تتغيّر الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية في الحياة البشرية، ويترك تغيّرها أثراً على رسم مسلسل الأولويات الثقافية والعلمية، ومعنى ذلك أن أولويةً ما قد تغدو أمراً هامشياً نتيجة وضع جديد، فيما ترتفع إلى الواجهة أمور كانت هامشيةً في حساب الفكر والثقافة.
1- وإذا أردنا ـ بدايةً ـ أن نقدّم نماذج من الموروث الديني، أمكننا الإشارة إلى ملفات عديدة، كانت تصنّف موضوعات من الدرجة الأولى، فيما غدت اليوم على درجة ثانية أو ثالثة أو.. من الأهمية، ففي الكلام الإسلامي لم تعد أغلب نظريات الصفات والأسماء، كما الردّ على البراهمة في أمر المعاد، أو العديد من الردود المسجلة على بعض الفرق الإسلامية في قضايا الإمامة، أو الجدل في بعض جوانب القضاء والقدر من أولويات الفكر والمعرفة، وعلى الصعيد الفقهي تراجعت موضوعات عديدة كأحكام الرقية والحرية، ومباحث الظهار وكثير من أحكام الدواب و..
ولا نعني بتراجع هذه الملفات البحثية، سقوطها تماماً، بل قد يظلّ البحث العلمي بحاجة إليها ولو لمتابعة ملفّات أُخرى على صلة، إنما نقصد تراجعها عن درجة الصدارة التي كانت تمتلكها، يجب أن نصل إلى قناعة بأن تجميد بحث ما في زمن ما ضمن وضع ما لا يعني دعوةً لحذفه، بقدر ما يعني تعليقاً له إلى حين خلق أوضاع قد تفرضه مجدداً.
2- وينعكس هذا الأمر على العقلية الحاكمة على العمل الفكري الديني، وعلى القيّمين على هذا العمل، فإذا حكمتهم سلسلة خاطئة من الأولويات فإن كوارث في العمل الثقافي سوف تحدث، وسوف تضيع جهود عملاقة، وأموال طائلة، وأوقات ثمينة، أما لو جرى تصويب الأولويات وإعادة رسمها عند كل مفصل اجتماعي أو سياسي أو ثقافي، فإن الحركة الفكرية الإسلامية سوف تعيش اللحظة، بل ستكون ثقافة اللحظة، وفكر اللحظة، ووعي اللحظة.
لكننا ـ مع الأسف ـ ما زلنا نجد في بعض الأوساط العلمية من يفتخر بعدم مواكبة اللحظة، والحياة الثقافية المعاصرة، ومن يزعم أن ثقافة اليوم هي ثقافة آنية، سطحية.. إلى غير ذلك من أوصاف توحي أن من المفيد استهلاك العمر العزيز في فهم شخصيةٍ في التراث، وليس كل التراث، وتحليل كلماتها ونصوصها، بل هو خير من فهم كل الحراك الفكري ومنتجات الفكر في القرن الأخير برمّته.
هناك من لا يفقه أبسط مفاهيم العصر، ونؤكّد على كلمة mأبسطn، وهي أزمة جادة، ترجع إلى الخطأ في رسم السياسات الثقافية في بعض أوساط المؤسسة الدينية، وإلى مسلسل الأولويات المعاصرة، فلا ينبغي أن ننزّه أنفسنا ونطهّرها عن وعي العصر وتداول مقولاته، فهذه سلفية قاتلة، لا تحيا في الآن، بل لا تسمح لأحد بأن يحيا عصره.
3 – انطلاقاً مما تقدّم أجد أن هناك ملفات فكرية لابدّ من جعلها في قائمة الأولويات البحثية اليوم لدى الباحثين الدينيين، وأركز هنا ـ من باب النموذج ـ على بعضها:
أ ـ دراسات الأديان، فالملاحظ في الأوساط الدينية في الأعم الأغلب وجود فقر معلوماتي مذهل عن الأديان الأُخرى، وبعض هذه الأديان مما يحتك به المسلم اليوم حتى في البلاد الإسلامية مثل مصر ولبنان، نحن بحاجة اليوم إلى مادّة درسية في الأديان في الجامعات والحوزات كافّة، لأنها من أهم وظائف المفكّر والعالم والمبلغ والخطيب، ووجود فقر معلوماتي على هذا الصعيد يوقع في أخطاء حقيقية، كثيراً ما لمسها المختصّون في هذا المجال.
وليست الحاجة مقتصرةً على الأديان الإبراهيمية، فهناك مذاهب وفرق يفترض بالمفكّر والعالم والباحث الديني أن يكون على اطلاع عليها، سيما ما حامت حوله التباسات، مثل المذهب الدرزي في بلاد الشام، والمذهب العلوي في سوريا، والصابئة في العراق و..
ب ـ الدراسات العقلانية حول العرفان الديني، فالملفّ الصوفي والعرفاني ملفّ شائك، ويغزو اليوم الأوساط الدينية على نطاق كبير، وتكثر التساؤلات حوله، وقد أدّت بعض حالات الفوضى فيه إلى حصول إرباكات ومشاكل جادّة وحقيقية، لم يعد الوضع يحتمل مضاعفاتها أحياناً، من هنا، فالوضع بات بحاجة إلى فريق عمل جاد يدرس الفكر الصوفي والعرفاني، تاريخياً ونقدياً وعقلانياً ومقارناً وهادئاً، ويشرّح مدارسه واتجاهاته، سيما تلك التي باتت تهيمن اليوم على بعض الأوساط دون أن تكون هناك عمليات رصد لمعالم مدرستها بسبب حداثة هذه الاتجاهات أحياناً، بما لا يعود إلى فترة تتجاوز القرن الواحد.
ج ـ على الصعيد الشيعي بالخصوص، هناك تجاهل شبه تام، سوى في بعض الأوساط في العالم العربي، للمنجزات الأخيرة في البلاد العربية، سيما تلك ذات الطابع النقدي، مثل دراسات أبي زيد، أركون، الجابري، حرب، شحرور، حنفي، العروي، عبدالرحمن و.. ولهذا قلّما نجد مساهمة شيعية على هذا الصعيد، رغم أن الملفات التي يفتحها هذا الفريق إذا عَنَت في بعضها الفكر السنّي، فإن أكثرها يستوعب أساسيات الفكرين معاً.
د ـ التركيز على موضوع الأسرة عبر دراسات أخلاقية وتربوية تحفظ تماسكها في ظل الوضع الأسري المتردي اليوم في أكثر من مجتمع إسلامي وعربي، ولم يعد يكفي في الموضوع التربوي إطلاق شعارات هلامية، بل صار المطلوب متابعة الواقع للعودة به إلى الكتاب والسنة والعقل والموروث، بغية استخلاص حلول لمشاكل نحياها، لا لمشاكل ماتت منذ زمن مع من سبقنا.
هـ ـ الاهتمام الفكري الجاد بموضوع العلاقات المذهبية، ونشر سياسة التسامح المذهبي، وقد بذلت جهود مشكورة على هذا الصعيد، لكن الواقع ما زال بعيداً عن المرتجى، والمطلوب اليوم تجاوز الدراسات التعبوية في موضوع التقريب، إلى النفوذ إلى أعماق البنى الفكرية والكلامية والفقهية للمذاهب، والتفتيش ـ غير المنحاز ـ عن فرص زحزحة لبعض المفاهيم، التي تغذي الفرقة، والتكفير، والتفسيق، والتضليل، وإعادة قراءتها على ضوء مكوّنات اجتهاد معاصر، لا يريد أن يسقط مقولات مسبقة، بقدر ما انكشفت له ثغرات في المقولات القديمة التي مورس عبرها الإسقاط أحياناً، ومن حقّ هذا الاجتهاد الحراكي أن يعيد النظر فيما ارتابه شك فيه، ليكوّن لنفسه تصوّرات من الداخل، تسمح لنظرية التسامح المذهبي بالانبعاث الحقيقي.
يجب دراسة موضوع التكفير على أكثر من صعيد، نفسي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي، إلاّ أن المطلوب أيضاً من المؤسسة الدينية أن تدرس الموضوع على مستوى جذوره الكلامية والفقهية، وتنظر فيه بجدّية عالية على أسس فكرية موضوعية مدروسة، لا على أساس شعارات مرحلية ما تلبث أن تلفظها سلطة الموروث بعيداً عند أيّ اهتزاز.
و ـ الدراسات الفقهية والأصولية المقارنة، فهناك الكثير من التطوّر الذي شهده أصول الفقه الشيعي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ما زال غائباً ـ بل مغيباً على بعض الوجوه ـ عن الساحة الأصولية السنية، ولا نجد أدنى متابعة جادة للفكر الأصولي الشيعي في الوسط السني، وهكذا الحال على صعيد دراسات فقه الدولة شيعياً، بل لا اطلاع أيضاً على التجربة القانونية في النظام الإسلامي في إيران، وهي تجربة تستحق رصدها والاهتمام بها بعناية وتأمّل.
وهذا ما نجده أيضاً على الصعيد الشيعي، إذ ثمة علوم أخذت بالتكوّن في الوسط السني تتصل بالفقه وأصوله، إلاّ أن الجوّ الشيعي ما يزال بعيداً في أكثر أوساطه عنها، فمقاصد الشريعة، ودور العقل في الاجتهاد، وملف حجية السنّة وما قيل حولها، وآخر منجزات قراءة النص و.. كلها موضوعات باتت أساسية اليوم في المعرفة الفقهية عموماً.
عندما يعايش المرء أوساط البحث الديني يجد مدى الحاجة إلى حضور الآخر في دراساتنا الدينية، فنحن مطالبون باجتهاد إسلامي، ولم يعد مسموحاً اليوم أن يقدّم إنسان نظرية الإسلام في موضوع ما، ولا يمرّ أبداً على موروث هائل للطرف الآخر استمرّ تكوينه بنظام المراكمة المعرفي قروناً عديدة.
4 ـ وإذا كانت الضرورات العلمية تستدعي في مرحلة التركيز على محور، وفي مرحلة أُخرى على غيره، فإنها تتطلّب دائماً ـ تقريباً ـ توفير الظروف لخلق بواعث على تكوين أجيال مهتمة بالجانب العلمي البحثي المعاصر، وهذا ما نجد بعض الفراغ فيه شيعياً على الأقل على بعض المستويات في العالم العربي، إذ هناك اهتمام مضاعف لدى العديد من علماء الدين والجامعيين الدينيين بالإمساك باهتمامات سياسية، أو اجتماعية، وهو أمر ضروري ولازم، لا نشك في ذلك ولا نرتاب، إلاّ أن المشكلة أن الجانب الفكري البحت لا يولى كبير اهتمام إلاّ في بعض الأوساط المحدودة جداً، وغالباً ما تواجه بالنبذ والتقريع.
إن المواقف المتحفظة ـ بل وأكثر من المتحفظة ـ التي تتخذها بعض الأوساط العلمية الدينية من الفكر الجديد، تقتل في أجواء النخب المتحضّرة للانطلاق كل إحساس بالأمل، وتذيب فيها مشاعر الاندفاع، بل تخيف الكثير منها، وتدفعها إلى مزيد من التحفظ المعاكس أو الاحتياط المبالغ فيه أو العمل المراحلي الطويل المدى أزيد من الحدّ الطبيعي، ومعنى ذلك أن إحساس الأمان ضرورة يطالب بها المعنيون لدفع حركة التفكير نحو الأمام، حتى لو تورّطت في بعض الأخطاء التي يجب اعتبارها مترقبة وعادية، فلا تحسب مثل هذه المشاريع بحساب تجزيئي، بل ينظر إليها بالمجموع من حيث النتائج التي تعطيها على مستوى تطوّر حركة الفكر والمعرفة الدينيين.
5 ـ وعلى رأس الحاجات الفكرية كافة، وفي سلّم الأولويات الأولى، تقع الحاجة لمركز دراسات، فأين هي مراكز الدراسات الإسلامية اليوم؟! مراكز الدراسات التي تتخطى تحقيق التراث وطبعه وتغيير لغته و..، لتدخل إلى تكوين نظريات جديدة، بما لكلمة mجديدةn من معنى، إننا نفتقر إلى مراكز دراسات جادّة، تجمع حولها رجال الفكر، وأصحاب القلم، وأهل الرأي والنظر، تنسيهم التفكير في وضعهم المعاشي، ليفرغوا لحمل حقائب بحثية معرفية، يقضي عليها كل فريق منهم ردحاً من الزمن، وتؤمن لهم مؤسساتنا ودولنا وجامعاتنا وحوزاتنا كل ما يحتاجون من دعم، وتأمين مصادر ومواد علمية.
إن ندرة ـ إن لم يصح القول: انعدام ـ هذه المراكز مع كثرة المراكز التعليمية و.. يعطي دلالة على أننا ما زلنا في مرحلة لا ننتج فيها المعرفة، بل نستهلكها، وهذا ما سيفضي إلى كارثة محققة على المدى البعيد، وتاريخ الأمم الغابرة شاهد على ما نقول.
>قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ…<