د. حسين شريف عسكري(*)
المقدمة ـــــــ
يدور موضوع هذا البحث حول مَعْلَم بارز من مَعالِم البلاغة القرآنية، وركن مهم من أركان علم البيان ألا وهو «المجاز في القرآن الكريم»، والنصوص المجازية بحدِّ ذاتها تعتبر من الموضوعات المثيرة في كل لغة، وخاصة في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
والقرآن الكريم، فضلاً عن كونه الرسالة الربانية لهداية البشر وإنقاذهم من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور; فهو معجزة الرسول’ الخالدة، الذي تحدى به فصحاءَ وبُلغاءَ العرب أن يأتوا بمثله فصاحةً وبلاغةً، و نظماً وتركيباً وترتيباً، ومضموناً، حيث تضمَّن مفاهيم وأفكاراً راقية لا يمكن أن تخطر على بال أيّ إنسان في ذلك الوقت مهما بلغ من النضج العقلي والفكري والمعرفي، بل تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، أو حتى بسورة واحدة; فعجزوا جميعاً عن مجاراته; فصدق قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[الإسراء: 88].
والقرآن الكريم يُعَدُّ أعظم وأهم مصدر لدراسةِ جميع علوم وفنون اللغة العربية، وخاصة علم البلاغة والفصاحة، بل هو الأساس لنشأتها وظهورها.
وقد غدا حكماً وميزاناً في الدراسات الأدبية والبلاغية واللغوية والنقدية وغيرها، وذلك لما امتاز به من سمو المعنى، وبلاغة التعبير، وروعة التصوير، وجمال الأسلوب، وفصاحة البيان، ويحتل المجاز المكانة المتقدمة في تلك الفنون، وله الصدارة في أساليب فن القول والبيان.
وقد ذهب ابن رشيق (ت 456هـ) إلى اعتبار «المجاز» هو علم البيان بأجمعه، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة([1]).
وللمجاز بنوعيه اللغوي والعقلي الأثر البالغ في الابتكار والإبداع والانتقال إلى المعاني الجديدة، فهو خير أسلوب لإيجاد المعاني الرائعة التي تؤدي بدورها إلى توسيع آفاق فن القول والبيان و إلى تجديد اللغة باستمرار.
وأثناء دراستي لأساليب البيان جذب اهتمامي موضوع «المجاز»، وخاصة في النصوص القرآنية، فهناك آيات في القرآن الكريم تثبت في ظاهرها الصفات الحسيّة لله ـ عزَّ وجل ـ، مثل: قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الإسراء:1]، و قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[الفتح: 10]، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[القصص: 88]، وقوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾[الفجر: 22] و آيات أخرى تبدو مناقضة لتصورات العقل ان هي حملت على ظاهرها، وذلك مثلا في «إثبات الفعل لما لا يثبت له فعل» كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 25]، وأمثال ذلك كثيرٌ في القرآن الكريم، مما دفعني إلى الاهتمام بهذا الموضوع واختياره موضوعاً للبحث والدراسة في هذا المجال.
ولا شك أن الباحث قد يلاقي بعض الصعوبات أثناء البحث في أساليب المجاز القرآني، وذلك لأن مادة هذا البحث كثيراً ما نجدها مشتركة ومشتبكة مع علوم كثيرة منها: البلاغة، والتفسير، وأصول الفقه، والفرق والمذاهب، وغيرها…، فجميعها تُعنى بتفسير الظواهر اللغوية من حيث المبنى والمعنى، وهذا ما يزيد من صعوبة البحث في هذا الموضوع، مما يستلزم (أحياناً) مراجعة جميع أنواع تلك المصادر، والتوسع في المطالعة، والدقة في انتخاب ما يناسب متطلبات هذا البحث.
ومن هنا فإن هذا الموضوع؛ بسبب أهميته وحساسيته في الدراسات الأدبية والبلاغية، وخاصة في أساليب البيان القرآني، أصبح مورد اهتمام العلماء على اختلاف مجالاتهم العلمية منذ العصور الأولى لنزول القرآن وحتى يومنا هذا.
أولاًً: المجاز ولغة الخطاب القرآني ــــــ
لقد بات واضحاً أن عرب الجاهلية قد عرفوا الكثير من الأساليب البلاغية وصورها، وأن منهم من بدأ بذوقه وحاسته النقدية يقضي بين الشعراء، ويميز بين محاسن الشعر وعيوبه على أساس مقاييس بلاغية تتصل باختيار الألفاظ والمعاني والصور الشعرية، كما تتصل بالإيجاز والتعقيد والمطابقة بين الكلام ومقتضاه، وما إلى ذلك من الملاحظات البلاغية لفن القول.
واذا انتقلنا من العصر الجاهلي إلى عصر صدر الاسلام رأينا أن الملاحظات البلاغية أخذت تزداد فيه نمواً بفعل الإسلام، الذي أدى إلى تحضر العرب، وخروجهم من عزلتهم فى الجزيرة إلى الاقطار والمدن المفتوحة، واستقرار الكثيرين منهم فيها، واحتكاكهم عقلياً بحضاراتها، وكل هذا أعان على رقي العقلية العربية وانفتاحها واتساع آفاقها.
والذي لاريب فيه أن الإسلام كان عاملاً قوياً في تطور اللغة عن طريق استخدام المجاز الذي وسّع الفكر العربي ونوّع مجالاته على أساس أنه الصلة بين الألفاظ والمعاني([2])، مما أدّى إلى ظهور ألفاظ جديدة استعملت للدلالة على ما استحدث في المجتمع العربي الجديد مما لم يكن فيه قبل الإسلام، فكان ذلك وسيلة التوسع اللغوي، وقد استعملت كثير من الألفاظ استعمالاً مجازياً، أي بتحميلها معاني جديدة لم تكن تدل عليها بأصل الوضع اللغوي، وذلك كالمؤمن والمسلم والكافر والمنافق والفاسق.
ثم كان القرآن الكريم ـ معجزة الرسول’ الخالدة ـ أساساً لدراسة كثير من علوم العربية: لغةً ونحواً وبلاغةً ونقداً، فقد سُحر العرب بجمال القرآن وجلالته، وبهروا بروعته وحسن بيانه، ووقفوا عند جزئياته البلاغية، واستعذبوا نوادر استعمالاته في فن القول، وقد تحدى القرآن العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشرِ سور أو بسورة واحدة فعجزوا.
ثم إن القرآن هو أكبر وأعظم وأهم مصدر لدراسة اللغة العربية في جميع فنونها، وخاصة في البلاغة والفصاحة، وقد اندفع المسلمون والعلماء منذ البداية إلى دراسة القرآن من زوايا مختلفه لمحاولة فهم لغة خطابه وكشف أسرار إعجازه، وقد أدى هذا الاتجاه بدوره في العصور الأولى إلى ظهور العديد من الكتب التي تبحث في معاني القرآن ومشكله ومجازه ونظمه وإعجازه.
وقد «عمد القرآن ـ في إفادة معانيه، وإشادة مبانيه ـ إلى أنواع الاستعارة والكناية والمجاز في نطاق واسع، أبدع فيها وأجاد إجادة البصير المبدع، وأفاد إفادة الخبير المضطلع، في إحاطة بالغة لم يعهد لها نظير، ولم يخلفه أبداً بديل»([3]).
ومن هنا فإنّ هناك ضرورة في تتبع مفهوم المجاز في ضوء ما قدمه العلماء والدّارسون في هذا المجال عبر المراحل الزمنية المختلفة، وذلك للتعرف أكثر على حقيقة المجاز في لغة الخطاب القرآنى، هذه اللغة التي تميزت عن اللغة العربية التي كانت سائدة آنذاك بكل خصائصها ونظمها وفنونها في الفصاحة والبلاغة، ولا سيما في أسلوب المجاز القرآني.
وقد أشار أحد المعنيين بالدراسات القرآنية إلى مميزات لغة الخطاب القرآني بشكل عام، وقال: يمتاز القرآن على سائر الكلام بدقته الفائقة في تعابيره، واضعاً كل شيء موضعه اللائق به، مراعياً كل مناسبة ـ لفظية كانت أو معنوية ـ في أناقة تامّة، لم تفته نكتة إلاّ سجلها، ولم تفلت منه مزيّة إلاّ قيّدها، في رصف بديع ونضد جميل، جامعاً بين عذوبة اللفظ وفخامة المعنى، ملائماً أجراس كلماته مع نوعية المراد، متماسك الأجزاء، متلاحم الأشلاء، كأنما أُفرغت إفراغة واحدة، وسبكت في قالب فذّ رصين، بحيث لو انتزعت لفظة من موضعها، أو غيّرت إلى غير محلّها، أو أبدلت بغيرها، لأخَلّ بمقصود الكلام، واضطرب النظم واختلَّ المرام» ([4]).
ثانياً ـ البعد التاريخي لمفهوم المجاز القرآني ـــــــ
إن مفهوم المجاز ـ سواء في الدراسات اللغوية أو القرآنية ـ مَرَّ بمراحل متعددة، وذلك منذ نشأته وظهوره على شكل إشارات عابرة في أبحاث السابقين حتى تمكن العلماء فيما بعد من تحديد معالمه وبيان أقسامه وأجزائه بدقة في دراساتهم المنهجية، ولأجل الإحاطة بحقيقة الموضوع سنقوم بدراسة وتتبع مفهوم المجاز القرآني وفقاً لما يلي:
1 ـ المفهوم اللغوي للمجاز عند الرواد الأوائل ـــــــ
سبق أن أشرنا إلى أن القرآن الكريم كان أساساً لنشأة وظهور كثير من علوم اللغة العربية وفنونها.
فقد عُنيَ به المفسّرون واللغويّون والباحثون والمفكرون، تلاوةً وتجويداً وحفظاً وبحثاً ودرساً وتفسيراً، وكانت حصيلة هذه الخدمات الجليلة لهذه المعجزة الخالدة هذه المكتبة القرآنية الضخمة، والموسوعة القيمة في شتّى العلوم، في لغته وإعرابه وتفسيره وتجويده وأسباب نزوله وتاريخه، وخاصةً في تصويره الفَنّي وبلاغته وفصاحته وإعجازه.
وقد غدا القرآن حكماً وميزاناً فى جميع الدراسات الأدبية والبلاغية واللغوية والنقدية؛ وذلك لما امتاز به من سمّو المعنى وبلاغة التعبير وروعة التصوير، وجمال الأسلوب وفصاحة البيان، وقد تنوعت فيه طرائق التعابير البلاغية.
ومنذ عهد مبكر لنزول القرآن توجه المسلمون لفهم القرآن وكشف خبايا هذا الكتاب وكنوزه، ودراسة مختلف قضاياه الفنية.
وكان النبي’ والأئمة^ والصفوة من الصحابه والتابعين يُعَبِّدُون الطريق بين يدي المتعلمين والباحثين والمصنفين، حتى اتسع مجال التفسير، وتعدد منهج التأويل، وكثر طلاب العلم، وأخذ كل بمبادرة التحصيل وتوضح السبيل وانتشرت الثقافات»([5]).
وكان وراء هؤلاء جهابذة اللغة، وفحول العربية، يحققون ويتتبّعون، غير عابئين بثقل الأمانة وفداحة الأمر، مشمرين السواعد لا يعرفون ليناً ولا هوادة، متناثرين حلقات وجماعات وأفراداً، يسددون الخطى، ويباركون السعي، فبين مستشهد بالموروث المثلي عند العرب، وبين منظّر بالشعر الجاهلي، وبين مقتنص للشوارد والأوابد من كلمات القوم وحكمهم، وبين متنقل في الحواضر والبوادي القصبات ومساقط المياه، يسأل ويدون، ويصنف ويستجمع، ويقارن ويقعّد، كل ذلك بهدف واحد هو الاعتداد بالقرآن وتراثيته، فضلاً عن قدسيته وعظمته، وكونه كتاب هداية وتشريع، ودستور السماء في الأرض إلى يوم يبعثون([6]).
وكانت هذه الحالة سائدة حتى بداية القرن الثاني من الهجرة النبويّة المباركة، ومنذ بداية القرن الثاني إلى أن أطلّ القرن الثالث الهجري ظهرت حركة علمية متميزة من قبل علماء المسلمين لدراسة القرآن من الناحية اللغوية والتفسيرية; فكانت دراساتهم وجهودهم العلمية منصبة في الغالب حول لغة القرآن، ومعاني مفرداته، وسيرورة ألفاظه، وكانت دائرة هذا الجهد اللغوي، متشعبة في بدايات مسيرتها التصنيفية، وإن كانت متحدة في مظاهرها الدلالية، فالأسماء مختلفة والإنجازات متقاربة، حتى كأن العطاء واحد في جوهره، وإن تعددت عناوينه التي استقطبت الصيغ الآتية: «معاني القرآن» و«مجاز القرآن» و«غريب القرآن».
«وهذه الكتب على وفرتها تتحدث عن مسار اللفظ القرآني ودلالته لغةً، وتبادره مفهوماً عربياً خالصاً، فكان ذلك معنى مجاز القرآن وغريبه ومعانيه في سيرورة مؤدى الألفاظ في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، ودون التأكيد على «المجاز» أو «المعاني» في الصيغة الاصطلاحية، أو الحدود المرسومة لدى علماء المعاني والبيان. لقد امتازت هذه الحقبة بالتدوين المنظّم لغريب القرآن وشوارده، وأثرت فيما بعد بالحركة التأليفية المتفتحة في اللغة والمجاز القرآني بمئات المصنفات القيمة، ولكن بالمعنى المشار إليه آنفاً، دون المعنى البياني»([7]).
وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أكثر من عشرين عالماً ممن توفروا على دراسة معاني القرآن، من أمثال: أبى جعفر الرؤاسي، والكسائي، ويونس بن حبيب النحوي، والفراء، والمبرّد، ومؤرج السدوسي، وثعلب، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، والمفضل بن سلمة الكوفي، وابن كيسان، وابن الأنباري، والزجاج، وخلف النحوي،…([8]).
وجميع هذه الكتب لا علاقة لها بعلم المعاني، وإنما تبحث عن المعنى اللغوي.
كما ذكر ابن النديم أيضاً أسماء من ألفوا في «غريب القرآن»، وكانت في الغالب على نهج «معاني القرآن» شكلاً وقالباً.
وقد نجد أحياناً من بين هذه المصنفات من يسمي كتابه «معاني القرآن» ويسميه «غريب القرآن» أيضاً، ويبدو أنّه لا فرق عندهم بين هذين الاسمين كما نلاحظ ذلك في كتاب الفهرست لابن النديم.
وممَّن ألفوا في «غريب القرآن»: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وأبو فيد مؤرج السدوسي، ومحمد بن سلاّم الجمحي، وأبو عبد الرحمن اليزيدي، وأبو زيد البلخي، وأبو جعفر بن رستم الطبري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن عزيز السجستاني، وأبو الحسن العروضي، ومحمد بن دينار الأحول»([9]).
ويذكر أن أبان بن تغلب الكوفي (ت141هـ) قد ألف كتاباً سمّاه «الغريب في القرآن»، وقد ذكر شواهده من الشعر، وهو من الأوائل الذين كتبوا في هذا الموضوع([10]).
فأما في «مجاز القرآن» فإنّ أول كتاب يصلنا بعنوان «مجاز القرآن» هو لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت207 أو 209هـ)([11]).
ولما كانت الدراسة البلاغية متداخلة مع الدراسة اللغوية في تراثنا القديم فقد اعتبروا أن أبا عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» لم يفعل أكثر من أنه سلك مسلك سابقيه من اللغويّين من ربط النحو بالأساليب والتراكيب»([12]).
وهذا ما يؤكده أكثر الباحثين فى هذا المجال فنجد المراغي في كتابه «تاريخ علوم البلاغة العربية» يقول: «إن النحو بالمعنى الذي عناه المتقدمون هو الذي عنى مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عندما سمّى كتابه «المجاز في القرآن»، وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم وبيان ما قد يطرأ على الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف ونحو ذلك»([13]).
ومعنى ذلك أن مفهوم المجاز عند أبي عبيدة يتسع ليشمل كل ما يندرج تحت دراسة الأساليب.
ويؤكد ذلك ما يحكيه هو نفسه عن سبب تأليف كتابه من أنّ كاتباً للفضل بن ربيع سأله عن قوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾[الصافات:65]، وقال: إنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا لم يُعرَف، فقلت: انّما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أسمعت قول أمرىء القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونةً زرقٌ كأنياب أغوالِ؟
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك…، واعتقدتُ من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه، ويحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز»([14]).
ومن هنا يتضح لنا ان أبا عبيدة يرد المثال القرآني الذي سُئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها.
ومنهجه في الكتاب كله يقوم على ذلك، بمعنى أنه يحاول شرح التركيب، ثم يستشهد على صحته بأبيات من الشعر أو العبارات القرآنية.
ويعدّ هذا المسلك من جانب أبي عبيدة استمراراً للتقليد الذي رفع شعاره ابن عباس: «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب»([15]).
ومما تقدم يمكن القول: إن كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة هو كتاب لغة وتفسير مفردات، لا كتاب بلاغة وبيان. ومما يؤكد ذلك، إضافة لما سبق، أنّه قد يسمى «غريب القرآن، باعتبار ترادف الغريب والمجاز عندهم، كترادف الغريب والمعاني، وقد نصّ على تسميته بهذا الاسم «غريب القرآن» ابن النديم.([16])
وممّن أكدّ ذلك أيضاً ابن خير الإشبيلي في كتابه الفهرست، حيث قال: «وأول كتاب جمع في غريب القرآن ومعانيه كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى، وهو كتاب المجاز»([17]).
وقد أيّد هذا الاتجاه أيضاً الزبيدي بقوله: «سألت أبا حاتم عن غريب القرآن لأبي عبيدة الذي يقال له: المجاز»([18]).
ومن هنا نجد فؤاد سزكين، محقق كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، يقول: «ومهما كان من أمر فإن أبا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات: «مجاز كذا» و«تفسير كذا» و«معناه كذا» و«غريبه» و«تأويله» على أن معانيها واحدة أو تكاد، ومعنى هذا أن كلمة «المجاز» عنده عبارة عن الطريق التي يسلكها القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة لكلمة المجاز»([19]).
وقد أكدَّ هذا المذهب أبو عبيدة نفسه عند ذكره لمسوغات تحرير كتابه «مجاز القرآن» بقوله: «وفي القرآن ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب والمعاني».([20])
وتأكيداً لما سبق يمكن لنا «ان نقرر أن كلمة «مجاز» إنما هي تسمية لغوية تعني التفسير، فالمعرفة بأساليب العرب، ودلالات ألفاظها، ومعاني أشعارها، وأوزان ألفاظها، ووجوه إعرابها، وطريق قراءاتها، كل ذلك سبيل موصلة إلى المعنى، فمجاز القرآن يقصد أبو عبيدة به «المعبر» إلى فهمه، فالتسمية لغوية، وليست اصطلاحية»([21]).
ومهما يكن من أمر فقد عالج أبو عبيدة في «مجاز القرآن» كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في كلامهم وسننهم في وسائل الإبانة عن المعاني، ولم يعنِ بالمجاز ما هو قسيم للحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية: ما يعبر به عن الآية([22]).
أما أبو زكريا الفراء (ت 207هـ) وهو من الروّاد الأوائل، الذي بحث في هذا المجال، وهو معاصر لأبي عبيدة، فقد أشار إلى مفهوم المجاز بأسلوب أكثر دقة من أبي عبيدة، وذلك في كتابه «معاني القرآن»، وهو، وإن «لم يستعمل» كلمة «مجاز» التي جعلها أبو عبيدة عنواناً لكتابه، فإنه استخدم صيغة الفعل «تجوز»، وذلك حين تعرَّض لقوله تعالى ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ﴾، حيث اعتبر إسناد الربح إلى التجارة تجوزاً في التعبير. وهذا الاستعمال للفعل «تجوز» في هذا السياق يعني أن مفهوم «المجاز» أو «التجوز» قد تقدم على يد الفراء خطوة بعد أبي عبيدة؛ وذلك أن معنى «تجوز في كلامه أي: تكلم بالمجاز»([23]).
ويقول الفراء في تعليقه على هذه الآية: «ربما قال القائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكون في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾، وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير إلاّ في مثل هذا، فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك إنْ كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجراً فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوزاً فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك، كان جائزاً؛ لدلالة بعضه على بعض»([24]).
ولعله من المفيد أن نتوقف قليلاً أمام هذا النص، محاولين استجلاء مفهوم التجاوز في التعبير عند الفراء.
وأول ما يلفت الانتباه في هذا النص محاولة الفراء ـ شأن أبي عبيدة والمفسرين قبله ـ أنْ يردّ العبارة القرآنية إلى كلام العرب، ثم أن يبين أن سبب التجاوز هو أن «الربح والخسران إنما يكون في التجارة فعلم معناه»، أي أن التجاوز في الإسناد لم يؤدِّ إلى غموض المعنى بسبب تلك الصلة القائمة بين التاجر ـ الفاعل الحقيقي للربح ـ وبين التجارة ـ التي يحدث فيها الربح ـ، ولذلك فذهن القارىء ينصرف فوراً إلى أن المعنى هو ربح التاجر في التجارة»([25]).
وقد يعود السبب لانتباه الفراء لمعنى التجاوز في التعبير، واستخدامه لكلمة «التجوز» التي هي أقرب إلى كلمه «مجاز»، ثم إدراكه للعلاقة بين المجاز والحقيقة في إسناد الفعل إلى غير فاعله، وذلك لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي والفاعل النحوي في العبارة.
وإذا كان الفراء قد تنبه إلى التجاوز في إسناد الفعل إلى غير فاعله، فهو في مواطن كثيرة يتنبّه إلى هذا التجاوز، دون أن يشير إلى كلمة «التجوز»، بل يستخدم كلمة قريبة جداً من معنى التجوز هي «الاتساع»، يقف أمام قوله: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، ويقول: «المكر ليس لليل ولا للنهار، وإنما المعنى: بل مكركم بالليل والنهار، وقد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليل والنهار، ويكونا كالفاعلين، لأن العرب تقول: نهارك صائم، وليلك نائم، ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار، وهو في المعنى للآدميين، كما تقول: نام ليلك، وعزم الأمر، إنما عزمه القوم، فهذا مما يعرف معناه، فتتسع به العرب»([26]).
ويتوقف الفراء أيضاً أمام ما سيطلق عليه فيما بعد اسم «المجاز المرسل»، وذلك عند قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾يقول: «كنتم تأتوننا من قبل اليمين، أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه، واليمين: القدرة والقوة، وكذلك قوله: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾، أي بالقوة والقدرة، وقال الشاعر:
إذا ما غاية رفعت لمجد تلقــاها عرابـــة باليمين
أي بالقدرة والقوة([27]).
وكذلك يتوقف الفراء أمام قوله تعالى: ﴿أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾، ليقول: «يريد أولي القوة والبصر في أمر الله»([28]).
«وقوله عزوجل: {بأيد}، «بقوة»»([29]).
ولا يشير الفراء في هذه الأمثلة للعلاقة المجازية بين الأيدي والقوة. ولكنّه في مثال آخر يحاول توضيح هذه العلاقة، وذلك حين يتعرض لقوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ حيث يقول: <السجود في هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع>([30]).
ومن الواضح، في كل هذه التحليلات للتراكيب المجازية في القرآن، أن الفراء، وكذلك أبو عبيدة، توقفا عند مرحلة الكشف عن المعنى، وبيان توافق التركيب القرآني مع تراكيب اللغة الشائعة في الشعر وكلام العرب.
ويمكن لنا بعد هذا أن نؤكد بكل اطمينان أن علماء هذه الحقبة ـ من خلال مصنّفاتهم والتي أشرنا إلى البعض منها ـ استهدفوا البحث المنظم والمفهرس في غريب القرآن، ومعانيه اللغوية، وشوارده العربية، ولم يكن لمجاز القرآن، ولا لمعانيه، بالاصطلاح البلاغي فيها أية إرادة مسبقة، وإن وردت بعض الإشارات البلاغية بإطارها العام مما لا بد منه في إيضاح المعنى اللغوي، فالبلاغة جزء من علم اللغة([31]).
2 – المفهوم البلاغي العام للمجاز القرآني ـــــــ
إذا تتبعنا نشأة الكلام عن «الحقيقة والمجاز» فإننا نجد أنّ الجاحظ (ت255هـ) من أوائل من تعرضوا لهذا الموضوع بالبحث، والجاحظ إذ يتناول قضايا البيان العربي لايهتم بصبها في قوالب التعريفات والتحديدات على عادة رجال البلاغة من بعده، وإنّما نراه يسوق النماذج عليها من بليغ القول نثراً وشعراً، مع شرح بعضها أحياناً أو التعليق عليه، تاركاً لمن يهمهم أن يعرفوا مفهومه لأي موضوع بلاغي طرقه أن يستنبطوه من خلال شرحه له»([32]).
ففي كلامه عن الحقيقة والمجاز يقول: «وإذا قالوا: أكله الأسد فإنّما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا: أكله الأَسْود فإنّما يعنون النهش واللدغ والعض فقط.
وقد قال الله عزّوجل : ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا…﴾، ويقولون في باب آخر: فلان يأكل الناس، وإن لم يكن يأكل من طعامهم شيئاً، وكذلك قول دهمان النهري:
ســألتني عن أناس أكلــوا شرب الدهر عليهم وأكل
فهذا كلّه مختلف،وهو كله مجاز([33]).
فالأكل في قوله: «أكله الأسد» حقيقي، أمّا في الأمثلة الأخرى فالأكل على اختلاف أنواعه مجازي كما ذكره الجاحظ.
ومن خلال دراسة الأمثلة المتنوعة التي يوردها في هذا المجال يتضح لدينا أن المصطلحات ما تزال متداخلة عند الجاحظ؛ فهو مرة يستخدم مصطلح المجاز؛ وأخرى يستخدم المثل؛ وثالثة الاشتقاق؛ وقد يجمع بينهم جميعاً في تحليل عبارة واحدة،وذلك للدلالة على استخدام اللفظ في غير ما وضع له في اللغة، فكلمات: المجاز، والمثل، والتشبيه، والكناية، والاشتقاق، تدل على معنى واحد. ويقول: «وللعرب إقدام على الكلام ثقة بفهم أصحابهم عنهم، وهذا أيضاً فضيلة أخرى، وكما جوّزوا لقولهم: أكل، وإنّما عضّ، وأكل، وإنّما أفنى،وأكل، وإنّما أحاله، وأكل، وإنّما أبطل عينه، جوزوا أيضاً أن يقولوا: ذقت ما ليس بطعم، ثم قالوا: طُعِمتُ لغير الطعام…، وقد يقولون ذلك أيضاً على المثل وعلى الاشتقاق وعلى التشبيه»([34]).
وفى باب آخر يورد أمثلة أخرى من القرآن والشعر في المجاز والتشبيه بالأكل فيقول: «وهو قول الله عزوجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾، وقوله عزّ اسمه: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾»([35]).
وقد يقال لهم ذلك وان شربوا بتلك الأموال الأنبذة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهماً واحداً في سبيل الأكل، وقد قال الله عزّوجل: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، وهذا مجاز آخر([36]).
وهذا كله يؤكد تداخل الحدود بين التشبيه والمثل والمجاز من ناحية، ويؤكد أيضاً أن مصطلح «المجاز» صار أكثر تحديداً، باعتبار الوجه الآخر للحقيقة، من ناحية أخرى، فهو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية، كالاستعارة، والتشبيه، والتمثيل([37]).
وقد انسحب هذا أيضاً، على المجاز القرآني لديه([38]).
وبعد الجاحظ نلتقي بابن قتيبة (ت 276هـ)، وهو معاصر له، قد استعمل المجاز بمفهومه العام أيضاً، حيث يقول: «وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه; ففيها: الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص،… وبكل هذه المذاهب نزل القرآن»([39]).
أما أبو عباس محمد بن يزيد المبرد (ت285 هـ)، وكان معاصراً لابن قتيبة، وهو من اللغويّين الذين بحثوا في جوانب من البلاغة، وله كتاب معاني القرآن والكامل، فقد استعمل المجاز بنفس الأُسلوب الذي استعمله أبو عبيدة من ذي قبل للدلالة على ما يعبر به عن تفسير لفظ الآية أو ألفاظها، ولم يشر إلى الدلالة الاصطلاحية لهذا المفهوم([40]).
وكان ابن جني (ت392هـ) قد أكد وقوع المجاز في الكلام في مواضع متعددة من كتابه «الخصائص»، وقد وافق ابن قتيبة في موارد كثيرة، ويبدو أنه قد تأثر بأسلوبه،بل قد يتخذ أحياناً موقفاً متشدّداً للتأكيد على ذلك، حيث نجده يقول في هذا المجال: «اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز، لا حقيقة، وذلك عامة الأفعال، نحو: قام زيد، وقعد عمر، وانطلق بشر، وجاء الصيف، وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية، فقولك: قام زيد بمعناه: كان منه القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس، والجنس يطبق جميع الماضي، وجميع الآتي، الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت ولا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم، هذا محال عند كلّ ذي لبٍّ، فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز، لا حقيقة، وإنما هو وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة، وتشبيه القليل بالكثير([41]).
وقد أشار في مواضع متعددة من كتابه الخصائص إلى مفهوم المجاز الذي هو قسيمٌ للحقيقة بمعناه البلاغي العام.
وأحياناً نجده يشير إلى المجاز ويريد به التشبيه والاستعارة في نفس الوقت، وفى هذا الصدد يقول: «إن المجاز لا يقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة، هي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة»([42]).
وممن ذهب إلى هذا الرأي الرماني (ت386هـ) وهو معاصر لابن جنّي، حيث يرى أن الاستعارة باعتبارها استعمالاً مجازٌ، وعدّها أحد أقسام البلاغة العشرة، واكتفى بذكرها عن ذكر المجاز([43]).
وأقسام البلاغة عنده هي: «الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان([44]). ويرى أن كلّ ما هو قسيم للحقيقة مجازاً، حيث يقول: «وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان ما تنوب منابه الحقيقة، و ذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة كانت أولى به، ولم تجز، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى…، ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة»([45]).
ومن هذا يتضح لنا أنه يشير إلى المفهوم البلاغي العام للمجاز، وشأنه بهذا شأن من سبقه إلى النظرة نفسها.
فهو يذكر قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾[الأعراف:154].
ويقول: «وحقيقته انتفاء الغضب، والاستعارة أبلغ؛ لأنه انتفى انتفاء مُراصد بالعودة، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره»([46]). وفي قوله تعالى: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة:110] يرى أن المجاز في «ريبة» هو استعارة، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده، إذ عَبَّرَ الله عن البنيان بأنه ريبة، وإنما هو ذو ريبة، كما يرى ذلك الرماني، وإذا صير هذا الإطلاق عليه فهو مجاز، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء([47]).
ويقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة: «وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقة اعتقادهم الذي عملوا عليه، والاستعارة أبلغ لما فيها من البنيان بما يحس ويتصور، وجعل البنيان ريبة، وإنما هو ذو ريبة، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجاً، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة، لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط([48]).
ومّما تقدم يبدو واضحاً أن الرماني حين يعبر عن المجاز بالاستعارة، ويضع الاستعارة في التطبيق موضع البحث، إنما ينظر إليها باعتبارها عملاً مجازياً يستدل به على وقوع المجاز في القرآن من وجه، وعلى دلائل الإعجاز القرآني من وجه آخر([49]).
ومن هنا يمكن القول: إن أكثر البلاغيين في القرن الرابع الهجري كانوا متحدين في نظرتهم إلى مفهوم المجاز في إطاره العام، فهذا أبو هلال العسكري (ت395هـ)، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، قد أشار إلى المجاز بمعناه الواسع، ونَظَّرَ له من القرآن الكريم في صنوف الاستعارات القرآنية، وقد أوضح رأيه في التنصيص على ذلك بقوله: «ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة»([50]).
وهو بذلك قد جعل المجاز قسيماً للحقيقة، ولم يفرق بين الاستعارة والمجاز، وكانت تطبيقاته في هذا المنهج استعارات القرآن الكريم.
ومن الشواهد القرآنية التي أشار إليها أبو هلال قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان:23]. ففي تعقيبه على هذه الآية يقول: «حقيقته عَمِدنا، وَقَدِمْنا أبلغُ، لأنّه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائباً عنهم، ثم قدم، فاطلع على غير ما ينبغي، فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، وأما قوله تعالى: ﴿هَبَاء مَّنثُورًا﴾ فحقيقته أبطلناه، حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج مالا يرى إلى ما يرى»([51]).
وكذلك من الذين عَبَّروا عن المجاز في مفهومه العام السيد الشريف الرضي (ت406هـ)، فقد ألّف كتابين في المجاز، لهما أهمية نقدية وبلاغية في البحث البياني في القرآن الكريم واللغة العربية بشكل عام، وهما: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» و«المجازات النبوية»، وكان إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والمجاز نفسه، ولكن مع هذا نجد الشريف الرضي في كثير من الموارد يقترب من المفهوم الاصطلاحي للمجاز، وهو بذلك قد يكون أكثر دقةً من الجاحظ في استعمالاته لمفهوم المجاز، وكان كذلك أكثر دقةً من البلاغيين المعاصرين للجاحظ والمتأخرين عن عصره، كابن قتيبة، والرماني، وابن جنّي، وأبو هلال العسكري.
وبعد الشريف الرضي نلتقي ابن رشيق القيرواني (ت456هـ) وقد تحدث عن المجاز في مفهومه العام أيضاً، ونقل معناه عن ابن قتيبة وعن غيره ممن نظر إلى المجاز بمفهومه العام، فهو غالباً ما يشير إلى التشبيه ويعدّه من المجاز([52]). وفي بيان أهمية المجاز يقول: «إن العرب كثيراً ما تستعمل المجاز، وتعدّه من مفاخر كلامها، وأنه دليل الفصاحة ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات»([53]).
وبذلك فإن النقاد والبلاغيين منذ عصر الجاحظ وحتى عصر الجرجاني قد استعملوا المجاز بمفهومه البلاغي العام، وأنه قسيم للحقيقة ومقابل لها، إلى أن ظهر الجرجاني الذي يُعدُّ أعمق مَنْ بحث في المجاز وأرسى قواعده وبين حدوده وثغوره بشكل دقيق، فهو بحقّ مؤسس نظرية المجاز في البلاغة العربية، وواضع معظم اصطلاحاته ومبَيّن جميع أقسامه. ومن هنا فإن الدلالات الاصطلاحية لمفهوم المجاز بدأت تتبلور بشكل أدق بعد عصر الجرجاني، وسبق أن أشرنا إلى ذلك في تعريف المجاز اصطلاحاً.
ثالثاًً ـ أصالة استعمال المجاز القرآني ـــــــ
في البحوث السابقة عرفنا أن مفهوم المجاز القرآني مرّ بمراحل متعددة، فمنذ العصور الأولى كان اهتمام الرواد الأوائل منصبّاً حول لغة القرآن، ومعاني مفرداته، ودلالة ألفاظه، واستمر هذا الاتجاه حتى القرن الثالث الهجري فكان مجاز القرآن مرادفاً أحياناً لمعاني القرآن، وغريب القرآن، وعرفنا أيضاً كيف بدأ العلماء تخطي حدود دائرة المعاني اللغوية ودلالات الألفاظ إلى دائرة المفهوم البلاغي للمجاز في إطاره العام أولاً، ومن ثم الاقتراب والكشف عن المفهوم الاصطلاحي الدقيق للمجاز ثانياً.
ومن حيث أصالة الاستعمال المجازي في اللغة العربية بشكل عام، وفي القرآن الكريم بشكل خاص، يمكن القول: إن المجاز فن أصيل في لغة العرب تمتد جذوره إلى العصر الجاهلي، وقد حفل الشعر العربي القديم بكثير من المجازات البديعة، وكان المجاز سبيلاً لتفنن الشعراء والكتاب، وقد سبق أن وقفنا على كثير من نماذجه في الأدب الجاهلي، سواء في الشعر، كما في قصائد المعلقات، أو في النثر، كما في الخطابة والسجاعة.
وحينما نزل القرآن الكريم بلسان عربيٍّ مبين وجدنا كيف سُحِرَ العربُ بجمال القرآن وجلالته، وبُهروا بروعته وحسن بيانه، ووقفوا عند جزئياته البلاغيّة، وقد تحدى فصاحة العرب وبلاغتهم، وعجز فصحاء العرب وبلغاؤهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر آيات منه أو حتى بآية واحدة من مثله، ولو اجتمعوا على ذلك وكان بعضهم لبعض ظهيراً([54]).
وكان للقرآن الكريم الأثر البالغ في نشأة العلوم العربية بشكل عام، وعلم البلاغة بشكل خاص، فقد عكف العلماء على دراسة القرآن لفهم النص القرآني، واستيعاب مفاهيمه وأفكاره، وكشف أسرار إعجازه، ومن هنا نجد أبا هلال العسكري يصرح قائلاً: «إن أحق العلوم بالتعلم هو علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، والإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخَلَّ بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن، من جهة ما خصّه الله به من حسنِ التأليف، وبراعة التراكيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع»([55]).
ويعلِّل ابن قيِّم الجوزيّة (ت751هـ) استعمال العرب للمجاز، فيقول: «فإنَّ المعنى الذي استعملت العرب المجاز من أجله ميلهم إلى الاتساع في الكلام وكثرة معاني الألفاظ ليكثر الالتذاذ بها، فإنَّ كلّ معنى للنفس به لذة، ولها إلى فهمه ارتياح وصبوة، وكلما دق المعنى رقّ مشروبه عندها، وراق في الكلام انخراطه، ولذّ للقلب ارتشافه، وعظم اغتباطه، ولهذا كان المجاز عندهم منهلا موروداً، عذب الارتشاف، وسبيلاً مسلوكاً، لهم على سلوكه انعكاف; ولذلك كثر في كلامهم حتى صار أكثر استعمالاً من الحقائق، وخالط بشاشة قلوبهم حتى أتوا منه بكل معنى رائق، ولفظ فائق، واشتد باعهم في إصابة أغراضه فأتوا فيه بالخوارق، وزينوا به خطبهم وأشعارهم حتى صارت الحقائق دثارهم، وصار شعارهم»([56]).
ولذلك يرى بعض البلاغيين «أن المجاز علم البيان بأجمعه، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة؛ لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان»([57]).
وقد اهتم اللغويون والبلاغيون بدراسة المجاز القرآني منذ العصور الأولى، فوجدنا ـ مثلاً أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت920هـ أو 210هـ) قد سمى أحد كتبه «مجاز القرآن»، وعالج فيه كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية، باحتذاء أساليب العرب في كلامهم، وسننهم في وسائل الإبانة عن المعاني، وكذلك الفراء (ت204هـ) قد تطرق إلى كثير من المباحث البلاغية والمعاني المجازية في كتابه «معاني القرآن».
وتعرض الجاحظ (ت255هـ) للمجاز وأشار إلى صوره المختلفة، وقدَّم لنا شواهد قرآنية كثيرة، وكان أحياناً يقرن بالآية بعض آيات أخرى من التنزيل الحكيم، وبعض أشعار العرب التي تجري مجراها في الاستعارة، ثم يعقب على ذلك فيقول: «فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز»([58]).
وكتب ابن قتيبة بحثاً مستفيضاً عن المجاز في كتابه «تأويل مشكل القرآن»، وأَعَدَّ الشريف الرضي (ت406هـ) كتابين في المجاز: أحدهما: «تلخيص البيان في مجازات القرآن»؛ والآخر: «المجازات النبوية»، وقد قدّم لنا بحثاً موسَّعاً عن المجاز في معناه العام، بحيث شمل جميع صوره، ولا سيّما الاستعارة.
وقد تمكن الجرجاني (ت471هـ) بنبوغه وبراعته أن يقدم لنا الدراسة المنهجية الدقيقة للمجاز القرآني، فقام بضبط معالمه، وإرساء قواعده، وتحديد أنواعه وأقسامه، مستفيداً في كلّ ذلك من آراء العلماء الذين سبقوه في هذا المجال.
وتحدث آخرون عن هذا الفن، كالرازي (ت606هـ)، والسكاكي (ت626هـ)، والقزويني (ت739هـ)، وغيرهم.
وقد اعتمد أكثرهم على آراء الجرجاني في هذا الفن، وساروا على خطاه، وقد اشرنا إلى بعض آرائهم في ما سبق.
ومما تقدم يتجلى بوضوح أن المجاز فن عريق، عرفه المتقدمون واستعملوه في كلامهم، وورد كثيرٌ من نماذجه في القرآن الكريم، وذلك لأجل التحرر من الضيق اللفظي، والانطلاق في مجالات الخيال، والتأثر بالوجدان، والحنين إلى العاطفة، والاتساع في اللغة.
رابعاً ـ موقف العلماء من المجاز القرآني ـــــــ
في البحوث السابقة انتهينا إلى أن المجاز هو أحد الفنون العريقة الأصيلة في البيان العربي، وقد استعملته العرب في كلامهم، سواء في الشعر أو النثر، وقد ذُكِرَ الكَثِيرُ من نماذجهِ في القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وحديث العترة الطاهرة من أهل البيت^.
وكان هذا الموضوع مورد اهتمام أكثر علماء اللغة والأدب والبلاغة، وأكثر المعنيين بالدراسات القرآنية، وخاصة الإعجاز القرآني، وقد أكدوا على أهمية المجاز وعِظمِ شأنه في دراساتهم وكتبهم، فنجد ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» يقول: «وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه…»، ثم يتابع كلامه ويقول: «وبكل هذه المذاهب نزل القرآن»([59]).
وفى موضع آخر من كتابه هذا يؤكد بشكل صريح على أن فهم النص القرآني متوقف على فهم اللغة العربية، والإحاطة بفنونها، والوقوف على مذاهب العرب وأساليبهم، فيقول بهذا الصدد: «وإنما يَعرفُ «فضل القرآن» من كَثُرَ نَظَرُهُ، واتَّسعَ علمهُ، وفَهِمَ مذاهب العرب وافتتانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات، فانه ليس في جميع الأمم أمَّةٌ أوتيت من العارضة والبيان واتساع المجال ما أُوتِيَتهُ العرب…»([60]).
وقد ذهب بعض البلاغيين، ومنهم: ابن الأثير، إلى اعتبار «المجاز هو علم البيان بأجمعه، وأنّه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة…»([61]).
ومع ذلك فقد اختلف بعض الباحثين في وقوع المجاز في كلام العرب، أو في القرآن الكريم، فذهب فريقٌ منهم إلى أن كتاب الله كله حقيقة، وذهب آخرون إلى أن الكلام كله مجاز، لا حقيقة فيه، وقد فنّد ابن الأثير آراء هذين الفريقين، وقال: «وكلا هذين المذهبين فاسد عندي»، لأنه كان يرى أن الحقيقة هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على معانيها، وليست هي بالحقيقة التي هي ذات الشيء أي نفسه، فالحقيقة اللفظية هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في اللغة، والمجاز هو نقل اللفظ عن المعنى الموضوع له إلى معنى آخر([62]).
وأشار الزركشي (ت794هـ) إلى هذا الاختلاف بقوله: «وأما المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن، والجمهور على الوقوع، وأنكره جماعةٌ، منهم ابن القاصّ، من الشافعية، وابن خُوَيز منداذ من ـ علماء ـ المالكية، وحُكي عن داود الظاهري وابنه، وأبي مسلم الاصبهاني ـ من المعتزلة ـ»([63]).
وكان سبب إنكارهم وقوع المجاز في القرآن بحجة «أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزَّه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة، فيستعير، وذلك محال على الله تعالى»([64]).
وقد ردّ كثيرٌ من العلماء على هذه الشبهة الواهية التي أثيرت من قبل هؤلاء، وأثبتوا بطلان هذا الادّعاء وعدم صحته، ومن الذين وقفوا أمام ادعاءات المنكرين للمجاز وفنَّد آراءهم ابنُ قتيبة، حيث قال: «وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز، فإنهم زعموا أنه كذب، لأن الجدار لا يريدُ، والقرية لا تسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلّها على سوء نظرهم، وقلة أفهامهم، ولو كان المجاز كذباً، وكلّ فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً كان أكثر كلامنا فاسداً، لاَنّا نقول: نبتَ البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخُصَ السِّعرُ…»([65]).
ونقل ابن رشيق (ت456هـ ) نفس هذا الكلام أيضاً في كتابه العمدة([66]).
وردَّ عبد القاهر الجرجاني على من أنكر المجاز رداً عنيفاً بقوله: «ومن قدح في المجاز، وهمّ أن يصفه بغير الصدق، فقد خَبَطَ خبطاً عظيماً، ويهرف بما لا يخفى…»([67]).
وكذلك الزركشي فقد ردّ شبهة المنكرين بقوله: «وهذا باطل، ولو وَجَبَ خلوّ القرآن من المجاز لوجب خُلوّه من التوكيد، والحذف، وتثنية القصص، وغيره، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شَطرُ الحسنِ»([68]).
وأجاب السيوطي بنفس هذا الكلام مع شيء من الإضافة بقوله: «وهذه شبهة باطلة، لو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد، وتثنية القصص، وغيرها»([69]).
وفى موضع آخر نجد الجرجاني يحتج بشدة على الطائفتين المتطرفتين في نظرهما للمجاز، الطائفة الأولى التي أنكرت المجاز، وذهبت إلى أن الكلام كله حقيقة، والطائفة الثانية التي ذهبت إلى أن الكلام كله مجاز لا حقيقة فيه، فيقول: «وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى، وهم المنكرون للمجاز، أن التنزيل كما لم يقلب اللّغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، وأنّ شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشّرع يدل عليه، أو ضمّن ما لم يتضمّنه، أتبع ببيان من عند النبي’، وذلك كبيانه للصّلاة والحجّ والزكاة والصّوم، كذلك لم يقضِ بتبديل عادات أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع»([70]). ويوجه كلامه إلى الطائفة الثانية، فيقول: «وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم أنّه عزّوجلّ لم يرضَ لنظم كتابه الذي سماه هدىً، وشفاءً، ونوراً، وضياءً، وحياةً تحيا بها القلوب، وروحاً تنشرح به الصدور، ما هو عند القوم الذين خوطبوا به خلاف البيان، وفى حد الإغلاق والبعد من التبيان، وأنّه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء، والمحاجي من النّاس، كيف وقد وصفه بأنّه ﴿عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾»([71]).
ويناقش العلوي صاحب كتاب «الطراز» كلا الطائفتين أيضاً بأسلوب منطقيّ رصين، ويقول: «إن من الناس من زعم أنّ اللغة حقيقة كلها، وأنكر المجاز، وزعم أنّه غير وارد في القرآن، ولا في الكلام. ومنهم من زعم أنّ اللغة كلها مجاز، وأن الحقيقة غير محققة فيها.
وهذان المذهبان لا يخلوان من فساد، فإنكار الحقيقة في اللغة إفراط، وإنكار المجاز تفريط، فإن المجازات لا يمكن دفعها وإنكارها في اللغة، فإنك تقول: «رأيت الأسد»، وغرضك الرجل الشجاع وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف:82]، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ [الإسراء:24]، إلى غير ذلك، ولا يمكن إنكار الحقائق أيضاً، كإطلاق الأرض والسماء على موضوعيهما، أيضاً فإنه إذا تقرر المجاز وجب القضاء بوقوع الحقائق؛ لأنه من المحال أن يكون هناك مجاز من غير حقيقة، فإذا بطل هذا القول فالمختار هو الثالث، وهو أن اللغة والقرآن مشتملان على الحقائق والمجازات جميعاً، فما كان من الألفاظ مفيداً لما وضع له في الأصل فهو المراد بالحقيقة، وما أفاد غير ما وضع له في أصل وضعه فهو المجاز»([72]).
وفى ضوء ما تقدم يبدو واضحاً ضعف رأي المنكرين للمجاز بعد أن أثبت العلماء بطلان حجّتهم في منع استعمال المجاز، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن بعض العلماء قد ألّف كتاباً في الرد على هؤلاء، منهم: «الحسن بن جعفر»، وعنوان كتابه: «الرد على من نفى المجاز في القرآن»([73]).
وقد أفرد المجاز بالتصنيف من الشافعية «عز الدين بن عبد السلام» (ت660هـ) في كتابه «الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز»([74]).
هذا من جانب ومن جانب آخر نجد أن أكثر الجمهور ومعظم البلاغيين يرون وقوع المجاز في القرآن الكريم، وكذلك ذهبت أغلب الشيعة الإمامية، وأغلب المعتزلة، ومن وافقهم من المتكلِّمين، إلى إثبات وقوع المجاز في القرآن الكريم([75]).
ومن خلال ذلك يتجلى بوضوح أن أية لغة، وخاصة اللغة العربية، لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية، وأنه لا بدّ من انتقالها للدلالة على معانٍ جديدة تتطلبها الحياة المتجددة باستمرار.
ومن هنا فإن استعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة إليه في بيان محسنات القرآن البلاغية.
واستعمال المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة، فكلاهما يستهدف الفائدة المتوخاة من الكلام، لأن الكلام «إنّما هو مبنيٌّ على الفائدة في حقيقته ومجازه»([76]).
وقد سبق أن أشار إلى هذا الرأي ابن الأثير بقوله: «واعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز، باختلاف لفظه، فانظر، فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحملَ إلاّ على طريق الحقيقة؛ لأنها هي الأصل، والمجاز هو الفرع، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلاّ لفائدة»([77]).
وتأسيساً على ما تقدم فإن الرأي الحق هو وقوع المجاز في كلام العرب بشكل عام، وفي القرآن الكريم بشكل خاص، وكما قال الزركشي «لو سقط المجاز سقط شطْر الحسن»([78])، وكيف لا والمجاز معلم بارزٌ من معالم الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم؟!
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، عضو الهيئة العلمية في كلية أصول الدين.
([1]) ابن رشيق، العمدة في الشعر 256:16.
([2]) انظر: عبد العزيز عتيق، في تاريخ البلاغة العربية: 12.
([5]) انظر: الصغير، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 131 ـ 141.
([6]) انظر: الصغير، مجازات القرآن: 12.
([8]) انظر: ابن النديم، الفهرست: 51 ـ 52.
([9]) ابن النديم، الفهرست: 52.
([10]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 23:1.
([11]) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، ولد سنة 110هـ، وتتلمذ لأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، وغيرهم، وكان يُعَدُّ من أجمع الناس علماً بلغة العرب القدامى وتاريخهم، ويرى الجاحظ أنّه لم يكن في الأرض خارجيّ ولا جماعيّ «أعلم بجميع العلوم» من أبي عبيدة، وتتفاوت الروايات في تعيين سنة وفاته بين سنة 207 وسنة 213هـ، فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي 111:8ـ112.
([12]) انظر: نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: 100.
([13]) أحمد مصطفى المراغي، تاريخ علوم البلاغة العربية: 49 فما بعد.
([14]) ابن الأنباري، نزهة الألباء في طبقات الأدباء: 107؛ محمد زغلول سلام، أثر القرآن في تطور النقد العربي 42 ـ 43.
([15]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 255:1.
([16]) انظر: ابن النديم، الفهرست: 52.
([17]) ابن خير الإشبيلي، الفهرست: 134.
([18]) الزبيدي، طبقات النحويين: 125.
([19]) فؤاد سزكين، مجاز القرآن لأبي عبيدة، (المقدمة): 18:1.
([20]) أبو عبيدة، مجاز القرآن 8:1.
([21]) مصطفى الصاوي الجويني، مناهج التفسير: 77.
([22]) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 92.
([23]) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: 103.
([24]) أبو زكريا الفراء، معاني القرآن 1: 14 ـ 15.
([25]) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: 103.
([26]) المصدر السابق: 104، نقلاً عن معاني القرآن للفراء: 363.
([27]) الفراء، معاني القرآن 2: 384 ـ 385.
([31]) انظر: الصغير، مجاز القرآن: 17.
([32]) انظر: عبد العزيز عتيق، البلاغة العربية: 329 فما بعد.
([33]) الجاحظ، الحيوان 27:5ـ28.
([34]) انظر: المصدر السابق 23:5؛ والبيان التبيين 28:3ـ29; وشوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: 55 ـ 56.
([35]) السّحت: ما خَبُثَ من المكاسب، قالوا: سُمي بذلك لأنه يسحت البركة، أي يذهبها.
([37]) انظر: مصطفى ناصف، الصورة الأدبية: 78؛ ومحمد زغلول سلام، أثر القرآن في تطور النقد العربي: 84 وما بعده.
([38]) انظر: الجاحظ، الحيوان 23:5 فما بعده.
([39]) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 20 ـ 21; مصطفى الصاوي الجويني، مناهج في التفسير: 83.
([40]) انظر: المبرد، المقتضب، في أغلب استعمالاته لمفهوم المجاز.
([41]) انظر: ابن جني، الخصائص 448:2.
([43]) انظر: الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 76.
([44]) الرماني والخطابي، ثلاث رسائل: 76.
([45]) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 91.
([46]) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 87.
([47]) انظر: الصغير، مجازات القرآن: 21.
([48]) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 91.
([49]) انظر: الصغير، مجازات القرآن: 22.
([50]) أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين: 277; ومجازات القرآن للصغير: 22.
([51]) أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين: 277.
([52]) انظر: عبد القادر حسين، المختصر في تاريخ البلاغة: 137.
([53]) انظر: ابن رشيق، العمدة 265:1 فما بعد.
([54]) {قُل لَئِن اِجتُمعَتِ الاِنسُ والجِنُّ عَلى أَن يَأتُوا بمثل هذا القُرآنِ لا يأتونَ بِمثلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لبعض ظهيراً} [سورة الاسراء: 88].
([55]) أبو هلال العسكري، الصناعتين: 1.
([56]) ابن قيم الجوزية، الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن: 27.
([57]) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 74.
([58]) انظر: الجاحظ، الحيوان 25:5ـ28.
([59]) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 20 ـ 21.
([61]) انظر ابن الأثير، المثل السائر 57:15، وأحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84.
([62]) انظر: المصدر السابق 59:1.
([63]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 272:2.
([64]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 77:2.
([65]) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 132.
([66]) انظر: ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر 236:1.
([67]) انظر: عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 292، الهَرفُ: الهذيان، يريد أنه أنكر البلاغة من أساسها.
([68]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 272.
([69]) السيوطي، الاتقان في علوم القرآن 77:2.
([70]) الجرجاني، أسرار البلاغة: 293 ـ 294.
([71]) المصدر السابق، 294، الإلباس، من ألبس الأمر إذا سيره وغطّاه وجعله ملتبساً.
([72]) العلوي، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة 44:1.
([73]) انظر: ابن النديم، الفهرست: 63، دار المعرفة، بيروت، 1978م.
([74]) انظر:السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 77:2.
([75]) انظر: الجاحظ، الحيوان 212:1; ابن جني، الخصائص 447:2؛ الشريف الرضي، تلخيص البيان والمجازات النبوية؛ السيد المرتضى، الأمالي; الزمخشري، تفسير الكشاف.
([76]) الآمدي، الموازنة بين الطائيين: 179; محمد حسين الصغير، الصورة الفنية في المثل القرآني:152.