالوحدة ليست مستحيلة. غاية الأمر أنّ للهوّة القائمة جذوراً عقائديّة، واجتماعيّة في بعض وجوهها، وقد احتجب هذان العاملان خلف العلوم الخاصّة لكلّ من هاتين المؤسّستين متمسكين بقيمهما وأذواقهما الخاصّة، فما هو رأيكم؟ وإلى أيّ سببٍ توعزون الاختلاف بينهما؟ هل ترجعون الانفصال إلى الاختلاف الماهوي بين علومهما؟ أو إلى الجذور الاجتماعيّة؟
* لو عدنا بنظرةٍ تاريخيّة إلى الماضي لوجدنا نظاماً تعليميّاً منسجماً، فمثلاً كانت لدينا (الكتاتيب) وكان هناك من يمارس الدراسة فيها على مستوى المقدّمات، ليرتقي بعدها المدارج العليا ليصل إلى الحوزة العلميّة التي تعدّ من أعلى المستويات في مجال العلوم. وفي هذه المرحلة نجد اتساعاً خاصّاً في العلوم الحوزويّة في سطوحها العالية. ولم تكن العلوم المبحوثة مقتصرة على العلوم الدينيّة الصرفة، بل نجد علوماً في الطب وغيره. إلاّ أنّ هذه الوتيرة توقفت بعد مدّة طويلةٍ من الزمن، فاقتصر النشاط العلمي في المدارس الحوزويّة على العلوم الدينيّة فقط. وربما لو استمر النهج السابق على ما كان عليه وتمّ تطويره، لظهرت أرضيّة خصبة لإنتاج العلوم الإسلاميّة في المجالات كافة. ولكن بالنظر إلى توقف هذا النهج واقتصار النشاط على الدروس الدينيّة البحتة أُصبنا بنكسة في هذا المجال، في حين قام الغرب بالاهتمام بهذه العلوم والعمل على تطويرها، فأنتج من خلالها علوماً جديدة. فمثلاً لو اطلعنا على مؤلفات ابن سينا لوجدناه عالماً لـه دراسات في الدين والفلسفة والطب، وقد عمل الغربيون على أخذ مؤلفاته وعملوا من خلال تأصيلها على تطوير العلوم الحديثة. ثمّ نصل إلى مرحلة نجد فيها العالم الغربي متقدّماً، ونجد بلداننا بحاجةٍ ماسّة لعلومه الحديثة. وعليه، كان لزاماً على هذه البلدان أن تستورد هذه العلوم، وهو ما قامت به بدافع الإجبار والاضطرار. إلاّ أنّ تلك العلوم بما لها من الاختلاف لا تجد لنفسها موضعاً داخل مؤسّساتنا الدينيّة. فكان من الضروري إنشاء مؤسّسات أُخر لتناسب تلك العلوم، وهي ما تحوّلت فيما بعد إلى جامعات حديثة في بلدان العالم الثالث مثل بلادنا. وبذلك ظهر الاختلاف بين الجامعة والحوزة العلميّة.
ما معنى الوحدة بين الحوزة والجامعة ؟ وحدة الأهداف والشعور بالمساواة والمشاركة… ـــــــ
إذن هناك حاليّاً مؤسّستان علميتان في بلادنا هما الحوزة العلميّة والجامعة، وهناك اختلافٌ ماهويّ في العلوم التي تدرس فيهما، وقد ظهر تقابلٌ بينهما في بعض المفاصل التاريخيّة المعاصرة في بلادنا، وبعد الثورة وبالنظر الى حساسيّة هاتين المؤسستين العلميتين، تمّ التأكيد وعلى وجه الخصوص من قبل السيد الإمام الراحل الخميني& على قيام الوحدة بين هاتين المؤسستين؛ ليظهر بعدها البحث القائم حاليّاً حول الوحدة بين الحوزة والجامعة. برأيكم ما هي ماهيّة هذه الوحدة وما هو مراد الإمام الخميني& منها؟ فهل المراد هو الوحدة في المبادئ أو الأهداف؟ إذ يرجع البعض هذه الوحدة إلى سلسلة من العلوم، بأن تعمل الجامعة على دراسة المناهج الحوزويّة، وأن تعمل الحوزة العلميّة على دراسة المناهج الجامعيّة، فهل هذا صحيح أم أنّ المراد شيءٌ آخر؟
* هناك تصوّرات مختلفة في هذا الشأن؛ وذلك لعدم تعريف مفهوم الوحدة أو التنسيق بين الحوزة والجامعة بشكلٍ جيّد، وأحياناً قد لا تؤدّي التعريفات المطروحة إلى قيام هذه الوحدة فحسب، بل وقد تؤدّي إلى زيادة هوّة الاختلاف وسوء الظن بينهما.
برأيي أنّ بحث الوحدة بين الحوزة والجامعة شبيهٌ إلى حدّ كبير بالوحدة بين كليّة للعلوم الاجتماعيّة وكليّة للعلوم الطبّية، فما هي الوحدة التي يمكنها القيام بين هاتين الكليتين؟! برغم كونهما من مؤسسة واحدة هي الجامعة، وقد تكونان في جامعةٍ واحدة، ومع ذلك لا يمكن تصوّر الوحدة بينهما. نعم برأيي هناك إمكان تصوّر الوحدة بمعنى إيمان كلّ منهما ـ رغم اختلاف فروعهما العلميّة ـ بأنّ لـه رسالة عليه أداؤها والاضطلاع بها تجاه أبناء جلدته ومجتمعه.
بعبارةٍ أُخرى: إنّ المجتمع بحاجة إلى خدمات جملةٍ من المختصّين في هذه الفروع العلميّة، وإنّ على المختصّين في مختلف الفروع الاجتماعية والطبيّة ـ رغم الاختلاف الماهوي بين فروعهما الاختصاصيّة ـ الاتحاد في قبول هذه الحقيقة، وهي حاجة المجتمع إلى خدماتهما الماديّة والمعنويّة على قدم المساواة، وضرورة التنسيق بينهما لتوفير الخدمات التي تتمخض عنها فروعهما التخصصيّة، من دون أن يكون لكلٍّ منهما شعور بالاستعلاء على الآخر. ولو آمن كلّ من العاملين في سلك الحوزة العلميّة والجامعة بهذه الحقيقة فسوف نصل إلى أدنى مستويات التآخي والتعايش، وستزول تلك الفوارق التي ظهرت على مرّ الأزمنة والحقب التاريخيّة ودعت الجامعي إلى رفض عالم الدين، ورفض عالم الدين للطالب الجامعي. وعندها ستغدو الجامعة والحوزة العلميّة عضوان في جسد المجتمع الواحد يحظيان بمنزلتهما اللائقة، ويضطلعان بدورهما في المجتمع. وأرى أنّ تأكيد الإمام الخميني على الوحدة بين الحوزة والجامعة إنما كان يهدف إلى القضاء على تلك النظرة التاريخيّة السلبية التي كانت قائمة بينهما. كما يمكن تصوّر الوحدة المؤسساتيّة بين الحوزة والجامعة، وذلك بأن تتشابها في الأنظمة والمؤسسات. فبإمكان كلٍّ منهما الإفادة من خبرات الآخر. فقد استفاد الغرب في إقامة جامعاته من أنظمة المدارس الإسلامية على نطاقٍ واسع. فيمكن للحوزات العلميّة بدورها أن تستفيد من الأساليب الإداريّة السائدة في الجامعات أيضاً.
وبعد الثورة، حدثت تغييرات كبيرة في الحوزات العلميّة حتى أصبحت من الناحية التنفيذيّة أكثر شبهاً بالوضع السائد في الجامعات. ويمكن تطوير هذا التناغم في المجالات الأُخر، خصوصاً في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتتحوّل إلى تنسيق وتعاون، وذلك لتقارب نوع موضوعيهما، بل ربما كان موضوعاهما واحداً، غاية الأمر هناك اختلاف في زاوية النظر إليهما، وعليه يمكن التأسيس للتعاون والتنسيق العلمي المشترك بين الحوزة والجامعة في هذه الفروع العلميّة، أو أن يكون هناك حوار بينهما في هذا المجال على أقلّ التقادير بغية تحطيم جدار العزل الحائل بينهما، إلاّ أننا لم نشاهد حتى هذا المستوى من التعاون بين هاتين المؤسستين. فمثلاً من بين العلوم الاجتماعية نجد اهتماماً في علم الاقتصاد في الجامعات والحوزات العلميّة، فيحدث أحياناً أن تمسّ الحاجة لدى الجامعيين إلى معرفة بحوث الاقتصاد الإسلامي، وعليه يمكن لأقطاب هاتين المؤسستين الجلوس إلى بعضهما والتباحث بشأن المواضيع المشتركة بينهما في هذا الخصوص، وسيؤدّي ذلك الى تعزيز الأُلفة والتعاون بينهما، وقد يؤدّي إلى إنجازاتٍ علميّة جديدة وإبداع علوم أكثر نفعاً لأوضاعنا الراهنة.
الخلفيات النفسية والمعرفية لحوادث الانفصال بين الحوزة والجامعة ـــــــ
أشرتم إلى ضرورة الحوار المتواصل بين علماء الدين والجامعيين للوصول إلى الوئام المطلوب وإزالة حجب الفرقة بينهما. وأقول: ربما أمكن إرجاع أسباب الفرقة والتباعد بين هاتين الطبقتين العلميتين الى مجموعتين: إحداهما الأسباب التي تعود إلى بعض الرؤى والأحكام الخاصّة، والتي قد تكون لها جذور تاريخيّة. وبالإمكان القضاء إلى حدٍّ ما على هذه الأسباب بهذه الطريقة، خصوصاً بعد الثورة، حيث يتواجد في الجامعات طبقة جديدة من الجامعيين والأساتذة الذين هم في غالبيّتهم من المتدينين. ولكن لا زلت أتصوّر وجود مانع يعود إلى ماهيّة العلوم الجامعيّة وخاصّة العلوم الإنسانيّة منها، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور رؤية سلبيّة تجاه هذه العلوم. وكما تعلمون فإنّ الانفصال الذي وقع بين الدين والعلم لدى الغرب إنما كان سببه يعود إلى تعريف ذلك العلم تعريفاً جديداً ألغى بنزعة متطرّفة علميّة ما كان مثل الفلسفة والأخلاق والإلهيّات وغيرها، واعتبارها أموراً فارغة وجوفاء. فالذي أريد قولـه هو أنّ العلوم التجريبية بما لها من خصوصية تسعى إلى تعريف كل أمرٍ مهما كان جزئيّاً وجعله خاضعاً للتجربة وملموساً، حتى أخذ ينظر إلى هذه العلوم نظرة سلبيّة، خصوصاً فيما يتعلق بالعلوم الإنسانيّة، ونعلم أنّ بإمكان علوم من قبيل علم النفس والاجتماع أن تضطلع بدور الدين في المجتمعات التقليديّة وتسعى إلى الحلول محلّ الدين في إقرار الانسجام واللحمة الاجتماعية، فتسعى هذه العلوم بطريقة من الطرق إلى الاضطلاع بدور الدين، ممّا يُفهم منه إمكان الاستغناء عن الدين بعد بلوغ المجتمعات مرحلة متقدّمة من الحضارة تغنيهم عن الدين والمؤسسات التي تضطلع بدور الدين. في حين غالباً ما تنعكس هذه الرؤية على الجهة الأُخرى التي قد لا تكون بالضرورة كذلك. أي أنّ المنزلة والرفعة والعلو الذي اعتبر لعلم الإلهيّات والفلسفة حتى وسمت بـ(أمّ العلوم) أدّى إلى ظهور تلك الرؤية السلبيّة تجاه هذه العلوم. وباعتقادي أنّ طريق الحلّ يعود إلى إبداع العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة التي هي تلفيق من هذه العلوم. وعندها سيجد كل منها مكانه المناسب وتزول تلك الرؤى السلبية لكل منهما تجاه الآخر. فما هو رأيكم في ذلك؟
* لا تقتصر هذه الرؤية السلبيّة على الحوزة والجامعة، بل نجد هذه الرؤية حتى بالنسبة لفروع العلوم الجامعيّة، بل وتوجد هذه الرؤية السلبية في البلدان الغربيّة أيضاً. بل إنك لتجد هذه الرؤية في الغرب ليس بين العلوم التجريبيّة والعلوم الإنسانيّة والعلوم الاجتماعيّة فحسب، وإنما تراها أيضاً حتى بين بعض فروع العلوم الاجتماعيّة، إلا أنّ ذلك لم يمنع من وجود علم الطب والفيزياء ومختلف أنواع العلوم الإنسانيّة، ومنها الفلسفة والأدب وأمثالهما في جامعة واحدة من جامعات الغرب، وهو ما نشاهده في بلادنا أيضاً، حيث نجد جامعة طهران تشتمل على كليّة الإلهيّات مضافاً الى كليّة الفيزياء. وعليه أرى أن ّهذا التفكيك راجع إلى الموضوع الذي يعالجه كلّ واحدٍ من هذين العلمين. من جهة أُخرى لا يمكن إنكار نزعة الأنا في الإنسان التي تدعوه إلى تصوّر أفضليّة مجاله التخصصي على سائر التخصصات الأُخر، ولكن لا ينبغي أن يصل الأمر بهذه الأنا إلى إلغاء التخصصات الأُخر وقطع الطريق أمام التعايش والألفة، والانشغال بالتنازع والسعي إلى اجتثاث الآخر بدلاً من قيام كلّ فردٍ في مجال اختصاصه بالعمل على أحسن وجه من أجل إعلاء شأن البلاد، فهذه مسألة يجب على الجميع اجتنابها. وكلما أمكننا بيان منزلة العلوم المتعلقة بالحوزة والجامعة في حياة المجتمع العامّة وتم توضيحها للمتخصصين، ربما توصلنا إلى التخفيف من حدّة سوء الظنّ، وهذه الرؤية السلبيّة، فمثلاً لو تحدّث طبيبٌ إلى مختصٍ في علم الاجتماع واطلع على مجال عمله وأُسلوب نشاطه وبحثه، لأدرك أنّ علم الاجتماع لا يقلّ أهميّة عن علم الطب، ولو أدرك جدوائيّة هذا التخصص في حلّ المشاكل الاجتماعيّة لوقف على ضرورة هذا الاختصاص وعمل على إجلاله، وعندها ستنهار بينهما جدران الفرقة والتباعد ليحل محلّها الوفاق والوئام، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الوحدة بين الحوزة والجامعة.
هل حصل إخفاق بعد الثورة في التوفيق بين الجامعة والحوزة؟ ولماذا؟ ـــــــ
ما هي برأيكم نقاط القوّة والضعف في ما تمّ إنجازه بعد الثورة في التقريب بين الحوزة والجامعة؟
* أرى هناك أعمالاً قد أنجزت في الظاهر، إلاّ أنها لم ترق إلى الجديّة على المستوى العملي، فمثلاً لم يتمّ تعريف مفهوم الوحدة بين الحوزة والجامعة بشكلٍ جيّد، فليس هناك تصوّر واحد عن هذه الوحدة في الحوزة والجامعة، في حين كان من المفترض معالجة هذه المسألة قبل كلّ شيء، ومن الأعمال التي أُنجزت إقامة اجتماعات سنويّة برعاية مكتب التعاون بين الحوزة والجامعة، ويبدو أنها لم تكن ذات تأثير يذكر. وعليه، فإنّ ما تمّ إنجازه أقلّ بكثيرٍ من حدود المتوقع.
ما هي برأيكم موانع قيام هذه الوحدة؟
* أحدها عدم التعريف الواضح لنوع هذه الوحدة، والآخر ما كان سائداً من سوء الظن بين الحوزة والجامعة، حيث كانت الحوزة وعلماء الدين ينظرون إلى الجامعة والجامعيين بوصفهم عرابي الثقافة الغربية، الأمر الذي لا يؤدي إلى تقليص الهوّة بينهما، بل ويزيدها تباعداً وقوّة. وحينما تحدّث الإمام الراحل الخميني عن الوحدة بين الحوزة والجامعة لم يرم إلى إلغاء إحداهما لصالح الأخرى، أو دمج إحداهما في الأُخرى، أو التقليل من شأن إحداهما. بل، إنّ هذا النوع من الدعوة يحمل في طيّاته إيماناً بتعادل هاتين المؤسستين في وزنهما العلمي وتأثيراتهما الاجتماعية. لذا عليهما في عين تعادلهما أن يسعيا إلى التعاون والتنسيق بينهما لحل المسائل الاجتماعيّة، والعمل على هداية المجتمع بوصفهما ثقلين فكريين عظيمين. وعليه، لابدّ قبل كلّ شيء من تعريف صحيح لهذه الوحدة، يضمن إثبات تساوي هاتين المؤسستين وأهميتهما، واعتبار ذلك بداية لتحقيق هذه الوحدة، وإلاّ فلن يكون بإمكاننا إيجاد الحلول لأوضاعنا الاجتماعية، وسيبقى الكثير منها قائماً على هيئته السّابقة.
______________________________________________________
(*) عضو الهيئة العلمية في كلية الاجتماع بجامعة العلامة الطباطبائي.