سعى الإسلام ـ من موقع حمايته لأبنائه من مختلف أنواع الانحراف ـ أن يقدّم لهم وصفات ورؤى تحميهم من الانزلاق في المهاوي. وقد بدأ الإسلام هذا الأمر من خلال البُعد الفكري أولاً، حين طرح في الداخل الإسلامي التحصين من ظواهر البدع والانحرافات الفكرية.. من هنا وجدنا في الكتاب والسنّة تحذيراً من البدعة والهرطقة لتجنيب المؤمنين النتائج السلبية لحالات الابتداع التي قد تظهر في الوسط الديني أحياناً، حتى لا ينجرّ ذلك إلى الفساد والإفساد في الإسلام والمسلمين.
بدورنا، سوف نحاول هنا دراسة فكرة البدعة والتمييز بينها وبين حقّ الاختلاف ومبدأ شرعية الاجتهاد في الإسلام، نظراً لوجود إشكاليّة في هذا السياق ليست جديدة الظهور، وإنّما لها جذورها التاريخية أيضاً.
وبدايةً، نطلّ ـ إطلالة سريعة وعابرة ـ على النقاط التي جاءت في الكتاب والسنّة في الموقف من البدع وأهلها، ثم ندخل في النقطة التي نريد أن نتحدّث فيها، مشيرين هنا إلى قيام بحثنا هذا على المبالغة في الاختصار والإشارة؛ لضيق المجال.
ونُعلِم كذلك، أنّنا لا نبحث هنا في معايير الكفر والإسلام، ولا معايير التشيّع وعدمه، ولا في مفهوم الضرورة الدينية أو المذهبية أو الفقهية ولا غيرها، وإنّما في العلاقة الملتبسة بين مقولتي: الإبداع والابتداع، بين الاجتهاد والهرطقة، بين اختلاف الرأي وتقويض دعائم الدين بالرأي نفسه..
البدعة في الكتاب والسنّة، جولة في المواقف والتوجيهات
لم يرد تعبير البدعة في القرآن الكريم وما يتصل باشتقاقاتها اللغوية إلا في أربع آيات كريمة، هي:
1 ـ قوله تعالى: ﴿.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..﴾ (الحديد: 27).
ومعنى ذلك أنّهم اخترعوا رهبانيةً لم يكتبها الله تعالى عليهم، وهناك بحث ضافٍ للمفسرين، لا يهمّنا التعرّض له هنا، يدور حول طبيعة الاستثناء الذي جاء في الآية الكريمة: ﴿.. إِلَّا ابْتِغَاء..﴾.
2 ـ قوله سبحانه: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ..﴾ (الأحقاف: 9). أي أنّني لست أوّل رسول من نوعه يُرسل إلى الناس، بل قد وقعتُ في سياق مسلسل من الرسل الذين سبقوني.
3 ـ 4 ـ قال عز من قائل: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (البقرة: 117)، وقال سبحانه: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام: 101).
والمعنى في الآيتين أنّ الله تعالى مبدع السماوات والأرض، ذلك أنّ صيغة «فعيل» تأتي بمعنى «مفعِل»، أي إنّه مخترع ومحدث وموجد السماوات والأرض.
وبالتأمل في آيات الكتاب الكريم، لا نجد ما يتصل بموضوعنا بشكل مباشر سوى الآية الأولى، وقد ذكرت البدعة في موقع الذم، وبيّنت أنّها شيء اخترعه الناس مع أنّ الله تعالى لم يجعله في دينه، أو جعله في دينه على طريقةٍ لكنّ الناس حوّلوه إلى طريقة أخرى، فما رعوه حقّ رعايته.
إذا جئنا إلى الحديث الشريف، وجدنا عدّة محاور تعرّضت لها النصوص، ونحن نضع الأحاديث ضمن مجموعات، ونبدي أهم المجموعات تحت عنوان المبادئ، ثم نذكر أنموذجاً أو اثنين لكلّ مجموعة؛ طلباً للاختصار:
المبدأ الأوّل: مبدأ رفض البدعة
ومن بين هذه المجموعة يبرز الحديث المشهور بين المسلمين عن رسول الله’، حيث قال: «كلّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، أو قال: «كل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار»، وقد ورد هذا الحديث أو ما في مضمونه عن بعض أئمة أهل البيت^ أيضاً([2]).
المبدأ الثاني: مبدأ القطيعة الاجتماعية و.. مع أهل البدع
وفي سياق هذا النوع من الأحاديث يبرز أمامنا الحديث الصحيح المسند إلى عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله× أنّه قال: «لا تصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحد منهم. قال رسول الله’: المرء على دين خليله وقرينه»([3]).
فإنّ هذا الحديث يطالب بممارسة القطيعة الاجتماعية مع أهل البدع، حتى أنّه ينهى عن مجالستهم ومصاحبتهم، في رغبة واضحة بوضعهم ضمن حَجر اجتماعي، وهو يعرض حديث النبي’؛ ليربط الفكرة الأولى بعدم التأثر ببدعه.
المبدأ الثالث: مبدأ مواجهة البدع وأهلها
ويبرز أمامنا هنا بعض الأحاديث، التي قد يقف على رأسها صحيح داوود بن سرحان، عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله’: «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الإفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولا يتعلّموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم الدرجات في الآخرة»([4]).
فهذا الحديث يطرح في مواجهة البدعة وأهلها مبادئ: إظهار البراءة، وليس فقط أصل إيقاع البراءة في القلب، وكذلك السبّ بل الإكثار منه، وكذا الغيبة والبهتان، بمعنى جواز الكذب عليهم لتشويه صورتهم عند الناس؛ لينقطع سبيل أمرهم ويفشلوا.
وفي رواية أخرى تقدّم لنا سبيلاً آخر لمواجهة البدع تقول ـ كما ينقله مرفوعاً محمد بن جمهور العمّي عن رسول الله’ ـ: «إذا ظهرت البدع (البدعة) في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن (فإن) لم يفعل فعليه لعنة الله»([5]).
كانت هذه خلاصة أهم المجموعات الحديثية في هذا الإطار؛ من مبدأ رفض الابتداع في الدين، إلى مبدأ القطيعة مع أهل البدع، وصولاً إلى مبدأ المواجهة الشاملة معهم.
ولا نريد هنا أن نخوض في تحليل أسانيد روايات البدعة في كتب الحديث، فبعض هذه الروايات ضعيف السند، مثل الخبر الأخير الذي نقلناه، وذلك أنّ محمد بن جمهور العمي أرسل الخبر إلى رسول الله دون أن يبيّن لنا سنده إليه، فيما رواية داوود بن سرحان صحيحة السند، وإن كان هناك وقفات مع صحّة متنها عند بعضهم، من حيث الترخيص في الإكثار من السبّ، وفي تجويزها البهتان المخالف ـ على رأي هؤلاء ـ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…﴾ (المائدة: 8)؛ فهذا الحديث يعدّ عند بعضهم معارضاً لمبدأ العدل مع الخصوم الوارد في الكتاب الكريم، لأنّه يجيز البهتان والكذب عليهم وتقويلهم ما لم يقولوا، مع أنّ هذا خلاف العدل معهم حتى لو كانوا خصماء لنا، ومعارضة القرآن توجب طرح الحديث ولو كان صحيح السند.
وعلى أيّة حال، لا نريد الخوض في هذا الأمر، وإنّما نهدف تناول موضوع آخر يتصل بالعلاقة الملتبسة بين البدعة والاجتهاد؛ فالإسلام أعطى حقّ الاجتهاد في قضايا الدين، وحفظ المذهب الإمامي هذا الحقّ للعلماء، ليس في الفقه فقط، بل في مختلف مجالات الفكر الإسلامي؛ من الفلسفة والكلام والمنطق والعرفان، إلى الحديث والتفسير والرجال والفقه والأصول والأخلاق والتاريخ و..
والسؤال هو: هل كل نظر جديد بدعة؟ إذا توصّل مجتهد في الفقه أو الأخلاق أو العقيدة إلى نظرية جديدة، هل يكون ذلك ابتداعاً في الدين؟ وإذا لم يكن ابتداعاً فما هو الابتداع إذاً؟
الصورة الأوّلية للبدعة أنّها إقحام ما ليس من الدين في الدين، وهذه قضية واضحة لا يشك فيها اثنان فيما نعلم، لكنّ السؤال: كيف نعرف اليوم أنّ القضية الفلانية التي يطرحها فلان من الناس ـ مجتهداً كان أم غير مجتهد ـ هي بدعة، بحيث نرتّب آثار الابتداع عليه وعلى فكرته؟ هذا ما نسمّيه بالبحث الإثباتي لقضيّة البدعة، ونعني به أنّ الله تعالى يعلم في واقع الأمر من هو الذي زاد في الدين ومن أنقص منه، سواء عن عمد أم عن خطأ واشتباه، لكن نحن البشر نريد أن نعرف أنّ هذه التوجيهات من المعصومين^ في مواجهة أهل البدع، أين نطبّقها مادمنا لا نملك علم الله تعالى؟ وكيف نحرّكها في واقعنا اليوم أمام الأفكار التي نسمع بها هنا أو هناك؟
الفرضيات التفسيرية في تحليل البدعة إثباتاً
سأقدّم هنا عدّة فرضيات في تفسير البدعة ليس في نفسها، وإنّما على صعيد إثباتها لنا، وبتعبير أصولي: البحث هنا إثباتي وليس ثبوتياً، وضمن ذلك نقوم بتحليل هذه الفرضيات التفسيرية لنصل إلى الفرضية الأرجح، مشيرين ـ بدايةً ـ إلى أننا نطرح الفرضيات وبعضها قد لا يقول به أحد، لكننا نثيره لمزيد من تحليل المحتملات الأوّلية في الموضوع.
1 ـ فرضيّة عدم الأهليّة العلمية
التفسير الأوّل: أن يكون صاحب القضيّة أو المقولة ممّن لا يملك حقّ إبداء الرأي، والمقصود بذلك أنّه لو كان مجتهداً في الفقه الإسلامي مثلاً وقدّم وجهة نظر جديدة مختلفة، فهنا لا يكون كلامه بدعةً، بمعنى أن لا نتعامل معه تعاملنا مع البدعة، مهما كانت نظريّته غريبة؛ لأنّه مجتهد في الموضوع الذي اشتغل عليه، وقدّم رأياً ولو كان مخالفاً لجميع علماء الإسلام فيه. أمّا لو لم يكن مجتهداً فإنّه إذا قدّم هذا الرأي نفسه سوف نحسبه مبتدعاً؛ وبهذا يكون المعيار في الإبداع والابتداع هو شخص المفكّر أو العالم أو الباحث؛ فنحن ننظر فيه؛ فإذا كان يحمل سمةً علميّةً ما، صنّفناه مبدعاً في نظريّته الجديدة، وإذا لم يحمل هذه السمة أدرجناه في دائرة المبتدعين.
وهنا نحن لا ننظر إلى نظريّته نفسها، وإنّما إلى شخصه؛ فكون نظريّته جديدةً لا يعني أنّها بدعة؛ إذ المهم أنّه ممن يحقّ له إبداء هذا القول أو لا يحقّ.
هذه الفرضية التفسيرية لا نجدها تتوفر على عناصر الصحّة؛ وذلك أنّ حمل المفكّر أو صاحب الفكرة والرأي مؤهلات في شخصه لا شكّ أنّه أمرٌ ضروري، لكن ضرورته تنبع من عدم جواز حكمه بأمرٍ ما مع عدم كونه أهلاً لذلك، فهذا أمرٌ حرام؛ حيث لا يجوز الإفتاء ـ مثلاً ـ لمن ليس أهلاً للإفتاء، كما يذكر ذلك الفقهاء المسلمون، فالأهليّة ضرورية جداً لشرعنة سلوك هذا الإنسان بينه وبين الله تعالى فيما تصدّى له، حتى لا يفتري على الله سبحانه، ولا يتسنّم منصباً ليس له.
لكن هذا شيء، وتقوّم الكشف عن البدعة بهذا العنصر شيء آخر؛ وذلك أنّنا إذا راجعنا الآيات والروايات التي تتحدّث عن موضوع البدعة، سنجد أنّها لا تشير إلى صفةٍ يتصف بها صاحب البدعة، بل على العكس تماماً، حيث ينسب صاحب البدعة إلى البدعة لا أنّها تنسب له، فيقال: أهل البدع، وأصحاب البدع، ويحذَّر منهم خوفاً من التأثر ببدعهم، فالمشكلة هي بدعهم في كونها خارجة عن الإسلام وسياقه، لا في أشخاصهم في كونهم خارجين عن الأهلية، فلو فرضنا أنّ المؤهّل عاد وأخذ بذلك الرأي، هل يصبح ذلك الرأي إبداعاً بعد أن كان ابتداعاً؛ لأنّ صاحب الرأي تغيّر؟! أليس هذا نظراً إلى القائل دون القول، وفي الرواية عن علي× جاء: «لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال»؟!([6]).
علماً أنّه إذا أريد تطبيق هذا التفسير على المجموعة الأولى من الروايات، فهي تتحدّث عن أن البدعة ضلالة بصرف النظر عن صاحبها، فهل تنقلب الضلالة إلى هداية بانقلاب حال صاحبها أم أنّ هذا الوصف وصفٌ لطبيعة البدعة وأنّها تضلّ، لا أنّها تضلّ فقط إذا كان صاحبها غير مؤهّل ولا تضلّ إذا كان صاحبها مؤهلاً؟ وهو ما يجري على بعض تعبيرات المجموعات الأخرى أيضاً.
إذن، ليست أهليّة صاحب الفكرة هي المعيار الوحيد والنهائي في توصيف فكرته بالبدعة، بل لابد لنا أن نبحث عن عنصر آخر قد يكون له دور، أو له الدور الأساس هنا.
2 ـ فرضية فقدان الامتداد التاريخي في الموروث الإسلامي
التفسير الثاني: أن يقصد بالبدعة كل أمر حادث لم يكن له وجود معروف بين المسلمين، فكل فكرة أو طريقة أو نهج أو .. لم يسبق أن تداوله المسلمون أو عرفه علماء الإسلام، إذاً فهو بدعة.
وفقاً لهذا المعيار، لا يعود مضمون البدعة هو المهم من حيث وجود دليل عليه أو عدم وجود دليل، ولا يعود المهم أن يكون صاحب البدعة عالماً فقيهاً مفكّراً باحثاً أو يكون نكرةً جاهلاً لا قِبَل له بممارسة بحث علمي بسيط، وإنما المطلوب ـ حتى نحدّد صاحب البدعة ـ أن ننظر في ادعاءاته؛ فإذا لم نجد لها سابقة ولا قائل بها، ولم يسبق أن طرحت من قبل علماء الإسلام أو المذهب، إذاً فصاحبها مبتدع ولو كان أفقه الفقهاء وأحكم الحكماء والفلاسفة فيما لو نسبها للدين.
ولكي نحلّل هذا التفسير نقول: إنّ بنيته بنية تاريخية، بمعنى أنّه يجعل معيار تحديد البدعة والكشف عنها هو التاريخ، فليس المطلوب سوى إجالة النظر في تاريخ الفكر الإسلامي أو الإمامي، وهناك نجد الجواب؛ فإن لم نعثر على فكرة من هذا النوع تبنّاها ولو عدد بسيط من العلماء قلنا: إن صاحب هذه الفكرة مبتدع، أما إذا وجدنا في تاريخ الفكر الإسلامي أو الإمامي قولاً ـ ولو قليلاً من حيث الأنصار ـ يأخذ بهذه الفكرة، أخرجنا صاحب هذه المقولة عن حدّ الابتداع.
وربما يُنْتَصَر لصالح هذا التفسير بالتحليل اللغوي لكلمة «بدعة»، فإنّها من الاختراع والإنشاء؛ فكأنّ شيئاً لم يسبق له وجود، ثم جاء من أوجده، فنقول عنه: إنه مبتدعٌ لهذا الشيء، وهذا ما ينطبق تماماً على هذا التفسير هنا، فكأنّ صاحب الفكرة الجديدة أبدعها حيث لا سابق له فيها.
يبدو لنا أنّ هناك مشكلات تواجهنا مع هذا التفسير، وأهمّها:
أولاً: إذا ادّعى شخص من العلماء أو غيرهم أنّه توصّل إلى فكرة أو نظريّة في فهم الإسلام أو بعض معالمه وأحكامه، ثم أخذ بالاستدلال على ذلك من الكتاب والسنّة، فما هو موقفنا منه؟ هل نأخذ بقوله لو اقتنعنا بدليله؟ هل نستمع إلى دليله؟ هل نتركه ونذره لأنّ فكرته لم يسبق أن طرحها أحدٌ قبله؟ ماذا نفعل في هذه الحال طبقاً لتوجيهات النصوص في التعامل مع البدعة؟
هل إذا أخذنا بقوله نكون مبتدعين على أساس أنّه لا قائل بهذا القول قبله؟ أم ننظر في الكتاب والسنّة فإذا وجدنا دليله صحيحاً فلا يمكن وصف مقولته بالبدعة لمجرّد أنّها خالفت السائد حتى اليوم، ثم هل يجوز لنا بعد الاقتناع بأدلّته أن نترك هذه الأدلّة الموجودة ـ من وجهة نظرنا ـ في الكتاب والسنّة ونحن نراهما صادعَين بهذه الحقيقة وحجّتنا في الترك أنّ أحداً من العلماء لم يقل بذلك؟ أليس هذا نقضاً لحديث الثقلين؟ أليس هذا خرقاً لما دلّ على لزوم اتّباع الكتاب والسنّة؟ فكيف إذاً نجعل المعيار الوحيد للكشف عن البدعة هو حداثة القول فيها، وعدم وجود قائل بها من قبل، دون أن نرجع إلى الأدلّة التي يسوقها صاحب الدليل؟ ولو قدّم شخصٌ نظريةً وساق عليها عشرات الأدلّة وكان فقيهاً علامة دهره، غاية الأمر لم يسبق أن طرحها أحدٌ قبله.. هل نتعامل معه بوصفه مبتدعاً وكلامه بدعة؟!
هذا كلّه يعني أنّ مجرّد عدم وجود قول سابق لا يعني ـ لوحده ـ صيرورة هذه الفكرة ابتداعاً، بل يحتاج الأمر إلى عناصر أخرى.
ثانياً: معنى هذا التفسير للبدعة أنّنا ـ أي كلّ المسلمين بمذاهبهم ـ نتّبع أهل البدع، ذلك أنّه إذا ذهب الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (460هـ) إلى نظرية أو فتوى، وكان هو أوّل من قال بها، ثم اتبعه بعده جماعة من العلماء.. هنا يصبح الأخذ بقوله مما لا مشكلة فيه، بمعنى أنّه لو عاد أحد العلماء اليوم وطرح هذه المقولة التي أسّسها الشيخ الطوسي فلن يكون مبتدعاً لأنّه لن يكون أوّل من قال بها، حسناً هذا جيد.
لكن ألا يعني ذلك أنّ الشيخ الطوسي نفسه صار صاحب بدعة ـ والعياذ بالله ـ لو أردنا تطبيق المفاهيم عليه نفسه على أساس أنّه قال بهذا القول ولم يسبقه إليه أحد؟ فنحن هنا نطبّق هذه الفرضية التفسيرية على الطوسي نفسه، فكيف صار وجود رأي الشيخ الطوسي في التراث مشرعناً للنظرية مع أنّ المفروض أن يكون تفرّده بها في القرن الخامس الهجري دليلاً على كونها بدعة؛ حيث لم يُسبق إليها؟ وأيّ فرقٍ بين القرن الخامس والقرن الخامس عشر؟
ولو أردنا تطبيق هذا الكلام، لكان الكثير من العلماء الكبار مبتدعة؛ لأنّه لا يكاد يخلو عالم منهم من الإتيان بفكرة أو نظرية ينسبها للدين ولم يقل بها أحدٌ قبله.
ثالثاً: إنّ هذا التفسير للبدعة يناقض نظريات العديد من كبار العلماء في أصول الفقه الإمامي، وذلك أنّ بعض العلماء ـ مثل أنصار المدرسة الإخبارية العريقة ـ رفضوا بشكل قاطع حجية الإجماع، واعتبروا الإجماع مقولةً سنيّة بامتياز، ونجد أنّ مثل السيد الخوئي (1413هـ) يرفض الأغلبية الساحقة من الإجماعات؛ إما لكونها منقولة، أو لمدركيّتها أو احتمال مدركيتها.. وهذه كتبه الفقهية والأصولية ـ ككتب الإخباريين ـ تشهد على ما نقول.
إنّ مثل هؤلاء العلماء لا يرون دليلاً أو قيمة حاسمة لنظرية الإجماع أو الشهرة؛ فالمفترض على نظرياتهم الأصولية أن لا يكون هناك أيّ معنى لهذا الكلام في تفسير البدعة؛ لأنّ مجرّد الإجماع السابق لا يشكّل إلزاماً نهائياً عندهم في تبنّي رأي أو رفض آخر، نعم قد يحتاطون في مقام الإفتاء، وهذا أمرٌ آخر، لا لقولهم بوجوب الاحتياط في الإفتاء حينئذٍ، بل لدواعٍ أخر لسنا بصدد بحثها هنا.
ونحن هنا لا نجعل قول هؤلاء العلماء دليلاً، وإنّما نأخذ بفكرتهم لمحاولة تحليل الموقف العام من هذا التفسير للكشف عن البدعة.
رابعاً: معنى هذا التفسير للبدعة هو تحريم الاجتهاد الإبداعي لصالح الاجتهاد الانتقائي الترجيحي، أي أنّ المطلوب ـ فقط ـ من علماء اليوم أن يجتهدوا في إطار ترجيح رأي فقهي على آخر، وكلا الرأيين موجود سابقاً، لا أن يجتهدوا للإتيان برأي جديد، أو مع جواز الإتيان برأي جديد.
ومعنى هذا الكلام هو تحويل باب الاجتهاد عند الشيعة إلى الاجتهاد السائد عند الكثير من أهل السنّة، فإنّ ما يقوم به الاجتهاد السنّي بعد سدّ باب الاجتهاد عندهم هو ـ في الغالب ـ ممارسة تحليلية لترجيح رأي فقهي عند القدماء على رأي فقهي آخر، مع المنع عن الإتيان برأي فقهي جديد لا سابق له، فهذا هو انسداد باب الاجتهاد في الوسط السنّي، فلو كانت هذه هي السنّة وغيرها البدعة، فما معنى فتح باب الاجتهاد عند الشيعة حينئذٍ؟! وبماذا يمتاز الشيعة عن السنّة في هذا المجال؟! أليس هذا مناقضاً لكل سيرة علماء الإمامية ومشهور متقدّمي علماء سائر المذاهب الذين لا يخلو واحد منهم عادةً إلا وله رأي أو رأيان أو أكثر لم يسبقه إليها أحد؟ علماً أنّ عدم سبق أحدٍ له لا يعني أنّه ـ بالضرورة ـ يخالفهم؛ فقد يطرح نظريةً لم يكونوا يبحثون بها أو عنها أساساً في فكرهم السابق.
ثم ما معنى التدبّر في القرآن لو كان المطلوب أن لا نخرج بنتيجة إلا ويكون لها من قال بها سابقاً؟ فأين هو تطوّر العلوم الدينية إذاً في الكشف عن مخازن علوم الكتاب والسنّة؟ وهل حقاً اكتشف العلماء السابقون كلّ خفايا الكتاب والسنّة حتى نُمنَع أن نأتي بشيء لم يسبق أن طرحوه، مع أنهم ـ والجميع يقرّون ـ لم يكتشفوا سوى النزر اليسير من علوم القرآن والنبي’ وأهل بيته^؟
وهذه المناقشة نقضيّة، بمعنى أنّني أريد بها ـ فقط ـ إعادة تنبيه وجدان من قد يتبنّى هذه النظرية في تفسير نهج اكتشاف البدعة في المجتمع.
بهذا كلّه نعرف أن تفسير البدعة بأنّها كل حادث لم يسبق أن تمّ تداوله في مطلق شؤون الحياة أو في شؤون الدين خاصّة، تفسير يعاني من بعض المشكلات.
3 ـ فرضية إدخال ما ليس من الدين فيه
التفسير الثالث: أن يكون الابتداع هو نسبة شيء إلى الدين ليس منه، فإدخال شيء في الدين ليس منه بدعة وابتداع، فإذا أردنا أن نعرف البدعة في حياتنا اليوم ونعرف أصحاب البدع، علينا النظر في أفكارهم؛ فكل من وجدنا عنده فكرةً أو مقولة أو نظرية ينسبها للدين ورأينا أن الدين لا علاقة له بها، إذ ليس لها وجود في الكتاب ولا في السنّة.. نقول: هذا صاحب بدعة، وفكرته هذه بدعة، وكل من نظرنا في فكره ومقولاته، فلم نجد عنده شيئاً لا وجود له في الكتاب أو السنّة، قلنا عنه: إنّه متّبع وليس بمبتدع.
هنا يكون المعيار هو مراجعة الكتاب والسنّة، فكلّ ما نراه نسبةً لهما غير صحيحةٍ نقول: هو بدعة، وكل نسبة لهما نراها صحيحة نقول: هي اتّباع وسنّة.
وبهذا يمتاز هذا التفسير الثالث للبدعة عن تفسيرها الثاني؛ لأنّ المرجع في التفسير الثاني كان تاريخ الفكر الإسلامي أو الإمامي، ومدارس العلماء ونظرياتهم، أمّا هنا فالمرجع والمعيار هو الكتاب والسنّة عينهما، بصرف النظر أخذ بذلك أحد من العلماء من قبل أم لم يأخذوا بذلك ولم يلتفتوا إليه إطلاقاً؛ فلو جاء شخص بنظرية جديدة لم يقل بها أحد قبله، لكنّها كانت موجودة في الكتاب والسنّة وهم لم يلتفتوا إليها، فإنّ كلامه هذا سيكون بدعةً على التفسير الثاني، ولن يكون كذلك على التفسير الثالث، وهذا كلّه في التفسيرين ـ الثاني والثالث ـ بصرف النظر عن مؤهلات صاحب الفكرة علمياً وعدم هذه المؤهلات، وبهذا يمتاز التفسيران: الثاني والثالث، عن التفسير الأوّل.
وعندما نرجع إلى كلمات العلماء في تعريفهم للبدعة، نجد أن العلامة المجلسي (1111هـ) يقول: «البدعة في الشرع ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ على الخصوص، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً..»([7]).
ويقول السيد محسن الأمين (1952م): «البدعة ـ كما مرّ في المقدّمات ـ إدخال ما ليس من الدين.. ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلّة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك، وإن لم يكن موجوداً في عصر النبي»([8]).
ولدى دراسة هذا التفسير الأكثر شيوعاً بين العلماء، نجد سمتين رئيستين للبدعة:
ومعنى ذلك أنّ أيّ فكرة نطرحها اليوم، إذا دلّ عليها دليل خاص، مثل البكاء على الإمام الحسين × الذي وردت فيه روايات تصرّح به، لم تكن بدعة، وإذا لم يدلّ عليها دليل خاص يصرّح بها وبعنوانها، لكن شملتها العمومات والخطوط العريضة المذكورة والممدوحة في الكتاب والسنّة دون أن تعارض الشرع في مورد آخر ومن ناحية أخرى، مثل تنظيم المسيرات العاشورائية في الشوارع والساحات المشمول لعمومات إحياء أمرهم وتذكير الناس بمصابهم.. لا تكون بدعة أيضاً، رغم أنّه لا يوجد بين أيدينا دليل خاص ونصّ خاص ـ مثلاً ـ بالتظاهر لإحياء ذكرى عاشوراء، أو إشعال الشموع للغرض نفسه أو…
هذه الفرضية الثالثة لتفسير البدعة ـ وهي الأوفر حظاً ـ تواجهنا معها ميدانياً بعض المعيقات، أبرزها أنّه إذا كانت البدعة تأسيساً لشيء في الدين ليس له أساس من دليل خاص أو عام، فهذا معناه أنّه عندما يرى فقيه أنّ جلسة الاستراحة ـ وهي الجلسة التي تعقب السجدة الثانية في الركعات التي لا تشهّد فيها ـ ورد عليها دليل بخصوصه أو عمومه يفيد وجوبها أو استحبابها، لكنّ الفقيه الآخر توصّل إلى عدم وجود هذا الحكم في الشريعة الإسلامية، لا بدليل خاص ولا عام يثبت وجوبها أو استحبابها؛ فالمفترض أن يصف الفقيهُ الثاني حكمَ الفقيه الأوّل بأنّه بدعة؛ لأنّه ـ من وجهة نظره ـ زيادة في الدين ليست منه، وهذا معناه أنّ المبدأ في اختلافات الفقهاء والعلماء عموماً هو أن يبدّع بعضهم بعضاً ويرون بعضهم أهلَ بدعة، تجب محاربتهم وبهتانهم وسبّهم ومقاطعتهم أو تستحبّ، وهذا أمرٌ لا يقول به أيّ متفقّه مسلم، فضلاً عن فقيه!!
وربما يأتي إلى خاطرك ما يقول لك: إنّ هذا الأمر خاصّ بحالة ما إذا كان الفقيه الثاني قاطعاً متيقناً من عدم وجود هذا الحكم في الدين، لا ما إذا كان غير متأكّد من وجوده..
ويمكنني الجواب بأنّه حتى في هذه الحال سيبدّع العلماء بعضهم بعضاً، ولا نكاد نجد عالماً إلا ويتأكّد من أنّ بعض نتائج العالم الآخر ـ ولو فتوى واحدة أو فكرة واحدة ـ هي عنده بالتأكيد ليست من الدين؛ لقيام دليل يقيني عنده على ذلك، وهذا أمر يلمسه كل من يطلع على نظرياتهم في العلوم الإسلامية في الفقه وأمثاله فضلاً عن العقائد والفلسفة وغيرهما، ممّا يغلب في نتائجه الطابع اليقيني.
علماً أنّه ليس كل عدم تأكّد معناه أنّه لا يبدّع، بل في كثير من الحالات يمكنه ذلك؛ لأنّ دليله الظني على عدم وجود هذا الحكم في الشريعة ولو لم يعطه يقيناً بالعدم، لكنّه حيث كان حجّةً عنده من باب الكشف والأمارية صار ـ وفقاً للعديد من النظريات في علم الأصول ـ بمثابة اليقين التعبّدي بالعدم؛ فتترتب عليه الأحكام عينها المترتبة على اليقين والقطع.
هذا كلّه، هو ما يجرّنا إلى تقديم تفسير آخر للبدعة في أساليب الكشف عنها، وهو:
4 ـ فرضيّة شهادة النصّ وفقدان المشروع الاستدلالي التفسيري
التفسير الرابع: إنّ البدعة يتمّ اكتشافها عبر سبل ثلاثة:
السبيل الأوّل: وهو أن ينسب شخصٌ ما ـ سواء كان مؤهلاً من الناحية العلمية أم غير مؤهّل، حائزاً على درجة الاجتهاد في الدين أم غير حائزٍ عليها ـ ينسب إلى الدين أمراً ما في الاعتقاد أو العمل، وفي الفقه أو الأخلاق أو العقيدة أو.. ولا يكون هذا الأمر ـ من وجهة نظرنا، نحن الفرد أو الجماعة ـ من الدين إطلاقاً، بحيث قام عندنا الدليل ولو الظنّي المعتبر، على عدم كونه من الدين، ولا نراه يشمله خاصّ أو عام معتبرين، لا في كتاب ولا سنّة، ثمّ لا يقدّم الطرف الآخر صاحب هذا القول المدّعى دليلاً على دعواه من كتاب أو سنّة، فلا يستند ـ ولو حسب زعمه ـ إلى نظرية تقوم على أدلّة، بصرف النظر عن صحّة هذه الأدلّة وعدم صحّتها عندنا، فهنا إذا سئل هذا الشخص: من أين لك هذا؟ أجاب: أنا أرى ذلك، وأستنسب ذلك، وأعتقد أنّه من الدين وفيه خدمة للدين، وأنّ هذا هو السبيل القويم، ولا يقدّم دليلاً على كلامه من كتاب أو سنّة أو عقل.. فهذا هو المبتدع في عالم الإثبات، وهو الذي يمكننا ترتيب آثار الابتداع عليه.
فمقوّم البدعة هنا هو النسبة إلى الدين ما ليس منه، وعدم إقامة نظرية تفسيرية تبرّر هذه النسبة، وعدم وجود دليل خاص أو عام يدعمها.
السبيل الثاني: أن يرد نصّ قرآني أو حديثي ثابت ومعتبر عندنا من حيث السند والدلالة، على أنّ القضيّة الفلانية بدعة أو فلاناً المعيّن مبتدع، فهنا نتعبّد بالدليل الخاص من مصدر التشريع على ذلك، وكمثال على ذلك ما جاء ـ شيعياً ـ في الخبر الصحيح السند الذي رواه الفضلاء الثلاثة: محمد بن مسلم وزرارة بن أعين والفضيل بن يسار، قالوا: سألناهما‘ عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: «إنّ النبي… وصلاة الضحى بدعة»([9]).
إذن، فكل اجتهاد في فهم الدين ونصوصه يسعى لتقديم نظرية قائمة على معايير علمية وأدلّة، لا يصنّف ـ إثباتاً وميدانياً وعملياً ـ على أنّه بدعة، حتى لو كنّا نرى هذه الأدلّة غير صحيحة، وحتى لو كان هذا القول هو في علم الله ابتداعاً وزيادة في الدين بالمعنى اللغوي للكلمة والمدلول الثبوتي للمفهوم، نعم القول بلا مستند وإقحام أمور في الدين بلا شاهد عليها من الكتاب أو السنّة وأمثالهما، مع اعتقادنا القائم على أدلّة معتبرة أنّها ليست من الدين.. هو بدعة يحارب صاحبها ويواجَه، سواء كان متعمّداً النسبة للدين مع علمه بعدم كون هذا من الدين أم لم يكن متعمداً، بل عن حبّ وإرادة صادقة لهذا الدين.
السبيل الثالث: وهو أن نعلم أنّ صاحب هذه الفكرة يتعمّد إقحام ما ليس من الدين فيه بنيّة غير صادقة، أي إنّه ينطلق من نوايا خبيثة في هذا الأمر، لا عن اشتباه أو خطأ في الاجتهاد أو التفسير أو فهم الدين وقراءته، ونكون من جهةٍ أخرى على علم ـ بالدليل المعتبر ـ أنّ هذا الشيء الذي يدّعيه ليس من الدين في شيء، فهنا نطبّق عليه أحكام الابتداع، سواء تظاهر بإقامة الدليل على نظريّته أم لم يقم دليلاً عليها، مع التزامنا بأنّ مناقشته العلمية من قبلنا ـ لو أقام أدلّةً على مزاعمه ـ تظلّ محفوظة في إطار البحث العلمي، لأنّ النوايا لا علاقة لها بقيمة الأدلّة، فالمطلوب مناقشته علميّاً وفق المعايير الفكرية، ولكن مع الالتزام بالتوجيهات النبوية في إطار السلوك الاجتماعي العام مع أهل البدع.
ب ـ العلم بأنّ هذا المقحَم في الدين ليس منه، من وجهة نظر المبتدع نفسه.
وطبعاً هذا السبيل الثالث يواجه معضلة كبرى وهي أنّ الوصول إلى النوايا أمرٌ بالغ الصعوبة، ولابد أن تقوم عليه الأدلّة القضائية لإثبات الجُرم، ولا تكفي الإدانة الإعلامية أو السياسية أو الفكرية العامّة، وهذا قليلاً جداً ما يحصل في مثل هذه الأمور، لاسيما وأنّ الفقهاء يعتقدون بأن الأمور القلبية يندر معرفتها في مجال القضاء إلا من الشخص نفسه.
هذه الدوائر الثلاث التي تمثلها هذه السبل الثلاثة هي المقدار الذي يمكن الركون إليه، مع إمكان أوّلي لوجود مجال للمناقشة في بعضها لا نخوض فيها الآن، وأما غير ذلك فنحن نجد مُعِيقَات تمنعنا عن الأخذ بدلالة النصوص الواردة هنا في كيفية التعامل مع أهل البدع.
وبهذا يتبيّن أنّه لا يوجد أيّ تنافٍ بين حقّ الاجتهاد والإبداع في مجال الفكر الديني، وبين مبادئ مواجهة الابتداع في المجال نفسه، وبهذا التفكيك يمكننا إدارة عمليّة الاختلاف في الداخل الإسلامي والحفاظ على حقّ الاختلاف، على أن لا يؤدي هذا الاختلاف إلى التنازع المضعِف للأمّة، والله العالم.
ظواهر الابتداع في القرون الأولى
يمكن للإنسان أن يوجّه سؤالاً هنا: إذا كان هذا هو معنى البدعة وهذه هي وسيلة تعرّفنا وتحديدنا للمبتدع، فلماذا كلّ هذه النصوص؟ هل يقوم أحد باختراع أمرٍ في الدين ثم لا يغلّفه بأمرٍ ديني، أو يحاول البرهنة عليه بعامٍ من العمومات أو مطلقٍ من المطلقات؟! إذاً فأين هي مصاديق البدعة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، والتي لا يزعم لنا فيها صاحبها أنّ بين يديه دليلاً ما؟!
إنّ هذا التساؤل سيضع على تفسيرنا للبدعة ـ على المستوى الإثباتي ـ علامة استفهام كبيرة.
ويمكن أن نجيب عن هذا السؤال بأنّنا قلنا بأنّ أهل البيت^ كانوا يكشفون لشيعتهم مصاديق البدعة والمبتدعين، فيأخذون بكشفهم ويعملون عليه، ولولا كشف أهل البيت^ ما كنّا نتمكّن من ترتيب آثار البدعة عمليّاً. يضاف إلى ذلك أنّ الكثير جداً من أصحاب الدعوات ما كانوا يقيمون أدلّة واهية على دعواتهم، فضلاً عن الأدلّة القويّة؛ فكثيرون كانوا يدّعون ويسيّرون الناس بالعاطفة والوجدان، وكثيرون ـ حتى في زماننا ـ يخترعون أموراً، وعندما تطالبهم بالدليل لا يقدّمون سوى استمزاجهم الشخصي، لا دليلاً من كتاب أو سنّة أو.. بل بعضهم ينهرك عندما تسأله عن دليل، ويقول لك: هذه أمور لا يُسأل عن دليلٍ لها، أو هذه فوق الأدلّة؛ فهؤلاء هم من قصدتهم الروايات، وقد كثر المدّعون في تلك القرون بلا علم ولا بيّنات، وكان الناس سذجاً يتبعون بعضهم لمكانتهم القبلية أو السياسية أو..
كما أنّ من يزيدون شيئاً في الدين بنيّة سلبية وهم يعلمون أنّه ليس من الدين قاصدين بذلك الإساءة للدين، ليسوا قلّة، لكن المهم أن نكشف عن نواياهم، وهو أمرٌ عسير جداً في مثل هذه الأمور، نحتاج فيه للكتاب والسنّة كي يخبرانا عن ذلك أو تقوم أمامنا أدلّة قضائية يقينية أو معتبرة شرعاً تثبت مثل هذه النوايا.
وبهذا نعلم أنّ نصوص البدعة من المجموعة الأولى تتحدث عن البدعة بوجودها الثبوتي الواقعي، فيما المجموعتان الثانية والثالثة تتحدثان عن التعامل مع البدعة، وتفترض سلفاً أنّها ـ أي البدعة ومبتدعها ـ ثبتت لنا بوجودها الإثباتي، أي ما صار عندنا بدعة ورأيناه بدعةً.
ونشير ختاماً إلى أنّ نصوص مواجهة البدعة وأهل البدع يحتمل أن تقصد صاحب البدعة ومُطلِقَها فقط، ولا تعمّ من تأثر به واقتنع بما قال؛ إذ لعلّ المنصرف من عنوان (صاحب البدعة)، هو مَطلِقُها ومؤسّسها، فيما أنصاره يقال لهم: أنصار صاحب البدعة، فلو صحّ هذا الاحتمال لكانت نصوص مواجهة المبتدعين خاصّة بمطلقي البدع، لا بأنصار مذاهبهم ومقالاتهم وآرائهم.
وأختم كلامي بالرواية التي نقلها لنا الشيخ أبو عمرو الكشي في رجاله، وصحّحها سنداً جماعة من العلماء، منهم السيد الخوئي في أبحاثه الرجالية([10])، بالسند المتصل إلى أبي العباس البقباق، قال: تدارء (تذاكر ـ تزارا) ابن أبي يعفور ومعلّى بن خنيس، فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أبرار أتقياء، وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء، قال: فدخلا على أبي عبد الله×، قال: فلمّا استقرّ مجلسهما، قال: فبدأهما أبو عبد الله×، فقال: «يا عبد الله! ابرأ ممّن قال: إنّا أنبياء»([11]).
لا أريد أن أعلّق على هذا الحديث، وهل الإمام الصادق× بنفيه النبوّة يريد إثبات رأي ابن أبي يعفور حيث لم يعلّق عليه أم لا دليل على ذلك..؟ بقدر ما أريد أن أستفيد منه أنّ الخلاف بين ابن أبي يعفور وابن خنيس، وهما من الشيعة، كان كبيراً في فهم قضيّة الإمامة، لكن مع ذلك كانا يتذاكران ويتجالسان ودخلا معاً عند أبي عبد الله الصادق×، وجالساه، وكانا من أصحابه، ولم يطبّق عليهما أو على أحدهما الإمامُ مبادئ العلاقة مع أهل البدع، بل ظلّ يستقبل ويلتقي مع معلّى بن خنيس، ولم يقطع الطرفان ـ ابن أبي يعفور وابن خنيس ـ العلاقة مع بعضهما رغم موقفهما من فكر بعضهما، وابن أبي يعفور رمزٌ من رموز الطائفة الشيعية، وله روايات كثيرة، أما ابن خنيس فقد وقع كلام في توثيقه، وإن وثقه كثيرون، منهم السيد الخوئي([12])المعروف بنقده في علم الرجال، وقد امتدح العلماء هذين الرجلين رغم الخلافات الكبيرة التي كانت بينهما؛ فحريّ بنا ونحن في زمن رديء تحاك علينا فيه المؤامرات من كل جانب، أن نحسن إدارة خلافاتنا، ونتعلّم من هذه المشاهد التاريخية دروساً نستفيد منها في تعاملنا مع بعضنا؛ فلا نفسّق بعضنا ولا نجهّله ولا نقصيه، بل نحترمه ونمارس النقد عليه، كما يمارس هو بنفسه النقد علينا، من منطلق الحرص على تلاقح الأفكار للمزيد من التقدّم إن شاء الله تعالى، ومن شعارنا في علاقاتنا الأخوية:
﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ﴾ (المائدة: 28).
([1]) مقالة نشرت في صحيفة المرفأ في مدينة قم المقدّسة عام 2009م.
([2]) راجع الحديث بصيغه في: جامع أحاديث الشيعة 14: 441 ـ 443.
([3]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 2: 375؛ والحر العاملي، وسائل الشيعة 12: 48.
([5]) البرقي، المحاسن 1: 231؛ والكليني، الكافي 1: 54.
([6]) المتقي الهندي، كنـز العمال 16: 197.
([7]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 71: 202.
([8]) محسن الأمين، كشف الارتياب: 130 ـ 131، نشر مكتبة الحرمين، قم، إيران.
([9]) الصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 137؛ والطوسي، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار 1: 467 ـ 468؛ وتهذيب الأحكام 3: 69 ـ 70.
([10]) أبو القاسم الموسوي الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 267.
([11]) اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي: 321.
([12]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 257 ـ 269، رقم: 12524 ـ 12525.