د. مجتبى فيضي(*)
د. مسعود آذربيجاني(**)
د. محمد كاوياني أراني(***)
مقدّمةٌ
بالرغم من أنّ الأديان في الظاهر تتكلَّم مع أتباعها بلغاتٍ مختلفة، إلاّ أنّه يمكن أن نجد في نصوصها الاعتقاديّة أصولاً وقِيَماً مشتركة (وخصوصاً في جانب القِيَم الأخلاقيّة). لهذا فقد حاول الكاتب في هذه الدراسة أن يبحث هذه القِيَم المشتركة من ناحية أسلوب الحياة، ويفحص مدى اختلاف الآفاق بين أنظار المفكِّرَيْن: الطباطبائي؛ والدالاي لاما، المنتميَيْن إلى دينين مختلفين: الإسلام؛ والبوذية.
تأخذ الأديانُ غالباً عند ظهورها تعاليمَها وأنظمتَها من مصادرها الأصليّة ومؤسِّسيها، وليس هناك وقتذاك محاكاةٌ لتعاليم ورؤى الخصوم المنافِسة. لكنْ طوال التاريخ، وفي ضوء المقارنة مع سائر الأديان، يُلاحَظ أنّ كثيراً من القِيَم المطروحة لديها تكون مشاهدةً أيضاً في الأديان الأخرى.
وعلى أيّ حالٍ فالبحوث المقارِنة تواجه دائماً إشكاليّات وتقييدات مفروضة على الباحث؛ فمن الممكن أحياناً أن يتصادف في مسير البحث نقل رؤى الخصم بالتضعيف والانحياز أو مع أحكامٍ مسبقة؛ بسبب ضغط الميول الدينية على الباحث. لكنْ مع ذلك حاولَتْ هذه المقالة أن تعطي بشكلٍ منصف نظرةً إجماليّة لنقاط الاشتراك والافتراق، مع مقاربةٍ مقارِنة بين رؤيتَيْ المفكِّرَيْن: الدالاي لاما الرابع عشر؛ والعلاّمة الطباطبائي، في موضوع أسلوب الحياة.
سوابق البحث
أسلوب الحياة من المقولات التي كُتبت وطُبعت فيها مقالاتٌ كثيرة تتعلَّق بمختلف الميادين، كما نالَتْ أيضاً هذه المقولة اهتماماً كبيراً في السنوات الأخيرة، فصدرَتْ كتبٌ ورسائل علمية بمقارباتٍ متعدِّدة. لكنْ بالنظر إلى جدّة هذا الموضوع، والحاجة إلى بحوثٍ مقارِنة، لم نجِدْ مَنْ اشتغل على المقارنة ـ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ـ بين آراء العلاّمة الطباطبائي والدالاي لاما. لهذا فإنّ هذا البحث يفتقد للسابقة البَحْثيّة.
منهج البحث، ومصادره
منهج هذا البحث هو التحليل العقليّ والنظريّ في محتويات المصادر المتّصلة بهذَيْن العالمين، وإجراء المقارنات بينهما.
أما في ما يرتبط بالمصادر فالطريقة تختلف في تتبُّع مواد البحث بين هذين العالمين:
فقد تمّ استمداد منهج العلاّمة الطباطبائي في أسلوب الحياة ممّا تضمَّنته كتبه، وبالخصوص التفسير الثمين (الميزان)، المبنيّ على محوريّة التوحيد.
أما الدالاي لاما فقد تيسَّرَتْ لنا آراؤه بتتبُّع المواقع الإلكترونية، ومحاضراته وآثاره المكتوبة.
وبذلك تمكَّنا من متابعة رؤاهُما في موارد التشابه والاختلاف، وإجراء المقارنة العلميّة بينهما على ضوء الموادّ التي حصلنا عليها.
هذا، ويلزم عدم الغفلة عن اختلاف المجال المعرفي بين الدالاي لاما والعلاّمة الطباطبائي؛ فالأوّل مرتبطٌ بالفضاء البوذي والثاني مرتبط بالفضاء الإسلامي.
ضرورات البحث
تنبع ضرورة اختيار هذا الموضوع من أنّنا في هذا العالم المعاصِر نواجه أمواجاً متزايدة نحو التيّارات المعنوية؛ فكلّ واحدةٍ منها تحاول أن تجذب مريدين وأتباعاً لها من جميع أنحاء وأطراف العالم، بأساليب وطرق نفسيّة خاصّة. وتستند في ذلك على هاجس الرغبة في المعنوية عند البشر، والتي تتجذَّر في فطرتهم الإلهيّة. إنّهم يعرضون للبشر تصوُّرات مختلفة للدين والإيمان، فيطلع فريقٌ منهم من الشرق؛ وفريقٌ آخر من الغرب.
في هذا الاتجاه يبرز الفكر اللامي كاتّجاهٍ منبثق عن الديانة البوذية ـ التي هي رابعة الأديان من حيث الأتباع عالميّاً ـ، ويمثِّله الدالاي لاما، القائد الروحي للبوذيين التبت، الذي حَظِي بشهرةٍ عالميّة واسعة؛ بسبب إفصاحه عن آراء تختلف عن التوجُّهات البوذية؛ ولهذا وجدَتْ آراؤه عنايةَ مجموعةٍ من الناس في دولتنا([1]).
وعليه فإنّنا نشعر بأنّ هناك خلوّاً وتقصيراً في التعريف بالنماذج البديلة ذات الوزن الديني المنافس لتلك الشخصيّات. ومن هذا المنطلق نعتبر العلاّمة الطباطبائي من بين تلك الشخصيات الدينية المعاصرة، التي تروي ـ بحقٍّ ـ عَطَش طالبي الحقّ من الشباب الباحثين عن الفلاح والنجاح.
لكنْ قبل الدخول إلى صلب الدراسة سنشير باختصارٍ لحياة الدالاي لاما؛ حتّى تتّضح شخصيّته أكثر.
حياة الدالاي لاما
تينزن غياتسو، الدلاي لاما الرابع عشر (معاصر). وُلد سنة 1935م في التبت، وأعلن عام 1937م كمتجسّم للدالاي لاما السابق. في العام 1939م أُطلق عليه لقب الدالاي لاما الرابع عشر، وتمّ تتويجه في السنة الخامسة، أي عام 1940م. وفي العام 1950م، بعد احتلال الصين لأراضي التبت، تمّ القبض عليه، بعد أن مضى على قيادته الروحية والسياسية 16 عاماً. ثمّ بعد ذلك فَرَّ إلى الهند على خلفية ثورة التبتيّين ضدّ الجيش الصيني، الذي نكَّل بهم جرّاء ذلك. ومن جانبٍ آخر كانت للدالاي لاما الرابع عشر أسفارٌ رسمية كثيرة، جالس فيها الكثير من السياسيين والشخصيات المختلفة، وتمحورَتْ أنشطته السياسية والثقافية على موضوعات الحوار والسلام البشريّ. في العام 1989م حاز على جائزة نوبل للسلام. وبناءً على نقل بعض وسائل الإعلام قامَتْ الولايات المتحدة الأمريكية بفرض حمايةٍ كبيرة على الدالاي لاما، وأعدَّتْ له «سيا»، الأرض التي فرَّ إليها كمركزٍ للتبتيّين التابعين له. أعلن في عام 2011م أنه قد اعتزل القيادة السياسيّة للتبت. وقد عارض إعدام صدام حسين. ويقول حول طبيعة سلوكه مع العدوّ: «أنا أدعو للصينيّين بنفس النحو الذي أدعو به للتبتيّين؛ لأنني فردٌ من أهل التسامح، وتابعٌ للتفاؤل»([2]).
سؤال البحث
«أسلوب الحياة» من المباحث الجديدة بعد عصر النهضة في الغرب، حيث تتمتَّع هذه المقولة ـ التي هي فرعٌ لتخصُّصات متعدِّدة ـ بطاقةٍ عالية في مختلف العلوم. فمثلاً: تشترك هذه المقولة مع أفق مفهوم «الشخصيّة» في علم النفس.
ومن الجهة الأخرى يعنى بالدين أنّه أسلوبٌ وطريقةٌ للحياة بشكلٍ عامّ، كما أنّ تعريف أسلوب الحياة هو كذلك: «طريقةٌ ثابتة نسبيّاً؛ بحيث إنّ الفرد يسعى لتحقيق أهدافه في ذلك الطريق الخاصّ» ([3]).
إنّ التيارات التي تروِّج منهجها كبوّابة لنجاة البشر في الوقت المعاصر خارجةٌ عن حدّ الإحصاء والعدّ؛ ولهذا تعمل هذه التيّارات والشخصيات على الاستفادة من أدوات التأثير النفسيّ؛ لأجل جَذْب أكثر عددٍ لمخاطبيها. فمن أبرز العوامل المؤثِّرة في عمليّة الجَذْب هذه هي مدى جدّة وجذّابية المحتوى العامّ لها، والتي يترشَّح منه أسلوب الحياة المناسب والنموذجيّ للجمهور المخاطب. لذلك جعل الدالاي لاما أمرَ السعادة والبهجة ـ التي هي أمرٌ مطبوع وفطريّ للجميع ـ أمراً محوريّاً في خطابه العامّ. هذا، بالرغم من أنّ مسألة السعادة والبهجة تعتبر أيضاً من مباحث علم النفس.
في فحصٍ عامّ لمنظومة الرؤى البوذية ـ التي تنظر إلى الدنيا بمنظار الألم والخلاص منه ـ يمكن القول بأنّها تقدِّم أطروحةً خاصّة للعالم البشري في ما يرتبط بأسلوب الحياة. لهذا الأمر فإنّ خلوّ الساحة عن التعريف بالنماذج الدينية، ونعومة الأساليب الإعلامية للتيّارات المعنوية جديدة الظهور، تجعل الأرض ضيِّقة بالباحثين في العثور على طريق الحقّ. وعلى هذا الأساس، ومن جهة لزوم التعريف بالنموذج الأحسن في مجال أسلوب الحياة، فإننا قد وضَعْنا على عاتقنا في هذه المقالة مهمّة التحقيق المقارِن بين آراء الدالاي لاما والعلاّمة الطباطبائي؛ كي تتوفَّر أرضيّةُ التمييز بين التيّارات المعنوية الحقيقية والتيارات الكاذبة، فنساهم في تهيئة الطريق للباحثين عن الحقّ.
كما يلزم الذكر أنّ أهمّ أَثَرٍ للدالاي لاما هو كتابٌ بعنوان (فنّ السعادة)، حرَّره عالمُ نفسٍ غربيٌّ، كحصيلةٍ لملازمته وأسئلته له.
إذن فيمَ تتّفق وتختلف رؤى العلاّمة الطباطبائي والدالاي لاما الرابع عشر في ما يتعلَّق بأسلوب الحياة؟
أوّلاً: وجوه الاشتراك بين الرؤيتين
فضاءات أسلوب الحياة
لأسلوب الحياة دائرةٌ واسعة جدّاً؛ من تصفيف الشعر وترتيب المظهر الخارجي حتّى اختيار لون اللباس وشكل الحذاء… وبعبارةٍ أخرى: يتضمَّن مفهوم أسلوب الحياة جميع العلاقات الأربعة للإنسان.
فإذا أرَدْنا أن نقسِّم مباحث أسلوب الحياة على مستوى العلاقات الأربعة: العلاقة بالله؛ العلاقة بالنفس؛ العلاقة بالآخرين؛ والعلاقة بالطبيعة، فحينئذٍ يمكن رصد وجوه الاشتراك بين العالمين بشكلٍ منهجيّ كما يلي:
أـ العلاقة بالنفس
محور معرفة النفس من المحاور المهمّة لإدراك التقارب بين تعاليم وأفكار الدالاي لاما والعلاّمة الطباطبائي.
في ما يتّصل بالدالاي لاما يقول: إنّنا إذا أرَدْنا أن نتعلَّم كيف نستفيد من قدرات النفس بشكلٍ جيّد جدّاً فأوّلاً نحتاج إلى أن نفهم ماهيّة النفس، ثم إذا أرَدْنا فإنّ هناك احتمالاً واقعيّاً موجوداً لإحداث تغييرٍ في قلب الإنسان. إنه يعتقد أنه يجب أن تبدأ نقطة الحركة من الشخص نفسه إذا ما أرَدْنا التغيير في أيّ مجتمٍع([4]). هذه الحركة من النفس تجهِّز الأرضية للتحوُّل الداخلي شيئاً فشيئاً؛ لأنّ «المبادرات الشخصية من أوائل الخطوات في كلّ شكلٍ من أشكال الحركات والتغييرات في المجتمعات البشريّة»([5]).
أما عن العلاّمة الطباطبائيّ فمعرفة النفس عنده تمنح موقعاً مركزيّاً في السَّيْر إلى السعادة والكمال الآدميّ؛ إذ يعتبر ذلك لازماً لمعرفة الحاجات الواقعيّة وسعادة الإنسان: «إذا لم نعرف النفس فسوف لن نعرف حاجاتها الواقعية التي سعادتنا في إشباعها»([6]). كما يشير أيضاً إلى أنّ معرفة النفس كانت رائجةً في جميع العصور والأمم، يقول: «البحث عن حال الأمم، والتأمُّل في سُنَنهم وسِيَرهم، وتحليل عقائدهم وأعمالهم، يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة؛ للحصول على عجائب آثارها، كان دائراً بينهم، بل مهمّة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات، وأغلى الأثمان، منذ أقدم الأعصار»([7]). ويوضِّح العلاّمة فيقول: «إنّ ألزم مسؤوليةٍ على الإنسان هي معرفة النفس؛ فمن خلالها سوف يصل إلى سعادته، كما ليجتهد في سدّ حاجاته بالوسائل التي يملكها، ولا يفوتنّ عمره الثمين الذي هو رأس ماله بالمجّان»([8]).
ب ـ العلاقة بالآخرين
تُعَدّ العلاقات الاجتماعية شكلاً آخر من أشكال أسلوب الحياة؛ حيث يرجع جزءٌ كبير من وَعْي الإنسان إلى ارتباطه بالآخرين.
فبالنسبة إلى الدالاي لاما تُعَدّ المحبّة والمودّة للبشر أساس أسلوب الحياة؛ إذ يعتبر أنّ مفاهيم المودّة والرأفة والعاطفة ـ التي تشكِّل الأُسُس التحتية للسعادة والبهجة ـ هي صلب الدين. ويعتبر أيضاً أنّ هذه المفاهيم ضروريةٌ للحياة اليومية؛ حيث تقوم بها الحياة. كما يعتقد أنّّ المفهوم النموذجيّ للوجود ممتلئٌ بالحبّ والعواطف([9]): «في الوقت الذي أتحدَّث فيه عن العشق والشفقة لا أتحدَّث فيه بصفتي الدالاي لاما، بل بصفتي بوذيّاً، ولا بصفتي تبتيّاً، ولا بصفتي الدالاي لاما، بل بصفتي إنساناً يتحدَّث مع الآخر»([10]).
يعتقد الدالاي لاما أنّه يجب أن تقرأ «الآيات الثمانية» كلّ يومٍ؛ لتصبح جزءاً من حياتنا اليومية، ويتمّ تطبيقها؛ للاستفادة منها في مواجهة المشاكل، وزيادة قدرة التحمُّل، والشعور بحبّ الناس. يقول: «العشق الحقيقي ليس جواباً للأحاسيس فقط، بل عهدٌ مستحكمٌ ثابتٌ على أساس الدليل والمنطق»([11]). كذلك يعتبر أنّ أساس الحياة الروحية هي المحبّة وأسلوب نظرة كلّ إنسانٍ إلى الآخر([12])؛ على هذا فالعشق والرحمة من أهمّ أُسُس الديانة البوذيّة، ومن الأُسُس الأساسية لجميع الأديان الإلهيّة([13]).
وأما رؤية العلاّمة الطباطبائي حول هذا المحور فتتمثَّل في أنّ التعاليم الإسلامية هي أساس الانطلاقة في تشكيل وإدارة العلاقة بالآخر؛ حيث إنّ الإسلام يقضي بتعزيز هذه العلاقات الاجتماعية في إطارٍ حاكم من العبودية لله، وهذه بدَوْرها ترتهن بإصلاح علاقة الإنسان مع معبوده عزَّ وجلَّ. إذن هناك في نظر العلاّمة دَوْرٌ واقعيّ للنفس في أسلوب العلاقة مع الآخر، يرتكز على الفكر التوحيدي، ولذا تجده يصرِّح في أبياتٍ شعريّة عن دينه بأنّه دينُ حبٍّ.
ومن حيث البنية التحتية المؤسِّسة للعلاقة بالآخر يعتبر العلاّمة مسألة التعاون الاجتماعي هي الأساس للاجتماع. فحتّى الإحسان، الذي هو مورد طلبٍ حثيث في المصادر الدينيّة، يُعَدّ رَشْحاً ناتجاً عن مفهوم «التعاون». فمعنى الحياة المستقرّة عنده هو في قيامها على أسس التعاضد، ومساعدة الناس لبعضهم. إذن لهذا المفهوم الأخلاقي معنىً واسعٌ جدّاً: «لا ينبغي أن يتصوّر أنّ الدين الإسلامي الحنيف أراد أن يكون الإحسان في المال فقط، بل أراد كذلك مساعدة أيّ عاجزٍ، حتّى وإنْ لم يكن له عوزٌ ماليّ. ذلك هو المطلوب في الدين الإسلامي المقدَّس، وكذلك أحد مطلوبات الوجدان»([14]). يتبيَّن من النصّ المتقدِّم أنّ مفهوم المساعدة عند العلاّمة عامٌّ لغير المحتاجين، فمصاديق المساعدة بحَسَب رؤيته تشمل مثل: تعليم الجاهلين، والأخذ بيد العميان، وإرشاد الضالين…، إلخ.
ومن بين الآيات القرآنية المهمّة التي تعرض نظاماً خاصّاً في العلاقات الأخلاقية الاجتماعية قوله تعالى: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199). توضِّح الآية أنّ النظام السلوكي الأخلاقي في العلاقة مع الآخرين هو عبارةٌ عن حُسْن المعاشرة، والأدب والسلوك التعبُّدي. هذه الآية تعطي قانوناً للنبيّ الأكرم|، تفرض فيه أسلوباً يهيّئ الأرضيّة لجَذْب القلوب ومَيْل النفوس في المعاشرة الاجتماعية. يبيِّن العلاّمة الطباطبائي رأيه الخاصّ في مفاد هذه الآية الشريفة، في ذَيْل تفسيرها، وضمن نَقْله لرأي المفسِّرين الآخرين: «وفي بعض الروايات الآتية عن الصادق× أن المراد به [العفو] الوَسَط([15]). وقوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾: العُرْف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السُّنَن والسِّيَر الجميلة الجارية بينهم، بخلاف ما يُنْكره المجتمع، ويُنْكره العقل الاجتماعيّ، من الأعمال النادرة الشاذّة. ومن المعلوم أن لازم الأمر بمتابعة العُرْف أن يكون نفس الآمر مؤتَمِراً بما يأمر به من المتابعة، ومن ذلك: أن يكون نَفْس أمره بنحوٍ معروف غير مُنْكَر. فمقتضى قوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أن يأمر بكلّ معروفٍ، وأن لا يكون نفس الأمر بالمعروف على وجهٍ مُنْكَرٍ»([16]).
صار واضحاً بهذا البيان أنّ الأمر بالعفو والإعراض ـ لكونه أحد أبرز الصفات الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين ـ يلزم أن يكون نظاماً عمليّاً لكلّ الناس؛ كما يلزم أن يكون الأمر بالعُرْف والمعروف أيضاً قانوناً آخر يُضاف إلى نظام العلاقات الاجتماعية؛ والقانون الثالث في نظر العلاّمة الطباطبائي قوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، فهذا القانون يعتبر نظاماً نافعاً في أسلوب مداراة الناس، بل هو أفضل وأقرب أسلوب لتجنُّب نتائج جَهْلهم وفساد أعمالهم؛ فالعمل بهذا القانون سوف يوقف أكثر الناس عن ممارسة الجهل والانحراف والضلال.
وفي تقديرنا إنّ القوانين الثلاثة المتقدِّمة تعطي منهجَ عملٍ للحياة الاجتماعية، في أسلوب المعاشرة، وفي تنمية المكارم الأخلاقية. وفي كلامٍ منقول عن الخواجة عبد الله الأنصاري يقول: أقبح الأشياء القبيحة عمل الحمار، وأحسن الأشياء الحَسَنة عمل الكلب، وأحسن الأشياء السيِّئة عمل الخواجة عبد الله الأنصاري.
يصف الله عزَّ وجلَّ نبيَّه بأنه نبيّ الرحمة، وأنّ رسالته تحمل العَفْو والصَّفْح عن المخطئين. وفي هذا الجانب ينقل العلاّمة الطباطبائي في بحثٍ روائي بضعة رواياتٍ تؤيِّد وتفسِّر هذه الآية
1ـ يقول الإمام الصادق×: «إن الله أدَّب رسوله، فقال: يا محمد، ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾، قال: خُذْ منهم ما ظهر وما تيسَّر، والعفو الوَسَط».
2ـ وفي روايةٍ أخرى قال رسول الله|: «إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمَّنْ ظلمك، وتصل مَنْ قطعك، وتعطي مَنْ حرمك، ثمّ تلا النبيّ|: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾»([17]).
وأيضاً ينقل العلاّمة في كتابه (سنن النبيّ) رواياتٍ تماثل هذه المضامين في مكارم أخلاق الرسول|. ونشير هاهنا إلى نموذجٍ منها:
1ـ عن أبي عبد الله× قال: قال النبيّ|: ألا أخبركم بأشبهكم بي؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: أحسنكم خُلُقاً، وألينكم كنفاً، وأبرّكم بقرابته، وأشدّكم حُبّاً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحقّ، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدّكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب»([18]).
بعد هذا يظهر أنّ السلوك المَرِن والملائم هو مظهرٌ أصيلٌ للأدب واللباقة والسلوك المتسامح، الذي يوضع في سياق العبوديّة؛ ليكون مظهراً للخضوع والانقياد لله، والعبودية له.
يؤكِّد الدالاي لاما والعلاّمة الطباطبائي على حفظ نظام العائلة وحبّ الزوجة:
ففي التعاليم البوذية، وفي رؤية الدالاي لاما بشكلٍ خاصّ، هناك اهتمامٌ بأسلوب الحياة في الجانب العائليّ، كاحترام الوالدَيْن، وبالخصوص الأمّ.
وفي الرؤية الإسلامية، وعند العلاّمة الطباطبائي تحديداً، هناك مكانةٌ لا مثيل لها للوالدَيْن؛ حيث يعتقد العلاّمة الطباطبائي أنّه «من الواجب؛ بالنظر إلى السُّنّة الاجتماعية الفطريّة أن يحترم الإنسان والدَيْه، بإكرامهما، والإحسان إليهما. ولو لم يَجْرِ هذا الحكم، وهَجَره المجتمعُ الإنسانيّ، بطلت العاطفة والرابطة للأولاد بالأبوَيْن، وانحلّ به عقد الاجتماع»([19]).
يوصي الله عزَّ وجلَّ، بعد ذكر التوحيد بالإحسان إلى (الوالدَيْن)، فيقول: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (الإسراء: 22). كما قد عُدَّ أيضاً في الأخبار التي تحصي كبائر الذنوب سوءُ المعاملة مع الوالدَيْن بعد الشرك بالله مباشرةً([20]). إذن فالدين الإسلامي الحنيف يأمر بإطاعة الأب والأمّ، باستثناء الموارد التي يأمران فيها بترك إحدى الواجبات، أو فعل إحدى المحرَّمات. وقد أثبتَتْ التجربة أنّ الذين يؤذون آباءهم وأمّهاتهم لا تكون حياتُهم سعيدةً وناجحةً، وفي النهاية لا يفلحون([21]). وبناءً عليه «يجب على الإنسان أن يتعامل ويتحاور مع أبيه وأمّه بنحوٍ يشعر معه الأب والأمّ بتواضع ابنهما وخضوعه، وأن يشعرا بأنّه ذليلٌ في قبالهما، وأنه رحيمٌ ومحبٌّ لهما»([22]).
ومن بين التحدِّيات المهمّة في موضوع أسلوب الحياة ما يرتبط بالوظائف والمسؤوليات الجنسيّة؛ حيث إنّ الدالاي لاما يمتلك رؤيةً خاصّة حول العلاقات الجنسيّة، مبنيّةً على التعاليم البوذية؛ فهو يعتبر أنّ ممارسة العلاقة الجنسيّة بشكلٍ صِرْف، وبدون الأخذ بالنظر مفهوم التعالي الروحيّ، أمرٌ فاقدٌ للقيمة. لهذا فهو يعتقد أنّه إذا كان الإنسان يبحث عن السعادة في حياته، والصعود في مدارج الكمال، فالمشاركة في الأنشطة الجنسيّة سوف تعينه على السموّ والتعالي.
ويمكن أن يُستفاد من العلاقة الجنسيّة عند البوذيّين في السَّيْر المعنويّ؛ لأنّ الفرد إذا كان مشتغلاً في الطبابة [الرهبانيّة]، وكان ذا شفقةٍ كبيرة وحكمةٍ، فإنّ هذه العلاقة سوف توجب له تكريس الوَعْي والخِبْرة. الهَدَف من هذه المسألة [المثال] أخذ الأمر إلى أبعاد أعمق في الذهن. فالمراد هو إثبات قدرة الذات على إعطاء المعنى للأشياء. لكنْ في غير هذه الصورة لا توجد علاقةٌ أبداً بين صرف المقاربة والتربية المعنوية، أما مع هذه النظرة فإنّ الشخص الذي يحوز على مستوىً عالٍ من العقل والروح النَّشِطة لن تنقِّص عملية اتّصال العضوين الجنسيّين، أو بالاصطلاح: المقاربة، من مقامه ومَلَكاته([23]).
يعتبر الله عزَّ وجلَّ ظاهرة الحبّ والمودّة بين الزوجين من آياته وعلاماته: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).
في هذه الآية بيانٌ لثلاث خصائص وعلامات مهمّة في أسلوب الحياة المليئة بالحبّ، وفي علاقات الأسرة ببعضها، والتي يمكن أن نستخلصها من رؤى العلاّمة الطباطبائي في تفسيره:
1ـ أصل السكينة ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾: يتّصف هذا الأصل بكونه أوّل عاملٍ يصنع الانسجام والترابط في الأسرة في حال حاكميّة التوحيد عليها. هذا الأصل يقرِّر الوظائف اللازمة على الزوج والزوجة، فيعتبر الاهتمام برفع الصعوبات والمثيرات السلبيّة، والابتعاد عن مواقع التشنُّج، أمراً ضروريّاً. فإذا لم يكن محيط الأسرة متمتِّعاً بالهدوء والسكينة فلن تتهيّأ الأرضيّة لسيطرة القِيَم الأخلاقيّة عليها. ولذلك يُعَدّ خلق حالة الهدوء والسكينة في الأُسْرة أمراً مهمّاً في سُمُوّها ورُقِيّها.
2ـ أصل المودّة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً﴾: هذا الأصل يصوِّر لنا طبيعة الحياة القائمة على التوحيد، فيصف علاقة الزوج بالزوجة، والعكس، بأنّها علاقةُ محبّةٍ ومودّةٍ. يكتب العلاّمة الطباطبائي حول معنى المودّة: «المودّة كأنّها الحبّ الظاهر أثرُه في مقام العمل، فنسبة المودة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثرُه في مقام العمل إلى الخشوع، الذي هو نوع تأثُّرٍ نفسانيّ عن العظمة والكبرياء»([24]).
3ـ أصل الرحمة المتقابلة ﴿رَحْمَةً﴾: «الرحمة نوعُ تأثُّرٍ نفسانيّ عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال، وحاجته إلى رفع نقيصته، يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان، ورفع نقصه»([25]).
ج ـ العلاقة بالطبيعة
ومن الخصوصيات المثيرة للانتباه في رؤى العلاّمة والدالاي لاما حول أسلوب الحياة اشتراك نظرهما في حفظ البيئة الطبيعيّة، ونقد التكنولوجيا المسبِّبة للتلوُّث، هذا من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى امتلاكهما لرسالةٍ أخلاقيّة في هذه الأمور، فيقرِّران أنّ هذا الكوكب يجب أن يكون مكاناً آمناً للعيش فيه، وليس فقط للبشر الحاليّين، بل حتّى للأجيال القادمة.
يعبِّر الدالاي لاما عن الكوكب الأرضيّ بأنّه بيت البشر، ويعتقد أنّه «إذا كنّا قلقين حول سعادتنا وأبنائنا وأصدقائنا والموجودات الأخرى التي تشترك معنا في بيتنا الكبير فيجب أن نتيقَّظ لهذه القضيّة»([26]).
ويحاول الدالاي لاما مقاربة مسألة الحفاظ على البيئة بأسلوبٍ أخلاقيّ؛ فيجعل وجود التهديد للحياة والسلام على الكرة الأرضية ـ الذي هو نتيجةٌ للنشاطات البشريّة ـ نتيجةً لعدم الالتزام بالقِيَم الأخلاقيّة.
يسوق العلاّمة الطباطبائي؛ لأجل هذه القضية، بضع رواياتٍ في مورد غرس الأشجار، والاهتمام بالطبيعة، والاستفادة منها؛ تأكيداً على أهمِّية الحفاظ على الطبيعة البيئيّة: «قال الرسول الأكرم|: المسلم مَنْ يغرس أو يزرع شجرةً، والطيور والمواشي تأكل منها، وذلك له جزاء وأجر الصدقة». المسلمون مكلَّفون باستغلال الموارد الطبيعية إلى أقصى حدٍّ، حتى أنّ أحد الأنبياء كان يقول: إذا حلَّتْ ساعة زوال العالَم، وانهارَتْ المنظومة الشمسيّة، وكانت بيدك فسيلةً (شجرة)، فإذا كانت لديك فرصةٌ لزرعها فازرَعْها! يعني لا يمنعك التفكير في زوال العالم عن هذا العمل الشريف([27]).
ثانياً: وجوه الافتراق بين الرؤيتين
1ـ المنهج التعدُّدي أم الواقعي؟
يرى الدالاي لاما أنّه ليس للاختلافات الموجودة بين الأديان أهمّيةٌ؛ باعتبار أنّ مفاهيم العطف والمودّة والرحمة وإرادة الخير عامّةٌ لجميع البشر والحيوانات. كما يعتبر أيضاً أنّ رسالة الأديان هي في تحويل نوع الرؤية الفكرية للإنسان، وإعادة تشكيل البشر إلى موجوداتٍ خيِّرة وحَسَنة التفكير([28])؛ حيث يرى أنّه بالرغم من كون الأديان ذات رؤىً ميتافيزيقية مختلفة، فالرسائل الأساسيّة في الأديان الكبرى واحدةٌ. وبناءً على ذلك سوف نصبح مطالَبين بالتعايش جَنْباً إلى جَنْب، وبترابطٍ تامٍّ فيما بيننا.
إنّه بهذا الفكر ينكر في حقيقة الأمر السِّمَة الواقعية (Realist) للدين، ويتماهى في هذه القضية مع شخصيّات مثل: جون لوك؛ لأنه كذلك يعتبر رسالة الأديان الكبرى في إيجاد التحوُّل والخروج عن الأنانيّة والغطرسة، ويرى أنّ تعاليم الأديان إنما هي مظاهر لهذا الهَدَف العظيم. إنّ هذا الاتجاه الفكري يُسمّى عند بعض الباحثين بالتعدُّدية العرفانية([29]).
وفي الاتّجاه المقابل يتَّسم العلاّمة الطباطبائي برؤيةٍ واقعيّة تامّة في مجال المباحث الفلسفية، والمسائل الدينية، والطبيعية، والاجتماعية، و… ويعتقد أنّ معرفة الدين يجب أن تُسْتَلْهَم من التعاليم الوحيانيّة. كما يرى أنّ النظرة الأداتيّة والثانويّة إلى الدين تنفيه، وتفقده هويته. كما يعتقد أنّه إذا أراد دينٌ ما أن يعتبر تعاليم سائر الأديان قائمةً على الحقّ أيضاً فإنّ هذا الدين نفسه في حقيقة الأمر يرى مضامين دينه ظاهريّةً، ولا محتوى داخلي له: «الذي يرى الإسلام أنّه دينٌ صحيح فيعتنقه، هل يحكم عقله بأنّ هذا الدين كاملٌ، ولا يحتاج إلى دينٍ آخر، أم يحكم عقله بأنّ دينَه ناقصٌ، ومحتاجٌ لغيره؟ فإنْ حكم عقله بالصورة الثانية فإنّه قد نقض نفسه؛ لأنّ العقل السليم يحكم أنّ الله لا يقوم بالعمل الناقص والهداية الناقصة؛ فإنّ هذا هو الذي يعتقد به العقل عن دين الله. ثمّ إنّ الذي يعتبر الدين ناقصاً فحكمه هو أن يصبح مصداقاً لقاعدة «إبطال مقدّمات النتيجة بالنتيجة ذاتها». إذن الذي يعتقد بدينٍ ما، ويعتبره كاملاً، يجب عليه أن يعمل بالعقل والوَحْي معاً في جميع الموضوعات والموارد العلميّة، حتّى في الصناعة والأمور الفنيّة الصِّرْفة»([30]).
ملاحظةٌ
من الطبيعيّ أنّ هاتين الرؤيتين في مجال أسلوب الحياة تؤدِّيان إلى نتائج مختلفة:
فالرغبة في اللقاء برموز الحكومة الصهيونيّة من جهةٍ، ورموز حركة حماس والجهاد الإسلاميّ من جهةٍ أخرى، والإضفاء على نفسه صفة الممثِّل للأديان المختلفة، وقبول الجوائز ونياشين الدول الغربية المتعدِّدة، كلّ هذا مظهرٌ لأسلوب حياةٍ مبنيّةٍ على الفكر التعدُّدي عند الدالاي لاما.
وفي المقابل، عدم الاستجابة لدعوة الأمريكيّين بتدريس الفلسفة في جامعاتهم، وعدم الاعتناء بأخذ شهادة الدكتوراه من جانب شاه إيران، مظهرٌ لأسلوبٍ مختلف عند العلاّمة الطباطبائي. هذا، مع أنّ الأسلوب الثاني ـ أي منهج العلاّمة ـ لا يعني إغلاق باب التبادل والتحاور في الأفكار والآراء، كما قد وقع فعلاً بين العلاّمة والبروفسور الفرنسي هنري كوربان في مباحثاتٍ ومذاكراتٍ كثيرة بينهما؛ فإنّ هذا الفعل التواصليّ صريحٌ عمليّاً في عدم التنافي بين المنهج الواقعيّ والحوار والتواصل مع الآخر المختلف.
2ـ أصالة العاطفة أم محوريّة العقلانية؟
يتقوَّم أسلوب الحياة السعيدة عند الدالاي لاما الرابع عشر بالمحبّة، والصدق، والإيثار، وحُسْن الصحبة لجميع الكائنات الحيّة؛ حيث إنّ روح كلمات الدالاي لاما في محاضراته وكتاباته تفيد ما ندَّعيه. فعلى ذلك سيقلّ مقدار المقاربات العلميّة العقليّة والمنطقيّة في فكر وأسلوب وسيرة حياة الدالاي لاما. ولهذا السبب فإّنه يقوم بالمراقبة وممارسة السلوك المعنويّ بلا أُسُسٍ معرفيّة لازمة، ويعتمد في ذلك بشكلٍ أكبر على العواطف واستثارة الأحاسيس.
أما العلاّمة الطباطبائي فإنّه يرى ـ ضمن تقريره لثلاثة طرق لإدراك الحقائق، هي: الوَحْي؛ والكَشْف؛ والعقل ـ أنّ طريق العقل أعمّ من الطريقين الآخرين في الحياة الدنيويّة للإنسان، وأهمّ منهما؛ لأنّ «الوَحْي لا يناله إلاّ أهل العصمة من الأنبياء المكرَّمين؛ والكَشْف لا يكرَّم به إلاّ الآحاد من أهل الإخلاص واليقين؛ والناس حتّى أهل الوَحْي والكَشْف في حاجةٍ مُبْرَمة إلى تعاطي الحجّة العقلية في جميع شؤون الحياة الدنيوية، ولا غنى لها عن ذلك»([31]).
إنّ أسلوب وحياة وفكر العلاّمة الطباطبائي يكشف عن نوع رؤيته، وسِنْخ فكره؛ فمن الناحية العلمية نرى أنّ قَلَمَه متقيِّدٌ بالأسس العقلية، ومعتمدٌ على أصول النظام العقلانيّ، وغير ممتزجٍ بأبحاث العلوم الأخرى. هذه الفرضية تؤيِّدها مطالعة كتابه الثمين (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)؛ حيث لا يظهر فيه أثرٌ للآيات والروايات والكشف والشهود، وإنما يعتمد على المبادئ والمباني النظريّة المشتركة العقلانيّة فقط، ولذلك فإنّه يدعو بإصرارٍ إلى أن يتَّخذ العقل ـ الذي هو المحور المشترك ـ دليلاً للوصول إلى الحقيقة عند إرادة اتّباع أيّ نِحْلةٍ؛ فإنّه يعبِّد الطريق إلى تلك الحقيقة.
هذه الرؤية للعلاّمة نجدها مقتبسةً من روح التعاليم الإسلامية، يقول: «ومع ذلك كلّه الإسلام دين التعقُّل، لا دين العاطفة، فلا يقدِّم حكم العاطفة على الأحكام المُصْلِحة لنظام المجتمع الإنسانيّ، ولا يعتبر منه إلاّ ما اعتبره العقل. ومرجع ذلك إلى اتّباع حكم العقل»([32]).
كما أنّ هذا الأسلوب في التعاطي مع الإشكاليّات عند العلاّمة الطباطبائي قد أثمر بشكلٍ كبير في إقامة سدٍّ منيع ضدّ تمدُّد الماركسية آنذاك، بفضل كتبه وآثاره الجليلة.
تأمُّلٌ ونقد
ليس للعاطفة ارتباطٌ كبير بالعقل والاستدلال، خلافاً لما هو الواقع في منهج الفلسفة الهنديّة؛ حيث يقول أحد الكُتّاب حولها: «لم تُبْنَ أصول ومباني وعقائد المدارس والمذاهب الهنديّة على أساس العقل والاستدلال، حتّى يتبعها الإنسان حال البحث عن البراهين والأدلّة، بل يجب فقط أن يؤمن ويعتقد بها قَلْباً؛ لأنّ الفكر الهنديّ لا يعتمد على العقل كثيراً، حتّى يُستَمَدّ منه في إثبات العقائد»([33]).
ويُحْتَمَل أنّ سبب هذه الحالة هو أنّ «الأبعاد المعرفية للدين في هذا العصر لم تُطْرَح بشكلٍ جِدِّي؛ نظراً إلى ظهور وتمدُّد الحركات وتلقِّيها باهتمامٍ بالغ. فالدين والمعنوية مؤثِّران على المشاعر والميول البشرية»([34]). هذا، مع أنّ المفروض أن يستند الإنسان في التمييز والتشخيص على موهبة العقل، الذي يمنحه المكانة المتميِّزة في الوجود، بالقياس إلى سائر الموجودات.
أمّا في الإسلام، وبالتَّبَع في فكر العلاّمة الطباطبائي، فمكانة التفكير والتأمُّل عظيمةٌ، بحيث تُعَدّان عبادةً، بل عبادة مفضّلة. يقول بعض الباحثين: إنّ اختلاف مكانة التفكير بالقياس إلى سائر العبادات هو في أنّ العبادات الأخرى لها جَنْبةٌ طريقيّة، أما التفكير والتعقُّل فهو ذو جَنْبةٍ موضوعيّة وهَدَفيّة.
3ـ المراقبة العلمانية أم المراقبة التوحيدية؟
يوصي الدالاي لاما بتكريس حالة المحبّة، والبُعْد عن الغلظة، وخَلْق المواقف الإيجابية والهادئة. كما يوصي أيضاً بالعمل بالمراقبات المتنوِّعة، من قبيل: المراقبة التدقيقية، والمراقبة النقديّة؛ فهذه المراقبات هي في الواقع جهودٌ فكرية إيجابية، ينبغي أن تؤدّى من الصباح إلى الليل، ثمّ يراجع المراقب في نهاية الليل الذي قد فعله وأمضاه خلال يومه. ويعتقد الدالاي لاما أنّه بهذه المراقبات سيمكن تحسين مستوى الحياة العامة، كما ينصح الأشخاص الذين لديهم حصيلةٌ علميّة متقدِّمة أن يربُّوا أنفسهم بتمرين (التانترا)؛ فهذا البرنامج سوف يعين الشخص في صنع حياةٍ يوميّة أكثر عنفواناً وامتلاءً بالقيمة([35]).
أمّا عند العلاّمة الطباطبائي فتحتلّ المراقبة مكانةً خاصّة، بحيث إنّه يوصي بها في جميع لحظات الحياة. فمن الناحية العلمية يمكن رؤية تصريحاته وتوصياته بها في كتبه ومؤلَّفاته؛ ومن الناحية العملية تشهد سيرته على التمسُّك والعمل بها. يقول في معنى المراقبة: «المراقبة تعني التوجُّه الباطني للإنسان إلى الله، وعدم الابتعاد عنه، في جميع الأحوال. المراقبة الكمالية تلك التي توصل الإنسان إلى المقصد القريب، بل إلى المقصد. المراقبة هذه هي أنّ الإنسان لا يغفل عن ذكر الله في أوقات الصَّحْو، من أوّل الصبح إلى وقت النوم، وأن تكون جميع أقواله وأعماله لله تعالى، ولتحصيل رضاه. وأن يعتقد أنه حاضرٌ في جميع الأماكن، كما أنّه ناظرٌ إلى جميع أفعاله، وأن يجد نفسه في محضره، كما جاء في الرواية: «اعبُدْ الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، هو مفتاح الأشياء في المراقبة. وإذا لم تكن هناك مراقبةٌ، ولم تُؤخَذ بصورةٍ صحيحة، فإنّ بقية الأعمال والقوانين في السَّيْر والسلوك ستكون بلا قيمةٍ وبلا أثرٍ».
ويمكن إدراك نظام العلاّمة في هذا الأمر من خلال رسالةٍ جوابيّة لشابٍّ عمره 22 عاماً، حيث طلب منه طريقاً عمليّاً لتهذيب النفس، فكتب إليه: «للموفّقية في الوصول إلى المقصد الذي كتبتموه في رسالتكم يجب أن تنهض همّتكم، وتهتمّوا بالتوبة. كما اشتغلوا بالمراقبة والمحاسبة بهذا النحو، أقصد بجدٍّ، حين تصحو كلّ يومٍ في الصباح من النوم: إني في أيّ عملٍ يقع سوف أراعي رضا الله فيه، حينها سوف تأخذ في منظورك رضا الله عند الشروع في أيّ عملٍ تريد فعله؛ بحيث إنه إذا لم يكن له نفعٌ أخروي فإنّك سوف لن تفعله. وفي وقت النوم، في أربع أو خمس دقائق، فكِّرْ في الأعمال التي فَعَلْتَها في اليوم، واسْبِرْهُنَّ في نظرك واحداً واحداً، فأيٌّ منها طابق فعلك رضا الله فيه فاشْكُرْه، وأيٌّ منها تخلّفْتَ فيه عن رضاه فاستغفِرْه. داوِمْ على هذا الأسلوب كلّ يومٍ، فبالرغم من أنّ هذه الطريقة في البداية صعبةٌ ومرّةُ المذاق على النفس، لكنّها مفتاح النجاة والخلاص. أيضاً كلّ ليلة قبل النوم إنْ استطَعْتَ اقرأ سُوَر المسبِّحات (الحديد، الحشر، الصفّ، الجمعة، التغابن)، وإذا لم تستطِعْ اقرأ فقط سورة الحشر، وبعد عشرين يوماً اكتُبْ إليَّ حالاتك. موفَّقٌ إنْ شاء الله»([36]).
يقول الأستاذ الشيخ حسن زاده الآملي: «قال لي العلاّمة الطباطبائي يوماً: سيدي العزيز، كلّ يومٍ تكون مراقبتي أقوى تكون مشاهداتي في الليل أعذب، كلّ يومٍ يزداد توجُّهي تكون مكاشفاتي في الليل أصفى»([37]).
تأمُّلاتٌ
باعتبار أنّ أُسُس فكر الدالاي لاما تقوم على عدم الاعتقاد بالله تعالى فمراقباته سوف تكون خاليةً من المبنى والمقصد الماورائي، وتصبح الاستفادة منها فقط في مجال التفكير الإيجابيّ، وتحسين مستوى الحياة في حدود الظواهر.
بينما يقوم أساس مراقبة العلاّمة على التوبة، والتوجُّه الباطني، وعدم الغفلة عن الساحة الربانيّة لله تعالى، كما يرافق هذا التوجُّه السَّيْر إلى التكامل والتعالي المعنوي، والصعود في مدارج الكمال. هذا المفهوم للمراقبة يتجلّى في سيرة العلاّمة العمليّة، حيث لم يقع أبداً مصداقاً للآية الشريفة: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾. إنّ هذا السَّيْر التكاملي في الاتجاه التوحيدي، والسكينة الأبديّة في عالم الآخرة، شيءٌ لا يُشاهَد في فكر الدالاي لاما ذي الرؤية العلمانية. ولقد التفت أحدُ الطلاّب البارزين للعلاّمة إلى هذه النقطة حول تفاوت الأسلوب الأخلاقيّ له عن الآخرين، يقول: «كانت أخلاقيّاته تدفّقاً باطنيّاً، وبصيرةً للضمير، ووصولاً إلى حقائق العوالم الملكوتيّة. أما المسلك الأخلاقيّ للآخرين فهو ناشئٌ عن المراقبات البَدَنيّة، وتصحيح الظاهر»([38]). وهذا الكلام يمكن تطبيقه على الفَرْق بين مراقبة العلاّمة ومراقبة الدالاي لاما.
4ـ الترحُّم أم التعقُّل؟
إنّ أَوْعى وأعقل موجودٍ بين الموجودات على الكرة الأرضية هو الإنسان. يقول الدالاي لاما: «بتصوُّري أبناء البشر أرقى الموجودات الواعية في هذا الكوكب». ومع هذا يؤمن الدالاي لاما بضرورة المساواة بين جميع الموجودات الحيّة، متحدِّثاً عن رأيه بقوله: «أساس تعاليم دين بوذا قائمٌ على المساواة بين جميع الموجودات الحيّة، وتكافؤ البشر، حتّى إذا لم تكن بوذيّاً فاستيعاب وفَهْم هذا الأمر لازمٌ وضروريّ لك كاملاً»([39]). وفي نظره: «كلّ نوعٍ من الإخلال والإضرار بالحياة ممنوعٌ في جميع الأديان؛ فيجب على جميع البشر أن يجتنبوا الإضرار وإبادة أيّ شيءٍ، من الصغير إلى الكبير، ومن البشر إلى أصغر حشرةٍ، وفي جميع الأشياء»([40]).
أمّا في فكر العلاّمة الطباطبائي فعالَم الوجود متّصلٌ بوجود الإنسان، كما هي الزهرة المتموضعة في وسط وعاء عالم الخلق([41])؛ فقد دلَّتْ جميع الآيات التي نزلت بتعبير: ﴿سَخَّرَ لَكُمْ﴾ على هذه الحقيقة. فجميع المخلوقات مخلوقةٌ للإنسان المتسامي بوجوده وفكره. وعليه فإن حقوق الحيوانات تكون محترمةً إلى حدٍّ ما، وإهمال هذه الحقوق يوجب عقوباتٍ دنيوية وأخروية، لكنْ مع وجود التعارض بين منافع البشر والحيوانات فقَطْعاً يلزم تقديم مصالح البشر على الحيوانات. مع التأكيد على أنّ هذا الكلام لا يعني جواز انتهاك البشر لنظام الطبيعة، والتسبُّب بإخلال دَوْرة الحياة الطبيعية.
وفي هذا الإطار يشير العلاّمة الطباطبائي، في ردِّه على شبهة عدم التلاؤم بين الرحمة الإلهية وتشريع حكم تذكية وذبح الحيوانات، إلى نكتةٍ مفادها: إنّ هذه الشبهة خلطَتْ بين الرحمة ورقّة القلب؛ فـ «أما حديث الرحمة الإلهية، وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متّصفٍ بالرحمة بمعنى رقّة القلب أو التأثُّر الشعوريّ الخاصّ الباعث للراحم على التلطُّف بالمرحوم؛ فإنّ ذلك صفةٌ جسمانيّة مادّية، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، بل معناها إفاضتُه تعالى الخَيْر على مستحقّه بمقدار ما يستحقّه. ولذلك رُبَما كان ما نعدّه عذاباً رحمةً منه تعالى، وبالعكس؛ فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحةً من مصالح التدبير في التشريع اتّباعاً لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذيةً للواقعيات. فتبين من جميع ما مرَّ أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم، وفي القيود التي قيَّد بها الإباحة، والشرائط التي اشترطها جميعاً، أمرَ الفطرة: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾»([42]).
قراءةٌ نقديّة
تصل النظرة الشفيقة والرحيمة للدالاي لاما إلى الحيوانات إلى حدّ أنه يحثّ البشر على أن يعطوا الحرّية التامّة للحيوانات: «في تصوُّري إذا لم يكن أيُّ إنسانٍ يعيش على هذا الكوكب فإنّه من الآن فصاعداً سيصبح الكوكب مكاناً أكثر اطمئناناً. حَتْماً من المحتمل أنه سيتمتَّع ملايين من الأسماك والدجاجات وبقيّة الأنواع الأخرى بنوعٍ من الحرّية الواقعيّة».
والملاحظة الجديرة بالتأمُّل، والتساؤل المثير، في هذه التصريحات: هل قيمة واعتبار الدجاج والسمك التي يصيدها الإنسان أعظم من الأطفال الفلسطينيّين المظلومين؟! كيف يحترق قلب الدالاي لاما على الحيوانات إلى حدّ أن يكون مستعدّاً أن لا يعيش أيُّ إنسانٍ في هذا الكوكب يؤيِّد ظلم الحيوانات، ولكنه لا ينتهي أبداً عن التبسُّم في وجوه مجرمي الحكومة الغاصبة الصهيونيّة، التي تقوم بارتكاب المجازر بحقّ الأطفال الفلسطينيين، كما يسرع إليهم في لقاءاتٍ أخويّة ووديّة، ويقبل عَوْن ومساعدة هؤلاء الظالمين والغاصبين؟! كيف يمكن توجيه التناقض الحاصل بين كلامه وسلوكه؟ أيُّ الحياتين أجدر بالإحساس بالرحمة: الحياة الحيوانية أم الحياة الإنسانية؟!
إذن الرحمانيّة لا يمكن أن تكون جاريةً على الإطلاق، وراجحةً وخيراً على طول الخطّ؛ لأنّه «لو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالماً على ظلمه، أو نجازي مجرماً على جُرْمه، ولا أن نقابل عدواناً بعدوانٍ، وفيه هلاك الأرض ومَنْ عليها»([43]). وعليه «فدفع الظالم بما يستحقّه إحسانٌ على الإنسانية»([44]).
ومن هنا فإن هذه الرؤية تقع بالدقّة في الاتّجاه المقابل لرؤية الدالاي لاما، المبنيّة على حسّ الترحُّم والشفقة والتجاوز حتّى عن الظلم والظالمين، أمثال: صدّام حسين.
5ـ التفريط أم الوَسَطيّة والاعتدال؟
تقترب الديانة البوذيّة من سائر الأديان، خصوصاً الأديان الإبراهيميّة، في التأكيد على الوَسَطية في الحياة، واتّخاذها كأسلوبٍ معيشيّ للبشر([45]). كما تشترك كثيرٌ من الأديان في ذمّ الزُّهْد السلبيّ، أو على الأقلّ هي لا تحثّ عليه، وتربطه بمسألة الخلاص، كما تمنع بقريب الاتّفاق الغَرَق في الشهوات، إلاّ تلك الأديان ذات الميول الانحرافيّة، كعَبَدة الشيطان؛ أو مذهب التانترا الهندوسي.
في الحديث عن جانب الأسلوب الغذائيّ يلتزم الدالاي لاما بمدّةٍ ما على الأقل للاجتناب عن أكل اللحوم، واستبدالها بالخضار.
وهذا الأسلوب ـ بالطبع ـ يقع على فاصلةٍ من ادّعائه الاعتدال، ذلك الاعتدال الذي أكَّدَتْ عليه التعاليم الأخلاقية الإسلامية، والتي يجب الالتزام باتّباعها في الحياة الدينيّة، واتّخاذها كأسلوبٍ ونَمَطٍ في العيش. فهو «أصلٌ» راسخ يمتدّ شعاعه حتّى إلى العبادات، حيث أوصَتْ آياتٌ ورواياتٌ كثيرة برعاية الوَسَطية والاعتدال، حتّى صار هذا الأصل القرآني منهجاً وسلوكاً في سُنّة وسيرة الأنبياء وقادة الدين.
ولقد اعتنى العلاّمة الطباطبائي بدراسة وتحليل هذا الإرث في تفسيره القيِّم (الميزان). إنّ أسلوب الحياة المعتدل يحفظ الإنسان عن الإفراط والتفريط؛ فميزة الاعتدال أنّه يصون الإنسان الموحِّد عن الاعوجاج والانحراف نحو الإفراط أو التفريط، ولذلك فهذا الاتّجاه المعتدل يصل في حياة العلاّمة إلى أَوْجِه، حيث يمكن الإحساس بسلوكه المعتدل كاملاً، وبشكلٍ جليّ. هذا ـ بالطبع ـ بقطع النظر عن شَوْقه إلى المطالعة وحبّ تحصيل العلم، الذي لم يتوقَّف في عمره أبداً.
بيانٌ وتوضيح
في الأخلاق الفلسفية هناك أصلٌ أساسيّ تُوزَن وتُقاس به جميع القواعد الأخلاقية؛ إنّه أصل الاعتدال. هذا الأصل إنْ لم نقُلْ بشموله لكلّ القواعد فهو ذو علاقةٍ بكثيرٍ من القِيَم الأخلاقية. وعلى أساس هذا الأصل يمكن أن يُشاهَد في أسلوب وسيرة الدالاي لاما منهجٌ تفريطيّ، من قبيل: تحريم اللحوم. يكتب العلاّمة الطباطبائي عن تحريم أكل اللحوم عند البوذيين: «وقد حرَّمَتْ سُنَّة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامّةً. وهذا تفريطٌ»([46]).
ومن نتائج هذا التفريط اعتراف الدالاي لاما بابتلائه ببعض المشاكل الصحّية الناتجة عن عدم أكل اللحم. هذا بالرغم من أنّ مسلك بوذا يُعَدّ معتدلاً ووَسَطيّاً مقابل المسالك الهنديّة المتطرِّفة، إلاّ أنّه يسير بالتدريج في طريق التفريط في بعض الأمور، كما هو الحال في اجتناب أكل اللحم.
6ـ السعادة السلبيّة أم السعادة الإيجابيّة؟
تفقد السعادة والسَّكِينة تلك المكانة الخاصّة في فكر بوذا، وكذلك هَدَفيّة أو عَبَثيّة معرفة عالم الوجود؛ بحيث إنّ هذا الفكر يهتمّ فقط بنجاة وخلاص الإنسان، ولا يأخذ بنظره مبدأ ومنتهى الحياة. هذا، بالرغم من اهتمامه الكبير بالعالم الداخلي للإنسان، الذي يستهدف الوصول إلى البَهْجة والخلاص من الآلام، وبعبارةٍ أخرى: السعادة العَبَثيّة والتائهة تتسنَّم صدر أهداف هذا الفكر: «في التصوُّف البوذي السعادة بمعنى فقدان الألم والحَسْرة والسكينة، بمعنى عدم الاضطراب والقلق، أي الذي نسمِّيه السعادة السلبيّة»([47])، «في التصوُّف البوذيّ تنصبّ الجهود الإصلاحيّة في رفع عوامل الألم والاضطراب والقلق والحَسْرة بأسلوبٍ واحد، وهو التصوُّرات الذهنيّة، وعند عدم القدرة على إدارة تلك الأحاسيس ـ التي يسمِّيها الدالاي لاما (النُّظُم الداخلي) ـ فإنّها سوف تعود مرّةً أخرى»([48]).
يضع الدالاي لاما مسألة السعادة كأحد الأهداف المهمّة بنظره. إنّ تحليل الكاتب هو أنّ هذا الهَدَف هو هَدَفٌ وسيط عنده؛ حيث يعتقد أنّه «باعتبار أنّ هدفنا الثابت في النهاية هو الوصول إلى السعادة والبهجة فإنّه يلزم أن نمتلك فكرةً عن كلّ الطرق التي نتمكَّن بها من الوصول إلى هَدَفنا»([49]). «هل بحقٍّ لا توجد عوامل إيجابيّة للسِّكِينة والسعادة؟ كم يمكن أن تُمْنَح السَّكِينة والسعادة بوجود الحامي ذي القدرة المطلقة والعشق اللامحدود؟ إنّه الإحساس المتّصل القريب بأصل الوجود، بالغنيّ الطاهر الجميل الرحيم، فأيُّ سرورٍ شديدٍ وسكينةٍ عميقة يعطيها للروح والنفس؟ الله تلك العلّة الموجبة للسعادة والسَّكِينة العميقة الأبدية واللامحدودة، التي بالإيمان والعمل له يمكن لكلّ مَنْ يكون أقرب إليه أن يشعر بحضوره. وجودُه أقرب من جميع الأعدام، وحقيقته أعلى من جميع الأكاذيب والأسراب»([50]).
ومن الناحية الأخرى السعادة والشقاوة في رؤية العلاّمة الطباطبائي متّصلتان بشكل تفكير الإنسان فيهما؛ فهما يدوران مدار ما يراه سعادةً أو شقاوةً([51]). كما أنّ «للروح سعادةً وشقاوة، وللجسم سعادةً وشقاوة. والإنسان المادّي الدنيوي، الذي لم يتخلَّق بأخلاق الله تعالى، ولم يتأدَّب بأدبه، يرى السعادة المادّية هي السعادة، ولا يعبأ بسعادة الروح، وهي السعادة المعنوية»([52]).
منشأ الاختلاف
إنّ منشأ اختلاف الرؤية في مفهوم السعادة يجب أن يكون فَهْمه وتقديره على ضوء اختلاف مباني وأهداف هذين الاتجاهين؛ فهَدَف الإسلام في حياة الإنسان هو الوصول إلى لقاء الله، والاتصال بالوجود السرمديّ المطلق؛ في حين أنّ نظرة البوذية ليست بهذا النحو في معتقداتها، كمفهوم المبدأ وأصل الوجود؛ إذ لا أهمّية كبرى في الفكر البوذيّ لقضيّة بداية العالَم، ومسيرة حركته. فكما نعلم إنّ عقيدتهم في الدنيا أنها تبدأ بالمتاعب، كما يجب تشخيص أسباب تلك المتاعب؛ ليتمّ اجتنابها، في حين أنّ أصل عالَم الوجود في الفكر الإسلامي هو الموجود المحيط والعالَم المطلق، وتمتزج مظاهر العالَم ببعضها البعض على أساس الحِكْمة. إذن من البديهي أنّه بهذه الاختلافات يمكن الوقوف بسهولةٍ على سبب اختيار الدالاي لاما السعادة السلبيّة والعَبَثيّة، وبعبارةٍ أخرى: تقف حيرة الدالاي لاما في طرفٍ والابتهاج والسرور العميق لأصحاب القلوب في طرفٍ آخر. وعليه فسعادة الدالاي لاما، التي حقيقتها الاجتناب عن المتاعب، إنما هي نوعُ سعادةٍ سلبيّة. ولذا في جواب سؤالٍ للدالاي لاما عمّا هو الشيء الذي يسعده أكثر من كلّ الأشياء أجاب: النوم الجيّد؛ والأكل الطيّب([53]). أما عند العلاّمة فالسعادة تستند إلى الأُسُس الاعتقاديّة الإسلاميّة، التي يمكن اعتبارها على هذا الأساس نوعَ سعادةٍ إيجابيّة؛ حيث إنّ القلب يمكن أن يغلي ويتوهَّج من الداخل، حتّى في أَوْج الآلام المادّية، ويجمع إحساس الرضا بالغيب.
7ـ معرفة النفس سيكولوجيّاً أم أخلاقيّاً؟
ممّا يُعَدّ بالتأكيد إحدى أساسيّات مدَّعيات الأديان والمدارس العرفانية العالمية، ومن أَنْفَس رسائلهما للإنسان، أنّ السعادة والأمان لا تنفعان في صناعة الشكل الخارجي للإنسان، بدون استبصار العالَم الداخلي للنفس، واستقرارها، والسيطرة عليها([54]).
لذلك من أهمّ النطاقات التي وقعَتْ مورداً للاهتمام في فكر الدالاي لاما مسألة معرفة النفس. ولقد استنَدْنا في التدليل على اهتمامه في هذا الجانب إلى مواقف وآراء له تصبّ في هذا الإطار؛ حيث إنه، مضافاً إلى توصياته المختلفة في المسائل الأخلاقيّة، وخصوصاً في مسألة معرفة النفس، والتزوُّد من الروحيّات، والوقوف على خصوصيّات النفس، مضافاً إلى ذلك يقترح اختباراً لقياس معرفة النفس. وبدراسة هذا الاختبار العاديّ يمكن أن نتوصَّل إلى نتيجةٍ مفادها: إنّ الدالاي لاما يمتلك رؤيةً في مجال معرفة النفس.
وفي الجهة المقابلة يعتقد العلاّمة الطباطبائي أنّ طريق السَّيْر والسلوك ومعرفة الله يكون من خلال الاهتمام بمعرفة النفس؛ حيث إنّ معرفتها ـ كما يعتقد ـ أكمل وأفضل طريق لمعرفة الله عزَّ وجلَّ([55])؛ فلا شيء من الطرق غير طريق معرفة النفس يوجب معرفةً بالحقيقة([56]). وأما كيفية سلوك هذا الطريق فهو ـ مع مراعاة الأحكام الشرعيّة؛ لأجل تحقيق الاتّصال بالله ـ يمكن أن «يبتدئ [السالك] بالأسباب الواردة شَرْعاً للانقطاع، من التوبة، والإنابة، والمحاسبة، والمراقبة، والصمت، والجوع، والخَلْوة، والسَّهَر، ويجاهد بالأعمال والعبادات، ويؤيِّد ذلك بالفكر والاعتبار، حتّى يورث ذلك انقطاعاً منها إلى النفس، وتوجُّهاً إلى الحقّ سبحانه، ويطلع من الغيب طالع، ويتعقَّبه شيءٌ من النَّفَحات الإلهية والجَذَبات الربّانية، ويوجب حبّاً وإشرافاً، وذلك هو الذِّكْر، ثمّ لا يزال بارقٌ يلمع، وجَذْبةٌ تطلع، وشوقٌ يدفع، حتّى يتمكَّن سلطان الحبّ في القلب، ويستولي الذِّكْر على النفس، فيجمع الله الشَّمْل، ويختم الأمر، وإنّ إلى ربّك المنتهى»([57]).
إشكالاتٌ عميقة
يُعَدّ اهتمام كلا المفكِّرَيْن بهذا الموضوع من وجوه الاشتراك بينهما. كما أنّ اختلاف المباني والأهداف والمقاربات في معالجة هذا الموضوع يُعَدّ بدَوْره أيضاً من وجوه الافتراق والتمايز.
فمع وجود بعض الملاحظات الإيجابيّة في رؤى الدالاي لاما، إلاّ أنّه يجب القول: إنّ نفس الإبهامات والإشكالات التي وُجِّهَتْ إلى علم النفس يمكن أن تُطْرَح أيضاً في وجه رؤية الدالاي لاما؛ فقد كان عمق نظر الدالاي لاما إلى هذا الموضوع موجَّهاً إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية والظاهرية للإنسان، ومعالجة المستوى السطحيّ للشخصيّة الإنسانيّة.
في حين أنّ العلاّمة الطباطبائي، مضافاً إلى الإشارة في مناسباتٍ مختلفة إلى هذا الموضوع في آثاره وتفسيره القَيِّم (الميزان)، فقد ترك لنا «رسالة الولاية»، التي تُعَدّ بحَسَب تعبير بعض العلماء تقريراً لمنهجه وسلوكه؛ فإنّه في الواقع يعرض أسلوب الحياة العرفانية للسالك إلى الله. وبالنظر إلى عباراته الموجزة في هذه الرسالة يمكن تلمُّس عُمْق الفاصلة بين العلاّمة وبين الآخرين، وخصوصاً الدالاي لاما؛ فكلماتُه دالّةٌ على أنه في حياته كان ذائباً في حضرة الحقّ، وناهلاً من أنواره عزَّ وجلَّ.
8ـ محوريّة الله أم محوريّة الإنسان؟
من وجوه الاشتراك في النظرة إلى أسلوب الحياة بين الدالاي لاما والعلاّمة الطباطبائي الاهتمام التامّ بمسألة النيّة الخالصة والصادقة. فالموفَّقية في الحياة رهينةٌ بالنيّة الخالصة، والسلوك الشفّاف، والبُعْد عن الرياء. ولذلك فكلا المفكِّرَيْن يتحدّثان عن هذا الموضوع باهتمامٍ وافر.
يعتبر الدالاي لاما معيار الموفّقية في الحياة في أن نعاشر الآخرين بالصدق والصداقة، وأن لا نعوِّد أذهاننا وأرواحنا على النيّات البغيضة؛ لكي نشهد حياةً أكثر سَكِينةً، وأكثر سعادةً. هذا المطلب ـ باعتقاد الدالاي لاما ـ أهمّ محرِّكٍ في الحياة، بحيث لا شيء يوجب القلق إذا كان متوفِّراً. كما أنّ الضعف إنْ كان فهو نتيجةُ فقدان النيّة الصالحة. ولذلك يصف هذا الأمر بأنه أهمّ حالةٍ في أسلوب الحياة المتّسمة بالحبّ للآخرين، والمتّصفة بالمواساة للغير.
أما من وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي فالاهتمامُ بالحُسْن الفاعلي والنيّة الصادقة والخالصة، بصفتها أعمالاً جوانحيّة، يحوز ـ برأيه ـ على موقعٍ واضح في المسير إلى الإرادة الإلهيّة والساحة الربوبيّة، كما يصبغ الحياة ألواناً إلهيّة. إنّ هذه الصفات الأخلاقيّة يمكن رؤيتها متجسِّدةً عمليّاً في حياة العلاّمة؛ حيث إنه قد أخلص لله بشكلٍ كامل فيها، فعمله كان عين كلامه.
تحليلٌ وتقدير
إنّ البحث والتدقيق في مسألة النيّة وارتباطها بأسلوب الحياة أمرٌ هامّ، لكنْ ما يجب قوله: إنّ مركز التمايز في تحديد ماهيّة النيّة ومداها يعود إلى المباني، كنوع الأهداف، ومتعلَّق النيّة، ومدى النَّزْعة الصادقة.
يرى الكاتب أنّ نظرة العلاّمة الطباطبائي في مسألة النيّة مبنيّةٌ على طلب رضا الله تعالى، وإقامة الحياة على ضَوْء الأخلاق الإلهيّة؛ فالإخلاص في النيّة والدين يقوم على الاتصال بالله الغنيّ.
هذه النظرة عند العلاّمة لم تكن مجرّد أمرٍ نظريّ، بل يمكن أن نرى بوضوحٍ أنّ الروحَ الحاكمة على أسلوبه وسيرته دائرةٌ مدار التوحيد؛ فانظُرْ في المجلَّد الأول من (الميزان) مسلكه المختار من بين المسالك الأخلاقيّة المتعدِّدة([58]).
ويمكن تقدير رؤيتَيْ العلاّمة الطباطبائي والدالاي لاما حول هذا الموضوع بأنّ الأخلاق عندهما وظيفيّةٌ مع الاختلاف في المتعلَّق؛ فوظيفيّة الدالاي لاما منصبّةٌ على الآخرين وحبّ الناس؛ بينما وظيفيّة العلاّمة منصبّةٌ على أداء المسؤوليات الملقاة من المقام الماورائي؛ لأجل تحصيل رضا الخالق عزَّ وجلَّ، ولقد كانت حياة العلاّمة تجلّياً عينيّاً لهذه الأخلاق.
استنتاجٌ وخلاصة
أسلوب الحياة من المباحث التخصُّصية، السَّهْلة الممتنعة؛ فمن جهةٍ يدخل أسلوب الحياة في جميع مجالات الحياة العملية ـ ولهذا يمكن للجميع الإحساس به وتلمُّسه ـ؛ ومن جهةٍ أخرى يتّصل هذا الموضوع بمعضلات حياة الناس بنحوٍ لا يمكن حلُّها بسهولةٍ. لذلك مَنْ يدخل في هذا المجال من أجل فَهْم وحلّ كامل مسائله لا ينبغي أن يستنتج أنه قد أتمّ كلّ شيءٍ؛ فإنّ كلّ بحثٍ وإنْ استفرغ الباحث جُهْده في معالجة مسائله، والتحقيق في قضاياه، يبقى موضوعه محتاجاً إلى جهودٍ أخرى تحلِّل قضاياه وتدرسها، ولا سيَّما الجديدة منها.
هذا الموضوع إحدى النوافذ الجديدة ذات المقاربات الجديدة التي عالَجْناها في هذه الأوراق؛ فقد أشار البحث بمجموعه إلى أنّ كلتا الشخصيّتين تمتلكان أسلوباً خاصّاً؛ فمصدر فِكْر وأسلوب حياة العلاّمة الطباطبائي مأخوذٌ من التعاليم الإسلامية الصافية؛ في حين أنّ أسلوب الحياة عند الدالاي لاما يعود في جذوره إلى الدين البوذي. فزبدة رؤية العلاّمة هي في أنّ الحياة المتماسكة يجب أن تؤسَّس على الاعتقاد بالله وعالَم الآخرة وتعاليم الوَحْي، كما يجب في الأساس أن يُبْحَث عن أسلوب الحياة الحقيقية في الحياة الخالدة. إنّ أسلوب الحياة الإسلامية عند العلاّمة محورُه التوحيد؛ أما الدالاي لاما فهو منعزلٌ ومعزولٌ عن هذه المفاهيم الغيبية.
وما تكلَّمنا عنه آنفاً يمكن تلخيصه في بضع نقاط:
أوّلاً: يتحدَّد إطار الأخلاق الوظيفية عند العلاّمة الطباطبائي في العلاقة مع الله والنَّفْس والآخرين، وترتبط إنسانيّة الإنسان (النفس) بمدى تنفيذ وظائفه الملقاة عليه؛ بينما تقتصر الأخلاق الوظيفية عند قائد البوذيين التبت على النفس والآخرين والطبيعة.
ثانياً: تعتبر معرفة النفس من المحاور المهمّة والمشتركة عند كلَيْهما؛ فهي عند العلاّمة الطباطبائي ممرّ للورود إلى العالم الربوبيّ؛ أما عند الدالاي لاما فهي موجبةٌ لتحسين العلاقات مع سائر الناس.
ثالثاً: من المشهود في منهج القائد المعنوي للتبت البوذيّين أمر الاحترام الكبير لكبار السنّ، وبالخصوص الأمّ؛ وأيضاً يُعَدّ هذا الاحترام بدَوْره ـ عند العلاّمة ـ عاملاً لحصول التوفيقات الإلهيّة في الدنيا. كما يُعَدّ أيضاً من وجوه الاشتراك بينهما تأكيد وتقوية السلام والصداقة والمحبّة.
رابعاً: يقع التفكير الإيجابيّ للدالاي لاما مقابلاً للنظرية الواقعيّة للعلاّمة؛ فعند الدالاي لاما يختلف أسلوب حياة الخواصّ عن حياة العوامّ؛ حيث إنّ القادة المعنويين للبوذيّين ليس لهم حقّ الزواج، فيلزم أن يمضوا حياتهم عازبين؛ بينما لا يمكن أن يُرى في فكر العلاّمة وجهٌ لهذا التفكيك، فهو يتضادّ مع الواقعيّة والطبيعة.
خامساً: يمكن اعتبار أسلوب الحياة المتَّسمة بالحبّ في علاقة الأزواج وعدم خيانة الزوجة من وجوه الاشتراك بين الرؤيتين ـ بالطبع مع تصريح الدالاي لاما بعدم جواز المثليّة الجنسيّة في الديانة البوذيّة ـ. لكنْ اليوم؛ بسبب رواج هذه السلوكيّات في عصر الحداثة؛ ولكونها لا تؤدّي للإضرار بالآخرين ـ حَسْب رأيه ـ، فإنه يعتقد بلزوم تقبُّل هذه الظاهرة، وأن ينظر المجتمع إلى المرأة والرجل المثليّين بنظرةٍ علمانيّة، فيحترمهما ويتقبَّلهما([59])!
سادساً وأخيراً: الاهتمام والتوجُّه إلى قضايا المعوزين والمحتاجين مورد توصية كلا المفكِّرَيْن.
وفي المجموع فإنّ رؤية الدالاي لاما لأسلوب الحياة رؤيةٌ دنيويّة عاجلة؛ بينما يدور الأسلوب المقتَرَح للعلاّمة على محوريّة النظرة الأخرويّة والآجلة: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 64).
الاقتراحات والتوصيات
1ـ أن يتمّ البحث عن أساليب الحياة في رؤى علماء الأديان المختلفة، وليس فقط تلك الأديان المترقَّبة التي تتناسب مع أجواء بعض المجتمعات الإسلاميّة، بل من الضروري أن تتمّ معالجة أساليب الحياة حتّى لتلك الأديان المرفوضة جدّاً وغير المسلَّم بها؛ لأنّ ذلك من جهةٍ يحفظ الهويّة الوطنيّة والدينيّة، ويساعد على ديمومة النظام الإسلاميّ؛ بفضل معرفتنا بالآراء والأفكار في عالمنا المعاصر؛ ومن جهةٍ أخرى تعزِّز معرفتُنا بأساليب الحياة المعاصرة في الثقافات المختلفة حالةَ الهُدَى والبصيرة والسعادة المرجوّة لبني البشر. إننا في ساحةٍ مُثْقَلَة بالتنافس بين الأديان المعاصرة، فلا نستطيع نحن المسلمون أن نبعد أنفسنا عن هذه التحدِّيات الكبيرة، وأن ننزوي جانباً، أو نهتف بالشعارات الرّنانة، ولا نُقْدِم على مبادراتٍ علمية وعمليّة ذات تأثيرٍ معتدٍّ به، ونعتمد فقط على عقائدنا الحقّة. إنّ دراسة ومقارنة نماذج أساليب الحياة المستَنْتَجة من العقائد والمدارس الفكريّة أمرٌ له دواعيه وضروراته، فيجب حينئذٍ أن تتمّ المبادرة بإعداد برامج دقيقةٍ، قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، لتربية فِرَقٍ علميّة وازنة تتولّى هذه المهمّة؛ لكي نواجه العالَم بأسلوب حياةٍ إسلاميّة أصيلةٍ ومحكمة، وبعيدةٍ عن نقاط الضَّعْف والوَهْن، وترقى على بقية الرؤى في هذا المجال.
اقتراحنا هو أن يؤسَّس قسمٌ لـ «أسلوب الحياة» كتخصُّصٍ يجمع أكبر عددٍ من الأساتذة والمتخصِّصين ذوي العلاقة؛ ليُعِدّ الأرضية المساعدة لتحقيق أهداف الدين والنظام التعليمي في هذا المجال.
2ـ إنّ العالَم المعاصر، الذي تتغلَّب عليه الثقافة الغربية، والمؤسَّس على الرؤية البراغماتية، يحاول أن يستفيد من التقدُّم العلمي في إظهار اقتداره ولياقته لقيادة العالم. وفي إطاره ظهرَتْ بعض النظريات المعرفيّة الجديدة، تحاول أن تهيِّئ للتحوُّل عن النظريات التقليديّة؛ كنظرية التطابق والتناسق، التي تقدِّم نفسها كرؤيةٍ تستطيع أن توفِّق بين سائر الرؤى المختلفة، وتجمع بينها، لا كرؤية تؤسِّس لمعرفة الحقّ.
في هذا الاتّجاه صار شكل أسلوب الحياة في هذا العصر واقعاً تحت تأثير الغرب المؤسَّس على هذا النَّمَط الفكريّ المتقدِّم، منافساً ومتحدِّياً للرؤى التقليدية في أسلوب الحياة. هذا، مضافاً إلى النموّ السريع للتكنولوجيا، الذي أحدث بعض الإشكاليات في تغيير المزاج العامّ والميول البشرية وطريقة التعاطي مع الأمور، بشكلٍ أدّى إلى أنّه حتّى في مجال العرفان صار بعضُهم يعود إلى مدارس تقدِّم النتائج والثمار الملموسة بشكلٍ أسرع، ففي مثل هذه الحال القَلِقَة، مع الأخذ بالاعتبار للأهداف طويلة المدى، يجب أن يوضع بيد المستفيدين المحتويات المطلوبة في قوالب جذّابةٍ وملموسة بشكلٍ أكبر، بنحوٍ يتناسب مع الثقافة المعاصرة. فبناءً على ذلك يجب أن يأخذ العلماء على محمل الجِدّ قضيّة إصلاح الطرق في بيان معرفة الدين وأسلوب الحياة.
3ـ تتطلَّب الأنشطة الثقافية في الحرب الناعمة أدواتٍ تتناسب معها. فاليوم أمريكا وأوروبا في جامعاتها ومراكزها الأكاديميّة المعتبرة تعطي وحدتين دراسيّتين اختياريّتين تحت عنوان: «الأديان المعاصرة»؛ لذلك نقترح؛ لإحاطة الشباب فكريّاً، أن يُضاف في البرنامج الأكاديميّ لكُلِّيات المعارف الإسلامية في الجامعات وحدتان اختياريّتان بعنوان: «دراسة ونقد الحركات المعنويّة الجديدة»؛ و«دراساتٌ مقارنة في الأديان».
ومن جهةٍ أخرى فإنّ تدريس «أسلوب الحياة الإسلامية ـ الإيرانية» أمرٌ مؤثِّر في ترسيخ وإعلاء التعاليم الدينية المناسبة لفكر الشباب. هذا، فضلاً عن أنّ هذه الدروس سوف تحدث تنوُّعاً في البرامج التعليمية في دراسة المعارف الإسلامية، وسوف تكون أرضاً جذّابةً أكثر للشباب ذوي الميول والأمزجة المختلفة.
4ـ بالرغم من وجود اختلافٍ كبير جدّاً بين الدين البوذيّ والدين الإسلاميّ الحنيف في الأهداف، أي في معرفة المبدأ والغاية وسائر الأصول الأساسيّة المهمّة، لكنْ مع ذلك فإنّهما يتضمَّنان معاً مبادئ المسالمة والإصلاح والعقلانية، التي تأخذ موقعها في أصل برنامج كلا مؤسِّسي هذَيْن الدينين. وبناءً عليه فإنّ الاستفادة من هذا المجال المشترك ـ بدون الاستناد إلى نقاط الاختلاف ـ سيكون سبباً في وحدة الرؤية في كثيرٍ من الموضوعات. وفي هذا الاتجاه أيضاً ستمهِّد إقامة ندوةٍ للإسلام والبوذيّة، وتقارب أنظارهما في ناحية الرفاهيّة الاجتماعيّة للبشر، الفرصةَ المناسبة لتعايش أتباع الأديان الكبيرة.
5ـ أن تؤسَّس شبكةٌ تلفزيونية وطنيّة باسم: «أسلوب الحياة الإسلامية ـ الإيرانية»، تأخذ على عاتقها بيان أسلوب الحياة الإسلاميّة الهادفة، وأسلوب حياة الإيرانيّين، وتهتمّ بتشخيص العيوب الموجودة في أسلوب حياة الإيرانيّين؛ لأجل معالجتها، وتقريبها من أسلوب الحياة الإسلاميّة. وفي هذا السياق يلزم أن يُؤخَذ بالنظر دراسة وبيان أنواع العرفان الكاذب، والحركات المعنوية الجديدة بوصفها حالات مَرَضيّة.
هذه الشبكة المقتَرَحة تأتي في سياق الاستجابة لمطالبة قائد الثورة الإسلامية في علاج التحدِّيات الموجودة في أسلوب الحياة.
وبلا شَكٍّ إنّ ابتداء هذه الشبكة ليس بأقلّ من شبكاتٍ مثل: السوق، والرياضة، و… فلأجل تأمين هذه البرامج وتكاليف هذه الشبكة يمكن أن يُستَفَاد من طاقات الشبكات الموجودة؛ لأن أسلوبَ الحياة ذو علاقةٍ وشيجة بجميع فضاءات حياة الناس، فانتقال جزءٍ قليل من قدرات وإمكانات كلّ شبكةٍ واحدة منها سوف يهيّئ المجال لشقّ طريق هذه الشبكة المرجوّة.
6ـ أن يدخل مجلس الشورى الأعلى للثورة الثقافية بشكلٍ جادّ في ساحة أسلوب الحياة، وأن يضع أساتذة الجامعات والحوزات العلميّة حلولاً عمليّة لإشكاليات المجتمع في هذا المجال؛ فإنّ هذه العلوم الموجودة فيهما ذات ماهيّة مؤثِّرة في إمكان إحداث الحلول لمشاكل حياة الناس.
7ـ بنظر الكاتب إنّ مفهوم أسلوب الحياة في دولتنا يطوي مرحلته الطفوليّة، لكنّ بعض الآثار الموجودة في أسلوب حياتنا لم تدوَّن بطريقة المنهج الدينيّ، وإن استشهد في بعضها بالمتون الدينيّة، كالقرآن والروايات. فإذا كنّا بصدد بيان أسلوب الحياة الإسلامية فلا بُدَّ من أن نغيِّر طريقة الاستشهاد برؤيةٍ تأسيسية. وكما أشار المؤلِّف القدير لكتاب أسلوب الحياة التوحيدية والتوفيق الإلهيّ، فإنّه لأجل الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة يجب أن نذهب إلى مسائل أسلوب الحياة فنعرضها على الدين، لا أن نحمّل النصوص لأجلها. ومن البديهي أنّ أسلوب الحياة المبنيّة بمثل هذا المنهج هي التي يمكن أن تكون قابلةً للاعتماد والاتّباع.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعد في قسم المعارف الإسلامية في جامعة آزاد الإسلامية، فرع فلاورجان ـ إصفهان.
(**) أستاذٌ مساعد في مركز بحوث الحوزة والجامعة، قم ـ إيران.
(***) أستاذٌ مساعد في مركز بحوث الحوزة والجامعة، قم ـ إيران.
([1]) المقصود: إيران (المترجِم).
([2]) محمد تقي فعالي، نگرشي به آراء وأنديشه هاي دالاي لاما: 19 ـ 30، ط1، قم، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه (مصدر فارسي)؛
www.dalailama.com/biography, 26/2/1392
www.mashreghnews
www.aftabnews
www.Wikipedia.org/wiki/dalailama
([3]) محمد كافياني، سبك زندگي إسلامي وأبزار سنجش آن: 16، ط1، قم، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه (مصدر فارسي).
([5]) دالاي لاما، ژرف أنديشي: 178، منشورات علم، طهران (مصدر فارسي).
([6]) محمد حسين طباطبائي، تعاليم إسلام: 201، منشورات بوستان كتاب، قم، 1387هـ.ش (مصدر فارسي).
([7]) محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان 6: 181 ـ 182.
([8]) طباطبائي، تعاليم إسلام: 201.
([9]) دالاي لاما وهوارد. سي. كاتلر، هنر شادمانگي: 54، ط3، منشورات قطره، طهران.
([10]) Dalai lama (2005), how to expand love widening the circle of loving relationships,translated and edited by Jeffrey Hopkins, published by rider, NewYork, p 1.
([11]) رضا شاه كاظمي، زمينه مشترك بين إسلام وآيين بودا، مقدّمةٌ حول الدالاي لاما، مؤسّسة آل البيت للفكر الإسلامي، الأردن.
([14]) طباطبائي، تعاليم إسلام: 236.
([16]) الطباطبائي، تفسير الميزان 8: 380.
([18]) محمد حسين الطباطبائي، سنن النبيّ: 113، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1422هـ.
([19]) الطباطبائي، تفسير الميزان 13: 80.
([20]) طباطبائي، تعاليم إسلام: 215.
([22]) محمد حسين طباطبائي، ترجمة تفسير الميزان 13: 110. والنصّ المذكور هو الترجمة الفارسية لكتاب الميزان، التي نقل عنها مؤلِّف هذه المقالة، وهي تتفاوت في التعبير بنحوٍ قليل مع تفسير الميزان المكتوب باللغة العربية، ففي الأصل: «فالمعنى واجِهْهُما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة يلوح منها تواضعك وخضوعك لهما، وتذللك قبالهما؛ رحمةً بهما» (الميزان 13: 80) (المترجِم).
([23]) Dalai lama and jeffrey Hopkins (2002), how to practice the way to a meaningful life, translated by Jeffrey Hopkins, NewYork, p 108.
([24]) الطباطبائي، تفسير الميزان 16: 166.
([26]) www.dalailama.com/messages/religious ـ harmony, 12/3/93
([27]) طباطبائي، تعاليم إسلام: 248.
([28]) Dalai lama (2004), many ways to nirvana, edited by renuka singh, penguin group, NewYork, p 5.
([29]) أحمد حسين شريفي، عرفان حقيقي وعرفان هاي كاذب: 258، نشر به آموز، طهران.
([30]) طباطبائي، نقدهاي علاّمه طباطبائي بر علاّمه مجلسي (الحواشي على بحار الأنوار): 178، تحقيق: مرتضى رضوي، ط1.
إنّ هذا النصّ ليس للعلاّمة الطباطبائي بالدقّة، وإنما هو شرح الشيخ مرتضى الرضوي لتعليقته على بحار الأنوار في المجلد الثاني صفحة 313. يقول العلاّمة: «هذا ما يراه الأخباريون وكثيرٌ من غيرهم. وهو من أعجب الأخطاء. ولو أبطل حكم العقل بعد معرفة الإمام كان فيه إبطال التوحيد والنبوّة والإمامة وسائر المعارف الدينيّة. وكيف يمكن أن ينتج من العقل نتيجة، ثمّ يبطل بها حكمه، وتصدق النتيجة بعينها؟ ولو أريد بذلك أن حكم العقل صادقٌ حتّى ينتج ذلك، ثمّ يسدّ بابه، كان معناه تبعيّة العقل في حكمه للنقل، وهو أفحش فساداً. فالحقُّ أن المراد من جميع هذه الأخبار النهي عن اتّباع العقليات في ما لا يقدر الباحث على تمييز المقدِّمات الحقّة من المموَّهة الباطلة».
([31]) الطباطبائي، تفسير الميزان 10: 293.
([32]) المصدر السابق 5: 186 ـ 187.
([33]) عبد الله نصري، سيماي إنسان كامل أز ديدگاه مكاتب: 40، منشورات دانشگاه علاّمه طباطبائي، طهران.
([34]) حميد رضا مظاهري سيف، جريان شناسي انتقادي عرفان هاي نو ظهور: 278، ط4، پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، قم.
([35]) دالاي لاما، زندگي در راهي بهتر: 112 ـ 114، ترجمة: فرامرز جواهري نيا، ط1، منشورات ماهي، طهران.
([36]) باقي نصرآبادي وديگران، رمز موفَّقيت علاّمه طباطبائي: 136، منشورات إمام العصر#.
([37]) أحمد لقماني، علاّمه طباطبائي ميزان معرفت: 91، ط3، مؤسسة أمير كبير، طهران، 1382.
([38]) سيد محمد حسين حسيني طهراني، مهر تابان: 87، منشورات علاّمه طباطبائي ومنشورات نور ملكوت قرآن، مشهد، 1431هـ.
([39]) دالاي لاما، ژرف أنديشي: 144.
([41]) وهو ترجمةٌ للمَثَل الفارسي: (گُل سر سبد عالم آفرينش إنسان است).
([42]) الطباطبائي، تفسير الميزان 5: 187.
([45]) علي موحّديان عطّار ومحمد علي رستميان، درسنامه أديان شرقي: 146، كتاب طه، قم، 1386.
([46]) الطباطبائي، تفسير الميزان 5: 183.
([47]) مظاهري سيف، تجربه هاي عرفاني در أديان:130، منشورات بوستان كتاب، قم، 1388.
([48]) مظاهري سيف، جريان شناسي انتقادي عرفانهاي نو ظهور: 51، ط1، قم، پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، 1389.
([49]) دالاي لاما، زندگي در راهي بهتر: 111.
([50]) جريان شناسي انتقادي عرفانهاي نو ظهور: 51 ـ 52.
([51]) الطباطبائي، تفسير الميزان 3: 11.
([53]) دالاي لاما، زندگي در راهي بهتر: 155.
([54]) عبد الرسول بيات، فرهنگ واژها: 564، ط1، مؤسسة أنديشه وفرهنگ ديني، قم، 1381.
([55]) محمد حسين الطباطبائي، رسالة الولاية: 37، قم، 1360هـ.
([57]) المصدر السابق: 50 ـ 51.