د. علي نقي فقيهي(*)
مقدمة ـــــــ
نظراً لشيوع الانحرافات الخلقية، والعوامل المؤدية إلى الشذوذ الجنسي المتزايد يوماً بعد يوم، ما هي يا ترى الطرق المناسبة لمعالجة هذه الاعوجاجات السلوكية وسبل الوقاية منها؟ وكيف لنا أن نحد من نفوذ العوامل الباعثة على الانحراف، وبخاصة أهم عاملين محفزين: الإنترنت؛ والفضائيات؟
لاشك أنَّ الوقاية خيرٌ من العلاج، فالشخص المنغمس في شذوذه الجنسي لا يمكن أن تعيده إلى جادة الصواب بسهولة، وتتوقع منه سلوكاً متزناً وسويّاً.
وقد نقل عن نبي الله سليمان× قوله: <إنّ الغالب لهواه أشدّ من الذي يفتح المدينة وحده>([1]).
وقد شدّد رسول الله’ على صعوبة مواجهة النفس، وقال: <أشجع الناس من غلب هواه>([2]).
إنّ شخصية الإنسان تتمثل باكتساب القدرة على التحكّم بالغرائز واحتواء الانحرافات الخلقية، وبخاصة الجنسية منها، على أن لا تأخذ تلك الانحرافات طابعاً عملياً في حياته. قال الإمام علي×: <ورع الشهوة والغضب جهاد النبلاء>([3]). وقال أيضاً: <مجاهدة النفس شيمة النبلاء>([4]).
إنّ ثمّة أساليب متعددة تعتمدها المجتمعات اليوم لمواجهة الانحراف، ومراقبة المنحرفين والمجرمين، فما هي الطرق الوقائية التي تعتمدها الرؤية الإسلامية لمكافحة الانحراف الجنسي؟ وكيف لها أن تراقب المنحرفين كي لا يعم انحرافهم في المجتمع؟
وهنا نتطرق إلى بعض الأساليب التطبيقية الواردة في هذا الشأن، من خلال دراسة النصوص الدينية والروايات والأحاديث الشريفة.
1ـ تطبيق قواعد التربية الجنسية ـــــــ
إنّ من أهم أصول الوقاية عن الانحراف الجنسي هو التربية الجنسية الصحيحة طيلة مراحل الحياة المختلفة: الطفولة والحداثة والشباب. وتهدف التربية الجنسية الصحيحة إلى الحد من الانحراف الجنسي، وذلك من خلال تأمين الميول العاطفية والنفسية للشخص، وتمهيد الأرضية المناسبة للتربية المثالية، وإنماء الشخصية الجنسية في مرحلة الطفولة، وتعليم المسائل الجنسية، وتعميم الفضائل الأخلاقية، وتعليم الطرق المناسبة لاحتواء الإثارة الجنسية، وتربية الشخصية الجنسية المناسبة في مرحلة الفتوة والحداثة، وتعليم الرقابة الجنسية قبل الزواج، والتأهل الكامل للحياة الزوجية، وسمو المعرفة العاطفية، والاهتمام بالتعليمات الجنسية المناسبة في مرحلة الشباب.
2ـ السيطرة على عوامل الانحراف ـــــــ
ثمّة أسلوب آخر للوقاية، يتمثل بتوفير اللوازم المعيقة لعملية الانحراف الجنسي، أو التقليل من آثارها، فالوقاية من الانحراف ممكنة إذا ما تخلّت العوائل والأُسَر عن أداء الأدوار السلبية، وتبنّت التهذيب النفسي والباطني، وعزّزت المناحي الدينية والأخلاقية والمعنوية التي تصون الفرد من تأثير العوامل البيئية والاجتماعية.
3ـ الرقابة الاجتماعية ـــــــ
الرقابة الاجتماعية هي عبارة عن مجموعة من الوسائل المناهج التي يتبعها الشخص أو تطبّقها فئة معيّنة لتسيّر أعضاءها إلى الالتزام بالسلوك والرسوم والآداب التي تعتبرها مناسبة ومثالية.
وللرقابة الاجتماعية تعريف آخر يتجسّد في الشمولية التي تواجه السلوك المنحرف، وتحافظ على الاستقرار والدوام الاجتماعي.
من هنا فإنّ الرقابة الاجتماعية تعتبر ظاهرة رقابية ترصد الأفراد الخارجين عن آداب المجتمع والمثل الأخلاقية، وهي رقابة مستمرة ودائمة؛ لردع المنحرفين واستتباب الأمن والاستقرار في المجتمع.
ومن خلال نظرة إجمالية يمكن أن نقسّم الرقابة الاجتماعية إلى قسمين: الرقابة الخارجية؛ والرقابة الداخلية.
والرقابة الخارجية هي الرقابة التي تفرض على الشخص من الخارج، أمّا الرقابة الداخلية فهي الرقابة المنبثقة من الداخل وأعماق النفس، والتي تحث الفرد على انتهاج السلوك السوي والمناسب.
وتنقسم الرقابة الخارجية إلى أقسام عديدة، منها:
أ ـ الرقابة الرسمية وغير الرسمية ـــــــ
الرقابة الرسمية هي الرقابة الممنهجة بشكل رسمي ضمن القواعد والقوانين، وغالباً ما تنفّذ من قبل المنظمات والمؤسسات الحكومية الرسمية، التي من شأنها الرقابة الاجتماعية، كقوى الأمن الداخلي، والسلطة القضائية، التي تلاحق المجرمين والمنحرفين وفقاً للقوانين المرعية الإجراء.
أمّا الرقابة غير الرسمية فهي الرقابة التي لم تُعرَّف ضمن القوانين والمقررات، وإنمّا يشارك فيها جميع أفراد المجتمع([5]).
ويحصل هذا النوع من الرقابة غالباً في الاجتماعات المصغّرة، مثل: اجتماعات العائلة، الفئات ذات الأعمال المتقاربة، الأتراب.
وللعلاقات العاطفية والودية أثر بالغ في تفعيل هذا النوع من الرقابة([6]).
ب ـ الرقابة المُلْزِمَة والرقابة التشجيعية ـــــــ
يضطر الفرد في الرقابة الملزمة إلى قبول أنماط الحياة ومناهج السلوك عن طريق الإنذار والتحذير، أما في الرقابة التشجيعية فيميل الشخص إلى قبول السلوك المناسب من خلال الإعلام، وتشجيعه على تجسيد القيم الأخلاقية، ومنحه المقام والمكانة المناسبة([7]).
الرقابة الاجتماعية والإنترنت ـــــــ
على الرغم من الأبعاد الإيجابية للشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت) فإنّ استغلالها من قبل المنحرفين يهدد أمن البلدان، ويعرّضها لمخاطر جسيمة، ولذا أصبحت الرقابة على هذه الشبكة أمراً ضرورياً، من خلال فرز المعلومات المفيدة، وإغلاق المواقع المخلّة بالأخلاق والآداب.
وثمّة أساليب وقائية ورقابية أخرى اقترحت للرقابة على الإنترنت، فضلاً عن استخدام التقنيات الإلكترونية، منها: الرقابة الحكومية. ففي هذا النوع تحظر الدولةُ، وفقاً لسياساتها العامة المتّبعة، الاستفادة من المواقع اللاأخلاقية والمخلّة بالآداب، حيث تحول دون وصول الشبكات المنحرفة إلى داخل البلاد.
وهناك أسلوب وقائي آخر، وهو أُسلوب الرقابة التنظيمي (المؤسساتي)، حيث تضمن المؤسسة المعنية بتقديم الخدمات المعلوماتية الرقابة على الإنترنت، واستخدام الشبكة والمعلوماتية بشكل صحيح، وفقاً لالتزاماتها القانونية والأخلاقية([8]).
وثمة رقابة أخرى، وهي الرقابة الاجتماعية التي يقوم بها جميع أفراد المجتمع، فالمراقبون الاجتماعيون في هذا النوع من الرقابة هم أفراد المجتمع قاطبة، يتصدّون للسلوك المنحرف، ويحافظون على استقرار المجتمع ودوامه.
والرقابة الفردية نوع آخر يمكن تطبيقه في هذا المجال. ففي هذا النوع تقع جميع الضمانات اللازمة على عاتق الشخص، فهو نفسه يقوم بمراقبة المواقع الفاسدة، انطلاقاً من ضميره وذاته، وما تبنّاه من أُسس أخلاقية والتزامات دينية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى أيّ حد يمكن أن يطبّق هذا النوع من الرقابة في مجتمعنا الحاضر؟ وما هي واجبات الدولة والشعب في إيجاد هذا الشعور الذاتي والوعي العقلاني لدى أفراد المجتمع؟ وما هي الطرق المؤدّية إليه؟
يرى بعض الخبراء أنّ مراقبة مواقع الشبكة المعلوماتية بواسطة <جدار ناري>، أو <مفوّض = proxy>، وغيرها، يقلل في الوقت الراهن من الأبعاد السلبية للإنترنت، ويسيطر على المعلومات المخلّة والفاسدة.
بينما تساعد عوامل أخرى على تقليل موجة التلوّث الثقافي والمعرفي المنبعثة من الإنترنت، من قبيل تعزيز المواقع المعلوماتية الداخلية، وتشغيل المواقع الخاصة بالناشئة والشباب المدعّمة بالمعلومات المفيدة والمسلّية والجذّابة. إن استخراج المعلومات المفيدة من الإنترنت ونشرها على مواقع الشبكة الداخلية سيوفّر بعد مدّة ـ فضلاً عن تقديم الخدمات المعلوماتية السليمة ـ مجموعة لا يستغنى عنها من المعلومات المستحصلة من أنحاء العالم، توضع تحت تصرّف مستخدمي الإنترنت. وهذا ما يُساعد على نمو المعلومات الداخلية وتحديثها، لتشكّل النواة والبنية التحتية للمعلومات في البلاد. إنّ السرعة الفائقة والكلفة القليلة عاملان مهمان لاستقطاب مستخدمي الإنترنت إلى الشبكات الداخلية.
ومهما يكن من أمر فإنّ انحسار النشاط الثقافي الفاعل في عصر الاتصالات، وبخاصة في ميدان الإنترنت العالمي، يعني الاعتراف بالفشل والهزيمة أمام إحدى حراب الغزو الثقافي، فالابتعاد عن المشاركة في الشبكات المعلوماتية العالمية، وتجاهل مستجدات العصر، يضعنا في موضع هش قابل للانكسار. ومن هذا المنطلق لابد أن نستخدم هذه الوسيلة الإعلامية كأداة دفاعية في بادئ الأمر، ومن ثم نتخذها آلة هجومية تساعدنا على تحقيق طموحاتنا الوطنية ورسالتنا الإسلامية الشاملة.
وعلاوة على الأساليب المذكورة آنفاً فإنّ تشكيل نظام معلوماتي قانوني يعد أمراً ضرورياً لتفادي مفاسد الإنترنت وسلبياته، ولا شك أنّ اقتران هذا النظام بنظام حقوقي وقضائي متكامل سيجعل متابعة الجرائم المتعلقة بهذه الوسيلة الإعلامية أمراً سهلاً وميسّراً.
وبالرجوع ثانية إلى مفهوم الرقابة الاجتماعية، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للسيطرة على الانحرافات الاجتماعية، وبخاصة الحدّ من نفوذ انحرافات الشباب في البلدان الأخرى عن طريق الإنترنت ووسائل الإعلام الجديدة المتوافرة في عصر الاتصالات، يمكن تصنيفها على أنّها أفضل أنواع الرقابة. ويبدو أنَّ الرقابة غير الرسمية والعاطفية، وكذلك الرقابة التشجيعية، أكثر تأثيراً من سائر أنواع الرقابة الخارجية. وفي هذا الشأن تمتاز الرقابة العائلية بخصائص تزيد من فاعليتها إذا ما قيست بسائر أنواع الرقابة الاجتماعية، وهذه الخصائص هي:
1ـ إنَّ القائم على أمر الرقابة في العائلة يعرف مخاطبه جيّداً، فيردعه عن الانحراف وفقاً لخصائص شخصيته.
2ـ تمتاز الرقابة العائلية بميزات عاطفية، وتستخدم طرقاً غير رسمية لا حصر لها.
3ـ يواصل أفراد العائلة عادة جهودهم لإصلاح الفرد المنحرف، ولا تتوقف مساعيهم هذه حتّى يغيّر المنحرف سلوكه بالكامل، وينسجم خلقياً مع سائر أعضاء العائلة([9]).
من هنا فإنّ للأُسرة ـ باعتبارها أهم عامل تربوي يهدي الأبناء إلى الرقابة الداخلية ـ دوراً مهماً في هذا المجال، وبإمكانها ـ من خلال تربية الأبناء على أساس المواهب الفطرية والإلهية ـ تأهيلهم لمراقبة أنفسهم والإشراف على سلوكهم، ولا يتأتّى هذا الأمر إلاّ بأن يتحلّى الوالدان أيضاً بتلك المواهب الفطرية والإلهية.
وباستطاعة عامة الناس ـ باعتبارهم مراقبين غير رسميين ـ أن يقوموا بأدوار فاعلة ومؤثّرة لمواجهة الانحرافات الاجتماعية، فكلما يزداد التزام الأفراد بآداب المجتمع وقيمه المثلى تزداد ردّة فعلهم تجاه الانحراف، فلابد لهم من رقابة داخلية ليتحقق التزامهم العملي بقيم مجتمعهم.
لذا تبدو الرقابة الداخلية في عصرنا الراهن أفضل أنواع الرقابة، وأعمقها أُسساً، وأكثرها نفعاً وتأثيراً، إلاّ أنّ الألفية الثالثة، التي تتجلّى فيها ثورة المعلومات والاتصالات بكل تبعاتها ومضاعفاتها، تتحدى مرافق النشاط البشري كافة بخصوصية زعزعة الأُسس([10])، التي تطال جميع ثوابتنا وأُسسنا الراسخة، ولا تدع مجالاً لتحققها أو ظهورها.
ولهذا السبب لم تعد الرقابة الاجتماعية الخارجية قادرة على أداء دور مفيد وفاعل في هذا المجال.
وتتقابل هنا آلية البعد المكاني والقرب المكاني، فالرقابة الاجتماعية من منظار هذا التقابل تسعى دائماً إلى إبعاد الفرد عن مواطن السوء كي لا ينحرف، وكذلك تنأى بالمنحرف عن تلك المواطن لئلاّ يرتكب جرماً، أو يسوق الآخرين إلى الانحراف، وهي تبعد أيضاً أدوات الانحراف كي لا تتوافر أرضية الانحراف بالمرّة.
إلاّ أنّ هذا التقابل يُستأصل تدريجياً في عصر الاتصالات، ومع تفتت هذه الآلية يزول التقابل بين البعد المكاني والقرب المكاني؛ لأنَّ وسائل الاتصال الحديثة، كالفضائيات، والإنترنت، تزيل البعد المكاني، وتتخطّى الزمان والمكان بسرعة، عندها يجد الفرد نفسه في مواقع الانحراف.
إنّ إقصاء المكان أو تطويقه لم يعد أمراً ممكناً؛ نظراً لسرعة تقنيات الاتصال الهائلة، إلاّ في بعض الحالات التي تكون الرقابة فيها مؤقتة ومحدودة.
ومن جملة الآليات التي تتعرض إلى الزوال والاستئصال آلية <المحظور والمسموح>، فمن خلال هذه الآلية يستطيع المراقبون الاجتماعيون تخويف الأفراد من ارتكاب المحظورات، ومنعهم من الوقوع في الانحرافات الاجتماعية، إلاّ أنَّ المجتمع في عصر ما بعد الحداثة يجد كثيراً من المحظورات قد أُبيحت، أو لا مفرّ منها على أقل تقدير، فأيّ مراقب اجتماعي يستطيع اليوم أن يستخدم آلية <المحظور والمسموح>؟
إذا تحلينا بشيء من الموضوعية نجد الساتر الدفاعي للقيم الدينية والثورية قد تهاوى اليوم بفعل آلية <البعد والقرب> المطبّقة على المجرمين والسجناء، وتزايد الانحرافات الاجتماعية، من قبيل: الإدمان على المخدرات والمشروبات الكحولية، والانحرافات الجنسية، والجرائم الاقتصادية، ونظائرها، فالمواجهة المتسرّعة وغير المدروسة لظاهرتي الفضائيات والإنترنت يزيد من شَرَهِ الشباب وتحمّسهم لهاتين الوسيلتين الإعلاميتين، كما أنّ الطرق والمناهج المتّبعة لإحياء فريضة <الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر>، باعتبارها أمراً حياتياً وأصلاً إسلامياً مهماً، قد أُفقدت مصداقيتها وفاعليتها في العقود الأخيرة، ونفهم من كل هذا أنّ زمان آليتي <البعد والقرب> و<المحظور والمسموح> قد ولّى، ولابد من علاج جديد لهذه الأمراض الفتّاكة. إن إصرار الرقابة الاجتماعية على توظيف هاتين الآليتين لن يدوم كثيراً، وسيعرّض استقرار المجتمع إلى تحدّيات كبيرة في المستقبل المنظور.
فهل تحظى الرقابة الاجتماعية باستيعاب وقابلية تمكّنها من التفاعل الجاد والمؤثّر مع متطلبات العصر؟
للإجابة عن هذا السؤال نتناول الرقابة المبنية على أساس التربية الدينية.
الرقابة ذات الطابع الديني ـــــــ
مرّ في ما مضى أنّ الرقابة الاجتماعية، وبخاصة الداخلية منها، إذا تبنّت التربيةَ الدينيةَ تتفاعل بشكل مناسب ومؤثر مع عصر ما بعد الحداثة.
ويبقى أن نعرف العناصر المكوِّنة للتربية الدينية التي تتناسب والعصر الحاضر، وهي ثلاثة عناصر مهمة: <العقلانية>، و<تقوى الباطن>([11])، و<التقييم والنقد>([12]).
نظراً لسرعة انتقال المعلومات والآراء المختلفة في عصر الاتصالات يجب أن تأخذ التربية الدينية في عصرنا الراهن طابعاً عقلانياً؛ لأنَّ الآراء المستندة إلى العقل هي التي تحظى بالقبول، فالشخص الذي يتوصل إلى القيادة العقلانية الذاتية يحقق أهداف رقابته المرجوة، وقلّما يقع في الخطأ لدى مراقبة نفسه أو مراقبة الآخرين. وفي هذا الشأن تشكّل <تقوى الباطن> عنصراً قيماً وأساسياً في التربية الدينية، وهي أعلى مراتب التقوى، وتختلف عن <تقوى الاجتناب>([13]) التي تقع في مرتبة أدنى منها.
إذا اعتمدت التربية الدينية على تقوى الاجتناب فستولّد تربية مَحْجَرية دَفيئة، تفرز الأفراد بجدار عازل، وتراقبهم بعيداً عن ظروفهم الراهنة، وهذا النوع من التقوى يتشكّل في قرارة الشخص على أساس مفهوم ديني هو الخوف من العذاب الإلهي، ولاشك أنَّ العمل بمثل هذه التقوى يبدو مستحيلاً في عصرنا الحاضر؛ بفعل الاتصالات الواسعة والمتسارعة، وما تفرضه الفضائيات والشبكات المعلوماتية العالمية من جو مسموم في المجتمع أو البيت، يسلب الفردَ تقواه سلفاً.
لذا فإنّ الرقابة المبنية على أساس تقوى الاجتناب قد تكون مفيدة في بعض الأحيان، إلاّ أنها سرعان ما تفقد فاعليتها أمام أمواج المعلومات الفاسدة المتصاعدة. ومن هذا المنطلق لا بدّ أن تبنى التربية الدينية على أساس <تقوى الباطن>؛ لأننا لا نستطيع بتاتاً أن نغلق حدود المعلومات. ومن خلال هذه التقوى فقط نحصل على الرقابة الداخلية العميقة، ففي تقوى الباطن يجد الفرد نفسه أمام الاعوجاجات الاجتماعية في مرتبه أعلى تصونه من الانحراف.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:105). وبناءً على هذه الآية الشريفة لا بدّ للإنسان من أن يتدبر في ذاته، ويصل إلى مرتبة من الهداية الباطنية، التي لا يستطيع معها الضالّون أن يلحقوا به الأذى، ويحرفوه عن رشده، وهذا هو المعنى الدقيق للقيادة الباطنية الذاتية، التي تجعل الفرد فاعلاً في ميدان المجتمع والتواصل، قادراً على تجنّب أنواع التلوّث والانحراف، يهدي مَن هم أقل منه تقوى إلى الطريق الصحيح.
العنصر الثالث في التربية الدينية هو <التقييم والنقد>، وبناءً على هذا العنصر فإنَّ الفرد يقيّم معلوماته أولاً، ومن ثم يختار أو يترك ما يشاء. وتعد هذه الخصوصية دعامة لتقوى الباطن في عصرنا الراهن، فترك جميع ما يرتبط بهذا العصر ليس أمراً مستحيلاً فحسب، بل قبيح ومستهجن؛ لأنَّ التخلّي، بلا دليل مقنع، عن جميع مظاهر حياتنا المعاصرة توفّر لأفراد المجتمع أرضية التمرّد الغاضب، وتدعوهم إلى الاستجابة التامّة لجميع مظاهر عصر الاتصالات، ولهذا السبب فإنَّ التربية الواقعية والمتزنة والبعيدة عن العصبية تهدي الأفراد إلى هذه الخصوصية ليتسنّى لهم العيش السليم في بيئة غير سليمة.
وبالنسبة إلى ظاهرتي الإنترنت والفضائيات، وما يتعلق بتربية الشباب الدينية، لابد من ذهن وقّاد ونقّاد، يسبر المناحي الإيجابية والسلبية لهاتين الظاهرتين، ويوفّرالمناخ اللازم للإفادة الصحيحة منها.
يمكن الاستعانة بعنصر التقييم والنقد في جميع الانحرافات التي يمكن أن تطرأ على الشباب، وتأهيل أذهانهم لتحسس الانحراف، وكما مرّ فإنَّ خصوصية عصر الاتصالات هي زعزعة الأُسس واستئصال الثوابت، ما يُعرّض بُنى المجتمع الفكرية والعاطفية إلى الانهيار، وتسوقها ـ وبخاصة المسائل الأخلاقية ـ على أنّها مسائل عادية لا يُؤْبَه بها، وقد بات التقليل من أهمية الثوابت والأُسس شائعاً في عصرنا الحاضر، وأضحى التغاضي والاستخفاف بالقيم الأخلاقية للمجتمع أمراً واضحاً لا غبار عليه، وهذا واقع لا مفرّ منه، ولا من مضاعفاته المتفاقمة.
إنَّ بإمكان التربية الدينية المميزة بخصوصية النقد أن تسيطر على موجة الاستخفاف هذه من خلال النقد البنّاء وتأهيل الأفراد للتعامل النقّاد، وللحضور الفاعل في المجتمع، ولمواجهة أنواع الانحراف برؤية تقييمية ونقدية.
4 ـ الرقابة الذاتية ـــــــ
ذكرت الروايات والأحاديث الشريفة أساليب وطُرقاً كثيرة لرقابة النفس من الانحرافات السلوكية، وتفادي وقوعها في الانحراف الجنسي، ومنها:
أ ـ ضبط النفس ـــــــ
ينبغي على كل شخص أن يعلم أنَّ الإذعان لعوامل الإثارة، والرضوخ للغرائز الجنسية كافة، لا يتوافق وكرامة الإنسان وعزته. وعلى العكس تماماً فإنَّ ضبط النفس يدل على رجاحة العقل وشرف الإنسان.
وقد قال الإمام علي×: <من كرمت عليه نفسه هانت علي شهواته>.
وفي السياق ذاته يشير الإمام علي× إلى أنَّ الشهوة تحطّ من قدر المرء وتقلل من قيمته: <ما رفع امرءاً كهمّته، ولا وضعه كشهوته>([14]).
إن الإحساس بالشرف والكرامة يتجلّى من كون الشخص يفكّر بعقلانية، يميِّز بعين البصيرة الأهواء النفسانية التي تضرّ بشخصيته وكرامته.
وقد عبّر رسول الله’ عن هذه البصيرة بأنها محبوبة الخالق: <إنّّ الله يُحبّ البصر النافذ عند محبي الشهوات>([15]).
وفي حديث آخر وصف رسول الله’ الميول المنحرفةَ بالأمراض، ووصّى بعلاجها عقلانياً: <الشهوة داء وعصيانها دواء>([16]).
وعبارة الإمام علي× واضحة بلزوم المواجهة بالفكر والعقل: <داووا الغضب بالصمت والشهوة بالعقل>([17]).
وفضلاً عن الاعتزاز بالنفس والتدبّر العقلي فإنَّ التمرين والممارسة تقوّي سيطرة الفرد على أهوائه النفسانية، وتمنحه المهارة والقدرة على امتلاك زمام شهوته، وتردعه عن الوقوع في السلوك المنحرف، قال أمير المؤمنين×: إذا كثرت القدرة قلّت الشهوة>([18]).
واعتبر أيضاً أنّ مقاومة النفس عامل النصر والظفر: <قاوم الشهوة بالقمع لها تظفر>([19]).
وفي بيان آخر اعتبر الإمام× أنّ المقاومة المقرونة بالتدبّر العقلاني تضفي على الفرد فطنة وقوّة: <الكيّس من ملك عنان شهوته>([20]).
ب ـ ذكر الله ـــــــ
إنَّ ذكر الله، والإذعان بأن الله يعلم ما يقترف الإنسان من منهياته، يبعث في قلب الإنسان الخوفَ والحياءَ والحذرَ من الوقوع في الانحراف الجنسي. وقد قال الإمام الباقر× في تفسير الآية السادسة والأربعين من سورة الرحمن ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾: <وهو الرجل يهجم على شهوة من شهوات الدنيا، وهي معصية، فيذكر مقام ربّه، فيدعها من مخافته، فهذه الآية فيه>([21]).
وقال الإمام الصادق×: <قلع عروق منابت الشهوات بدوام ذكر الله ولزوم الطاعة له>([22]).
ومن العوامل الرادعة لأهواء النفس ذكرُ الموت والحياة في عالم البرزخ. وقد جاء في الحديث الشريف أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال لنبيّه موسى×: <واذكر أنّك ساكن القبر، فليمنعك ذلك من الشهوات>([23]).
وقال الإمام علي: <وكان رسول الله’ كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت، فيقول: أكثروا ذكر الموت؛ فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشهوات>([24]).
ج ـ الاهتمام بعوامل البيئة الاجتماعية ـــــــ
إنَّ الإفراط في الحديث مع الجنس الآخر، والإكثار من العلاقات المتجددة والحميمة، يساعد على الانجذاب نحو الشهوات والتعامل الجنسي. ولكي يحد الفرد من الميول الشهوانية والشذوذ الجنسي عليه أن يبتعد عن الظروف البيئية الباعثة على الانحراف، وأن لا يسمح لعوامل الإثارة أن توقعه في السلوك الشاذ والمنحرف. وقد أشير في الأحاديث والروايات إلى بعض هذه العوامل، منها: السلام على النساء ودعوتهن إلى تناول الطعام، كما هو واضح من كلام الإمام علي×: <لا تبدأوا النساء بالسلام، ولا تدعوهنّ إلى الطعام؛ فإنّ النبي’ قال: النساء عيّ وعورة، فاستروا عيّهن بالسكوت، واستروا عوراتهن بالبيوت>([25]).
ومنها: اجتماع النساء والرجال واختلاطهم>؛ باعتباره عاملاً محفّزاً للانحراف، كما قال رسول الله’: <ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء>([26])، وقال’ أيضاً: <اتقوا فتنة الدنيا، وفتنة النساء؛ فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء>([27]).
ومن جملة العوامل الباعثة على الانحراف الجنسي مشي الرجال خلف النساء، والنظر إليهن، وقد حذّر نبي الله داود× ابنه من هذا العمل، لما فيه من إثارة وانجذاب نحو الفساد والانحراف الجنسي: <يا بنيّ، امشِ خلف الأسد والأسود، ولا تمش خلف المرأة>.
والإحجام عن هذا السلوك المنحرف يترك أثراً وضعياً في زوج المرء وحياته الزوجية، فضلاً عن صيانة الشخص من المضار الشهوانية والنفسانية، وذلك أن الشخص الذي ينظر إلى خلف النساء، أو ينظر إليهن بريبة، قد ينعكس عمله هذا على زوجه، فينظر الآخرون إلى زوجه بريبة وشهوة، فمن كانت له حَميّة تجاه زوجه، ولا يرضى أن تقع عرضة لأنظار الرجال، عليه أن يتجنّب النظر إلى نساء الآخرين. وقد نقل عن الإمام الصادق×: <أنّه سُئل عن الرجل تمر به المرأة فينظر إلى خلفها، فقال: أيسرُّ أحدكم أن ينظر الرجال إلى أهله، أرضوا للناس ما ترضون لأنفسكم، وقال: ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم>([28]).
قال علي بن إبراهيم في تفسيره: <…فقام موسى× معها، فمشت أمامه، فسفقتها الرّياح، فبان عجزها، فقال لها موسى×: تأخري، ودلّيني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي أتبعها،فإنّا من قومٍ لا ينظرون في أدبار النساء>([29]).
وثمة أمور تفهم من هذا الحديث:
الأمر الأول: إنّ نبي الله موسى× لم يترك النظر إلى الفتاة فحسب، بل اقترح أمرين وقائيين من الفساد: الأول: حركة الفتاة خلفه تجنّباً لأي نظر محتمل؛ والثاني: تجنّب الحديث معها، وإرشاده إلى الطريق برمي حصاة.
الأمر الثاني: إنّه بيّن لبنت شعيب× أنّه لا يقصد الإهانة والإساءة؛ بقوله: <إنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء>، وإنّما أراد أن يحافظ على شأنها وحرمتها، وكأنه× أراد أن يبيّن السيرةَ العمليّةَ للأنبياء، وهو أمر مهم للغاية.
الأمر الثالث: إنّ سلوك موسى× هذا حظي بقبول بنتي شعيب×، فاقترحتا على أبيهما استئجاره.
وقد شرح الإمام الكاظم× هذه القصّة، في تفسير قوله تعالى ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾، فقال: <قال لها شعيب×: يا بنيّة، هذا قوي قد عرفتِهِ برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتِهِ؟ قالت: يا أبه، إنّي مشيت قدّامَهُ، فقال: امشي من خلفي، فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق، فإنّا قومٌ لا ننظر في أدبار النساء>([30]).
د ـ كمال العقل ـــــــ
إنَّ العقل يسوق الفرد إلى السلوك السويّ، ويردعه عن الانحراف، وكلما تكامل العقل، واتسعت دائرة استيعابه وتقييمه للأمور، استطاع أن يقاوم المحفّزات الشهوانية، ويتحدّاها، ويسيرّها بالنحو المناسب الذي يريد. وبعبارة أخرى إذا تعزز دور العقل ضعفت الأهواء النفسانية.
قال الإمام علي×: <إذا كمل العقل نقصت الشهوة>([31]).
وهذا الحديث يتناول قدرة تأثير كُلٍّ من العقل والشهوة، فالإنسان إنّما يميل إلى الشهوة لأنّه يرى فيها قَدْراً وقيمة، بينما إذا كمل عقل الإنسان فسيتغيّر تقييمه للأشياء، ويدرك أنَّ الأهواء الشهوانية لا قيمة لها، ولا مبرر للانحراف وراءها، وقد قال الإمام علي×: <من كمل عقله استهان بالشهوات>([32]).
والعقل يقيّم الأمور على أساس التدبّر والحكمة، فيقبل الأعمال التي تكون نتائجها مقبولة وقيمة، ويتحاشى الغلو والانحراف المفرط الذي لا يُجنى منه إلاّ الشر والضرر. وقد اعتبر الإمام علي× تقييم العقل من الحكمة: <كلما قويت الحكمة ضعفت الشهوة>([33]).
إنّ من علائم كمال العقل والتقييم الحكيم الإذعان بأنّ اللذة في الانحرافات الجنسية محدودة وعابرة، وفي المقابل تترتب عليها أضرار كثيرة، وقد نقل منها التاريخ حكايات وحكايات. ونظراً لزوال هذه اللذات فإنّ التدبّر في عواقبها يردع الإنسان عن الوقوع فيها، كما قال الإمام علي×: <اذكر مع كل لذّة زوالها… فإنّ ذلك… أنفى للشهوة>([34]).
وقد أشار الإمام الباقر× إلى دور التقوى، وسلامة النفس الإنسانية، وقدرة العقل في تقييم الأمور، والاعتبار من عواقب المنغمسين في الشهوات، بقوله: <أوصيك بتقوى الله؛ فإنّ فيها السلامة من التلف…، يقي بالتقوى عن العبد مما عزب عنه عقله، ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله…، فاز الصابرون…، نبذوا طغيانهم من الإيراد بالشهوات لما بلغهم في الكتاب من المثلاث>([35]).
هـ ـ بين العزوبة والزواج: الارتباط بالله، والعلاقة بالزوجة ـــــــ
إنَّ من جملة الأمور الضرورية التي لابد للفرد أن يقوم بها؛ احترازاً من المؤثِّرات الجنسية، وتفادياً للوقوع في الانحرافات الخلقية، أن يعتني بزوجته، وينظر إلى محاسنها، ويتمتع بعلاقته معها، ويتيقّن بأنَّ ما لديها من مفاتن هي نفسها التي تملكها باقي النساء، عندها يضعف المؤثِّر، ويتضاءل المحفِّز النفسي الباعث على الانحراف الجنسي، ويتمكّن الفرد من صيانة نفسه.
أمّا إذا كان الفرد عازباً لا زوج له فإنَّ إقباله على الدعاء، والصلاة، وطلب العون من الله؛ لتسهيل زواجه، سيوفرّ له ارتباطاً نفسياً وعاطفياً مع الله، ما يقلل من ضغوط المؤثّرات، ويمكِّنه من صيانة نفسه، ومقاومة عوامل الإثارة الجنسية.
قال الإمام علي× في هذا الشأن: <إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه فليأتِ أهلَه، فإنَّ عند أهلهِ مثل ما رأى، فلا يجعلنَّ للشيطان على قلبه سبيلاً ليصرفَ بصرَهُ عنها، فإذا لم يكن له زوجة فليُصَلِّ ركعتين، ويحمد الله كثيراً، وليُصلِّ على النبي’، ثمَّ يسأل من فضله؛ فإنَّه ينتج له من رأفته ما يغنيه>([36]).
وقد نقل الإمام الصادق× نفس مضمون الحديث، نقلاً عن رسول الله’: <إذا نظر أحدكم إلى المرأة الحسناء فليأتِ أهلَه، فإنَّ الذي معها مثل الذي مع تلك، فقام رجلٌ، فقال: يا رسول الله، فإن لم يكن له أهل فما يصنع؟ قال: فليرفع نظره إلى السماء، وليراقبه، وليسأله من فضله>([37]).
و ـ معاهدة النفس ومحاسبتها ـــــــ
إنَّ من أنواع الرقابة الذاتية التي يمكن أن يطبّقها الفرد العاجز عن ضبط نفسه؛ احترازاً من الانحرافات الجنسية، أن يشترط على نفسه أو يعاهد الله على لا يقع في الذنب، وإذا وقع فيه غرّم نفسه، وسارع إلى تقييم أعماله، ومحاسبة نفسه بين الحين والآخر؛ تجنّباً لنقض العهد؛ والتزاماً بما اشترط على نفسه.
ولبيان هذا الأمر نشير إلى توصيات مؤسس الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني & بتصرف في بعض العبارات، يقول: إنّ الاشتراط هو أن يشترط الفرد على نفسه في بداية اليوم بأن لا يقوم بعمل يخالف أوامر الله ـ سبحانه وتعالى ـ، ويتخذ في هذا الشأن قراراً حاسماً.
ومن المؤكَّد أنّ ضبط النفس، وتجنّب الذنب ليوم واحد، أمرٌ في غاية السهولة، ويتمكّن الإنسان من أدائه. ثم يتوجّه السيد الإمام بالخطاب إلى مَن يريد أن يراقب نفسه: اتخذ القرار الحاسم، واشترط على نفسك، وجرّب، تجد الأمر سهلاً، قد يوسوس الشيطان وجنوده في نفسك؛ لتهويل ما تقوم به، إلاّ أنّ هذه هي تلبيسات إبليس، فالعنه من أعماق نفسك، وأزح عن قلبك تلك الأوهام الباطلة، وجرّب ليوم واحد، فسيحالفك التوفيق. لا بدّ أن تراقب نفسك على الدوام، وتلتفت إلى ما اشترطت على نفسك، وتلتزم بتعهداتك، وإذا خطر ببالك أمرٌ لا يرضاه الله فاعلم أنّه من نزغات الشيطان، الذي يريد أن يحول دون تحقق تعهّدك، فالعنه، وتعوّذ بالله منه، وطهّر قلبك من الأوهام الباطلة، وقل للشيطان: إنّك اليوم عاهدت نفسك أن لا تفعل فعلاً خلاف مرضاة الله، إنّه ولي أمري، ومنعمي، والمتفضّل عليّ بالأمن والصحّة والعافية، ولو خدمته طيلة حياتي لما وفيت ببعض ما تفضّل به عَليَّ، فلا يليق بي أن أنقض عهداً بسيطاً قطعته على نفسي. عندها يستطيع الإنسان أن يطرد الشيطان، ويتجنّب المعصية إن شاء الله.
ويشير الإمام الخميني إلى أنّ المراقبة لا تتعارض مع العمل والسفر والدراسة وغيرها، ومن ثَمَّ يتطرق إلى محاسبة النفس، فيقول: يجب أن تكون على هذه الحال، وتحاسب نفسك في المساء. والمحاسبة تعني أنّك تحاسب نفسك لتعلم هل أدّيت ما عليك من حق تجاه الله، ولم تخنه في هذه المعاملة البسيطة؟ فإذا وفيت فاشكر الله على توفيقه، واعلم أنك تقدّمت خطوة إلى الإمام، وستكون منظوراً عند الله، وأنَّ الله سيهديك، وسيوفقك في دنياك وآخرتك. واعلم أنَّ عملك في الغد سيكون أسهل وأيسر. حافظ على هذا الأداء لمدة من الزمن لكي يصبح ملكة عندك بإذن الله، بنحو تحس باللذة عند طاعة الله وترك معاصيه في هذا العالم، تحس باللذة على الرغم من أنَّ هذا العالم ليس عالم جزاء ومثوبة، إنّها ألطاف الله التي تذيقك طعم اللذة([38]).
لقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ الإنسان على مراقبة أعماله، ومحاسبة نفسه، وتقييم أدائه، وتطبيق المراقبة المستديمة لما قطعه الفرد على نفسه من التزامات شرعية أمام الله؛ تفادياً لوقوعه في الانحراف. قال رسول الله’: <لذكر الله بالغدُوِّ والآصال خير من حطم السيوف في سبيل الله(عز وجل)، يعني من ذكر الله بالغدُوِّ، وتذكَّرَ ما كان منه في ليله من سوء عمله، واستغفر الله وتاب إليه، انتشر وقد حُطّت سيّئاتُهُ، وغُفرت ذنوبه، ومن ذكر الله بالآصال، وهي العشيات، وراجع نفسه في ما كان منه يومه ذلك، من سرفه على نفسه، وإضاعته لأمر ربّه، فذكر الله، واستغفر الله تعالى وأناب، راح إلى أهله وقد غفرت ذنوبه>([39]).
وقال الإمام موسى الكاظم×: <ليس منّا مَن لم يحاسب نفسه كل يوم>([40]).
وقال الإمام الصادق× لعبد الله بن جُندب: <يا بن جندب، حقٌّ على كلِّ مسلم يعرفُنا أن يعرض عمله في كلِّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه؛ فإن رأى حسنة استزاد منها؛ وإن رأى سيئة استغفر منها؛ لئلاّ يخزى يوم القيامة>([41]).
5 ـ وعي مضاعفات الانحراف الجنسي ـــــــ
يعد الالتفات إلى عواقب الانحرافات الجنسية ومضاعفاتها السيئة طريقاً وقائياً في هذا المجال، فلكل سلوك منحرف آفات وأضرار تعود على الشخص والمجتمع، كما قال الإمام علي×: <من تسرّع إلى الشهوات تسرّعت إليه الآفات>([42]).
لقد ذُكرت في الأحاديث الشريفة أضرار وآفات كثيرة للشهوة والميول الجنسية المنحرفة؛ كي يعتبر الفرد، ويتجنّب الوقوع في الأهواء الشهوانية، والانتباه إلى آفات الانحراف الجنسي وعواقبها السلبية يوقظ فطرة الإنسان التي تنفر من البؤس والبلاء، ويبعث على الاحتراز من الانحراف أو تقليله.
ثمّة أضرار وآفات كثيرة للانحرافات الجنسية تستشف من الأحاديث الشريفة، نشير إلى بعض منها:
أ ـ المضار الشخصية ـــــــ
إنَّ المتّبع لهواه والمنحرف جنسياً يفقد شخصيته الإنسانية والمعنوية، فينحط ويسقط في هاوية الرذيلة. إنّه يميل وراء نزعاته الحيوانية، ويتناسى هويته المثالية، فهو مضطرب من الداخل، لا يعرف قدراً لنفسه؛ لتزعزع شخصيته، وانفصام عرى نظامها، ويرى نفسه منغمسة في مستنقع الذنب ومعصية الله، فلا مستقبل يرجى، ولا أمل بالنمو والازدهار.
ونظراً للارتباط الوثيق بين هوى النفس وانحطاط الشخصية يقول الإمام علي×: من اتّبع هواه أردى نفسه>([43]).
ويقول أيضاً: <أزرى بنفسه من ملكته الشهوة، واستعبدته المطامع>([44]).
ومن كلامه أيضاً: <مَن ملكته نفسه ذلّ قدره>([45])، ويشير الإمام إلى تصدّع المروءة عند الإنسان بفعل عامل الشهوة، ويقول: <زيادة الشهوة تزري بالمروءة>([46]).
ب ـ المضار المعرفية والفكرية ـــــــ
إنَّ ذهن الإنسان لينشغل بالانحرافات الجنسية والأهواء الشهوانية، ما يشتت الفكر، ويقلِّل من فهم الحقائق، ويحد من تناول المسائل العلمية، ويحول دون التعرّف إلى حقائق العالم وأهداف الحياة، والتفطن إلى منزلة الإنسان وأبعاده المختلفة، وقيمه الأخلاقية والمعنوية. من هنا فإن الفرد سيصاب برؤية خاطئة تجاه نظام الخلق وأهدافه، وتجاه الخالق والإنسان والحياة والقيم، وسيبتعد عن الحقيقة. ونظراً لما تعكسه الشهوة من آثار سلبية على أداء العقل وتقليل فاعليته يقول الإمام الكاظم×: <من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه>([47]).
إنَّ العقل يُلجم بالشهوة التي هي ضده، فلا يستطيع أن يعالج شؤون الحياة بشكل صحيح وسليم. قال الإمام علي×: <الهوى ضد العقل>([48])، وقال أيضاً: <آفة العقل الهوى>([49]). ومن كلامه×: <حرام على كل عقل مغلول بالشهوة أن ينتفع بالحكمة>([50]).
وقد أشار×في هذا الحديث إلى الشهوة باعتبارها عاملاً مهماً يلحق الأذى بإدراك العقل وفاعليته، ويحول دون تقدّمه العلمي، سواء على الصعيد التنظيري أو التطبيقي، ودون تمييز الخير من الشر. وثمة حديث آخر يؤيّد هذا الرأي هو قوله×: <ما أصعب على مَن استعبدته الشهوات أن يكون فاضلاً>([51]).
ج ـ المضار المعنوية ـــــــ
إنَّ الإنحرافَ الجنسي تجسيدٌ للذنب، ومصداقٌ بارز للمعصية، وهذا النوع من الانحراف لا يحد من البعد المعنوي للإنسان فحسب، بل يلحق الضرر بإيمان الإنسان ومعتقداته الدينية وعلاقته مع الله أيضاً. يقول الإمام علي×: <مَن وافق هواه خالف رشده>([52]).
ويقول الرسول الأعظم’ في الشهوة التي تمنع نمو البعد المعنوي في الإنسان: <حرام على كل قلب عزي بالشهوات أن يجول في ملكوت السماوات>([53]). ويتناول الإمام علي× موضوع الشهوة المؤثّرة في تدهور العلاقة العاطفية مع الله، ويقول: <لا يفسد التقوى إلاّ غلبة الشّهوة>([54]).
لاشك أنَّ الإصرار على مواصلة الانحرافات الجنسية يعرّض إيمان الإنسان ودينه إلى الخطر بشكل تدريجي، قد يصل إلى الكفر، ناهيك عن كونه عائقاً في طريق الرقي المعنوي، وعاملاً على زوال التقوى، وتزعزع علاقة الفرد بربه. قال رسول الله’: <مَن كان أكثر همّه نيل الشهوات نزع من قلبه حلاوة الإيمان>([55]).
ويشير الإمام علي× إلى الأمر ذاته، فيقول: <طاعة الشهوة تفسد الدين>([56])، ويعتبره× عاملاً مهماً من العوامل المؤدّية إلى الكفر، حيث قال: <أركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والغضب، والشهوة>([57]).
د ـ العواقب الوخيمة ـــــــ
إنَّ من جملة الأمور التي تمنع الفرد من الانحراف الجنسي، أو تساعده على احتوائه أو تقليله، التفطّن لمضار السلوك المنحرف، وما يتركه من عواقب وخيمة في حياة الإنسان الدنيوية والآخروية. ولا شك أنّ كثيراً من تلك الانحرافات لا يمكن إصلاحها أو معالجتها، كالأمراض الجسمية المستعصية. وقد نقلت الأحاديث الشريفة بعضاً من تلك العواقب الوبيلة. قال رسول الله’: <إنّما هلاك الناس باتباع الهوى>([58]).
وقال الإمام علي×: <غلبة الشهوة تبطل العصمة، وتورد الهلكة>([59]).
وقد نقل علي بن أسباط عن الأئمة المعصومين^ قولهم: <في ما وعظ الله (عز وجل) به عيسى×: يا عيسى، كُفّ بصرك عمّا لا خير فيه، فكم من ناظر نظرة قد زرعت في قلبه شهوة، ووردت به مواردَ حياض الهلكة>([60]).
وقد جاء في أحاديث أخرى أنّ الأمراض الجسمية والنفسية هي حصيلة الأهواء الشهوانية. قال الإمام علي×: <من لم يداوِ شهوته بالترك فلم يزل عليلاً>([61]).
وقال أيضاً: <لا خير في لذة توجب ندماً، وشهوة تعقب ألماً>([62]).
ومن جملة عواقب الشهوة التي ذكرتها الأحاديث الشريفة: العسر، والألم، ونتانة العذاب، والفضيحة والخِزْي يوم القيامة، قال رسول الله’: <ألا إن عمل النار سهل بشهوة>([63]).
وقال أيضاً في حشر بعض الناس يوم القيامة: <…والذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات…>([64]).
وقال الإمام علي×: <لا توازي لذة المعصية فضوح الآخرة وأليم العقوبات>([65]).
وفي مضار إحدى الانحرافات وعواقبها قال رسول الله’: <في الزنا ستّ خصال: ثلاث منها في الدنيا، وثلاث منها في الآخرة؛ وأمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرزق؛ فأمّا التي في الآخرة فسوء الحساب، وسخط الرحمن، والخلود في النار>([66]).
من هنا فإنَّ التفطّن لتبعات الانحرافات الجنسية، والتذكير بعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، يترك أثراً في نفسية الإنسان، ويردعه عن الانحراف الجنسي المتهوّر.
نتائج البحث ـــــــ
درسنا في هذه المقالة، فضلاً عن الآيات القرآنية الكريمة، ستين حديثاً عن رسول الله’ والأئمة الأطهار^، تقي الناشئة والشباب من السلوك الجنسي المنحرف، وقد خلصنا إلى النتائج التالية:
1ـ إنَّ التربية الصحيحة والمستديمة للطفل أهمّ طريقة لوقاية الناشئة والشباب من الانحرافات الجنسية.
2ـ تشخيص الوالدين والتربويين لعوامل الانحراف الجنسي، وتوفير الظروف الوقائية منها، يساعد بشكل كبير على صيانة الناشئة والشباب من الوقوع في الانحراف.
3ـ إنّ الرقابة العائلية والاجتماعية المبتنية على أُسس دينية، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية، تبعث على نمو العقلانية عند الناشئة، وتحد من الانحراف.
4ـ إنّ ضبط النفس، والمواظبة على ذكر الله، والإحاطة بظروف البيئة الاجتماعية، واكتمال العقل، ومعاهدة النفس ومحاسبتها، تعد جملة من الأساليب التربوية التي حثّت عليها الأحاديث الشريفة؛ لتجنّب الوقوع في الانحراف الجنسي.
5ـ إنّ توعية الناشئة والشباب وتحذيرهم من الانحرافات الجنسية وما لها من مضار شخصية، ومعرفية، وفكرية، ومعنوية، ونفسية، وجسمية، وكذلك عواقبها الأخروية المؤكّدة في كثير من الأحاديث والروايات، كل ذلك يساعد إلى حدٍّ كبير على تفادي الانجراف وراء الانحرافات الجنسية.
الهوامش
__________________________________
(*) أستاذ مساعد في جامعة قم، وباحث في معهد الحوزة والجامعة.
([1]) ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 60
([2]) الصدوق، معاني الأخبار: 198.
([3]) التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم 4: 89.
([4]) التميمي، المصدر السابق 6: 124.
([5]) كرومبي، فرهنگ جامعه شناسي (معجم علم الاجتماع): 350.
([6]) امير كاوه، نظارت اجتماعي (الرقابة الاجتماعية)، فصلنامه معرفت، العدد 21.
([7]) ترابي، مباني جامعه شناسي: 122.
([8]) روسك، ترجمة، 1369، ص232.
([9]) (نمازي، مجله ره آورد، العدد 13).
([10]) (اميركاوه، نظارت اجتماعي (الرقابة الاجتماعية)، فصلنامه معرفت، العدد 21.
([11]) (باقري، تربيت ديني در برابر چالش قرن بيست ويكم (التربية الدينية وتحديات القرن الحادي والعشرين)، نشريه معارف، العدد 2.
([12]) المراد من تقوى الباطن هنا التقوى المنبثقة من أعماق الشخص، والمترسّخة في ذاته، والمرتبطة بجوانبه المعرفية والعاطفية ارتباطاً وثيقاً.
([13]) المراد من تقوى الاجتناب هنا التقوى الظاهرية والمعتادة، التي تكون فيها المناحي المعرفية والعاطفية سطحيةً وعابرةً.
([14]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 449.
([15]) تميمي، المصدر السابق 6: 143.
([16]) النوري، مستدرك الوسائل 8: 297.
([17]) التميمي، المصدر السابق 4: 42.
([18]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 235.
([19]) النوري، مستدرك الوسائل 11: 346.
([20]) التميمي، المصدر السابق 2: 158.
([21]) المجلسي، بحار الأنوار 8: 218.
([22]) المجلسي، المصدر السابق 73: 394.
([24]) المجلسي، المصدر السابق 6: 132.
([25]) الكليني، المصدر السابق 5: 534.
([26]) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء 5: 180، نقلاً عن البخاري ومسلم.
([28]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 14: 272.
([30]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 4: 1.
([31]) التميمي، المصدر السابق 3: 135.
([32]) التميمي، المصدر السابق 5: 255.
([35]) الكليني، المصدر السابق 8: 52.
([36]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 106.
([37]) الكليني، المصدر السابق 5: 494.
([38]) الإمام الخميني، الأربعون حديثاً: 8ـ9.
([39]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 62.
([40]) الكليني، المصدر السابق 2: 453.
([41]) ابن شعبة، تحف العقول: 300.
([42]) التميمي، المصدر السابق 5: 327.
([45]) النوري، مستدرك الوسائل 11: 212.
([46]) التميمي، المصدر السابق 4: 117.
([47]) الكليني، المصدر السابق 1: 17.
([48]) التميمي، المصدر السابق 1: 258.
([51]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 20: 258.
([52]) التميمي، المصدر السابق 5: 196.
([54]) التميمي، المصدر السابق: 376.
([56]) النوري، مستدرك الوسائل 11: 344.
([59]) التميمي، المصدر السابق 4: 383.
([60]) الكليني، الكافي 8: 134.
([61]) التميمي، المصدر السابق 5: 5 ـ 417.
([63]) المتقي الهندي، كنـز العمال 15: 883.
([64]) الحويزي، ط قم، ج5: 493.