إن من جملة ما أفضت إليه المتغيرات الحاصلة في العالم العربي هو وصول الإسلاميين إلى السلـطة، وصيرورتهم جزءاً من الأنظمة السياسية الناشـئة في العديد من البلدان العربية، ما أدى إلى تحــريك أكثر من جدل فكري ذي علاقة، يشارك فيه أكثر من طرف قومي وعلماني وليبرالي وإسلامي، يتناول مشروع الاسلامـيين وخطابهم ورؤيتهم المعاصـرة للدولة وأولوياتها ومجمل ما يرتبــط بها. ويتوزع هذا الجدل بين من يتوجس أو يشـكك أو ينتقد أو يؤيد أو يـرى ضــرورة أن يســهم في ترشيد هذا المشروع وتقــويم هذه التجربة.
عندما نأتي إلى النموذج المصري كمثال، نجد جملة من القضايا يتمحور حولها هذا الجدل، ومن ضمنها هوية هذه الدولة هل هي إسلامية، أم مدنية ذات مرجعية إسلامية… حيث انقسم الميدان بين فسطاطين: من يؤيد أن تكون دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، ومن يرفض تلك الاضافة، ليقتصر على مجرد أن تكون دولة مدنية تتعدد مصادر مرجعيتها.
وفي مساهمة لتصويب هذا النقاش الدائر، لا بد من القول ان جوهر الإشكالية لا يكمن في مجرد القول بالمرجعية الاسلامية وعدمه، بل في طبيعة الفهم لهذه المرجعية وللعصر الراهن والوصل بينهما، إذ ان الفهم للمرجعية الاسلامية ولظروف العصر، يتفاوت بين تطبيقات مختلفة جداً، حيث ينحو بعضها نحو التطرف، ويكاد يكون منسلخاً عن عصره، وقد يكون بعضها وسطياً يحاكي زمانه ويستجيب لعصره.
ان طبيعة الفهم للمرجعية الاسلامية يتفاوت بين من يملك القدرة على تلمس جوهر الدين والمنهجية الصحيحة القادرة على تكوين رؤية أصيلة ومنسجمة مع العصر، ومن يفتقد تلك القدرة، ويعاني من أكثر من خلل منهجي يجعله عاجزاً عن تكوين تلك الرؤية والقدرة على تطبيقها في اللحظة الراهنة.
ان ما نريده هو التشديد على ضرورة ان يتجاوز النقاش الاطار الشكلي أو العنواني أو الشعاراتي، إلى تحديد جملة من المعايير وتشخيص جملة من المعطيات، التي يمكن على أساسها الحكم على مشروع الإسلاميين ورؤيتهم لمختلف القضايا القائمة وكيفية التعامل معها، وبالتالي تحديد قدرة هذا المشروع على محاكاة القيم والمبادئ والأهداف الاسلامية الكبرى وعلى علاج القضايا الموجودة والتعامل مع الأزمات القائمة، ومن هنا سنعرض للنقاط الآتية:
1ـ ان مشروع الاسلاميين يجب أن يقوم على أساس مرجعيته الاسلامية، وعليه تطرح هذه الأسئلة حول قدرة هذ
المشروع على تلمس جوهر الأطروحة الاسلامية وأهدافها الاساسية، أم انه ينصرف عن ذلك إلى التركيز على جملة من المظــاهر والمفردات التي لا تعبر عن جوهر الأطروحة وأهدافها الأصيلة. فهل الأولوية بالنسبة اليه هي تحقيق العدالة أم الاستغراق في الاحــتفالات الدينية؟ هل الأولوية هي لتحقيق الاصلاح ومواجهة الفساد، أم التركيز على إطالة اللحى؟ هل الأولوية هي لمواجهة الفقر والمشاكل الاجتماعية المختلفة أم لتشجيع النساء على تغطية الوجوه؟ هل الأولوية لمواجهة الأمية والبطالة أم لتزيين الشوارع باللوحات الدينية؟ هل الأولوية لتحقيق التنمية الشاملة والعادلة، أم لدعــوة الشباب إلى قص الشارب وتقصير اللباس؟
ولذلك سيكون السؤال مطروحاً حول القيم والأهداف الأساسية التي على الإسلاميين التركيز عليها في مشروعهم السياسي ومشروعهم في الحكم، حيث شهدنا في عصرنا الحالي بعض الحركات الاسلامية التي استطاعت ان تغير الكثير من المظاهر الاجتماعية، ولكنها لم تستطع أن تعالج المشاكل الاجتماعية القائمة، أو انها استطاعت أن تغير في بعض السلوكيات واللغة الاجتماعية المستخدمة، لكنها كانت عاجزة عن مواجهة المشاكل الاقتصادية والأزمات الاجتماعية ومعرفة كيفيــة التعامل معها، أي إن الرؤية التي كانت لديهم كانت تمتاز بكثير من الظاهرية السياسية والشعاراتية في الطرح، في قبال كثير من الخــواء والضعف في ما يرتبط بمعالجة مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن القضايا السياسية من محلية أو إقليمية أو دولية وتكوين الرؤية حولها، وتحديد كيفية التعامل بناء على الأهداف والقيم الاسلامية العليا.
2ـ السؤال الثاني الذي يجب أن يطرح، هو حول قدرة الاسلاميين على قراءة الواقع قراءة صحيحة وعميقة وشاملة، وفي مختلف الميادين من اجتماعية وسياسية واقتصادية وغيرها، ومعرفة مشاكله وأزماته وفهم قضاياه واتجاهاته، والقدرة على الوقوف عند أية قضية أو أزمة، من حيث تحليل أسبابها وتلمس نتائجها وتفاعلها مع مختلف القضايا الأخرى، وتأثيرها فيـها أو تأثرها بها، وحول درايتهم بالواقع وتركيبته وتعقيداته من المحلي إلى الإقليمي إلى الدولي، والقوى القائمة وأهدافها ومشاريعها وخططها وكيفية التعامل معها، وبالتالي كيف يجب التعامل مع مجمل هذا الواقع بمختلف قضاياه وجوانبه، بطريقة حكيمة وبأسلوب سديد، يؤدي إلى تحقيق القيم والمبادئ والأهداف الكبرى، بأفضل مستوى ممكن ومدى متاح.
ان تحقيق الاسلاميين المشروع السياسي والاجتماعي، لا يقتصر فقـط على فهم المرجعية الاسلامية فهماً صحيحاً وأصيلاً، وعلى امتلاك المنهجية الصحيحة وحسن توظيفها، بل يتوقف أيضا ـ بالاضــافة إلى ما تقدم ـ على فهم الواقع القائم فهـماً صحيحاً بمجمل تعقيداته وتحولاته ومفرداته وعلاقاته، وفي مخـتلف مجـالات ذلك الواقع. لأن المطلوب هو تطبيق ذلك المشروع على هذا الواقع، وعليه ما لم يكن هناك فهم صحيح للواقع وقراءة صحيحة لمعطياته، لا يمكن عندها تطبــيق ذلك المشروع بطريقة تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي يتوخاها وإلى تسييل القيم التي يتبناها. بل ان القراءة الخاطئة للواقع وعدم معرفته بدقة يؤديان في العديد من الأحيان إلى الوصول إلى نتائج خلاف ما كان يبتغيه المشروع، وإلى بلوغ أهداف ليست مدرجة في قائمته وغاياته، إذا لم تكن مخالفة لما تحتويها.
على سبيل المثال ان العدل هو جوهر المشروع الاسلامي، الذي ينبغي أن يعمل على تحقيقه وتسييله في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات، بحيث انه كلـما اقـترب ذلك المشروع من تحقيق العدل كلـما اقترب من إسلاميته، وكلما ابتـعد عن تحقـيق العدل كلما ابتعد عن إسلاميته. ولنفرض ان ذلك المشروع لم يكـن لديه إشكـالية نظرية في ذلك، ولكن كانت مشكـلته في فهـمه للواقع الاقتصـادي والاجتــماعي مثلاً. فإن هذا الأمر قد يؤدي إلى أكـثر من خـلل في توزيع الثروات الوطنية أو في السياسات الضريبية أو السياسات الاقتصادية وغـير ذلك، ما يؤدي إلى حصول أكثر من ظلم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وإلى أكثر من تعثر في تطبيق مفهوم العدالة اجتماعياً واقتصادياً.
هنا المشكلة لم تكن في الرؤية وصناعة المشروع، ولا في المنهــجية المعــتمدة لذلك، بل كـانت في مكــان آخر هو الواقــع، في فهمه والدراية به، إذ ان أي خلل في ذلك الفهم، سيـؤدي إلى أكثر مـن خلـل في تحديد الموضوعات والمصاديق الواقعية التي تنطبق عليها المفاهيم التي يحملها ذلك المشروع.
3ـ ان تحقيق المشروع الاسلامي تحقيقاً هادفاً وصحيـحاً لا يتـوقف فـقط على فـهم كل من المرجعية الاسلامية والواقع المعاصر فهماً صحـيحاً، بل يحـتاج بالاـضافة إلى ذلك إلى توافر القدرة على تحقـيق ذلك الوصل بين المشروع والواقع، والقدرة على تحقيق الأهداف التي يحملــها ذلك المشروع، وعلى تسييل القيم والمبادئ التي يتضمنها. لأن إشكـالية التطبـيق وحسـنه ليـست مجرد إشكالية معرفية، بل هي بالإضافة إلى ذلك إشكالية ترتبط بمدى التماهي مع تلك القيم والانصهار في تلك المبادئ ومدى الايمان بها.
لو أخذنا على سبيل المثال قضية العدالة بما هي هدف أساس في المشروع الاسلامي، فإنه لا يكفي ان نعرف مطلوبية العدالة في الرؤية الاسلامية، ونجيد قراءة الواقع المنوي تحقيق العدالة فيه، بل سيطرح السؤال حول: كم تماهى أهل الحكم مع قيم العدل، وكم استطاعوا أن يبنوا في أنفسهم تفكيراً عادلاً وتقييماً عادلاً، وكم تحققت قيم العدالة في أنفسهم حتى يستطيعوا تحقيقها في المجتمع؟
ان بعض الحركات أو الجماعات الاسلامية قد تغوص في المظاهر وتستغرق في الاشكاليات، بطريقة تنتقص فيها من أهمية الاعداد القيمي والتربية على القيم الروحية والاجتماعية، مع ما لذلك الاعداد من نتيجة تتمثل في توفير القدرة على تحـقيق تلك القيم وحسن تطبيقها في المجتمع وبين الناس. وهو ليس بالشرط السهل توافره حيث لا يقتصر الأمر على بعض التغيير في الشكل أو المظهر أو طريقة التخاطب، حتى تتوافر القدرة على تحقيق القيم الاسلامية في ميادينها المختلفة، فما لم يكن هناك إعداد كاف على المستوى القيمي والثقافي، وما لم يكن هناك تربية وافية على جميع القيم والمفاهيم الاجتماعية والأخلاقية والروحية، فلن يكون هناك نجاح في تحقيق تلك القيم الاسلامية.
4ـ ما ينبغي الوقوف عنده أيضا مليا هو موقف الاسلاميين من الآخر الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي… فهل منهجهم الانفتاح والتواصل والتعاون والمشاركة مع كل من لديه استعداد لذلك، خدمة للأهداف والقيم العليا في الدين والاسلام، من العدل والاصلاح وغير ذلك، ام ان منهجهم القطع والقطيعة مع كل من يختلف معهم في رأي أو آخر، هل هم مستعدون لكلمة سواء في الوطن والأمة والمصلحة العليا للبلاد والمصالح القومية والاسلامية للأمة، ام انهم يؤخذون بصغائر الأمور وظواهرها، ليبنوا عليها مواقفهم من الآخر نفوراً ورفضاً وقطيعة وإقصاء؟ هل ينظرون إلى الآخر من منظار القيم والأهداف والرؤى التي تحقق مصالح الشعب والأمة، من القسط والتنمية الشاملة والمستديمة في كل الميادين، بناء على تأصيل رؤيوي لمفهوم التنمية ومساراتها، أم أن أدنى اختلاف مع الآخر يتحول لديهم إلى دافع للإضرار بالمصالح الوطنية والقومية والاسلامية؟
ان هذه الأسئلة مشــروعة ومطــروحة بقوة، لأن تجارب بعض الحـركات والجماعـات الاسلاميــة لم تكن مشـجعة على الاطلاق في هذا المجال، حيــث كان الغالب عليها وعلى أدائهــا ثقــافـة التفـريق لا الجمـع، والشـقاق لا الاتـفاق، والتـــنابذ لا التعـاون، والتـقاطع لا التواصل، إما لخلل في فهمها الديني ومنهجــيته المعتـمدة، أو في فهمــها للآخــر، أو في فهم الواقع، أو في مجمل ذلك، أو جميعه.
ان ما نريد التشديد عليه ان كلــمة سواء في القيم والأهداف العليا، يمكن ان تكــون محل التقاء بين الاسلاميين ومشروعهم من جهة، وبين غيرهم من قوميين ويساريين وعلمانيين من جهة أخرى. وحـتى أولئك الذين قد يختلـفون معهــم في الدين أو المذهب أو الفكر أو السياسة، قد لا يكون الاسلاميون أكثر حرصاً منهم على تحـقيق تلك القيــم والمـبادئ، من الاصــلاح ومواجهة الفساد، وتحقيق العدل بأوسع معانيه، ومواجهة الظلم ليس كمفهوم تجريـدي، بل كمفهــوم اجتـماعي في مختلف ميادين الاجتـماع الانســاني، بل قد لا أكون مبالغاً إذا قلت انـه من الممــكن ان تجد من غير الاسلاميين من هو أقرب إلى تحقيق العدل والاصلاح ورفع الظــلم والافساد ـ ولو في بعض المجالات أو الأزمنة ـ من بعض الحـركات التي ينتمــي أفرادها إلى الاسلام والتي أخفقت في تسييل تلك القيم والمبادئ في مشروعها السياسي والاجتماعي.
عندما نأتي إلى النموذج المصري كمثال، نجد جملة من القضايا يتمحور حولها هذا الجدل، ومن ضمنها هوية هذه الدولة هل هي إسلامية، أم مدنية ذات مرجعية إسلامية… حيث انقسم الميدان بين فسطاطين: من يؤيد أن تكون دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، ومن يرفض تلك الاضافة، ليقتصر على مجرد أن تكون دولة مدنية تتعدد مصادر مرجعيتها.
وفي مساهمة لتصويب هذا النقاش الدائر، لا بد من القول ان جوهر الإشكالية لا يكمن في مجرد القول بالمرجعية الاسلامية وعدمه، بل في طبيعة الفهم لهذه المرجعية وللعصر الراهن والوصل بينهما، إذ ان الفهم للمرجعية الاسلامية ولظروف العصر، يتفاوت بين تطبيقات مختلفة جداً، حيث ينحو بعضها نحو التطرف، ويكاد يكون منسلخاً عن عصره، وقد يكون بعضها وسطياً يحاكي زمانه ويستجيب لعصره.
ان طبيعة الفهم للمرجعية الاسلامية يتفاوت بين من يملك القدرة على تلمس جوهر الدين والمنهجية الصحيحة القادرة على تكوين رؤية أصيلة ومنسجمة مع العصر، ومن يفتقد تلك القدرة، ويعاني من أكثر من خلل منهجي يجعله عاجزاً عن تكوين تلك الرؤية والقدرة على تطبيقها في اللحظة الراهنة.
ان ما نريده هو التشديد على ضرورة ان يتجاوز النقاش الاطار الشكلي أو العنواني أو الشعاراتي، إلى تحديد جملة من المعايير وتشخيص جملة من المعطيات، التي يمكن على أساسها الحكم على مشروع الإسلاميين ورؤيتهم لمختلف القضايا القائمة وكيفية التعامل معها، وبالتالي تحديد قدرة هذا المشروع على محاكاة القيم والمبادئ والأهداف الاسلامية الكبرى وعلى علاج القضايا الموجودة والتعامل مع الأزمات القائمة، ومن هنا سنعرض للنقاط الآتية:
1ـ ان مشروع الاسلاميين يجب أن يقوم على أساس مرجعيته الاسلامية، وعليه تطرح هذه الأسئلة حول قدرة هذ
المشروع على تلمس جوهر الأطروحة الاسلامية وأهدافها الاساسية، أم انه ينصرف عن ذلك إلى التركيز على جملة من المظــاهر والمفردات التي لا تعبر عن جوهر الأطروحة وأهدافها الأصيلة. فهل الأولوية بالنسبة اليه هي تحقيق العدالة أم الاستغراق في الاحــتفالات الدينية؟ هل الأولوية هي لتحقيق الاصلاح ومواجهة الفساد، أم التركيز على إطالة اللحى؟ هل الأولوية هي لمواجهة الفقر والمشاكل الاجتماعية المختلفة أم لتشجيع النساء على تغطية الوجوه؟ هل الأولوية لمواجهة الأمية والبطالة أم لتزيين الشوارع باللوحات الدينية؟ هل الأولوية لتحقيق التنمية الشاملة والعادلة، أم لدعــوة الشباب إلى قص الشارب وتقصير اللباس؟
ولذلك سيكون السؤال مطروحاً حول القيم والأهداف الأساسية التي على الإسلاميين التركيز عليها في مشروعهم السياسي ومشروعهم في الحكم، حيث شهدنا في عصرنا الحالي بعض الحركات الاسلامية التي استطاعت ان تغير الكثير من المظاهر الاجتماعية، ولكنها لم تستطع أن تعالج المشاكل الاجتماعية القائمة، أو انها استطاعت أن تغير في بعض السلوكيات واللغة الاجتماعية المستخدمة، لكنها كانت عاجزة عن مواجهة المشاكل الاقتصادية والأزمات الاجتماعية ومعرفة كيفيــة التعامل معها، أي إن الرؤية التي كانت لديهم كانت تمتاز بكثير من الظاهرية السياسية والشعاراتية في الطرح، في قبال كثير من الخــواء والضعف في ما يرتبط بمعالجة مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن القضايا السياسية من محلية أو إقليمية أو دولية وتكوين الرؤية حولها، وتحديد كيفية التعامل بناء على الأهداف والقيم الاسلامية العليا.
2ـ السؤال الثاني الذي يجب أن يطرح، هو حول قدرة الاسلاميين على قراءة الواقع قراءة صحيحة وعميقة وشاملة، وفي مختلف الميادين من اجتماعية وسياسية واقتصادية وغيرها، ومعرفة مشاكله وأزماته وفهم قضاياه واتجاهاته، والقدرة على الوقوف عند أية قضية أو أزمة، من حيث تحليل أسبابها وتلمس نتائجها وتفاعلها مع مختلف القضايا الأخرى، وتأثيرها فيـها أو تأثرها بها، وحول درايتهم بالواقع وتركيبته وتعقيداته من المحلي إلى الإقليمي إلى الدولي، والقوى القائمة وأهدافها ومشاريعها وخططها وكيفية التعامل معها، وبالتالي كيف يجب التعامل مع مجمل هذا الواقع بمختلف قضاياه وجوانبه، بطريقة حكيمة وبأسلوب سديد، يؤدي إلى تحقيق القيم والمبادئ والأهداف الكبرى، بأفضل مستوى ممكن ومدى متاح.
ان تحقيق الاسلاميين المشروع السياسي والاجتماعي، لا يقتصر فقـط على فهم المرجعية الاسلامية فهماً صحيحاً وأصيلاً، وعلى امتلاك المنهجية الصحيحة وحسن توظيفها، بل يتوقف أيضا ـ بالاضــافة إلى ما تقدم ـ على فهم الواقع القائم فهـماً صحيحاً بمجمل تعقيداته وتحولاته ومفرداته وعلاقاته، وفي مخـتلف مجـالات ذلك الواقع. لأن المطلوب هو تطبيق ذلك المشروع على هذا الواقع، وعليه ما لم يكن هناك فهم صحيح للواقع وقراءة صحيحة لمعطياته، لا يمكن عندها تطبــيق ذلك المشروع بطريقة تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي يتوخاها وإلى تسييل القيم التي يتبناها. بل ان القراءة الخاطئة للواقع وعدم معرفته بدقة يؤديان في العديد من الأحيان إلى الوصول إلى نتائج خلاف ما كان يبتغيه المشروع، وإلى بلوغ أهداف ليست مدرجة في قائمته وغاياته، إذا لم تكن مخالفة لما تحتويها.
على سبيل المثال ان العدل هو جوهر المشروع الاسلامي، الذي ينبغي أن يعمل على تحقيقه وتسييله في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات، بحيث انه كلـما اقـترب ذلك المشروع من تحقيق العدل كلـما اقترب من إسلاميته، وكلما ابتـعد عن تحقـيق العدل كلما ابتعد عن إسلاميته. ولنفرض ان ذلك المشروع لم يكـن لديه إشكـالية نظرية في ذلك، ولكن كانت مشكـلته في فهـمه للواقع الاقتصـادي والاجتــماعي مثلاً. فإن هذا الأمر قد يؤدي إلى أكـثر من خـلل في توزيع الثروات الوطنية أو في السياسات الضريبية أو السياسات الاقتصادية وغـير ذلك، ما يؤدي إلى حصول أكثر من ظلم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وإلى أكثر من تعثر في تطبيق مفهوم العدالة اجتماعياً واقتصادياً.
هنا المشكلة لم تكن في الرؤية وصناعة المشروع، ولا في المنهــجية المعــتمدة لذلك، بل كـانت في مكــان آخر هو الواقــع، في فهمه والدراية به، إذ ان أي خلل في ذلك الفهم، سيـؤدي إلى أكثر مـن خلـل في تحديد الموضوعات والمصاديق الواقعية التي تنطبق عليها المفاهيم التي يحملها ذلك المشروع.
3ـ ان تحقيق المشروع الاسلامي تحقيقاً هادفاً وصحيـحاً لا يتـوقف فـقط على فـهم كل من المرجعية الاسلامية والواقع المعاصر فهماً صحـيحاً، بل يحـتاج بالاـضافة إلى ذلك إلى توافر القدرة على تحقـيق ذلك الوصل بين المشروع والواقع، والقدرة على تحقيق الأهداف التي يحملــها ذلك المشروع، وعلى تسييل القيم والمبادئ التي يتضمنها. لأن إشكـالية التطبـيق وحسـنه ليـست مجرد إشكالية معرفية، بل هي بالإضافة إلى ذلك إشكالية ترتبط بمدى التماهي مع تلك القيم والانصهار في تلك المبادئ ومدى الايمان بها.
لو أخذنا على سبيل المثال قضية العدالة بما هي هدف أساس في المشروع الاسلامي، فإنه لا يكفي ان نعرف مطلوبية العدالة في الرؤية الاسلامية، ونجيد قراءة الواقع المنوي تحقيق العدالة فيه، بل سيطرح السؤال حول: كم تماهى أهل الحكم مع قيم العدل، وكم استطاعوا أن يبنوا في أنفسهم تفكيراً عادلاً وتقييماً عادلاً، وكم تحققت قيم العدالة في أنفسهم حتى يستطيعوا تحقيقها في المجتمع؟
ان بعض الحركات أو الجماعات الاسلامية قد تغوص في المظاهر وتستغرق في الاشكاليات، بطريقة تنتقص فيها من أهمية الاعداد القيمي والتربية على القيم الروحية والاجتماعية، مع ما لذلك الاعداد من نتيجة تتمثل في توفير القدرة على تحـقيق تلك القيم وحسن تطبيقها في المجتمع وبين الناس. وهو ليس بالشرط السهل توافره حيث لا يقتصر الأمر على بعض التغيير في الشكل أو المظهر أو طريقة التخاطب، حتى تتوافر القدرة على تحقيق القيم الاسلامية في ميادينها المختلفة، فما لم يكن هناك إعداد كاف على المستوى القيمي والثقافي، وما لم يكن هناك تربية وافية على جميع القيم والمفاهيم الاجتماعية والأخلاقية والروحية، فلن يكون هناك نجاح في تحقيق تلك القيم الاسلامية.
4ـ ما ينبغي الوقوف عنده أيضا مليا هو موقف الاسلاميين من الآخر الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي… فهل منهجهم الانفتاح والتواصل والتعاون والمشاركة مع كل من لديه استعداد لذلك، خدمة للأهداف والقيم العليا في الدين والاسلام، من العدل والاصلاح وغير ذلك، ام ان منهجهم القطع والقطيعة مع كل من يختلف معهم في رأي أو آخر، هل هم مستعدون لكلمة سواء في الوطن والأمة والمصلحة العليا للبلاد والمصالح القومية والاسلامية للأمة، ام انهم يؤخذون بصغائر الأمور وظواهرها، ليبنوا عليها مواقفهم من الآخر نفوراً ورفضاً وقطيعة وإقصاء؟ هل ينظرون إلى الآخر من منظار القيم والأهداف والرؤى التي تحقق مصالح الشعب والأمة، من القسط والتنمية الشاملة والمستديمة في كل الميادين، بناء على تأصيل رؤيوي لمفهوم التنمية ومساراتها، أم أن أدنى اختلاف مع الآخر يتحول لديهم إلى دافع للإضرار بالمصالح الوطنية والقومية والاسلامية؟
ان هذه الأسئلة مشــروعة ومطــروحة بقوة، لأن تجارب بعض الحـركات والجماعـات الاسلاميــة لم تكن مشـجعة على الاطلاق في هذا المجال، حيــث كان الغالب عليها وعلى أدائهــا ثقــافـة التفـريق لا الجمـع، والشـقاق لا الاتـفاق، والتـــنابذ لا التعـاون، والتـقاطع لا التواصل، إما لخلل في فهمها الديني ومنهجــيته المعتـمدة، أو في فهمــها للآخــر، أو في فهم الواقع، أو في مجمل ذلك، أو جميعه.
ان ما نريد التشديد عليه ان كلــمة سواء في القيم والأهداف العليا، يمكن ان تكــون محل التقاء بين الاسلاميين ومشروعهم من جهة، وبين غيرهم من قوميين ويساريين وعلمانيين من جهة أخرى. وحـتى أولئك الذين قد يختلـفون معهــم في الدين أو المذهب أو الفكر أو السياسة، قد لا يكون الاسلاميون أكثر حرصاً منهم على تحـقيق تلك القيــم والمـبادئ، من الاصــلاح ومواجهة الفساد، وتحقيق العدل بأوسع معانيه، ومواجهة الظلم ليس كمفهوم تجريـدي، بل كمفهــوم اجتـماعي في مختلف ميادين الاجتـماع الانســاني، بل قد لا أكون مبالغاً إذا قلت انـه من الممــكن ان تجد من غير الاسلاميين من هو أقرب إلى تحقيق العدل والاصلاح ورفع الظــلم والافساد ـ ولو في بعض المجالات أو الأزمنة ـ من بعض الحـركات التي ينتمــي أفرادها إلى الاسلام والتي أخفقت في تسييل تلك القيم والمبادئ في مشروعها السياسي والاجتماعي.