مفهوم السلطة وعلاقته بإشكاليّة المثقف والفقيه
في البداية، من المفترض أن ندرك أنّ العلم سلطة، وأن الثقافة سلطة كذلك، فهما تماماً كالمال يمنحان صاحبهما سلطة، وعندما نضع هذا المدخل أمامنا فسوف نجد مقولة الخلاف ظاهرةً: الخلاف بين الفقهاء أنفسهم والمثقفين كذلك، والخلاف بين الفقهاء والمثقفين، وكلّما كانت الأطر الفكرية أشدّ اختلافاً كان الخلاف السلطوي ـ وليس بالضرورة السلطة بالمعنى السلبي ـ بهذا المعنى أعمق؛ لأنّ كلّ مقولة بقدر ما تثبت نفسها تنفي غيرها.
هذا كلّه يعني أنّ أحد مداخل فضّ الاشتباك بين المثقف والفقيه ليس القيم الأخلاقية فقط، وإنّما التوافق على التموضع السلطوي للفريقين؛ إذ بذلك يجد كل فريق نفسه، ويعثر على هويته ومكانته ويرضي قناعاته، فالقيم الأخلاقية تحتاج إلى حماية اجتماعية تتبلور من خلال إيجاد نظم علاقات تفسح المجال لتجلّي القيم الأخلاقية، لهذا كان في الإسلام فقه وأخلاق، فقه يخلق مناخ ظهور القيم الأخلاقية، وأخلاق تسعى لحماية تطبيق الشريعة بواسطة عنصر الضخّ الروحي في المجتمع.
ضرورة تحديد حجم الخلاف بين المثقف والفقيه
القضية الأخرى التي تظلّ مهمّةً هنا هي تحديد حجم الخلاف بين الفريقين، إنّ حجم الخلاف لا يقف عند آليات نشر الإسلام أو تواصله مع الواقع أو مع إنسان القرن الواحد والعشرين، بل يمتدّ إلى ما هو أعمق من ذلك، إنّه يطال المنهج المعرفي في التعامل مع المفاهيم والمقولات، ويطال أيضاً أصول المعرفة الدينية، وهنا يجب أن ننتبه إلى قضيةٍ واقعية بامتياز، إنّ حجم الخلاف بين المثقف والفقيه يختلف بين بلدٍ وآخر من البلدان العربية والإسلامية، وهذا يعني أنّه من الضروري تحديد حجم الخلاف في هذا الموضوع تارةً على المستوى الوطني والقطري، وثانية على المستوى العربي، وثالثة على المستوى الإسلامي، وعدم الخلط بين هذه الدوائر، إنّ إمساك الفقيه بالسلطة يصنع حجماً للخلاف يختلف تماماً عن الموقع الذي لا يملك الفقيه فيه السلطة، ومن هنا فالحلول تارةً تكون وطنيّةً، وأخرى أقليمية، وثالثة إسلامية، ولا ينبغى نقل تجارب الأزمات والحلول من منطقة إلى أخرى دون دراسة حجم المشكلة في المجتمع المنقول إليه.
بالعودة إلى ما سبق، نجد أنّ حجم الخلاف في بعض البلدان الإسلامية قد لا يتجاوز بعض الآليات والوسائل والأمور الشكليّة، لكنّه في مساحة أخرى نجده أعمق من ذلك بكثير، فلا يصحّ التهويل والتضخيم ولا التسطيح والتبسيط.
الفريق الوسطي والاشتغال عليه
المسألة الأخرى، أنّه يجب العمل على الفريق الوسطي الذي يتصل في طريقة تفكيره بالمناخ الفقهي من جهة والمناخ الجامعي من جهة ثانية، إنّ تنامي حجم الجامعيين الحوزويين، والحوزييين الجامعيين، يفتح في المستقبل المجال على إيجاد حلقة وصل ثقافية لدعم هذا الفريق كي يكون مفتاحاً للتواصل بين اليمين واليسار، ومع الأسف لم نجد اشتغالاً ميدانياً على هذا الفريق الذي يقع في الوسط ثقافياً، ولا أقصد على مستوى الانتساب الجامعي والحوزوي فحسب. فإذا بلغ هذا الفريق المكانة العالية في الحوزة والجامعة معاً فبإمكانه أن يقدّم نظريات وسطية تحافظ على التوازن، نعم قد يكون هذا الفريق بنفسه عرضةً ـ في بعض الفترات ـ لغضب اليمين واليسار، وهذا قدره الذي عليه أن يجاهد كي يتجاوز مأزقه بفرض نفسه فكرياً وثقافياً وإعلامياً.
تحرير الثقافة من الوضعية والدين من الفقه، مدخل لتواصل المثقف والدين
القضية الأخرى التي تستحق الاشتغال عليها هي أنّ إشكاليّة العلاقة بين المثقف والفقيه لا تعني بالضرورة إشكاليّة العلاقة بين المثقف والدين أو حتى عالم الدين؛ لأنّ الفقيه يمثل قراءةً للدين، وتوجد إلى جانبه قراءات أخرى قدّمها الفلاسفة والمتصوّفة والعرفاء والمتكلّمون، هذا يعني أنّ تطوير الدرس الفلسفي والكلامي والعرفاني في المناخ الحوزوي والثقافي معاً، وإعطائه صبغته الدينية والفكرية، وتقديمه للناس على أنّه فهمٌ للدين واجتهادٌ في الثقافة، من شأنه أن يجعل هناك حلقة وصل بين الحوزة والجامعة أو بين المثقّف وعالم الدين، وبالإمكان هنا ـ لولا ضيق المجال ـ مطالعة تجربة العلامة الطباطبائي والشهيد المطهري، فلم يكونا من شريحة الفقهاء بالمعنى الانتسابي.
والذي يعقّد المشكلة أنّ الثقافة صارت ذات هوية لا دينية، تأثراً بالتجربة الغربية تارةً، وبالتجربة الماركسية أخرى، حتى تحدّث بعضهم عن المفارقة في مقولة (الثقافة الدينية)، كما أنّ الدين صار ذا هوية فقهية، حيث تضخّم الفقه في القرن الأخير؛ نظراً ليقظة الأمّة نحو مشروع تطبيق الشريعة، فاتخذت الصحوة الإسلامية شعاراً فقهيّاً في أكثر من موقع، ممّا أدّى إلى طغيان المفهوم الفقهي على الدين، وهذا أمر ينبغي إصلاحه بما لا يضرّ بالدين ولا الفقه ولا الثقافة.
النقد الذاتي
وأخيراً يظل مفهوم النقد المتواصل للذات قادراً على أن يفتح كوّة في جدار الفصل بين المثقف والفقيه فعلى الفريقين ممارسة هذا النقد وعدم التعالي عنه أو التنزّه.
والكلام في الموضوع طويل نقتصر فيه على هذا المقدار والله العالم.
المصدر: جريدة الدار الكويتية
الجمعة 16 _ مارس ـ 2010م