يقف المرءُ حائراً أمام هذا التفلُّت الجماهيريّ من ضوابط القانون الإلهيّ (الشريعة الإسلاميّة)، وهو ما يتبعه تحلُّلٌ خُلُقيّ، كفيلٌ بأن يقضي على كلّ إنجازٍ متصوَّرٍ لمجتمعٍ إيمانيّ هنا أو هناك.
فعلى الرغم من وجود منظومة أحكامٍ متكاملةٍ وتشريعاتٍ شاملةٍ لكلّ شؤون الحياة ومتطلَّباتها ـ القديمة منها والجديدة، الثابتة منها والطارئة ـ مبثوثةٍ في كتب الفقه والرسائل العمليّة للفقهاء، وتصدح بها حناجر العلماء والمبلِّغين في خُطَب الجمعة والعيد وغيرهما طيلة أيّام السنة، نجد جفاءً ملحوظاً وهَجْراً مقصوداً بينها وبين المكلَّفين، الذين لا يفتؤون يعلنون إيمانهم بالله، وحبَّهم له، وارتباطَهم به، وبأنبيائه ورُسُله (وأوصيائهم)، بل تراهم على المستوى النظريّ يمدحون ويُقرُّون بالمصلحة الكامنة في هذه التشريعات، ويَدْعون إلى الالتزام بها، ما يعني أنهم مؤمنون بها، ومعترفون بخيريّتها، وملتزمون بها نظريّاً، لكنّ مانعاً حال دون التزامهم العمليّ، وهو وساوس الشيطان وهوى النفس الأمّارة بالسُّوء.
ولَسْتُ أريد الخَوْض في بيان دواعي وأسباب هذا التناقض بين القول والعمل، وإنما أريد أن أعرض إثارةً تتعلَّق بمعقوليّة أن يكون الشارع الحكيم قد ترك الحُرِّية لأمثال هؤلاء ـ وهم كُثُرٌ ـ في أن يستجيبوا لشيطان الجنّ والإنس أو لهوى النفس؛ فيخرِّبوا المجتمعات البشريّة، ويحرموها من أبسط حقوقها؛ حيث تتجلَّى المشكلة الكبرى هاهنا في آثار ونتائج مثل هذه المخالفات على واقع الحياة الاجتماعيّة للناس؛ إذ في أغلب التشريعات ـ إذا لم نقُلْ: كلِّها ـ ما هو شديدُ التماسّ مع المجتمع ومصالح أبنائه.
فقد نتصوَّر أن الصلاة مثلاً عملٌ فرديٌّ مَحْضٌ، وخاصٌّ بمريدها والملتَزِم بها، ولكنْ لو التفَتْنا إلى أن وقت الصلاة ـ رغم سَعَته ـ قد يستوعب ويترافق مع عملٍ أو سَفَرٍ، فيحتاج مريدُ الصلاة إلى مكانٍ خاصّ يصلّي فيه (مساجد أو مصلَّيات)، وإلاّ فسيكون مضطرّاً للصلاة في أيّ مكانٍ يختاره، ما قد يعطِّل حياة الناس ومصالحهم، فحينئذٍ لا تعود الصلاة فعلاً فرديّاً بالمطلق، بل هي واجبٌ شخصيٌّ، وله انعكاساتٌ على الآخرين، فلا بُدَّ أن تكون تحت سقف قانونٍ ونظامٍ عامٍّ، يكفل الحقّ والراحة للجميع: مريد الصلاة؛ وغيره من أفراد المجتمع المحيطين به. هذا، وقد اخْتَرْنا الصلاة مثالاً لأنها أوضح الأمثلة على الفرديّة؛ وإلاّ فإن أمثلةً كثيرةً في البال، وقد نذكرها ـ أو بعضها ـ في ما يأتي.
ولا أريد هنا نفي الخصوصيّة الشخصيّة والصفة الفرديّة عن الصلاة ـ أو غيرها من التشريعات ـ بالمطلق، وإنّما أروم تسليط الضوء والتركيز على الجانب الاجتماعيّ للصلاة، بل لجميع الأفعال التي يقوم بها المكلَّف، وتشملها أحكام الشريعة، وهو ما يجعل الالتزام بها، وآليّة مقاربتها، بنحوٍ مختلفٍ تماماً.
ولستُ أعني بذلك الأحكام ذات الطابع الاجتماعيّ الواضح، والتي قد تكون محطَّ اهتمام الحاكم ووليّ الأمر بشكلٍ تلقائيٍّ؛ إذ هي أبرزُ مجالات عمله وولايته، وإنّما أحاول إثارة هذه الفكرة بالتحديد، وهي: لزوم أن يحضر الحسّ والشعور الجَمْعيّ في جميع عباداتنا ومعاملاتنا؛ فإلى جانب الحسّ الفرديّ والمسؤوليّة الشخصيّة تجاه أيّ حكمٍ شرعيّ ـ عبادةً كان أو معاملةً ـ لا مفرَّ؛ لكي تستقيم حياة المجتمع، ويكون في حركة تقدُّمٍ مستمرٍّ، وتطوُّرٍ دائم، وأمانٍ عامٍّ شاملٍ، لا مفرَّ من حضور الحسّ الاجتماعيّ والمسؤوليّة العامّة، المسؤوليّة عن النظام الاجتماعيّ العامّ، في مختلف الميادين.
نظريّتان في تحديد المسؤوليّة
وما نلحظه في هذا المجال وجود نظريّتين حول طبيعة المسؤوليّة تجاه التكاليف والأحكام الشرعيّة:
1ـ نظريّة المسؤوليّة الفرديّة
فالمعروف بين المتشرِّعة ـ وتؤيِّده خطاباتُ الفقهاء ـ أنها أحكامٌ فقهيّةٌ ومسؤوليّاتٌ فرديّةٌ، وجهودٌ شخصيّةٌ، لا تخضع لنظامٍ عامٍّ يحكمها.
فالزكاة واجبةٌ، وكذلك الخُمْس، ولكنّهما بنظر المتشرِّعة تكليفان فرديّان، يعتمد الالتزام بهما على مدى رهافة حسِّ المسؤوليّة في صاحب المال؛ فقد يعجِّلهما وقد يؤجِّلهما؛ وقد يخرجهما وقد يغضّ الطَّرْف عنهما ـ مؤقَّتاً أو نهائياً ـ، بعيداً عن أيّ قانونٍ عامٍّ مُلْزِمٍ له بالإخراج في الوقت المحدَّد، وبعيداً عن أيّ ضماناتٍ بأنه سيستفيد أو ذرِّيته منهما ـ كعنوانين للضريبة الاجتماعيّة الضامنة والناظمة لحياةٍ كريمة للإنسان الصالح والمُلتَزِم ـ.
2ـ نظريّة مسؤوليّة النظام العامّ
بينما تذهب نظريّةٌ أخرى إلى أن هذه الأحكام ـ أو بعضَها على الأقلّ ـ خاضعةٌ لسلطة النظام العامّ ـ الذي قد يتولاّه الفقيه أو مطلق الحاكم الخبير الحكيم العادل ـ، فيُجْبَر المكلَّف على الالتزام بهذه الأحكام والتشريعات، ولا يُترَك له أيُّ مجالٍ للتهرُّب منها، وتضييع منفعتها على نفسه والمجتمع.
فإذا جُعلَتْ ضريبةٌ على المواطنين؛ لغايةٍ وهَدَفٍ معيَّن، ككفالة الفقراء والمحتاجين مثلاً، فلا يُتْرَك للمواطن أن يتعامل مع هذا التشريع بقريحته وأريحيّته، التي قد تكون ضعيفةً أو مفقودةً لدى بعضهم. وإنّما تُؤخَذ منهم الضريبة المقرَّرة فوراً، وعلى سبيل الاقتطاع من الراتب؛ فإنها فريضةٌ واجبةٌ، وقد تعلَّق بها حقُّ الآخرين، فلا بُدَّ من أدائه أو يتولّى ذلك الحاكم والسلطان والدولة المسؤولة عن كافّة أفراد المجتمع.
وإذا نزل الوباءُ ببلدٍ وجب على الناس أن لا يدخلوا إليه؛ دَفْعاً للخطر عن أنفسهم. وليس ذلك اختياراً لهم، بل تمنعهم السلطات المسؤولة عن حفظ النظام العامّ من الدخول. وكذلك عندما يُكتَشَف علاجٌ لذلك الوباء فإن وظيفة الناس أن تتلقّى ذلك العلاج، ويُجْبَر الممتنع عليه من قِبَل حَفَظة النظام العامّ.
قراءةٌ عامّة في النظريّتين
إذن هما نظريّتان تحدِّدان طبيعة المسؤوليّة في تطبيق الأحكام الشرعيّة: نظريّة المسؤوليّة الفرديّة؛ ونظريّة مسؤوليّة النظام العامّ.
والمرتكِز في أذهان جمهور المسلمين، وعليه العمل في أغلب المجتمعات الإسلاميّة، هو النظريّة الأولى.
فامرؤٌ وما اختار؛ يصلّي حيث يشاء؛ ويصوم إذا شاء؛ وتتستَّر إذا رغبَتْ؛ ويسافر إلى حيث يريد، ولو إلى بلدٍ قد انتشر فيه الوباء؛ ويدفع الضريبة (الزكاة والخُمْس والكفّارات و..)؛ ويتكفَّل المحتاجين إذا حلَّ الجوع والقَحْط والبلاء، كلُّ ذلك بدافعٍ فرديٍّ شخصيٍّ، وواعظٍ ذاتيٍّ، وإلحاحٍ نفسيٍّ، قد يضعف ويَقْصُر ويخبو في كثيرٍ من الأحيان، فنرى غياباً لكلّ ما تقدَّم، دون أن يكون لأحدٍ سلطةٌ على المطالبة به، والمنع من تركه.
بل انطلاقاً من هذه النظرة والمقاربة كان الإصرار على بعض الأحكام التي رُبَما انتفى موضوعها اليوم، كما في تحريم سَفَر المرأة من دون مَحْرَمٍ لها. ففي السفر خَطَرٌ، وتعريض النفس للخَطَر حرامٌ، وعلى المرأة أن تجهد شخصيّاً في تأمين نفسها؛ باصطحاب مَحْرَمٍ لها، حتّى يكون سفرها مباحاً. وهذا حكمٌ معروفٌ قديماً، حيث السفر شاقٌّ وطويلٌ، وفيه تُقطَع الفيافي والصحاري والقفار، ويكون المسافر في معرض الخَطَر من قِبَل قُطّاع الطُّرُق واللصوص والأشرار، أمّا اليوم ففي ظلّ النظام العامّ، والأمن العامّ المستتبّ في جميع مرافق السياحة والسَّفَر (مطارات و..؛ نقليّات [طائرات، قطارات، تاكسيّات]؛ وفنادق)، لم يعُدْ لمثل هذا الخَوْف من مبرِّرٍ، وانتفى موضوع ذلك الحكم، وهو المرأة التي تخاف على نفسها. إذن كان ذلك الحكم بلحاظ أن الأمن كان ذاتيّاً، يؤمِّنه المسافر لنفسه، والمرأة عاجزةٌ عن ذلك بمفردها، أمّا اليوم فالأمن عامٌّ، في ظلّ مؤسّسات الدولة والهيئات الاجتماعيّة الناظمة، فالمرأة والرجل في ذلك سواءٌ.
وأخال أن هذه النظريّة أعاقَتْ كثيراً من المجتمعات الإسلاميّة عن الالتحاق برَكْب الحضارة الحديثة، والأخذ بأسباب الرقيّ والازدهار؛ فالفردُ يسقط أمام المُغْرَيات، وتصرفه الأطماع عن التزاماته، التي يؤمن بها، ولكنّه يضعف عن أدائها؛ لأسبابٍ شتّى.
إن مثل هذه العقليّة في مقاربة هذه الأحكام تقعد بالمجتمعات عن التقدُّم؛ فالمرأة ـ وهي نصف المجتمع ـ محرومةٌ من السفر، وما قد يوفِّره من علمٍ وعملٍ؛ بسببٍ بسيطٍ كهذا. فإباحة السفر مرتبطةٌ بالمسؤوليّة الفرديّة والجهد الشخصيّ في تأمين السلامة؛ بينما شكَّل الإحساس بالمسؤوليّة الاجتماعيّة العامّة عن تأمين الظروف المناسبة لسفرٍ آمِنٍ للمرأة ـ وغيرها من المستضعفين اجتماعيّاً، كالأطفال والمجانين و… ـ حافزاً ودافعاً لتشكيل شبكة مرافق آمنةٍ، تتنقَّل بينها المرأة، فتقطع المسافة من الشرق إلى الغرب دون أن تخاف على نفسها.
هذا، وقد استطاعَتْ دولٌ أخرى (إسلاميّة وغيرها) ـ استناداً إلى النظريّة الثانية ـ من تأمين رفاهيةٍ تامّةٍ، وعيشٍ كريمٍ، وأمنٍ مستتبٍّ، وانتظامٍ دقيقٍ، لمواطنيها؛ حيث كان النظام العامّ هو ضابط الإيقاع لحركات المواطنين، فلا ننتظر جُهْده الفرديّ، والحسّ الذاتيّ الذي قد يتعطَّل لسببٍ وآخر، وإنما هو نظامٌ عامٌّ شاملٌ مُلْزِمٌ للجميع، وَفْق منظومةٍ قانونيّةٍ متكاملةٍ، تحفظ حقّ الصغير والكبير، والغنيّ والفقير، والحاكم والرعيّة…
وليست هذه النظريّة بِدْعاً من القول والعمل في الإسلام، بل لها جذورها الضاربة فيه في أكثر من نطاقٍ.
فعلى سبيل المثال: كانت فريضة الجهاد منوطةً بتأمين الحاكم السلاح والمراكب للمقاتلين، يقول تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ… حَرَجٌ… * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة: 91 ـ 92)؛ فإن الجهاد ممّا قد تضعف عنده العزائم، وتقصر النفوس؛ لما فيه من خَطَرٍ ومشقّةٍ، فلو تُرك للجُهْد الفرديّ لتعطَّل حَتْماً، فأُنيط أمرُه بتوفير الحاكم لمستلزماته؛ قَطْعاً للعُذْر.
إذن لم يُغْلِق الإسلامُ الباب أمام النظريّة الثانية، بل لم يجعَلْها في موارد الاضطرار أو في موارد معيَّنة فقط لا غير، وإنما فتح الباب في تلك اللحظة التاريخيّة بالمُحتاج إليه والمقدور عليه في ذلك الزمان؛ حيث تنتفي الحاجة إلى سلطة النظام العامّ ما دام عدد المسلمين قليلاً، وما يقدِّمه بعضهم من خُمْسٍ وزكاةٍ وصدقاتٍ يكفي جميع المحتاجين؛ وحيث كان الناس حديثي عهدٍ بالإسلام، والقَهْرُ والجَبْرُ قد يؤثِّر فيهم، فيتركوا الإسلام، ويلتحقوا بالكفّار والمشركين، ويشكِّلوا نواةَ تخريبٍ للمجتمع الإسلاميّ؛ وحيث كانت الدولة الإسلاميّة عاجزةً، كما في صدر الإسلام، أو مُهمِلةً، كما في عهد الخلافات المتعاقبة (الأمويّة والعبّاسيّة و..)؛ إذ كان السلطان يهتمّ بنفسه ونسائه وحاشيته وعسكره و..، متناسياً أفراد الأمّة واحتياجاتهم…
إذن فتح الإسلامُ الباب بمقدارٍ، ولم يغلقه عمّا عدا ذلك، وإنما يحتاج الأمر إلى فَهْمٍ مقاصديٍّ شاملٍ، وقراءةٍ تاريخيّةٍ دقيقةٍ، وتجاوزٍ لعَقَبات عُرْفيّة واجتهاديّة مصطَنَعةٍ؛ للوصول إلى نتائج مُرْضيةٍ ومحمودةٍ.
فمثلاً: بَدَل أن نقف طويلاً لإثباتِ شرعيّة وَقْف الوقت([1])؛ التزاماً بالتعريفات الحَرْفيّة للوَقْف، وشروطه المستَنْبَطة، وتفصيلِ الكلام في المعوِّقات الفقهيّة التي تقف في مقابله، من قبيل: المفارقة مع حقيقة الوَقْف؛ والتنافي مع تأبيد الوقوف؛ والمفارقة بنَقْض غَرَض الوقف؛ وأصالة عدم المشروعيّة([2])، نرى أن مجتمعاتٍ أخرى قد أقرَّتْ ذلك كلَّه، وبدأَتْ بالاستفادة منه، بل تعدَّتْه إلى غيره ممّا قد يفوق خيالنا، حيث اتَّخذوا ما نسمِّيه (بنك الوقت والعمل)، حيث يعمل الرجل أو المرأة مع الآخرين ـ من ذوي الاحتياجات وطالبي المعونة والمساعدة ـ ما يظنّ أنّه سيحتاج إلى مثله في المستقبل، يعمله تطوُّعاً وبلا أَجْرٍ، مع تسجيلٍ ورعايةٍ ورقابةٍ رسميّةٍ، فيُحفَظ له هذا العمل، فإذا احتاج إلى مثله في شيخوخته أو في مَرَضه أو.. أرسلوا إليه مَنْ يعمل له ما كان قد عمله لغيره؛ وفاءً لحقِّه، وسداداً لما ادَّخره من عملٍ سابقٍ في نفس المضمار.
وهذا من تجلِّيات رهافة الحسّ ويَقَظة الشعور بالمسؤوليّة الاجتماعيّة العامّة، وأن المنافع ليست متوقِّفةً على مسؤوليّة الفَرْد؛ فمَنْ لا أرحام له، ولا جيران، ولا أصدقاء، يقومون بخدمته ومساعدته في محنته ووقت حاجته، وقد يتخلَّفون لو وُجدوا، لا يرى في ذلك غضاضةً؛ فإن مسؤوليّة النظام العامّ كفيلةٌ بحمايته؛ إذ هو فردٌ عاملٌ قد خدم غيره، فإذن سيكون هذا الغير ـ ولو بأشخاصٍ آخرين ـ مسؤولاً عن خدمته ورعايته.
لَسْتُ في مقام الدعوة إلى اجتهادٍ في مقابل نصٍّ، ولا إلى حكمٍ بغير ما أنزل الله، ولكنّها إثارةٌ معرفيّةٌ في فقهٍ تقليديٍّ راكدٍ، ودعوةٌ صادقةٌ لإعادة قراءةٍ وفَهْمٍ لما أنزل الله وما ورد في النصّ المقدَّس (القرآن الكريم؛ والسنّة القطعيّة الشريفة)، وَفْق منهجٍ يلحظ تاريخيّةَ الكثير من الأحكام، ومراعاتَها لظروفٍ خاصّةٍ، وملابساتٍ آنيّةٍ أحاطَتْ بها، ولم تُنْقَل إلينا في متن الآية أو الرواية على وجهٍ صريحٍ ودقيقٍ، فكان لا بُدَّ من اكتشافها بالسَّبْر والتحليل، وغيرها من وسائل التحقيق، التي توصل إلى الاطمئنان والوثوق، وتمثِّل حجّةً شرعيّةً في مقام الاستدلال والاستنباط.
كما أن كثيراً من المعاملات تقع ضمن منطقة الفراغ، وفيها متَّسَعٌ لرأيٍ عقلائيٍّ حكيمٍ، يلحظ المصلحة العامّة والنَّفْع الكبير، ولا يعوزنا سوى الجُرْأة وتحمُّل مشاقّ وعناء مثل هذا البحث والتحقيق، وهو ممّا نَذَر له الفقهاء والمجتهدون أنفسهم، فهل من باذلٍ جُهْده وعقله وراحته و.. في سبيل تجديدٍ حقيقيٍّ واقعيٍّ نافعٍ ومفيدٍ؟!
هذا هو الأَمَل والرجاء؛ عسى أن نشهد أمّةً إسلاميّةً بحقٍّ، آخذةً بأسباب التقدُّم والرقيّ، متدرِّجةً في سُلَّم الحضارة الإنسانيّة، تستفيد ممّا أنعم الله به على الإنسان من وقتٍ وقوّةٍ وصحّةٍ وفكرٍ ووَعْيٍ ومواردَ طبيعيّةٍ وبشريّةٍ هائلةٍ.
الهوامش
([1]) وهو أحد أشكال الوَقْف المعاصرة. و«هو نوعٌ من تقديم الإنسان لوقته في سبيل العمل الخيريّ والتطوُّعيّ لخدمة الإنسان الآخر وخدمة القِيَم والرُّقيّ والدين». (راجِعْ: الشيخ حيدر حبّ الله، مقالةٌ بعنوان: «وقف الوقت، مطالعةٌ فقهيّةٌ أوّليّةٌ في وقف المنفعة والعمل التطوُّعي»، في مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 44: 235، السنة الحادية عشرة، خريف 2017م ـ 1439هـ).
هذا، مع الإشارة إلى أننا قد نكون مضطرِّين لذلك في بعض الأحيان؛ توضيحاً لبعض الخافيات، أو تأكيداً للواضحات، إلاّ أن الإشكال في الإطالة والإسهاب.