إيمان شمس الدين
الفكر فعل يقوم به العقل والنفس وصورته الكلام ، وما أكثر الدعوة الإلهية في القرآن إلى التفكر وإعمال العقل ، لما للعقل من دور كبير في حركة الوعي الجوهرية، من داخل الذات إلى خارجها.
ويمثل الفكر ثقل وقوة تضاهي القوة العسكرية، كون منطقة اشتغالها الإنسان وخاصة عقله، فهي تُعنى بعملية الإدراك والوعي العقلي والنفسي، وتحاول عملية التفكير العقلي تجلية المفاهيم والحقائق، من خلال سلسلة عمليات استقرائية معرفية، والربط بينها والخروج بنتائج غالبا ما تكون شبه حتمية .
ولأهمية عملية التفكير والنظر، نجد هناك مراكز بحثية في أمريكا مثلا، هي عبارة عن مطابخ فكرية يشتغل في حقلها عدة مفكرين لا وظيفة لهم سوى التفكير والاستقراء والاستنتاج، ومن ثم رسم الاستراتيجيات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وتعتبر هذه المراكز البحثية، نواة محورية في مؤسسات الدولة، تتكئ عليها السياسات الداخلية والخارجية .
و كما يواجه الناس والدول والمجتمعات بالإرهاب العسكري، فأيضا هناك إرهاب يواجه به الفكر وله عدة أدوات، وتختلف مستويات الإرهاب الفكري باختلاف أيضا مستوياته ، فهناك إرهاب دولة، وإرهاب مؤسسة، وإرهاب إعلام وإرهاب أسري، وإرهاب اجتماعي وإرهاب المؤسسات الدينية ، وإرهاب نخبوي أو مثقفين، وإرهاب شعبوي.
وأخطر إرهاب من وجهة نظري، هو الإرهاب الديني المعنية به المؤسسات الدينية، ويستخدم به أداة جدا مهمة وحساسة وخطرة في ذات الوقت، وهي الفتوى ، لما للفتوى من أثر كبير في تحريك الجماهير، وتحشيدها وضرب كل إنتاجات العقل وحرقها، وفي طول ذلك من الممكن أن تضرب مشاريع الإصلاح والتغيير والتجديد الحقيقية .
وهناك أيضا إرهاب فكري بالفكر، حيث تلجأ اليوم بعض الدول العربية والإسلامية وخليجية خاصة، لتمويل مراكز فكرية، واجتذاب عقول فكرية معروفة لإدارتها، إلا أن الواقع جعل هذه المؤسسات الفكرية المعنية بالمعرفة والوعي، منصات تجسسية يتم من خلالها التآمر على دول أخرى والتجسس عليها.
ليصبح الفكر أداة للإرهاب ووسيلة للتآمر، بسبب المنتسبين إليه ، الذين تحالفوا مع هذه الدول، لامتلاكها المكنة المالية في تمويل مشاريعهم الفكرية، معتقدين بذلك أنهم يستخدمون تلك السلطات لتحقيق حركة وعي جماهيري، وبالتالي إحداث عمليات تغيير على المدى البعيد، متجاهلين أن الغاية لا يمكنها أن تبرر الوسيلة ، وأن أهداف النهضة والتغيير، لا يمكنها أن تتحقق بوسائل فاسدة و موال مسروقة من الشعوب. أو هم مثقفوا سلطة، يمتهنون مهنة الثقافة، و يستلمون في قبالها راتبا شهريا، ويبيعون المعرفة كسلعة استهلاكية، يملكون من خلالها سلطة ونفوذ ثقافي، يمكنهم من عقد مؤتمرات فكرية بعناوين مهمة، تتصدرها قضايا الفكر السياسي والديني، ولا يكون نتاج هذه المؤتمرات والندوات سوى عملية تخدير بالكلام، وإظهار الدول الراعية كدول داعمة للثقافة والفكر ، رغم حكم هذه الدول الاستبدادي، و البعيد عما يطرحه هؤلاء في مؤتمراتهم.
وهذه المراكز تصنع لهؤلاء سلطة ونفوذ تهيمن بها على الساحة الفكرية والثقافية، و ترهب بالفكر الأفكار المختلفة لمنهجها، أو ترهب بسلطتها وهيمنتها المؤسسات والشخصيات الفكرية المقابلة لها في المنهج. هذا فضلا عن امتلاك بعض هذه الشخصيات الفكرية المميزة سلطة معرفية تستخدمها لترهب بها الأقل معرفة والمخالف معرفيا لها. والعلم ليس سلطة بل وسيلة نهوض ورحمة.
وإعمال العقل بالأفكار حق يملكه كل إنسان ،ولكنه لا يملك الحق في ترويج هذه الأفكار كمسلمات نهائية أولا، ولا إقحامها في مجالات خارجة عن مناطق اشتغالها وهي الفكر والعقل ثانيا، كمن يحول فكرته مثلا إلى فتوى وهو ليس بفقيه، ولا يملك أدوات ولا مقومات الفقاهة ، نعم يمكنه عرض مشروعه الفكري على الفقيه، إذا ما تعلق مشروعه بالمنظومة الفقهية كتوصيف وتقييم ، ويمكنه عرض مشاريعه الفكرية الخاصة مثلا بقراءة التاريخ أو قراءة المجتمعات أو غيره، على متخصصين في كل علم، كي يبحروا من عالم الفكرة إلى عالم التطبيق والتفصيل في المجمل.
إلا أنه للأسف ما يحصل من قبل المفكرين، إما طرح الأفكار كمسلمات، رغم معرفتهم بتراكم العقل المعرفي ، أو إقحام أفكارهم من مستوى التوصيف والتفكير إلى تخصصات تفصيلية تطبيقية، لا يملكون أدواتها ولا التخصص بها.
وما يحدث بحق المفكرين وأفكارهم هو نوع من الإرهاب الفكري ، إما من النخب الحزبيين الذين يعمدون إلى استخدام أدوات شخصانية، يسقطون فيها الشخص بتهم تمس سمعته أو تدينه أو نزاهته، وبالتالي يسقط مشروعه الفكري ، أو من خلال فتاوى تضرب بوجوده ككل.
وبدل مناقشة الفكرة بالحجة والفكرة وإثراء العقل ، يكون الحل قتل الفكرة بقتل صاحبها اجتماعيا ودينيا ، وهذا ما يمكن تسميته الكسل العلمي .
ما نحتاجه وخاصة طبقة المثقفين والعلماء، هو ثقافة الخروج من الصناديق العقلية المغلقة ، دون المس بالثوابت المطلقة الحقيقية ، الخروج يوفر للعقل آفاق معرفية أكبر ويجعله منفتحا لمناقشة كل الأفكار، ليس كمسلمات وإنما أفكار تحرك العقل لتعيد النظر في الموروث والراهن، وتستطيع استشراف مستقبل أكثر إشراقا.
فلا يعنيني ثقافة ” الجمهور عايز كدة ” لأنها ثقافة شعبوية توهن العقل وتضيع الحقيقة وتدمر الحياة الإنسانية وتعيق حركة التطور والتنمية في كافة مجالاتها.
كما لا يعنيني بحجة تشييد مركز دراسات فكرية التعامل مع الشيطان، واستخدام وسائل فاسدة لتحقيق هذا الهدف.
كما أننا بحاجة ماسة للاستقلال الذاتي، بعيدا عن أموال السلطة، استقلالا يمكن المثقف والمفكر والمشتغل بالحقل المعرفي، أن يبني مشروعه المعرفي بعيدا عن الاستغلال السلطوي لأي جهة، وبعيدا عن تحويل المشروع لأداة للتخدير والتجهيل، وتحويل الفكر لوسيلة إرهاب بالفكر، تبهر الحواس بجمال وحسن الكلام، لكنها لا تحقق أي تغيير معرفي، ولا تحدث وعيا في عقول الناس يدفع باتجاه النهضة الشاملة.
ولتحقيق هذه الغاية وهي استقلال هذه المؤسسات الهامة، يتطلب منا إعادة بناء مفهوم العمل الخيري، الذي يرتكز في الذهنية العامة على بناء المساجد غالبا، رغم أن بناء الفكر وتوجيه العقل هو مقدمة لازمة حتى للصلاة التي يختص بها المسجد.
فالمعرفة بوابة ضرورية للعقل في فهم الله والكون والطبيعة.