أ. حسين هشام يعقوب(*)
ما زال كتاب الأسس المنطقيّة للاستقراء، للسيّد الشهيد محمد باقر الصّدر، في طيّ الإهمال، ولم يسلَّط الضوء عليه كما ينبغي. فمنذ صدوره، قبل خمسة عقود تقريباً([1])، وإلى يومنا هذا، الدراسات حوله معدودة محدودة؛ وكذلك لم يأخذ حقّه في التدريس والتداول والشرح؛ فالأكثريّة من طلاّب العلوم الدينيّة بعيدةٌ عنه، فضلاً عن غيرهم. وتكمن أهمِّية كتابٍ ككتاب الأسس في أنّه لا يمكن تجاهله ثبوتاً، وإنْ وقع إثباتاً؛ إذ لا بُدَّ من موقفٍ بشأنه؛ فإمّا أن نتّفق مع ما قرَّره؛ وإمّا نردّ ما سجّله من نقوض ومناقشات جادّة، وإلاّ فنحن أمام معارف متزلزلة. فمَنْ يعتمد المبدأ الأرسطيّ، القائل: «الاتّفاق لا يكون دائميّاً، ولا أكثريّاً، بعقليّته وأوّليّته»، كيف يصحّ له أن يتجاهل نقد صاحب الأسس؟ وكيف له أن يثق بنتائجه؟ فإذن «ليس أمام الفقيه ـ المجتهد بحقٍّ ـ [وغيره] أيّ حقٍّ في إهمال ما طرحه الصّدر؛ حيث إمّا أن يجتهد في اتخاذ موقفٍ محدَّد مما طرحه الصّدر، فيحصل على كُبْرَيات البحث الأصوليّ على أساس اجتهادٍ وبصيرة؛ وإمّا أن يقلِّد ويتبنّى رأياً لأحد الباحثين دون معاناةٍ وتحقيق، وهذا يعني أنّه سوف ينتهي إلى كُبْرَيات البحث الأصوليّ على أساس تقليدٍ في الرأي، وهم يقولون: النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات»([2]).
نحاول في هذه الوقفة مناقشة ما سجَّله الشيخ الدكتور أيمن عبد الخالق المصريّ من ردودٍ على ما أثاره صاحب الأسس على المبدأ الأرسطيّ سالف الذكر من نقدٍ ونقضٍ؛ إذ تطرّق الشيخ المصريّ إلى ذلك في أربعٍ من كتبه: دستور الحكماء في شرح برهان الشفاء([3])؛ وأصول المعرفة والمنهج العقليّ([4])؛ وأنفع التقريرات في شرح الإشارات والتنبيهات([5])؛ ومنتهى المراد في علم أصول الاعتقاد.
وسننقل نصّ سماحته من الكتاب الأخير؛ لاختصاره، ثمّ نسجِّل ملاحظاتنا ومناقشاتنا عليه.
نقود الشيخ المصريّ
قال الشيخ المصريّ، بعد أن ناقش التجربة كأحد مصادر المعرفة البشريّة، وتحت عنوان: (وَهْمٌ وتنبيهٌ): «هناك([6]) مَنْ شكَّك في بداهة كبرى القياس الاقتراني الأوّل، بتشكيكه في قضية أن «الاتفاقيّ لا يتكرَّر دائميّاً، ولا أكثريّاً»، وادّعى أنها خاضعةٌ لحساب الاحتمالات؛ ظنّاً منه أن تكرار المشاهدات مجرَّد تكرارٍ كمِّيّ، يتضاءل احتمال الصدفة بتكرُّره، إلى أن نصل إلى احتمالٍ ضئيل جدّاً، لا يعيره العقل اهتماماً، فيسقطه عن اعتباره واحتماله، فينعقد اليقين الذاتيّ. ونحن نقول فيه:
أوّلاً: إن بداهة هذه القضية يمكن أن ينبّه عليها بوجهين:
الوجه الأوّل: بعكس النقيض لأصلٍ بديهيّ، وهو «كلُّ أثرٍ يتكرَّر دائميّاً أو أكثريّاً فهو لعلّةٍ ذاتية»، وينعكس بعكس النقيض إلى «كلّ ما ليس لعلّةٍ ذاتيّة ـ أي اتفاقيّة ـ فهو لا يتكرَّر دائميّاً، ولا أكثريّاً».
وبيان الأصل أن العلّة لو كانت تامّةً فلا ينفكّ عنها معلولها على الدوام، وهو ضروريّ؛ وإنْ كانت ناقصةً فيصدر عنها معلولها في أكثر الأحيان؛ لوجود المقتضي المرجِّح لصدوره دائماً، لولا المانع العارض؛ لأن المانع لو كان لازماً للمؤثِّر لكان ذاتيّاً، وهو خلاف فرض وجود المقتضي للأثر، فيلزم اجتماع النقيضين؛ لكونه مقتضياً وغير مقتضٍ.
الوجه الثاني: إن قولنا: «الأثر الاتفاقيّ لا يتكرَّر» هو قضيّةٌ أوّليّة تحليليّة، يُصدِّق العقل بها بمجرّد التصوُّر الصحيح لموضوعها ومحمولها. وبيان ذلك:
إن معنى الأثر الاتفاقيّ هو الأثر الحاصل لسببٍ أخصّ من طبيعة المؤثِّر، ومعنى لا يتكرّر أي إنه لا يحصل مع ارتفاع الخصوصيّة؛ لأن التكرار يهدف إلى رفع مدخليّة الظروف الخاصّة للمؤثِّر ـ كما سبق أن أشَرْنا ـ، فتكون القضية بهذا النحو: «الأثر الحاصل من خصوصيّة المؤثِّر لا يحصل مع ارتفاع الخصوصيّة»، وهي ضروريّةٌ أوّليّة.
ثانياً: إن الواقع على خلاف ما ظنّ من رجوع هذه القضية لحساب الاحتمالات. بل الأمر على العكس، وهو رجوع حساب الاحتمالات إلى التسليم بهذه القضية، وإلاّ لسقط عن الاعتبار. وبيان ذلك:
إن صدور الأثر الاتفاقيّ لو امتنع أن يكون دائميّاً أو أكثريّاً ـ كما ذهب الحكماء بحكم العقل الأوّليّ، كما أشَرْنا ـ فهو المطلوب؛ وإنْ أمكن أن يكون الأثر الاتفاقيّ أكثريّاً في بادئ الأمر، بحَسَب ما افترض المدَّعي، فلا يمكن أن تتضاءل نسبة احتمال الصدفة مع تكرُّر صدور الأثر عن المؤثِّر؛ لأن الصدفة يمكن أن تكون أكثريّةً بحَسَب الفرض عنده، أو بعبارةٍ أخرى: لا يمكن مع إنكار بداهة هذه القاعدة العقليّة إثبات ذاتيّة المؤثِّر للأثر؛ لتكرار لزومه له؛ لاحتمال وجود سببٍ عَرَضيّ لازم للمؤثِّر، يؤثِّر في صدور الأثر عنه»([7]).
مناقشاتٌ وملاحظات
ونسجِّل عليه المناقشات التالية:
المناقشة الأولى: نحن لا نسلِّم بالأصل في الجملة؛ إذ نحن نسلِّم بأن أثر العلّة التامّة دائميٌّ بالضرورة، لكنْ لا نسلِّم بأن أثر العلّة الناقصة أكثريٌّ بالضرورة؛ حيث إن المحذور هو اجتماع النقيضين من خلال اجتماع المقتضي وعدمه، وهذا المحذور يستوجب ضرورة صدور الأثر عن علّته، وهذا يتحقَّق ولو لمرّةٍ واحدة. وعليه فالعلّة الناقصة بالضرورة يصدر عنها مرّةً واحدة، وما عداه فهو ممكنٌ؛ قد يصدر؛ وقد لا يصدر. ومن هذا يكون الأصل كالتالي: «كلّ أثرٍ يصدر دائميّاً، أو مرّةً واحدة على الأقلّ، فهو لعلّةٍ تامّة أو ناقصة»، ويكون عكسه بعكس النقيض الموافق: «كلّ ما ليس بعلّةٍ تامّة أو ناقصة لا يصدر الأثر عنه دائميّاً، أو لمرّةٍ واحدة على الأقلّ». وهذا لا يثبت استحالة صدور الأثر الاتفاقيّ أكثريّاً، وإنّما يثبت عدم ضرورة صدور الأثر الاتفاقيّ أكثريّاً، أيّ إنّ أكثريّة الاتفاقيّ ممكنةٌ، لا ضروريّةٌ. وهذا ما ادّعاه صاحب الأسس.
المناقشة الثانية: مركز النقاش هو في النسبة بين المحمول والموضوع في القضية: «الذاتيّ يكون دائميّاً أو أكثريّاً»؛ إذ النسبة هنا إمّا التساوي أو الأعمّ. ومدَّعى الشيخ المصريّ يتمّ إذا ثبت أنّ النسبة هي التساوي. وهذا غير ثابتٍ؛ لأن قضية «الذاتيّ يكون دائميّاً أو أكثريّاً» إذا عكسناها بعكس النقيض الموافق تنتج: «ما لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً لا يكون ذاتيّاً»، وهذه القضية المعكوسة تثبت بأن رفع الموضوع (الدوام) يرفع المحمول (الذاتيّ) فقط، وهذا يتحقَّق سواء كانت النسبة بينهما التساوي أو الأعمِّية، فهي من قبيل: القضية التالية: «كلّ إنسان حيوان»، إذا عكسناها بعكس النقيض الموافق تكون هكذا: «كلّ لا حيوان لا إنسان»، فهذا لا يثبت بأن النسبة بينهما هي التساوي بالضرورة، بل تثبت بأن رفع الحيوان يستلزم رفع الإنسان، وهذا يتحقَّق سواء كان الحيوان أعمّ من الإنسان ـ كما هو الحال هنا ـ أو يساويه.
ويدلّ على كلامنا أيضاً بأنّنا إذا عكسنا الأصل «الذاتي يكون دائميّاً أو أكثريّاً» بالعكس المستوي لنتج: «بعض الدائميّ والأكثريّ يكون ذاتيّاً»؛ لأن المحمول في الأصل قد يكون أعمّ من الموضوع، ولهذا تنعكس الموجبة الكلِّية موجبةً جزئيّة، كما ذكر المناطقة([8]). وعليه فالاتفاقيّ ممكنٌ أن يتكرَّر دائميّاً، فضلاً عن أكثريّته؛ بحكم العقل.
المناقشة الثالثة: فسَّر الدكتور المصريّ ـ في الوجه الثاني ـ الأثر الاتّفاقيّ بكونه الأثر الحاصل عن سببٍ أخصّ من طبيعة المؤثِّر. وهذا غيرُ تامٍّ؛ لأن معنى الاتّفاقيّ المبحوث هنا لم يؤخذ فيه الأخصّيّة، وإنما هي مورد البحث والنقاش؛ إذ الاتفاقيّ هو ما يكون في مقابل اللزوم المنطقيّ والواقعيّ. فلنلاحظ ما ذكره السيّد الشهيد الصّدر بهذا الصدد في الأسس، حيث يقول: «إنّ الاتفاق بمعنى (الصدفة)، والصدفة تعتبر نقطة مقابلة للّزوم، فإذا استطَعْنا أن نفهم معنى اللزوم أمكننا أن نحدِّد معنى الصدفة، بوصفه المفهوم المقابل للّزوم، والنقيض له.
اللزوم على نحوين: اللزوم المنطقيّ؛ واللزوم الواقعيّ.
واللزوم المنطقيّ لونٌ من الارتباط بين قضيّتين أو مجموعتين من القضايا، يجعل أيّ افتراضٍ للانفكاك بينهما يستبطن تناقضاً، كاللزوم المنطقيّ القائم بين مصادرات هندسة أقليدس ونظريّاتها؛ نتيجة لاستيطان التفكيك بين هذه النظريات وتلك المصادرات للتناقض.
واللزوم الواقعيّ عبارةٌ عن علاقة السببيّة القائمة بين شيئين، كالنار والحرارة، أو الحرارة والغليان، أو استعمال الأفيون والموت. وهذه السببيّة لا تستبطن أيّ لزومٍ منطقيّ بالمعنى المتقدِّم؛ لأنّ افتراض أنّ النار ليست حارّةً، أو أن الحرارة لا تؤدّي إلى الغليان، لا يستبطن بذاته تناقضاً»([9]).
ثم يعرِّج للصدفة، فيقول&: والصدفة قسمان: صدفة مطلقة؛ وصدفة نسبيّة.
فالصدفة المطلقة هي أن يوجد شيءٌ بدون سبب إطلاقاً، كغليان الماء إذا حصل دون أيّ سببٍ.
والصدفة النسبيّة هي أن توجد حادثةٌ معينّة نتيجةً لتوفُّر سببها، ويتّفق اقترانها بحادثةٍ أخرى صدفةً، كما إذا تعرَّض ماءٌ معيّن لحراةٍ بدرجة مئةٍ، فحدث فيه الغليان، وتعرَّض ماءٌ آخر في نفس الوقت لانخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر، فحدث فيه الانجماد في نفس اللحظة التي بدأ فيها غليان الماء الأوّل([10]).
وهكذا نرى بأنّ الاتّفاق (الصدفة) لم يُلاحَظ فيه شرط الأخصّيّة عن طبيعة المؤثِّر، وإنّما هذا هو محلّ البحث والنزاع، وبالتالي ليست «الأثر الاتفاقيّ لا يتكرَّر» قضيّةً أوّليّة تحليليّة، كما ذهب إليه صاحب الإشكال، وإنما هي قضيّةٌ ممكنةٌ؛ قد يتكرَّر الاتفاقيّ؛ وقد لا يتكرَّر.
المناقشة الرابعة: يقول الشيخ المصريّ ـ في ثانياً ـ بأنّ صدور الأثر الاتفاقيّ لو لم يكن ممتنعاً أن يكون دائميّاً أو أكثريّاً فلا يمكن أن يتضاءل احتمال الصدفة. وبعبارةٍ ثانية: حين يقترن ظهور (ب) مع (أ)، ويتكرَّر هذا الاقتران كثيراً، لا يمكن الاستنتاج بأنّ هذا الاقتران هو سببُ وجود رابطةٍ سببيّة، ما دام فرض كون الصدفة أن تكون أكثريّة ممكناً، بل يمكن هذا الاستنتاج إذا كانت تلك القضية مستحيلةً لدينا، أي يستحيل صدوره دائميّاً أو أكثريّاً.
وفيه:
أوّلاً: لو تمّ هذا فهو يَرِدُ على القائل بعقليّة المبدأ الأرسطي «الاتّفاقي لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً» أيضاً؛ لأنه مهما تكرَّر صدور الأثر عن المؤثِّر لا يمكن استنتاج السببيّة منها؛ لأنّنا لم نحرز بعدُ أن هذا المقدار من التكرار هل يمثِّل الأكثريّة التي يمتنع صدورها أو لا؟ لأن المبدأ الأرسطيّ لا يملك صياغةً واضحة محدَّدة، يمكن أن نحرز بها مفاده، من حيث الدائميّة والأكثريّة. وهذا ما أثاره عليه صاحب الأسس تحت عنوان: حاجة المبدأ إلى صيغةٍ محدَّدة، حيث يقول: «ورغم كلّ هذه الإيضاحات السابقة ظلّت نقطةٌ جوهريّة بحاجةٍ إلى الإيضاح والتحديد في المبدأ الأرسطيّ للاستقراء، وهي أنّ المبدأ الأرسطيّ ينفي تكرار الصدفة النسبيّة، أي تتابع صدف نسبيّة متماثلة، ولكنْ لا يحدِّد درجة التكرار والتتابع الذي ينفيه. فهل ينفي تكرار الصدفة النسبيّة بالقَدْر الذي يستوعب كلّ عمر الطبيعة، بما يضمّ من زمانٍ حاضر وماضٍ ومستقبل، أو ينفي تكرار الصدفة النسبيّة في مجالٍ محدَّد، كمجال التجارب التي يقوم بها شخص، أو التي تقع خلال فترةٍ زمنيّة معيَّنة؟»([11]). ومن دون تحديد صياغةٍ معيَّنة يبقى هذا الإشكال وارداً. نعم، ذكر الشيخ المصريّ ردّاً على إشكال حاجة المبدأ إلى صيغةٍ محدَّدة، وسنتعرَّض إليه لاحقاً، فانتظِرْ.
ثانياً: ما دام الاتفاقيّ (الصدفة) ثبوتاً قابلاً أن يتكرَّر أكثريّاً ودائميّاً فإن كلّ تجربةٍ نقوم بها تكشف لنا عن جزء عن الواقع، وكلّما تتعدَّد التجارب تزداد درجة الكشف، حيث تكون كلّ تجربةٍ يظهر فيها اقتران (أ) مع (ب) مثلاً هي بمثابة ترجيحٍ جزئيٍّ لطرف من أطراف القضية الممكنة، وفق حساب الاحتمال، حتّى نصل إلى مرحلةٍ تكون درجة الكشف المنكشفة بحساب الاحتمال تبرِّر الاعتقاد بنتيجتها اعتقاداً منطقياً. وبعبارةٍ أخرى: إذا اقترن في التجربة ظهور (ب) مع (أ)، ونحتمل أن هناك سبباً آخر هو سبب ظهور (ب) نرمز له بــ (ت)، فعند تكرار التجربة مرّةً أخرى، واقترن (أ) مع (ب) أيضاً، مع احتمال وجود (ت)، يتكوَّن علمٌ إجماليّ من أربع حالات لـ (ت)، هي:
1ـ إنّ (ت) لم يوجد مع كلتا التجربتين.
2ـ إنّه وجد مع التجربة الأولى فقط.
3ـ إنّه وجد مع التجربة الثانية فقط.
4ـ إنّه وجد مع التجربتين.
ومن الحالات الأربعة نجد ثلاثة حالات ونصف لصالح سببيّة (أ) لـ (ب)، حيث الرابعة حياديّة للسببيّتين، فيكون احتمال سببيّة (أ) لـ (ب) يساوي 7/8، واحتمال سببيّة (ت) لـ (ب) يساوي 1/8. وبعد ضرب هذا العلم الإجماليّ البَعْديّ بالعلم الإجماليّ القَبْليّ تكون سببيّة الأوّل تساوي 4/5، والثاني تساوي 1/5. وهكذا يقوى احتمال سببيّة (أ) لـ (ب)، وفي مقابله يضعف سببيّة (ت) (الذي يحتمل كونه السبب الخفيّ) لـ (ب) كلّما ازدادت التجارب، كما هو مفصَّلٌ في التطبيق الأوّل في الأسس المنطقيّة للاستقراء([12]). وهذا يعني أنّ هذه الاحتمالات والنتائج تمنح المبرِّر المنطقيّ للاعتقاد بسببيّة (أ) لـ (ب) بأكبر احتماليّةٍ ممكنة في المرحلة الاستنباطيّة، لكنْ «هذا لا يعني أن النتيجة التي يبرهن الاستقراء على قيمةٍ احتماليّة كبيرة لها يجب أن تكون صادقةً دائماً من الناحية المنطقيّة، وإنّما يعني أن القيمة الاحتماليّة الكبيرة التي يعطيها الدليل الاستقرائيّ للنتيجة قيمةٌ منطقيّة»([13]).
وقد تعرَّض الشيخ الدكتور، في كتابه أنفع التقريرات، لإشكالٍ آخر، لم يذكره في بقية كتبه التي تطرَّق فيها إلى الموضوع، وهو الإشكال الذي وعَدْنا به القارئ العزيز.
يقول الإشكال: «أشكل السيّد الشهيد& على صغرى هذه القاعدة أيضاً، ومحصَّل إشكاله: إنّه كيف لنا أن نحكم بأن هذا أكثريٌّ أو دائميٌّ، مع أنّنا لا نكرِّر المشاهدة إلاّ لفترةٍ محدودة من الزمن؟ والحال أنّ هذا الحكم يحتاج إلى تكرُّر المشاهدة منذ الأزل إلى الأبد، ثمّ إنّ الحكماء لم يحدِّدوا حدّاً معيّناً متى وصلناه حكمنا بأن هذا أكثريٌّ أو دائميٌّ.
وهذا الإشكال أيضاً غيرُ واردٍ؛ لأنّ الحكم بأن هذا أكثريٌّ لا يحتاج إلى المشاهدة منذ الأزل إل الأبد، بل يكفي في معنى الدائميّ عدم تخلُّفه في مشاهداتنا، أيّاً كان عددها. تماماً كما نعتقد أن الحجر كلّما ارتفع إلى الأعلى وتُرِك فإنّه يسقط إلى الأرض، فنحن نحكم بهذا حكماً دائميّاً، مع أننا لم نشاهد ذلك منذ الأزل وإلى الأبد. وكذلك معنى الأكثريّ فإنّه يكفي فيه عدم تخلُّفه في أكثر مشاهداتنا.
فمسألة الأكثريّ هي أمرٌ نسبيّ؛ إذ إننا لا نقول: إنّ الاتّفاقيّ لا يكون كثيراً، بل نقول: لا يكون أكثريّاً، بمعنى أنّه في أكثر الحالات لا يتخلَّف الأثر عن المؤثِّر، فنحكم بأن هذا لا يكون اتّفاقيّاً»([14]).
ونلاحظ عليه ما يلي:
أوّلاً: القول بأنّ الدائميّ يكفي فيه عدم تخلُّفه في مشاهداتنا، أيّاً كان عددها، لا يرفع الإشكال؛ لأن المطلوب تحديد حدٍّ أو ضابطٍ نحدِّد به الدائميّ عمليّاً، بحيث إن المجرّب عندما يتحقَّق عنده هذا الحدّ يستنتج كونه علّةً، لا صدفة. وهذا ما لا يفي فيه (مشاهداتنا أيّاً كان عددها)؛ لأنه بنفسه يحتاج إلى تحديدٍ وتعيين.
ثانياً: القول بأنّ الأكثريّ أمرٌ نسبيّ، يكفي فيه عدم تخلُّفه في أكثر الحالات، يَرِدُ عليه ما ورد في أوّلاً؛ لأن تحديده بكونه أمراً نسبيّاً يعني كونه يختلف من حالةٍ إلى أخرى، ومن تجربةٍ إلى أخرى. لكنّ هذا لا يكفي؛ لأنه لا بُدَّ للأمر النسبيّ من ضابطٍ يحدِّد انطباقه على الحالات والتجارب المختلفة. وهذا لا يتحقَّق بكونه يكفي فيه عدم التخلُّف في أكثر المشاهدات؛ لأن أكثر المشاهدات لا يصلح أن يكون حدّاً وضابطاً؛ فهل تتحقَّق أكثر المشاهدات بمشاهدات مجرِّبٍ واحد، أم يشترط مجموعة مجرِّبين؟ ومشاهدات الواحد هل يعني أنه إذا أجرى عشر تجارب فيكفي في تحقُّق الأكثريّ أن يكون أكثر من النصف لصالح اقتران (أ) بـ (ب)، حتى نستنتج السببيّة، ونستبعد الصدفة؟
وهكذا نلاحظ أنّ هذه التحديدات لا يمكنها تقديم صيغةٍ محدَّدة للمبدأ الأرسطي، يمكِّنه من الجريان عمليّاً بشكلٍ مبرَّر موضوعيّ.
لكنْ بالإمكان ترميم هذه المحاولة في ما يتعلَّق بالأكثريّ وفق المنطق الأرسطي، بأن نقول: إنّ الضابط هو ما ذكره المنطق الأرسطيّ في تحقُّق المتوترات وغيرها([15])، وهو أن تسكن النفس سكوناً تامّاً ـ يزول معه الشكّ ـ بأنّ هذا العدد من التجارب التي أُجْري، والذي اقترن فيه (أ) بـ (ب)، هو اقترانٌ سببيّ، لا اتّفاقيّ. وبعبارةٍ ثانية: سكون النفس إلى أن هذا العدد من الاقترانات يمثِّل الأكثريّ النسبيّ.
لكنْ يُلاحَظ عليه أنه ضابطٌ ذاتيٌّ ينفع الشخص المجرِّب، لكنّه لا يمكن أن يكون ضابطاً معياريّاً موضوعيّاً بيني وبين الآخرين، بخلاف حساب الاحتمالات، فهو يتميَّز بهذا الأمر.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتبٌ في الحوزة العلميّة. من العراق.
([1]) أحمد أبو زيد العاملي، السيرة والمسيرة 2: 436.
([2]) عمّار أبو رغيف، منطق الاستقراء: 7.
([3]) أيمن عبد الخالق، دستور الحكماء في شرح برهان الشفاء : 468 ـ 479.
([4]) أيمن عبد الخالق، أصول المعرفة والمنهج العقليّ 2: 232 ـ 240.
([5]) أيمن عبد الخالق، أنفع التقريرات في شرح الإشارات والتنبيهات: 63 ـ 67.
([6]) في كتبه المذكورة أعلاه يصرِّح باسم السيّد الشهيد محمد باقر الصّدر.
([7]) أيمن عبد الخالق، منتهى المراد في علم أصول الاعتقاد: 43 ـ 44.
([8]) الشيخ الرئيس ابن سينا، الإشارات والتنبيهات (مع شرحَيْ الطوسي والقطب الرازي) 1: 204؛ محمد رضا المظفَّر، المنطق: 229.
([9]) محمد باقر الصّدر، الأسس المنطقيّة للاستقراء: 56 ـ 57.
([10]) المصدر السابق: 57 ـ 58.
([12]) المصدر السابق: 312 وما بعدها، التطبيق الأوّل من التطبيقات الأربعة.
([14]) أيمن عبد الخالق، أنفع التقريرات في شرح الإشارات والتنبيهات: 239، بقلم: الشيخ محمد العلي.
([15]) الشيخ الرئيس ابن سينا، الإشارات والتنبيهات (مع شرحَيْ الطوسي والقطب الرازي): 218، محمد رضا المظفَّر، المنطق: 274.