نقد مصطفى مَلَكْيان
د. أمير صائمي(*)
عندما استجبتُ لرغبة الزملاء في مجلة «نقد كتاب» في كتابة نقد على أحد الكتب المطبوعة مؤخَّراً، عقدت العزم على تخصيص نقدي لأحد الكتب الهامّة لفضيلة الأستاذ مصطفى مَلَكْيان، وهو كتابه الذي يحمل عنوان «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة». فبغضّ النظر عن أهمِّية وقيمة الكتاب وآراء الأستاذ مَلَكْيان، تعود رغبتي في كتابة نقد على كتاب مَلَكْيان إلى يقيني وعلمي بأن الأستاذ مَلَكْيان على المستوى الشخصي يرحِّب بالنقد العلمي، خلافاً للكثيرين من الأفاضل الذين يضيقون ذرعاً بالنقد. وفي اعتقادي فإن المناخ الفلسفي في إيران بحاجة ماسّة إلى الترويج للكتابات النقدية ذات الطابع الأكاديمي.
وعلى الرغم من معرفتي الجيدة بشخصية الأستاذ مَلَكْيان، عرضتُ عليه رغبتي في كتابة نقد على كتابه المذكور، فلمستُ منه ـ للإنصاف ـ تشجيعاً كبيراً، وقد سرَّه ذلك كثيراً، وعبَّر عن ذلك قائلاً: إن من شأن هذه الخطوة أن تعمل على إشاعة ثقافة النقد والحوار. ومن هذه الناحية أجد من واجبي الإشادة بهذا الموقف المشهود لسماحته. إن الترحيب والانفتاح على النقد وعدم التشبّث برأيه الخاصّ من السمات التي تميّز الأستاذ مَلَكْيان، وترفعه فوق أقرانه من المفكِّرين، وتجعله في هذا الشأن مثالاً وأسوة وقدوة للآخرين.
أما السبب الآخر الذي يدفعني إلى كتابة هذا النقد فيكمن في الفرصة والمساحة التي تتوفَّر لي في هذا النقد لبيان آرائي المختلفة عن آراء الأستاذ مصطفى مَلَكْيان ـ الذي كان لي شرف التعرُّف عليه منذ سنوات طويلة ـ بأسلوبٍ واضح.
وعليّ الاعتراف قبل كلّ شيء والإذعان بأنّه لا شَكَّ في كون كتاب «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة» من الكتب الممتعة، والجديرة بأن تُقرأ؛ حيث يشتمل على الكثير من الموضوعات المتشعّبة، من مسائل الدين إلى علم النفس، ومن التربية والتعليم إلى نهج البلاغة، ومن السَّيْر والسلوك إلى الحرِّية والبصائر الخالصة، والمفعمة بالاهتمامات النبيلة والإنسانية. بل إنني أجد نفسي منسجماً ومتَّفقاً مع الجزء الأهمّ والهدف الرئيس من الكتاب، حيث إن بعض الروايات المأثورة في الدين والجمود على الظواهر تتجاهل الآليّات والأدوات الدنيوية للدين في ضمان الأخلاق والعدالة والحرِّية، ومن هنا فإنها تحتاج إلى إعادة صياغتها.
ومع ذلك يبدو أن أهمّ الإشكالات التي يعاني منها هذا الكتاب هو أنه عبارة عن نصٍّ تمّ تنزيله من سلسلة من المحاضرات المسجَّلة في أشرطة الكاسيت، وبذلك فإن هذا الأسلوب يعدّ استمراراً للتقليد الذي ورثناه على ما يبدو من أعمال الدكتور علي شريعتي&، حيث أخذ بعض المهتمِّين بطباعة ونشر المحاضرات التي ألقاها في الأوساط العامّة. ومن هنا لا يسعنا أن نتوقَّع الدقّة والتناغم الذي يُرجى من الكتاب الذي يتعهَّده مؤلِّفه من البداية إلى النهاية، مدفوعاً بهوس الدقّة والتناغم والبلاغة والانسجام.
فعندما يتمّ التطرّق في هذا الكتاب إلى تاريخ الفلسفة لا نرى أيّ إحالة إلى المصادر والمراجع في الأعمّ الأغلب. كما أن القسم الأكبر من هذا الكتاب عبارة عن مسائل أُعيد تكرارها لعدّة مرّات، وهو ما تنبَّه إليه الناشر، وقبل أن يتحمَّل المسؤولية في هذا الاتجاه.
وكما سوف أبيِّن لاحقاً فإن بعض المسائل الفلسفية المطروحة في هذا الكتاب ليست دقيقة([1]).
وأحياناً تبدو المسائل المطروحة في محاضرتين مختلفتين متعارضة بحَسَب الظاهر (وللأسف الشديد فإن تاريخ أغلب المحاضرات غير محدَّد)، ولم يتَّضح أبداً ما إذا كان هذا التعارض ـ كما أتوقَّع ـ يعود إلى تغيّر موقف الكاتب ورأيه في الفترة الفاصلة بين محاضرةٍ وأخرى، أم أنه مجرَّد تعارض ظاهري يمتلك الأستاذ مَلَكْيان طريقاً لحلِّه([2]).
وأحياناً يكون التبويب المطروح في محاضرة لموضوعٍ ما مختلفاً عن التبويب الآخر المطروح لذات الموضوع في محاضرةٍ أخرى([3]).
ولذلك من غير السهل علينا أن ننسب نظريّةً منسجمة للأستاذ مَلَكْيان من خلال مجرَّد الاستناد إلى هذا الكتاب.
وبشكلٍ عام فإن الهدف الرئيس الذي يهدف إليه الأستاذ مصطفى مَلَكْيان، من خلال مختلف محاضراته المنشورة في هذا الكتاب، هو التأكيد على أن التديُّن التقليدي يعاني الكثير من المشاكل، ومن هنا يتعيَّن على الإنسان المعاصر أن يبحث عن «المعنويّة» كبديلٍ عن التديُّن التقليدي.
إن بعض المشاكل التي يعاني منها الدين التقليدي من وجهة نظر الأستاذ مَلَكْيان؛ منها ما يحتوي على ماهيّة سابقة؛ ومنها ما يحتوي على ماهيّة لاحقة إلى حدٍّ ما.
ومرادي من المشاكل من النوع الأول هي المشاكل التي يرى الأستاذ مَلَكْيان أننا نراها على نحوٍ سابق، وهي على طبق القاعدة تشمل كلّ تديُّن تقليدي نتعاطى معه.
ومرادي من المشاكل من النوع الثاني هي تلك التي يتعاطى معها دينٌ خاصّ؛ بسبب نصوصه المقدَّسة؛ أو بسبب تاريخه الخاصّ. ومن هذا النوع مشاكل من قبيل: الافتقار إلى الوثاقة التاريخية للنصوص المقدَّسة لدين بعينه، أو المشاكل الأخلاقية ـ العلمية للتعاليم المحدَّدة لدين خاصّ.
ربما كان لدى الأستاذ مَلَكْيان مشاكل من هذا القبيل بشأن الإسلام والمسيحية، رغم أن البحوث التي يطرحها الأستاذ مَلَكْيان بهذا الشأن هي في العادة؛ ولأسباب واضحة، عامّةٌ للغاية.
ولن أتحدّث في هذا المقال عن هواجس ومخاوف من هذا النوع.
إن من بين المشاكل التي يعاني منها الدين التقليدي من وجهة نظر الأستاذ مَلَكْيان، والتي أشار إليها مراراً، وهي من نوع المشاكل ذات الماهيّة السابقة، هي أن التديُّن التقليدي؛ بسبب طبيعته التعبّدية، لا ينسجم مع العقلانية.
وفي ما يتعلق بالقسم الأوّل سوف أستدلّ على عدم كفاية برهان الأستاذ مَلَكْيان على إثبات معاناة التديُّن التقليدي على نحوٍ سابق، وإن رؤيته في هذا الموضوع على أساس الآراء المعرفيّة المعاصرة ليست صحيحة.
وفي القسم الثاني سوف أسعى باختصارٍ إلى بيان ما هو مراد الأستاذ مَلَكْيان من «المعنوية» بوصفها بديلاً عن التديُّن، وسوف أثبت أن مفهوم «المعنويّة» عند الأستاذ مَلَكْيان ليست مفهوماً منسجماً.
1ـ استنكار التعبُّد ــــــ
يذهب الأستاذ مصطفى مَلَكْيان في تفكيره إلى أن التديُّن التقليدي يقوم حتماً على حدٍّ من التعبّد. في حين أنه يرى أن «الخصيصة الثابتة للعصر الحديث، والتي لا تنفكّ عنه»، هي عدم وجود موضع للتعبُّد فيه من الإعراب. وقد أشار إلى ذلك في أكثر من سبع مواضع من كتابه بعبارات متقاربة (وشبيهة بالنصّ الذي سنذكره أدناه)([4]). وفي مواضع أخرى من الكتاب يرى أيضاً أن رفض التعبُّد من لوازم «المعنوية» و«الحياة الأصيلة»([5]).
«إن العنصر الأول الذي يميِّز الحداثة هو استدلاليتها. وهذا الأمر لا ينسجم مع تعبّدية الفهم التاريخي التقليدي للدين التاريخي. إن الاستدلال لا يتناغم مع التعبّد. إن التعبّد هو الذي يقول: «إن (أ) هو (ب)»، وعندما تسأل: «ما هو الدليل على ذلك؟»، يقال لك: «لأن (x) يقول: إن (أ) هو (ب)». وبمقدار عدم اقتناعك بهذا النمط من الاستدلال تكون أقرب إلى الحداثة، وبمقدار انسجامك مع هذا النوع من الاستدلال تكون أبعد من الحداثة. فإن الإنسان الحداثوي يرى مغالطة كبرى في القول: «إن (أ) هي (ب)؛ لأن هذا هو ما يقوله (x)». فليس هذا هو النمط الصحيح للاستدلال»([6]).
خُذْ بنظر الاعتبار الاستدلال القائل: «إن P هو Q». في الاستدلال المعتبر منطقياً (valid) يكون صدق المقدّمة P ضامناً لصدق النتيجة Q، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون P صادقة، وفي الوقت نفسه تكون Q كاذبة. في علم المنطق يُصطلح على البراهين غير المعتبرة بالمغالطات أيضاً.
صحيحٌ ما يقوله الأستاذ مَلَكْيان، من أن الاستدلال القائل: «إن (x) يقول: إن (أ) هو (ب)، وعليه يجب أن يكون (أ) هو (ب)» ليس معتبراً من الناحية المنطقية، ومع ذلك علينا أن لا نغفل أن لا شيء من البراهين الاحتمالية والاستقرائية، وكذلك البراهين القائمة على أفضل التفاسير، معتبرٌ من الناحية المنطقية؛ إذ من المحتمل أن تكون مقدّمات هذه البراهين صادقة، وفي الوقت نفسه لا تكون نتائجها صادقة.
فعلى سبيل المثال: إن الاستدلال القائل: «إن جميع الشواهد العلمية تقول: إن (أ) هو (ب)، وعليه يجب أن تكون (أ) هي (ب)» ليس استدلالاً معتبراً من الناحية المنطقية؛ إذ إن صدق المقدمة لا يُثبت صدق النتيجة.
وعلى غرار هذا البرهان البرهان القائل: «إن تجربتي الإدراكية تقول: إن المرآة أمامي؛ فيجب أن تكون المرآة أمامي»، هو غير معتبر من الناحية المنطقية أيضاً؛ لأن صدق المقدّمة هنا لا يثبت صدق النتيجة أيضاً.
وعليه لو كانت «عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها» تقوم على القول بأن جميع براهين الفرد المعاصر والحداثوي يجب أن تكون معتبرة من الناحية المنطقية إذن يجب على الفرد الحداثوي عندئذٍ أن يعتبر جميع العلوم التجريبية القائمة على الأدلّة الاحتمالية والاستقرائية، وكذلك الأدلة التي تقوم على أساس أفضل التفاسير، من المغالطات والأدلّة غير المعقولة، بل وعليه أن يُشكِّك حتّى في وجودها الخارجي أيضاً.
إلا أنه لا يمكن القبول في الأساس بهذا الادّعاء القائل: «إن العناصر الحداثوية التي لا يمكن اجتنابها» تستلزم إنكار العلوم التجريبية المعاصرة.
وعلى هذا الأساس؛ ولكي لا ننسب هذا الادّعاء العجيب والغريب إلى الأستاذ مصطفى مَلَكْيان، يجب أن لا يذهب بنا التصوُّر إلى أن مراده من الاستدلال هو أن يعمل الفرد لتبرير معتقداته على الاستفادة من مجرّد الأدلة المعتبرة من الناحية المنطقية فقط، بل إن الاستدلال المنشود للأستاذ مَلَكْيان يجب أن نراه من السعة بحيث يشمل حتّى الأدلة الأخرى، ومن بينها الأدلّة الاحتمالية والاستقرائية والقائمة على أفضل التفاسير أيضاً.
من هنا يجب أن نفهم خصيصة الاستدلال على أساس أن الفرد الحداثوي يطالب بالأدلة لإثبات ما يذهب إليه من المعتقدات، وأن تقوم هذه الأدلة بإضفاء المعقولية على معتقداته، لا أن تعمل على ضمان صدق تلك المعتقدات من خلال (افتراض صدق المقدّمات).
فلو جعلنا هذا الفهم من الاستدلالية هو الملاك كان ادّعاء الأستاذ مَلَكْيان لا محالة عبارة عن أن الاعتقاد بأن «(أ) هو (ب)» لا يمكن أن يكتسب معقوليته من طريق الاعتقاد القائل: «إن (x) هو الذي يقول بأن (أ) هو (ب)».
ولكننا إذا أردنا أن نفهم ادّعاء الأستاذ مَلَكْيان على هذه الشاكلة سوف يدهشنا أن لا نجد في أيِّ موضعٍ من مواضع الكتاب ما يصلح أن يكون دليلاً ينهض لصالحه.
وربما كان أقرب شيء يشكِّل ما يُشبه الاستدلال على هذا الادّعاء المذكور قوله: «إن الإنسان المتعبّد متعبّدٌ للأوامر الصادرة عن الغير، والذي يكون غيره هو الذي يُصدر الأوامر له، أما الإنسان الاستدلالي فهو الذي يكون حاكماً على نفسه، وينصاع لأوامره، ويكون مطيعاً لما يصدر عن قناعته»([7]).
ولكي نفهم استدلال الأستاذ مَلَكْيان يجب أن نفهم ما هو المراد من «الانصياع لأوامر الغير»؟ ولماذا يعتبر «الانصياع لأوامر الغير» قبيحاً من الناحية المعرفية؟
ربما كان المراد من «الانصياع لأوامر الغير» أن يؤمن الفرد بقضية مثل: P؛ لأن شخصاً آخر قال: إن القضية P صادقة. لكنْ لماذا يجب القول بقبح «الانصياع لأوامر الغير» من الناحية المعرفية؟!
لنفترض أننا نعلم أن الشخص الفلاني صاحب تخصُّص في مجالٍ علمي معيّن، وأنه موثوق في مجال تخصُّصه، فلماذا يكون الاعتقاد والتصديق بما يقوله في ذلك المجال التخصُّصي خطأً من الناحية المعرفية؟!
قد نذهب إلى القول بأن مراد الأستاذ مَلَكْيان هو أننا عندما لا نعلم بأن الآخر موثوق في مجال من المجالات العلمية يجب أن لا نعتمد على كلامه. ولكنْ لماذا؟
فمن الطبيعي جدّاً أن نذهب إلى القول بأن الإنسان العقلاني يعتمد على قواه العقلانية والإدراكية والمعرفية. وبعبارةٍ أخرى: إن الإنسان العقلاني حيث تقول له تجربته الإدراكية: إن مرآةً أمامه يستنتج أن هناك مرآةً أمامه. إن للتجربة الإدراكية سلطاناً على الإنسان العقلاني. يبدو أنه لا ينقص شيءٌ من العقلانية أو «الحداثوية» لدى الإنسان تحت سلطة وتأثير التجربة الإدراكية. إذن فلماذا يجب علينا أن نرى فرقاً بين الخضوع لسلطان التجربة الإدراكية وبين الخضوع لسلطان الشخص العقلاني الآخر، واعتبار أحدهما من لوازم العقلانية والآخر مناقضاً للعقلانية؟!
يستدلّ آلستون بأسلوبٍ مقنع على أنّنا؛ لكي نتعرَّف على العالم، بحاجة إلى الاعتماد على قوانا المعرفية والعقلية، دون أن يكون لدينا دليلٌ موثوق على ضرورة الاعتماد عليها([8]). فإذا كان يتعيَّن عليَّ الاعتماد على قواي المعرفية، مع الالتفات إلى عدم وجود فرق جوهري بين قواي المعرفية والقوى المعرفية للآخر، فلماذا لا يجوز لي الاعتماد على القوى المعرفيّة للآخر؟!([9]). وبعبارةٍ أخرى: ما هو القبيح في الخضوع والانصياع لـ «أوامر الغير»، بمعنى الرضوخ لأوامر القوى المعرفية للآخر؟!
يحاول الأستاذ مَلَكْيان في موضعٍ من كتابه أن يقدِّم جواباً عن هذا السؤال، وذلك إذ يقول: «من الممكن بطبيعة الحال أن يقال بعدم وجود دليل على المصدرية المعرفية للحسّ والشهود والعقل، بمعنى كونها من القوى الاستدلالية. والجواب عن ذلك: أجل، لا بُدَّ من القول في المآل بعدم امتلاكنا دليلاً على هذه الأمور، ولكنّنا في الوقت نفسه لم نعثَرْ على ما يعارضها… إن المصادر الدينية تقول أشياء مناقضة، ولا تمتلك ما يعمل على إصلاحها ذاتيّاً. وبطبيعة الحال فإن الحسّ أيضاً يقول بعض الأشياء المناقضة، إلاّ أنه على حدِّ قول علماء المعرفة يمتلك ما يعمل على إصلاحها ذاتيّاً»([10]).
إلا أن هذا الجواب ليس كافياً، بل ربما يتجاهل السؤال الرئيس موضع البحث أيضاً.
فأوّلاً: في ما يتعلَّق بخصوص التجارب الإدراكية لا يحصل إصلاح ذاتي لزوماً؛ ومن جهةٍ أخرى: يمكن بحسب الأصول أن تصطدم استنتاجات كلّ مصدر معرفي (بما في ذلك عقلانية الآخرين) مع استنتاجات مصدر معرفي آخر، وفي بعض الموارد يعمل بعضها على إصلاح بعضها الآخر.
يُضاف إلى ذلك أن استنتاجات كل مصدر معرفي قد تصطدم أيضاً ببعض الاستنتاجات الأخرى لذات هذا المصدر المعرفي، وبالتالي تعمل على تصحيحها في بعض الموارد.
ومن هذه الناحية لا يوجد اختلاف جوهري بين الإيمان والاعتقاد على أساس القوة المعرفية للشخص وبين الإيمان والاعتقاد على أساس القوة المعرفية للآخر.
إلاّ أن الأهمّ من ذلك أننا عندما نقول: إن التجربة الإدراكية تمنحنا الدليل إنما نريد بذلك أنها تمنحنا دليلاً قابلاً للنقض (defeasible)، وأن الشخص العقلاني ما دام لا يشكل معارضاً (defeater) يمكن له الاعتماد على تجربته الإدراكية. وبعبارةٍ أخرى: إن الدليل الذي يقدِّم لنا تجربة إدراكية يمكن نقضه، وإذا تمّ نقضه لا يستطيع بعد ذلك أن يضفي المعقولية على معتقداتنا.
فعلى سبيل المثال: لو علمتُ أنني واقع تحت تأثير دواء يؤدّي إلى الوَهْم سوف يتمّ نقض الدليل الذي يمنحني تجربة النظر، وبعد ذلك لا تعود تجربة النظر تضفي المعقولية لاعتقادي. وعلى نحوٍ مشابه نجد أن الذين يقولون: إن أقوال الآخرين توفِّر لنا دليلاً يريدون بطبيعة الحال القول بأن هذا الدليل قابلٌ للنقض. وبعبارةٍ أخرى: إن الادّعاء بأن الاعتقاد بأن «(أ) هو (ب)» من طريق الاعتقاد بأن «(x) يقول: إن (أ) هو (ب)» يكتسب المعقولية ما دام لا يوجد هناك ما يعارضه. لا شَكَّ في أن المعارض يمكنه أن يزيل معقولية الاعتقاد.
ولكنْ يجب الفصل بين الادّعاء القائل: «إن التعبُّد بحَسَب الأصول يتعارض مع العقلانية الحداثوية» وبين الادّعاء القائل بأن «التعبُّد من خلال وجود المعارض يتنافى مع العقلانية الحداثوية». فالادّعاء الثاني هو ادّعاءٌ صادق بشكلٍ واضح، ولا يختص بالتعبّد على نحو خاصّ أبداً. كما أن الاعتماد على التجربة الإدراكية مع وجود المعارض يتنافى مع العقلانية أيضاً. وهكذا فإن الاعتماد على الشهود والرؤية الباطنية في حال وجود المعارض يتنافى مع العقلانية أيضاً.
إلاّ أن ادّعاء الأستاذ مَلَكْيان، كما يتَّضح من جميع مواضع الكتاب، هو الادّعاء الأول. وبعبارةٍ أخرى: إن كلمة الأستاذ مَلَكْيان لا تقتصر على مجرّد القول بأن المصدر المعرفي (بما في ذلك النصوص الدينية) يفقد القدرة على إثبات نفسه عند وجود المعارض، بل يذهب في ادّعائه إلى خطأ الاعتماد على المصادر الدينية، طبقاً للأصول والقواعد؛ وذلك لأن «الإنسان الحداثوي شديد النزوع إلى الاستدلال، وهو متنصِّل عن التعبُّد بمقدار نزوعه إلى الاستدلال»([11]). إن الخضوع للقّوة المعرفية للغير عندما يكون هناك ما يعارضها إنما يكون من القبح والسوء بمقدار ما إذا كان هناك معارضٌ للخضوع إلى أمر إدراكنا الذاتي. وعلى هذا الأساس فإن ادّعاء الذي يرى عقلانية الخضوع والانصياع لأوامر القوّة الإدراكية للآخر هو أنه عندما لا يكون هناك معارضٌ يمكن أن يكون الخضوع للقوّة الإدراكية للشخص الآخر عقلانياً.
والسؤال الهامّ هو: عند افتراض عدم وجود المعارض ما هو الفرق بين الخضوع لأمر عقل الآخر والخضوع لأمر القوة المعرفية للذات؟
إن هذا هو السؤال الذي لا يجيب عنه الأستاذ مَلَكْيان مطلقاً. وعلى هذا الأساس فإن مجرّد الاستدلال في هذا الكتاب على عدم معقولية التعبّد، أي الاستدلال على أساس قبح «الانصياع والخضوع لأوامر الغير»، لا يبدو مكتملاً.
ولكي يُثبت الأستاذ مَلَكْيان تنكُّر الإنسان العقلاني للتعبّد، بمعنى أنه لكي يُثبت الادّعاء القائل: إن الإيمان بـ «أن (أ) هو (ب)» لا يمكن أن يكتسب معقوليته من طريق الإيمان بـ «أن (x) هو الذي يقول بأن (أ) هو (ب)»، قد سلك طريقاً في غاية التعقيد؛ إذ في حدود معرفتي قلَّما يمكن العثور في الأبستيمولوجيا المعاصرة على فيلسوف يتقبَّل مثل هذا الادّعاء.
ولتوضيح ذلك لا بُدَّ من القول: إن هذا الموضوع يُبحث في الأبستيمولوجيا المعاصرة تحت عنوان المعرفة البيانية (testimony). إننا في حياتنا اليومية كثيراً ما نعتمد على شهادات الآخرين وبياناتهم على نطاق واسع، فالتلاميذ يعتمدون على أقوال الأساتذة والمعلمين، والمعلمون والأساتذة بدورهم يعتمدون على الكتب والمصادر التي كتبها غيرهم، والعلماء يعتمدون على تقريرات أقرانهم من العلماء الآخرين. كما أننا في التاريخ والجغرافيا وفي خياراتنا التي تحدِّد لنا ما الذي يتعيَّن علينا شراؤه أو تناوله وفي غير ذلك من الموارد الأخرى نعتمد على نصائح وأقوال الآخرين. لستُ أعهد أبستيمولوجياً معاصراً يُنكر إمكان أن تكون الشهادة والبيِّنة دليلاً على الاعتقاد مورد الاستشهاد.
نعم، هناك اختلافٌ هامّ بين علماء الأبستيمولوجيا البيانية بشأن نوعية الدليل الذي يوفِّر البيان والشهادة، وعلى أساس هذا الاختلاف يتمّ تقسيم علماء الأبستيمولوجيا البيانية إلى قسمين: التحويليون؛ وغير التحويليين.
فعلى سبيل المثال: نجد فليكر وإدلر ينضويان تحت القسم الأوّل، بينما يندرج بيرغ وفولي ضمن القسم الثاني([12]).
يذهب غير التحويليين إلى اعتبار الشهادة والبيّنة مصدراً معرفياً مستقلاًّ، ويعتقدون أن سامع الشهادة لا يحتاج في اعتماده على الشهادة إلى القطع بأن صاحب الشهادة يتمتَّع بالوثاقة. ونذكر لذلك مثالين: لا شَكَّ في أنك قد احتَجْتَ يوماً في العثور على عنوان إلى أن تسأل شخصاً مستطرقاً عن ذلك العنوان، كما لو كنتَ تبحث عن مكان مدرسةٍ مثلاً، وقال لك ذلك الشخص: إنها تقع في نهاية الشارع. يقول غير التحويليين من الأبستيمولوجيين: حتّى إذا لم تقطع بوثاقة ذلك الشخص يمكن لشهادته وبيّنته أن تشكِّل دليلاً على إيمانك وتصديقك بأن المدرسة تقع حيث أشار.
في المثال الثاني نفترض أن باحثاً بشأن المريخ، محبّاً للاستطلاع، صادف أثناء بحثه شيفرةً توصَّل من خلالها إلى كشف محتواها بعد حلِّها، وكان المحتوى يقول: «إن كوكب المريخ كان يحتوي على كائناتٍ عاقلة في العصر الكذائي». ولنفترض أنه لم يكن لدينا أيّ شاهدٍ علمي على نقض هذا الادّعاء. ألا يجب القول: إن هذه الشيفرة توفِّر لنا دليلاً لقبول مضمونها القائل بوجود كائنات عاقلة كانت تعيش على سطح كوكب المريخ في تلك المرحلة؟
يذهب غير التحويليين من علماء الأبستيمولوجيا إلى القول بأن كلمات الكائنات العاقلة توفِّر لنا دليلاً للتصديق والاعتقاد بمضمون الشيفرة؛ لأن عقلانية الآخرين يمكن لها ـ مثل قوّتنا الإدراكية تماماً ـ أن تكون مصدراً معرفياً بالنسبة لنا([13]). وكما تقدَّمت الإشارة ـ بطبيعة الحال ـ فإن الاعتماد على عقلانية الآخرين لا يعني تقليد الآخر بشكلٍ أعمى، بل إن الفرد إنما يمكنه الاعتماد على قول الآخر ما دام خالياً من المعارض.
ومن ناحيةٍ أخرى يصرُّ التحويليون من الأبستيمولوجيين على أن الآخرين لا يشكِّلون مصدراً معرفياً مستقلاًّ بالنسبة لنا، ولكي نتمكَّن من تصديق شهادة الأخر على نحو مبرَّر يجب أن تكون لدينا أدلّة مستقلّة تثبت وثاقة الشاهد. فإذا كانت هناك أدلّة مستقلّة عن الشاهد تثبت وثاقته يمكن عندها أن نعتبر شهادته دليلاً معرفيّاً يمكن الاعتماد عليه وتصديقه. وعلى هذا الأساس فإن مصدر دليلنا للتصديق بالقضية المشهود لها يعود بالتالي إلى الدليل الذي يُثبت ويُبرِّر صحّة اعتمادنا على هذه الشهادة. ومن هنا فإن الحجّة البيانية تتحوَّل في نهاية المطاف إلى حجِّية مستقلّة نحصل عليها بشكلٍ مستقلّ عن الشهادة والبيّنة.
ورغم أننا لا نجد في كتاب الأستاذ مَلَكْيان ما يدلّ على الاهتمام بالمسائل المعاصرة في الأبستيمولوجيا، وقد يذهب التصوُّر في بادئ الأمر إلى أن الأستاذ مَلَكْيان ـ دون أن يكون بحاجةٍ إلى الاستدلال ـ يذهب إلى بطلان رؤية غير التحويليين من الأبستيمولوجيين، ويتَّخذ بشكلٍ وآخر موقفاً مشابهاً لما عليه التحويليون من الأبستيمولوجيين، إلاّ أن هذا التصوُّر غير صحيح.
ولكي ندرك المسألة بشكلٍ جيِّد يمكن التدقيق في العبارة التالية للأستاذ مَلَكْيان، إذ يقول: «لا أقول بوجوب إلغاء التعبُّد بالمرّة… بل يجب ما أمكن جعل البراهين القائلة بأن «(أ) هي (ب)» ـ التي تعتمد على (x) الدين، أو بعبارة أخرى: التي تعتمد على أقوال الرجال الذين يضفي عليهم الدين هالةً تجعلهم فوق السؤال ـ استدلالية وتجريبية، أو البحث عن سلسلة من المقدّمات المقبولة، أو الواضحة والعقلانية في الحدّ الأدنى، والتي إذا ضممناها إلى بعضها نتج عنها أن «(أ) هي (ب)»([14]).
وفي الحقيقة فإن الأستاذ مَلَكْيان يذهب إلى ضرورة أن يكون هناك برهان مستقلّ لكل قضية تعبّدية.
أما ما يقوله التحويليون من الأبستيمولوجيين بشأن البينة والشهادة فيختلف عن ذلك؛ فإنهم لا يقولون بضرورة أن يكون هناك برهانٌ مستقلّ لكل قضية تعبدية، بل يقولون بضرورة الحصول على شواهد تثبت وثاقة شخص الشاهد بشكلٍ عامّ، حتّى إذا لم يكن هناك برهانٌ مستقلّ على صدق القضية الخاصة مورد الاستشهاد.
فعلى سبيل المثال: من وجهة نظر هذه المجموعة من الأبستيمولوجيين في ما يتعلَّق بتصديق الشهادة القائلة: «إن المدرسة تقع في نهاية الشارع» لسنا بحاجةٍ إلى برهان مستقلّ يثبت أن المدرسة تقع في نهاية الشارع، بل لا بُدَّ هناك من شواهد تثبت أن الذي يشهد بذلك يقطن في تلك المنطقة مثلاً، ولا يمتلك دافعاً إلى الكذب والتغرير بالسائل.
وبعبارةٍ أخرى: يبدو أن الأستاذ مَلَكْيان لا يرى الشهادة مصدراً من مصادر المعرفة أبداً، بَيْدَ أن الأبستيمولوجيين المعاصرين، سواء أكانوا من التحويليين أم من غير التحويليين، يعتبرون الشهادة مصدراً من مصادر المعرفة.
لنفترض الآن أن الأستاذ مَلَكْيان ينطلق في الواقع من موقف الدفاع عن أصحاب الرؤية التحويلية. بَيْدَ أنّه حتّى في هذه الحالة لا يمكن الاستدلال على قاعدة التنصُّل عن التعبُّد (طبقاً للأسلوب الذي تقدَّم ذكره)، والقول بأن التديُّن التقليدي مغايرٌ للعقلانية.
في سياق الاستدلال لصالح هذا الادّعاء يتعيّن على الأستاذ مَلَكْيان قبل كلّ شيء أن يستدل لصالح التحويليين في مواجهة غير التحويليين. ثمّ لا بُدَّ من أن يثبت عدم وجود أدلّة قوّية بأيدينا على وثاقة مصادر الدين الخاصّ. في خصوص هذه الحالة يمكن للأستاذ مَلَكْيان أن يدَّعي أن التعبّد بمثل هذا الدين لا ينسجم مع العقلانية([15]).
إلاّ أن الأستاذ مَلَكْيان لا يقوم بأيّ واحدٍ من هذين الأمرين في كتابه، فلا هو يخوض في مسائل أبستيمولوجيا البيّنة والشهادة، ولا هو يخوض في البحث بشأن وثاقة دين خاصّ. إن استدلاله متقدِّم، وهو إلى ذلك شديد التعميم، ويخلو من الدخول في الجزئيّات والتفاصيل. فهو يحاول الاستدلال على نحوٍ متقدِّم، وعلى أساس من الفرضيات العامّة جدّاً، ليثبت أن الإنسان الحداثوي متنكِّرٌ للتعبُّد، ومن هنا يكون التعبُّد بتعاليم كلّ دينٍ مغايراً للعقلانية بحَسَب القاعدة. ربما كان هذا الاستدلال أكثر طوباوية من أن يستطيع الوصول إلى غايته.
2ـ «المعنوية»: الفردوس المستحيل ــــــ
منذ سنوات ونحن نقرأ مشروع الأستاذ مصطفى مَلَكْيان حول «العقلانية والمعنوية». وقد اشتمل كتابه «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة» على عدد من المحاضرات بشأن «المعنوية». وعلى الرغم من ذلك أجد صعوبة في فهم ما يريده الأستاذ مَلَكْيان ـ طبقاً لهذا الكتاب ـ من «المعنوية».
إن فهمي لفكرة «المعنوية» عند الأستاذ مَلَكْيان على أساس كتاب «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة» هو كالتالي: إن «المعنوية» مسارٌ يهدف إلى تحقيق الخصائص النفسية، التي هي من قبيل: الطمأنينة والأمل والرضا والحيوية وراحة البال([16]). إن الشخص «المعنوي» ـ أي الشخص الذي يسهم في رسم هذا المسار ـ يؤمن بالحدّ الأدنى والممكن من القضايا ما وراء الطبيعية([17]). إن مسار «المعنوية» يتحقَّق من طريق (أو من بين ما يحقِّقه):
1ـ السعي إلى الحياة «الأصيلة» (بمعنى الحياة على أساس الفهم والاستدلال الذاتي).
2ـ السعي إلى إدراك الفرد لوضعه النفسي، والعمل على تحسينه.
3ـ السعي إلى الحياة الأخلاقية([18]).
وبالالتفات إلى أن التنصُّل عن التعبُّد، وعدم الاعتقاد بـ «القضايا الميتافيزيقية الكبرى»، قد أُدْرِجَتْ في صلب مفهوم «المعنوية»، لا غرابة في أن تكون «المعنويّة بديلاً للدين» من وجهة نظر الأستاذ مَلَكْيان([19]).
كما أنه بالالتفات إلى أن الاستدلالية من جملة خصائص الإنسان المعنوي تعتبر «المعنوية» بناءً على التعريف المذكور لها متناغمةً مع العقلانية([20]). وبعبارةٍ أخرى: إن مشروع المواءمة بين العقلانية والمعنوية يتمّ تحقيقه من طريق الوصول إلى تعريف لمفهوم «المعنوية» ينسجم مع العقلانية.
وحيث أوضحت فهمي لمفهوم «المعنوية» عند الأستاذ مَلَكْيان، أذهب إلى الاستدلال على عدم انسجام هذا المفهوم. ولكنْ قبل ذلك لا بُدَّ من الإشارة باختصارٍ إلى مسألة ذات صلة بما نحن فيه، وإنْ على شكل هامشي، فنقول: من الطبيعي أن نعتقد بأن المعلومة القائلة بأن غاية الإنسان المعنوي تكمن في اجتناب الألم والوصول إلى الطمأنينة والسعادة والرضا يجب أن تكون على شكل معياري (normative)، بمعنى أنه يجب على الإنسان المعنوي أن يتجنَّب الألم، ويسعى إلى تحصيل السعادة والطمأنينة والرضا.
إلاّ أن الأستاذ مَلَكْيان في مواضع من كتابه يقيم هذه المسألة المعيارية على مسائل توصيفية تقول: إن أعمال جميع الناس تأتي في إطار الابتعاد عن الآلام، ومن ذلك قوله: «إن الغاية القصوى التي ينشدها الإنسان هي البُعْد عن الأوجاع والآلام… وهذا ما تثبته كافّة التحقيقات السايكولوجية ـ سواء تلك التي أجريت في مجال فلسفة النفس وعلم النفس الفلسفي، أو تلك التي أجريت في علم النفس التجريبي / المخبري، وكذلك الأبحاث المنجزة الأخرى ـ، حيث تؤيِّد جميع هذه التحقيقات أن الغاية القصوى التي ينشدها الإنسان تكمن في الابتعاد عن الوجع والألم… فإلى أيّ جهةٍ لجأ الإنسان، ومن أيّ جهةٍ تنصَّل، إنّما يكون ذلك منه لأنه يجد في ما يلجأ إليه شيئاً من الأمل في البُعْد عن الألم، وفي ما يهرب منه شيئاً من الوقوع في الأذى والوجع»([21]).
إن الأستاذ مَلَكْيان لا يذكر مصدراً معتبراً لهذا الكلام.
وعلى الرغم من ادّعاء الأستاذ مَلَكْيان فإن الكثير من الفلاسفة (ولا سيَّما المعاصرون منهم، المتأثِّرين بأدلّة جوزيف باتلر) قد اقتنعوا بعدم وجود دليل متين لصالح هذا الادّعاء القائل باستحالة أن يقوم الفرد بعملٍ يرى فيه ضرراً على نفسه([22]). فعلى سبيل المثال: قد يرتكب الشخص عملاً لمجرَّد أنه يعتبره من مسؤوليته، أو أنه يقوم به طلباً لإسعاد شخصٍ آخر (وقد دافع كلٌّ من: «براير» و«شيفر لاندو»، على التوالي، في مقالةٍ وكتاب، عمدا إلى كتابتهما كمنهجٍ تدريسي لطلابهما في فرع الفلسفة، عن هذه الرؤية، بوصفها رؤية أورثودوكسية في مجال الفلسفة)([23]).
ومن جهةٍ أخرى، وفي مجموعةٍ أخرى من التجارب المؤثِّرة للغاية، عمد عالم نفس اسمه «دانيال باتسون»، مع مساعديه، إلى القيام بتجارب لإثبات أن أفضل بيان لمساعدة فرد مخلص لآخر، في سيناريو واضح، لا يأتي من سعي الفرد إلى الابتعاد عن الألم وتأنيب الضمير، والتعرّض لانتقاد الآخرين، أو الحصول على السعادة أو اللذة والمكافأة([24]).
كما أثبت الفيلسوف وعالم النفس الشهير «إليوت سوبر» أن الشواهد التكاملية تثبت أن للأفراد نزعات تؤثر الآخرين (نزعات لا مكان فيها لمصلحة الفرد وضرره)([25]).
ومن هنا فإن ادّعاء الأستاذ مَلَكْيان القائل: «إن جميع تحقيقات علم النفس… تؤيِّد أن الغاية القصوى للإنسان تكمن في تجنُّب الألم والعذاب» يبدو باطلاً.
لنعُدْ إلى أصل بحث مسألة «المعنوية» عند الأستاذ مَلَكْيان. في اعتقادي إن مفهوم «المعنوية» عند الأستاذ مَلَكْيان ليس مفهوماً منسجماً.
ولإيضاح هذا الموضوع لا بأس بذكر الهاجس الذي يسعى الأستاذ مَلَكْيان أن يجد حلاًّ له في أكثر من موضع من كتابه.
إن هذا الهاجس هو أن الخصائص النفسية، من قبيل: الطمأنينة والسعادة، يمكن لها أن تحصل على أساس الأوهام أيضاً. إن أوّل ما يتجلّى هذا الهاجس في كتاب الأستاذ مَلَكْيان عندما يجيب قائلاً: «في هذا النوع من الموارد أنقل دائماً إجابة ذلك المفكِّر الفرنسي الشهير، الذي كان يقول: «يمكن خداع بعض الأشخاص على الدوام، كما يمكن خداع جميع الناس لبعض الوقت، ولكنْ لا يمكن خداع جميع الناس على الدوام»»([26]).
ومضافاً إلى الشكّ في صوابية كلام «المفكِّر الفرنسي الشهير» المذكور، فإن جواب الأستاذ مَلَكْيان من الناحية العمليّة يتجاهل السؤال الرئيس. إن الهاجس هو: لماذا لا يمكن لطمأنينة وسعادة الإنسان المعنوي أن تحصل من طريق الوَهْم.
إلاّ أن الأستاذ مَلَكْيان يذعن في هذا الجواب بإمكان تضليل بعض الناس على الدوام. ومن هذه الناحية فإن الهاجس والقلق بشأن هذا البعض من الناس لا يزال قائماً.
وفي الموضع الثاني من الكتاب، الذي يتعرَّض فيه الأستاذ مَلَكْيان لهذا الهاجس، نجد جوابه أجدر بالاهتمام؛ إذ يقول: «نحن لا نريد أن نكون سعداء على أساس من الوَهْم، ولا نريد الحصول على الطمأنينة انطلاقاً من الوَهْم، أو أن نجنح نحو الأمل بقارب الوَهْم، بل نريد الوصول إلى السعادة والطمأنينة والأمل على أساس من الحقيقة»([27]).
إن هذا الجواب يبدو من وجهة نظري جواباً مناسباً، وإنْ كان الجواب الأدقّ ـ على ما يبدو ـ الذي كان بإمكان الأستاذ مَلَكْيان أن يقدِّمه هو أن المعنوية مسار يؤدّي إلى الطمأنينة والسعادة من طريقٍ خاصّ، كالدليل مثلاً، وأن الفرد المعنوي الذي يتمتَّع بخصيصة الاستدلالية لن يصاب بالوَهْم.
إلاّ أنّ هذا الجواب يبرز المشكلة الأهمّ التي يعاني منها مفهوم «المعنوية» عند الأستاذ مَلَكْيان.
وكما تقدّم فإن المعنوية مسارٌ يؤدّي إلى الطمأنينة والسعادة من طريق خاصّ، كالاستدلالية والأخلاقية مثلاً.
بَيْدَ أن المشكلة هنا تكمن في أن الاستدلال لا يهدف إلى تحصيل الطمأنينة والسعادة، بل إلى الصدق.
كما أن غاية الأعمال الأخلاقية ليست هي مجرّد سكينة الفاعل الأخلاقي فقط، بل بالإضافة إلى ذلك، فإن أموراً من قبيل: رعاية حقوق الآخرين، والتقليل من معاناتهم، وما إلى ذلك، تعتبر من الأهداف التي يرصدها الفعل الأخلاقي أيضاً.
وعلى هذا الأساس فإن الفرد المعنوي، الذي يهدف ـ من وجهة نظر الأستاذ مَلَكْيان ـ إلى بلوغ الطمأنينة والسعادة دائماً، لا يمكنه أن يسلك بالضرورة سلوكاً أخلاقياً واستدلاليّاً بالضرورة؛ لأن السلوك الاستدلالي والأخلاقي ليست طرقاً توصل إلى الطمأنينة والسعادة بالضرورة. وبعبارةٍ أخرى: إن الفرد المعنوي يسعى إلى تخفيف الألم، إلاّ أنه يسلك طرقاً قد لا توصله إلى هذا الهدف ضرورة.
وفي الحقيقة فإن الهاجس والقلق يكمن في أن هناك أحياناً تعارض وتضادّ بين العمل الذي يعتبر صحيحاً من الناحية الأخلاقية والعمل الذي يؤدّي إلى الطمأنينة والسعادة من الناحية العملية. وعلى هذا الأساس لا يمكن لـ «المعنوية» أن تشتمل على العناصر التي تؤدّي بنا إلى الخصائص النفسية المنشودة، وأن تشمل في الوقت نفسه العناصر التي تستلزم القيام بالفعل الصحيح (من الناحية المعرفية والأخلاقية).
ولنعمل قليلاً على توضيح التعارض القائم بين العمل الذي يعتبر صحيحاً من الناحية المعرفية والأخلاقية والعمل الذي يؤدّي إلى السعادة، فنقول: إن العمل المعرفي الصحيح هو الإيمان بالقضايا الصادقة. ولكنْ ما أكثر الاعتقاد بالقضايا الصادقة الذي يؤدّي إلى البؤس والألم([28]).
لنفترض ـ مثلاً ـ صدق القضية القائلة بإصابة شخصٍ أثير عليك بالسرطان، وكان المرض قد بلغ مراحل متقدِّمة قبل أن يتمّ اكتشافه؛ أو لنفترض أنك قد اكتشفت مؤخَّراً أن أقرب المقرَّبين منك قد تآمروا عليك، واجتمعت كلمتهم على الإيقاع بك واستغفالك لسرقة كلّ أموالك وممتلكاتك؛ أو أن يدرك شخصٌ ـ تمكَّن من العثور على علاجٍ يقضي على مرض السرطان ـ أن الحياة على الأرض سوف تنتهي بعد لحظاتٍ من وفاته؛ بفعل إصابتها بنيزك يسقط عليه من السماء، لتذهب بالتالي جميع جهوده العلمية المضنية أدراج الرياح، لا شَكَّ في أن اكتشاف مثل هذه الحقائق لا يؤدّي إلى الطمأنينة والسعادة والأمل. ومن جهةٍ أخرى فإن العمل الأخلاقي الصائب قد لا يؤدّي إلى السعادة بالضرورة.
منذ الأزمنة الإغريقية فما بعد كان من بين الأسئلة الهامّة في مجال فلسفة الأخلاق السؤال القائل: لماذا يجب أن نحيا حياةً أخلاقية؟ وهناك مَنْ سعى على طول التاريخ إلى توضيح العقلانية في العمل الأخلاقي على أساس عقلانية الأنا.
وإذا تجاوزنا هذه المسألة، التي ربما كان التوضيح الأناني للأخلاق منذ البداية غير مناسب، فإن الصعوبة التي تواجهها هذه الرؤية على الدوام هي أن العمل الأخلاقي لا يؤدّي بالضرورة إلى تحصيل المنافع بالنسبة لنا. وعلى نحوٍ مشابه ليس من الضروري أن يؤدّي القيام بالأعمال الأخلاقية إلى السعادة والفرح والطمأنينة؛ إذ إن هدف الأعمال الأخلاقية من الأساس ليس هو حصول الفاعل على السعادة.
لنأخذ بنظر الاعتبار ـ مثلاً ـ شخصاً اسمه راؤول يسقط أسيراً بيد الغشتابو النازي، وأثناء الاستجواب قرَّر الصمت وتحمّل التعذيب؛ حفاظاً على أرواح آلاف اليهود المختبئين في بعض المواقع السرية، ولكنّه بعد ساعتين من التعذيب يسقط ميتاً إثر نوبة قلبية. فلو أغمضنا الطرف عن مفهوم العالم الآخر من الواضح أن ما قام به راؤول يستحقّ الثناء من الناحية الأخلاقية، إلاّ أنه ليس لصالحه؛ إذ لا يحصل بسببه على غير العذاب والآلام والمحن. يمكن لنا أن نتصوَّر أن راؤول لا يحصل من عمله وموقفه على أي لذّة هامة ـ روحية أو جسدية ـ. وحتّى إذا كان يحصل على قليل من الغبطة من موقفه البطولي يمكن القول: إن ما قام به لا يعود عليه بغير الألم والعذاب، دون اللذة والفرح. من غير المعقول أن نصرّ أبداً على أن سرور الناس وغبطتهم بالعمل الصالح أكثر من شعورهم بالألم والعذاب الناتج عن قيامهم بالفعل الصحيح. إن راؤول لا يشعر بالسعادة في تلك اللحظة، ويتمنّى لو لم يقع في قبضة الغشتابو النازي. وهو إنما يعرِّض نفسه للخطر لأنه يشعر بأن من واجبه السكوت، وتقبُّل هذا النوع من المصير التراجيدي. هل يعدّ ما قام به راؤول عملاً أخلاقياً؟ نعم، بالتأكيد. إنه لمن الحقائق الثابتة في عالمنا أن الأداء الأخلاقي لا يؤدّي بالضرورة إلى التخفيف من الآلام والمحن.
حصيلة الكلام: إن القيام بالعمل الذي يعدّ صحيحاً من الناحية الأخلاقية أو المعرفية قد يتعارض مع القيام بعملٍ يقترن بالغبطة والانشراح والفرح، ومن غير الواضح ما الذي يتعيَّن على الفرد المعنوي أن يفعله عند حصول هذا التعارض.
من المثير للعَجَب أن نتصوَّر الفرد المعنوي يضحّي بالأخلاق والمعنوية من أجل السعادة والفرح. ولكنْ في المقابل إذا كان يتعيَّن على الإنسان المعنوي أن يقدِّم الأخلاق والاستدلال على السعادة والفرح دائماً فعندها لن تكون الحياة المعنوية شيئاً آخر غير الحياة الأخلاقية والعقلانية، وإنّ هذا النوع من «المعنوية» سوف يكون مفهوماً زائداً.
ومع ذلك نجد الأستاذ مَلَكْيان يقول: «وأحياناً أكون أخلاقياً، وإنْ كنت أروم الغرض الأول [أي بناء مجتمع يمكن العيش فيه بأمنٍ وسلام]، والغرض الثاني [أي تقليل ما يعانيه الآخرون من الشقاء والألم] أيضاً، ولكنّني إنما أريد هذين الغرضين لأمرٍ ثالث، وهو التكامل على المستوى المعنوي. إن هذه النزعة الأخلاقية هي التي تميل إلى المعنوية»([29]).
إنّه لمن دواعي السعادة لو كان العمل على تخفيف معاناة الآخرين يؤدّي إلى تخفيف الألم عنّي أيضاً. ولكنْ كما تقدَّم فإنه ـ للأسف الشديد ـ قد يقع التعارض بين الغرض الأول والغرض الثاني والغرض الثالث، ولذلك فإن الفرد الذي يسعى إلى تخفيف الألم لا يمكنه أن يتصرَّف على نحوٍ أخلاقي دائماً.
لنفترض أن شخصاً تعرَّض لمثل الموقف الذي تعرَّض له راؤول. كان راؤول يعلم جيِّداً أنه لو كشف موقع اختباء اليهود لتعرَّض الآلاف منهم للحَرْق، ولذلك فهو مكلَّفٌ بأن يعمل ما أمكنه على تأخير الكشف عن هذا المخبأ، ولو بشراء ساعة أو ساعتين من الوقت، تتيح لهم فرصة الهروب. وإذا كان يتعيَّن على الفرد المعنوي أن يسلك دائماً الطريق الأخلاقي تعيّن على راؤول؛ لكي يكون معنوياً، أن يلتزم السكوت (ولو لفترةٍ في الحدّ الأدنى).
ولكنْ على المقلب الآخر إذا اعتبرنا «المعنوية» مساراً يهدف إلى السعادة والطمأنينة فإنّ ما قام به راؤول ـ الذي لا يهدف إلى هذه النتيجة، ولا يشتمل على مثل هذه النتيجة ـ لا يعتبر عملاً معنوياً. من المفروض أن تعمل «المعنوية» ـ طبقاً لتعريفها ـ على ضمان السعادة من طريق الحياة الأخلاقية والاستدلالية.
ولكنْ على هذه الشاكلة سوف يتمّ تجاهل أحد أهمّ مشاكل تاريخ فلسفة الأخلاق في تعريف المعنوية، أي المشكلة القائلة بأن السلوك الأخلاقي لا يأتي بالضرورة في إطار مصالح الفرد. يبدو أنه يجب ترجيح الأخلاق على الأعمال التي تجلب السعادة.
بَيْدَ أنّه لو تمّ لحاظ مثل هذه الأولوية في مفهوم المعنوية، فإن مفهوم المعنوية لن يكون شيئاً آخر غير مفهوم الأخلاقية، وهكذا لن يكون سعي الأستاذ مَلَكْيان للتعريف بالمفهوم الجديد لـ «المعنوية» موفقاً. وبعبارةٍ أخرى: إن أمام الأستاذ مَلَكْيان واحد من طريقين: إما أن يضحي بالخصائص النفسية المنشودة من أجل الأخلاق والعقلانية، وفي مثل هذه الحالة ستكون «المعنوية» مفهوماً زائداً؛ أو لكي لا تكون «المعنوية» مفهوماً زائداً عليه أن يسعى من أجل الفرد المعنوي إلى اعتبار الأولوية للخصائص النفسية المنشودة، وفي مثل هذا الحالة يمكن للشخص المعنوي أن يكون غير عقلاني وغير أخلاقي.
إن الأصرار على المواءمة بين العقلانية والأخلاق والسعادة يجعل من «المعنوية» فردوساً لا يمكن الوصول إليه في عالمنا، وليس من العقلانية أن نسعى إلى هدفٍ لا يمكن الحصول عليه في هذا العالم. بل لا يمكن حتّى الاقتراب من «المعنوية» التي تتواءم فيها الأخلاق والعقلانية والسعادة؛ وذلك لأن طرق الحياة المعنوية، بمعنى الأخلاقية، والاستدلالية، وتحقيق السعادة، طرقٌ تؤدّي بنا إلى مواضع مختلفة ومتعارضة. لا وجود لـ «المعنوية» في أيّ موضع من العالم، ولا يمكن لها أن توجد إلاّ في جنّةٍ لا يمكن الوصول إليها إلاّ من خلال معجزة، وإلاّ فإنها محظورة على سكان الكرة الأرضية.
وعلى الرغم من عدم الإشارة إلى هذه الصعوبة في الكتاب صراحةً، ولكنْ مع ذلك يبدو أن الأستاذ مَلَكْيان يسعى إلى حلّ معضلة مفهوم «المعنوية» بنحوٍ من الأنحاء.
إن الطريق الذي يقدِّمه الأستاذ مَلَكْيان بسيطٌ (ولكنَّه قد يكون أبسط مما يُتصوَّر): «إن من بين هذه العقائد [التي يذهب إليها القائلون بالمعنوية في العالم] هي (أن نظام العالم نظام أخلاقي)، وهذا هو الذي تشترك فيه جميع الأديان في العالم أيضاً»([30]).
«إن الذي يعتقد أن نظام العالم نظامٌٌ أخلاقيّ يرى نوعاً من الارتباط التكويني بين نتائج أعمالنا وكونها أخلاقية أو غير أخلاقية»([31]).
يذهب الأستاذ مَلَكْيان أحياناً إلى اعتبار الاعتقاد بأخلاقية نظام العالم بمعنى الاعتقاد بأن «مآل الخير الأخلاقي هو التغلُّب على الشر الأخلاقي».
إلاّ أن المشكلة التي تكمن هنا أننا إذا التفتنا إلى الشواهد التاريخية والتجريبية يغدو الإيمان بالنظام في هذا العالم الأخلاقي، دون الاعتقاد بنوعٍ قويّ من «الميتافيزيقا»، غير معقول للغاية؛ فإن الفيلسوف كانْت ـ على سبيل المثال ـ كان بحاجة إلى الاعتقاد بوجود عالمٍ آخر لإثبات معقولية الغلبة النهائية للخير على الشرّ، في حين يقول الأستاذ مَلَكْيان: «من وجهة نظري إنّ أدلّة الذين ينكرون النظام الأخلاقي للعالم ليست بأقوى أبداً من أدلّة الذين يثبتون وجود هذا النظام»([32]).
ولكنْ يبدو أنه من دون القول بإمكان العالم الآخر لا يمكن للإيمان ببعض القضايا ـ من قبيل: الأمثلة الثلاثة المتقدّمة (والتي كان من بينها إصابة الشخص الأثير عليك بمرضٍ عضال) ـ أن يحمل السعادة والطمأنينة والسرور للفرد.
كما أنه لا بُدَّ من أن تكون هناك معجزةٌ؛ كي يؤدّي السلوك الأخلاقي بالضرورة إلى تحصيل السعادة في هذه الدنيا.
إنّ الحكايات في عالم والت ديزني تنتهي دائماً بغلبة الخير على الشرّ. ولكنّ المشكلة تكمن في أن عالمنا ـ للأسف الشديد ـ يختلف عن العالم في حكايات والت ديزني. ففي عالمنا يتعرَّض الكثير من الطيِّبين إلى مصير تراجيدي، وإن مصير الفرد الأخلاقي لن يكون أرحم بالضرورة.
استحضروا في أذهانكم قصة راؤول. إنني في الحقيقة لا أجد في الطريق الذي يؤدّي براؤول، من خلال سكوته، إلى موته التراجيدي ما يجعله من الناحية النفسية سعيداً في هذه الدنيا. من المحتمل دائماً أن تنتهي حياة الفرد الأخلاقي؛ بسبب الشرّ الأخلاقي والطبيعي، في لحظةٍ مأساوية إلى مصير تراجيدي، ولهذا السبب يذهب الذين يريدون اعتبار نظام العالم أخلاقياً (من أمثال كانْت) إلى القول بأن راؤول سوف يُثاب ويُكافأ في عالمٍ آخر، أو في حياةٍ أخرى، أو في تناسخٍ آخر.
لو أراد الفرد المعنوي أن يؤمن بالحدّ الأدنى الممكن من القضايا ما فوق الطبيعية سيكون الإيمان بأخلاقية نظام هذا العالم شبيهاً بالإيمان بأن عالمنا هو عالم والت ديزني، دون أن يكون لدينا خالق مثل خالق عالم والت ديزني.
يسعى الأستاذ مَلَكْيان إلى حَشْر جميع الحسنات في مفهوم «المعنوية»، دون أن تكون هناك أيّ تكلفة ميتافيزيقية.
إلاّ أن هذا الأمر قد لا يكون أكثر من أمنية طوباوية لا تمتّ إلى الواقع بصلةٍ.
لقد استند انتقادي في هذا المقال إلى مجرّد كتاب «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة» فقط. ولربما أمكن للأستاذ مَلَكْيان أن يجيب عن سنخ هذه الانتقادات الواردة على سائر كتبه ومؤلَّفاته الأخرى.
وعلى أيّ حال، وعلى الرغم من الانتقادات التي ذكرتُها في هذا المقال، فإن كتاب «في مهبّ الريح وحارس الزنبقة» ـ كما سبق أن ذكرتُ في المقدمة ـ جديرٌ بالقراءة، وفيه الكثير من الفائدة.
وحتّى إذا صحّت جميع الانتقادات التي ذكرتُها تبقى نقاط الضعف في أدلّة الأستاذ مَلَكْيان من وجهة نظري على جانبٍ من الاعتبار (وإذا كنتُ مخطئاً في نقدي أرجو أن تشتمل أخطائي على ما يمكن للقارئ أن يعتبر به). ومن هنا فإنّي على أيّ حال أنصح المهتمّين بالبحث والتنوير بقراءة هذا الكتاب.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلميّة في مركز دراسات العلوم الأساسية (IPM)، خرّيج جامعة كاليفورنيا. متخصِّصٌ في الفلسفة التحليليّة والفكر الغربي.
([1]) أشير في ما يلي إلى ثلاثة من الموارد التي تفتقر إلى الدقّة في هذا الكتاب:
أ ـ قوله: «قد تكون القضية بالنسبة لي، مع ما أمتلكه من المعلومات، عقيدةً صادقة ومبرَّرة، ونفس هذه القضية تكون بالنسبة لك عقيدة صادقة غير موجَّهة، وبالنسبة إلى شخصٍ ثالث عقيدة غير صادقة، ولا مبرّرة» (ص 336). إن جوهر ما يرمي إليه الأستاذ مَلَكْيان، وهو القول بأن التبرير مفهوم نسبي، أمرٌ صحيح.
إلاّ أن الصدق المفهومي ـ خلافاً لما يقوله الأستاذ مَلَكْيان ـ ليس نسبياً؛ فإن القضية إذا كانت صادقةً فهي صادقة بالنسبة إلى الجميع.
فعلى سبيل المثال: لا يمكن للقضية القائلة بأن الديناصورات قد انقرضت قبل الميلاد بألفَيْ سنة أن تكون صادقة بالنسبة لي، وغير صادقة بالنسبة إلى شخص آخر. وبطبيعة الحال قد أكون مؤمناً ومعتقداً بهذه القضية، ولا يكون الشخص الآخر معتقداً بها، وقد يكون اعتقادي بها مبرَّراً، ولا يكون اعتقاد الشخص الآخر بها مبرّراً، إلاّ أن صدقها لا يتوقَّف عليَّ، ولا على الشخص الآخر.
ب ـ قوله: «هناك معنى للحُسْن والقُبْح في الأمور التي يمكن اجتنابها، وأما بالنسبة إلى الأمور التي لا يمكن اجتنابها فلا معنى للحُسْن والقُبْح أصلاً» (ص 253).
إن موتي لا يمكن اجتنابه، ولكنّه قبيح بالنسبة لي. وإن النظر بالعين المفتوحة لا يمكن اجتنابه، إلاّ أن النظر من الخير المعرفي. وفي العام 2015م لا يمكن اجتناب حصول الإبادة الجماعية كحقيقة وقعت في العام 1994م، إلاّ أن هذه الحادثة تبقى قبيحة حتّى في العام 2015م أيضاً.
لا بُدَّ من التدقيق بأن كلام الأستاذ مَلَكْيان يختلف عن المعلومة الأخرى التي يذهب الكثير إلى صحّتها، بمعنى أن القضية إذا كانت أمراً لا يمكن لي اجتنابه لن أكون مسؤلاً عن القيام به. إن القضية الأخيرة إنما هي بشأن التكليف والمسؤولية، دون القيمة الأخلاقية.
إلا أن الكلام المذكور آنفاً يعبِّر عن أن هذه القضية ـ الواردة بشأن المفاهيم التكليفية ـ يمكن تعميمها على جميع مجالات القِيَم. إلاّ أن هذا التعميم غير شهودي إلى حدٍّ بعيد، وهو خاطئٌ من وجهة نظري.
ج ـ قوله: «لو حصل التعارض بين الوظيفة الأخلاقية الناظرة إلى الماضي [والتي تحدث كنتيجة للأمور التي قمت بها تجاه الآخرين] مع الوظيفة الناظرة إلى المستقبل [والتي تحدث نتائج مطلوبة في مستقبل حياتي وحياة الآخرين] كان التقدُّم للوظيفة الناظرة إلى الماضي. إنّ كلّ وجدان أخلاقي يُذعن بأنّني إذا ألزمت نفسي وقطعت عليها عهداً بإنجاز شيء في الماضي، وصادف أن عرض لي شيء لم ألزم نفسي بالقيام به، ولكنْ كان بإمكاني أن أقوم به، وهو أمرٌ حَسَن، وحصل التعارض بين هذين الأمرين، وجب عليَّ القيام بالشيء الذي ألزمْتُ به نفسي» (ص 345).
لا يمكن لكلام الأستاذ مَلَكْيان بهذه الصيغة العامة أن يكون صحيحاً؛ إذ قد تكون الوظيفة المستقبلية أقوى بكثير من الوظيفة الماضية.
فعلى سبيل المثال: قد ألزم نفسي وأتعهَّد لصديقي بأن ألتقيه في الساعة العاشرة صباحاً؛ للذهاب معه إلى المسرح، ولكنْ قد يحدث أن أرى ـ وأنا في طريقي إليه ـ طفلاً تعرَّضَتْ حياته للخطر، وكان بإمكاني أن أنقذ حياته، ولكنّ ذلك سيمنعني من الوصول إلى صديقي في الموعد المحدَّد. من الواضح أن الوظيفة المستقبلية في مثل هذه الحالة، والتي تتعلَّق بإنقاذ حياة الطفل، تتغلّب على الوظيفة الماضية، والمتعلِّقة بالوفاء بالوعد، وتكون هي المتقدِّمة. وإنّ الذي يحدِّد غلبة وتقدُّم وظيفة على وظيفة أخرى إنما هو قوّة وضعف الوظائف، ولذلك فإن إعطاء الأولوية والتقدُّم للوظيفة الماضية على حساب الوظيفة المستقبلية، دون أخذ ما هو القويّ والضعيف منهما بنظر الاعتبار، غريبٌ وغير شهودي للغاية.
([2]) لا بأس من الإشارة هنا إلى مورد من موارد هذا السنخ من التعارض الظاهري، إذ نجد الأستاذ ملكيان يقول: «الذي أقوله هو أننا لا نستطيع هنا إلاّ الدفاع عن معقولية القضايا الدينية، بمعنى أن […] نثبت في كلّ قضية دينية ترجيح قبولها على قبول نقيضها، أو على عدم قبول تلك القضية… ولست أملك برهاناً قاطعاً على هذا الترجيح، غير أن البراهين المتوفِّرة لصالح المدَّعيات الدينية أقوى من البراهين المتوفِّرة لصالح نقائض المدَّعيات الدينية» (ص 192 ـ 193).
لنطالع بعد ذلك قوله، في ذات هذه المحاضرة: «هل يمكن لدين الإسلام أن يمنح الإنسان الطمأنينة والأمل والأمان وما إلى ذلك من الأمور؟! أرى أن ذلك ممكنٌ» (ص 196).
ولكنْ هناك عباراتٌ في المحاضرات الأخرى قد يمكن تفسيرها بما يتلاءم مع إنكار هذين الموقفين.
فعلى سبيل المثال: هناك عبارةٌ له تبدو مخالفة بحَسَب الظاهر لموقفه الأوّل، وذلك إذ يقول: «لا يمكن للإنسان المعاصر أن يهضم المبالغات الميتافيزيقية للأديان» (ص 239؛ وانظر أيضاً: ص 267).
وهناك عبارةٌ يبدو منها إنكار كلا الموقفين، وذلك إذ يقول: «لم يعُدْ بإمكان الإنسان المعاصر أن يتقبَّل الدين كما كان يتقبَّله الإنسان التقليدي. وبطبيعة الحال فإن الفهم التقليدي كانت له آليّته الإيجابية في ذلك العصر، أما اليوم فلا يمكن الدفاع عنه من الناحية الواقعية، ولا من الناحية البراغماتية، بمعنى أننا إذا كنا نعيش اليوم مجرّد هاجس الحقيقة (الرؤية الواقعية) لم يعُدْ بالإمكان الدفاع عن الفهم التقليدي، وإذا كنّا نحمل هاجس النجاة (الرؤية البراغماتية) لم يعُدْ الدفاع عن الفهم التقليدي ممكناً أيضاً» (ص 228 ـ 229).
يحتمل من خلال النظر في مختلف المحاضرات أن يكون مراد الأستاذ مَلَكْيان من الذي يؤمن بـ «الفهم التقليدي للدين» هو الذي يؤمن بـ «الدين 1» (النصوص المقدَّسة). ومن بين القرائن على هذا الادّعاء أنه يتم التعريف بـ «المعنوية» بوصفها بديلاً عن الفهم التقليدي للدين («إن السبب الأول لطرح بحث المعنوية» هو أن «الفهم التقليدي للدين [لم] يعُدْ بإمكانه أن يقدِّم لنا معرفة لآلامنا ومعاناتنا الجوهرية، ويحدِّد لنا طرق علاجها». (ص 267). كما يتم تعريف «المعنوية» بوصفها بديلاً عن «الدين 1» أيضاً، إذ يقول: «إن المعنوية بديلٌ عن الدين، وذلك بطبيعة الحال إذا كان مرادنا من الدين هو الدين بمعناه الأول، والذي يتمثَّل في النصوص المقدَّسة» (ص 299)).
([3]) إن مجرّد وجود الاختلاف لا يعني التعارض. إلاّ أن وجود هذه الاختلافات يجعل الفهم الدقيق لرؤية الأستاذ مَلَكْيان مسألة شاقّة.
فعلى سبيل المثال: نجده في محاضرة «خصائص الإنسان المعنوي» يذكر ستّ خصائص للإنسان المعنوي. إلاّ أنه في محاضرة «المعنوية جوهر الأديان 2» يكتفي بذكر ثلاث خصائص للإنسان المعنوي، وفي محاضرة «المعنوية والإنسان المتجدد» يذكر أربع خصائص لمساحة الإرادة عند الإنسان المعنوي. وإن بعض الخصائص المذكورة في بعض المحاضرات تغيب في المحاضرات الأخرى. فإن الخصيصة الثالثة المذكورة في «المعنوية والإنسان المتجدّد» تختلف عن الخصائص المطروحة في المحاضرات الأخرى. كما أن الخصيصة الثالثة المذكورة في محاضرة «المعنوية جوهر الأديان 2» لا يتمّ ذكرها في موضعٍ آخر. وإن الخصيصة الثالثة والخامسة والسادسة التي تذكر في محاضرة «خصائص الإنسان المعنوي» لا تتطابق بشكلٍ دقيق مع الخصائص المذكورة في المحاضرات الأخرى.
([4]) انظر: ص 11، 39، 61 ـ 62، 82، 89، 175، 232 ـ 233.
([8]) Alston, William P. (1986). “Epistemic Circularity”, Philosophy and Phenomenological Research 47, pp. 1 – 30.
Alston, William P. (2005). Beyond Justification: Dimensions of Epistemic Evaluation, Ithaca: Cornell University Press.
([9]) طبقاً لهذا السؤال قام زاغسبسكي بصياغة استدلال يثبت أن الاعتماد على الآخرين عمل عقلاني، انظر أحدث أدلته لإثبات هذه النظرية في:
Zagezbski, Linda (2012). Epistemic Authority: a Theory of Trust, Authority, and Autonomy in Belief, Oxford University Press.
([12]) Burge, Tyler (1997). “Interlocution, Perception, Memory”, Philosophical Studies 86: 21 – 47; Foley, Richard (2001). Intellectual Trust in Oneself and Others, Cambridge: Cambridge University Press; Flicker, Elizabeth (1987). “The Epistemology of Testimony”, Proceedings of the Aristotelian Society Supplement 61: 57 – 83; Adler, Jonathan E. (1994). “Testimony, Trust, Knowing”, Journal of Philosophy, 91: 264 – 75.
([13]) انظر للدفاع عن هذه الرؤية: المقالات التقليدية لتايلر بيرغ:
Burge, Tyler (1993). “Content Preservation”, Philosophical Review 102: 457 – 488; Burge (1997). “Interlocution, Perception, Memory”, Philosophical Studies 86: 21 – 47.
([15]) وحتّى في مثل هذه الحالة لا يكون هناك ربطٌ لعدم عقلانية التعبُّد بدينٍ خاصّ بتنصّل الإنسان المعاصر عن التعبّد.
فعلى سبيل المثال: قد يستدلّ شخصٌ على عدم وجود الله، أو يستدلّ على وجود معارض لأحكام دين خاصّ، إلا أن هذا النوع من الاستدلال لا يثبت أن الإنسان العقلاني يجب عليه أن يقبل بشيءٍ على نحو التعبّد أبداً. بل إنما يثبت عدم عقلانية التعبُّد بدينٍ نعلم عدم وثاقته، أو أن نتعبَّد بالأحكام التي يوجد ما يعارضها عقلياً.
ومن الجدير بالذكر أنه لا بُدَّ ـ عند البحث في وثاقة المصادر الدينية ـ من الالتفات إلى الظاهرة التي يتمّ التعبير عنها في الأبستيمولوجيا المعاصرة باسم (Pragmatic Encroachment). وطبقاً لهذه الظاهرة يكون هناك من الناحية الشهودية أمورٌ عملية ذات تأثير في حجم الأدلّة التي نحتاج إليها في تبرير التصديق والاعتقاد من الناحية المعرفية.
فعلى سبيل المثال: لو ترتَّبت على تصديقٍ واعتقاد تبعات عملية مدمِّرة وجب أن يكون مقدار الأدلة لتبرير ذلك التصديق والاعتقاد من الناحية المعرفية أكبر من الحالات الأخرى. ومن جهةٍ أخرى لو ترتَّبت على تصديقٍ واعتقاد فوائد أخلاقية أمكن الاكتفاء بالحدّ الأدنى من الأدلّة القائمة على تبرير ذلك التصديق والاعتقاد من الناحية المعرفية. وللوقوف على البحث بشأن تأثير الموارد العملية / الأخلاقية على التبرير المعرفي للمعتقدات الدينية انظر:
Pace, Michael (2011). “The Epistemic Value of Moral Considerations: Justification, Moral Encroachment, and James’ ‘Will to Believe” Nous 45. 2: 239 – 268.
([16]) «إن المعنوية آلية تهدف إلى إرضاء النفس وإبعادها عن الأوجاع والآلام» (ص 311). «عندما أقول: إن المعنوية هي جوهر الدين إنما أريد بذلك المعنى الأول [أي الهدف والغاية القصوى من التديّن]، بمعنى أني أرى أن المتديِّنين ينشدون من تديُّنهم في نهاية المطاف تحقيق الهدوء والسكينة والحيوية والأمل» (ص 298).
([17]) «إن المعنوية نوع من الدين، إلا أنها تشتمل على الحدّ الأدنى الممكن من الشحنة الميتافيزيقية» (ص 240)؛ وانظر أيضاً: ص 267، 299.
([18]) بشأن القسم الأول: «إن الأشخاص المعنويين يعيشون حياة معنوية أصيلة، وإن الحياة الأصيلة تعني تماماً مجرَّد العمل على طبق فهمنا» (ص 385). «إن الإنسان المعنوي إنّما هو الإنسان الذي يعيش الحياة الأصيلة بالمعنى الدقيق للكلمة» (ص 273).
وبشأن القسم الثاني: «إن قوام [الإنسان المعنوي] هي الفكرة القائلة: «يجب أن أكون ما أنا عليه»…، بمعنى أن ينصبّ كل اهتمامي على الحالة التي أكون عليها» (ص 209). «إن الإنسان المعنوي، قبل أن يكون منشغلاً بأوضاع الآخرين، يشغله وضعه الخاص».
وبشأن القسم الثالث: «إن إرادة الأشخاص المعنويين لا ترمي لغير فعل الخير» (ص 390). «إن الغاية الرابعة للإنسان المعنوي تهدف إلى إصلاح الذات» (ص 212).
([22]) للتعرّف على آراء باتلر انظر:
Butler, Joseph (1726 / 1991). Fifteen Sermons Preached at the Rolls Chapel, Reprinted in part in Raphael (1991), British Moralists: 1650 – 1800 Vol. I, pp. 325 – 377.
([23]) Shafer-Landau, Russ (2011). “The Fundamentals of Ethics”, Oxford University Press, chapter 7.
Pryor, James. “What’s so bad about Living in the Matrix”:
http://www.Jimpryor.net/research/papers/matrix/plain.html
Baston, C. D. (1991). The Altruism Question, Hillsdale, N. J.: Lawrence Erlbaum Associates, part lll.
وللوقوف على أحدث الأبحاث حول هذا الموضوع، انظر:
May, Josh. (2011). “Relational Desires and Empirical Evidence against Psychological Egoism”, European Journal of Philosophy, 19: 39 – 5.
وقد عمد بتسون في هذا الموضع إلى الدفاع عن نتائج تجربته ثانية، انظر:
Batson, C. D. (2011). Altruism in Humans, Oxford: Oxford University Press.
([25]) Sober, E. , and D. S. Wilson (1998). Unto Others, Cambridge, MA: Havard University Press, chapter 10.
([28]) يُشير الأستاذ مَلَكْيان في عددٍ من محاضراته إلى مشكلة سبق له أن تحدَّث عنها في مقالٍ له تحت عنوان: «تقرير الحقيقة وتقرير المرارة، الوجه الأخلاقي الدراماتيكي للتنوير». تبرز المشكلة على النحو التالي: ما الذي يتعيَّن على المستنير فعله عند وقوع التعارض بين قول الحقيقة وبين العمل على التخفيف من آلام الآخرين؟ في الوَهْلة الأولى تبدو هذه المشكلة شبيهة بالمسألة موضع البحث. ومع ذلك هناك عددٌ من الفوارق الهامة بين هاتين المسألتين، نذكر منها:
1ـ إن المشكلة التي تدعو الأستاذ مَلَكْيان إلى القلق تكمن في الإعلان عن الحقيقة، وليس في مجرَّد الإيمان بالحقيقة.
2ـ تكمن هواجس الأستاذ مَلَكْيان في التعارض بين الإعلان عن الحقيقة والتخفيف من آلام الآخرين. والتعارض المطروح هنا تعارضٌ بين الاستدلالية والتخفيف من آلام الفَرْد نفسه.
3ـ كما يتجلّى خوف الأستاذ مَلَكْيان في هذا المقال المذكور (وفي مواضع من الكتاب) نحو التنوير على نحو أشدّ، حيث يتعيَّن على المستنير أن يصدع بالحقيقة، انطلاقاً من المسؤولية الملقاة على عاتقه.
بَيْدَ أن التعارض المنظور هنا يمكن أن يعرض لكل فرد معنوي.
ولو غضضنا الطرف عن هذه الفروق يبدو أن رأي الأستاذ مَلَكْيان سيكون في نهاية المطاف على النحو التالي: «إن الإعلان عن الحقيقة من مصاديق الصدق، والصدق بدوره من مصاديق الوفاء بالعهد… وعندما يقع التعارض بين التخفيف من الألم وبين الإعلان عن الحقيقة أذهب إلى الاعتقاد بوجوب الوفاء بالعهد» (ص 344 ـ 345). وعلى الرغم من ذلك كلِّه فإنّ القلق الماثل هنا هو أن كلّ فرد وإن كانت مسؤوليته تكمن في البحث عن الحقيقة، إلا أنه طبقاً لتعريف «المعنوية» يجب أن يسعى إلى تحصيل الطمأنينة والسعادة لنفسه أيضاً. إلاّ أن تخلي الفرد عن الهدف؛ من أجل الحصول على سعادته، يعني التخلّي عن «المعنوية».
ومع ذلك يبدو أن الأستاذ مَلَكْيان يرى أن السعي إلى تحصيل الحقيقة يتناغم مع السعي إلى تحصيل الطمأنينة والسعادة.
فعلى سبيل المثال: في ما يتعلَّق بالإجابة عن السؤال القائل: «ما الذي يتعيّن على الإنسان المعنوي فعله بما هو إنسان معنوي لو حصل التعارض بين قول الحقيقة وبين تخفيف البؤس والألم، وأي الطريقين يختار؟» (ص 328) نجده يقول: «يجب من وجهة نظري أن نأخذ بالاعتبار مآل الحزن والألم لدى الناس، وذلك بطبية الحال بالمقدار الذي تتَّسع له دائرة معرفتنا. فلو كان الإعلان عن الحقيقة لا يؤدّي في المآل إلى مزيد من البؤس والألم وجب الإعلان عنها، ولو كان الإعلان عنها يفاقم من البؤس والألم وجب عدم الإعلان عنها. وبطبيعة الحال لديَّ نظريةٌ يمكن أن أضيفها هنا، وهي أني أعتقد أن الحقيقة بالتالي هي التي تؤدّي إلى النجاة» (ص 329).
إلاّ أن الأستاذ مَلَكْيان لا يوضِّح لنا ما هو الدليل الذي يدعونا إلى الإذعان بأن السعي إلى الحقيقة يقترن بالسعادة والطمأنينة ضرورةً. إن أمثلةً من قبيل الأمثلة التي تقدَّم ذكرها، وسنوردها بعد هذا الهامش مباشرة (من قبيل: إصابة الشخص الأثير علينا بالسرطان)، بوصفها من الموارد التي تنقض هذا المدَّعى. وفي نهاية هذا القسم سأعمد إلى بيان مزيدٍ من التوضيح حول مدَّعى الأستاذ مَلَكْيان بشأن مناغمة السعي إلى الكشف عن الحقيقة مع السعي إلى تحصيل السعادة.