شهد العالم الإسلامي منذ أواسط القرن التاسع عشر حركات نهوض وإصلاح وإحياء، تسارعت وتائرها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وما تزال مستمرةً إلى يومنا هذا.
ولا شك أنّ مقولات النهضة والإصلاح والإحياء ظلّت تلاحق المفكّرين المسلمين طيلة هذين القرنين، وقد حُقّقت إنجازات كبرى على هذا الصعيد، وقدّمت أفكار وتصورات ونُظُم سعت لسدّ الثغرات، وحلّ المشكلات، وإصلاح الأوضاع… وقد تعرّض المصلحون الدينيون في الساحة الإسلاميّة خلال هذه المدّة للكثير من الظلم والقمع والإقصاء والتهميش والتهشيم، لكنّهم ظلّوا في غالب الحالات صامدين بوجه الهزّات والزلازل، التي كان يصنعها خصومهم على الدوام في الداخل والخارج، وقدّموا قوافل من المضحّين في سبيل الرقيّ بالأمّة الإسلامية، دون تقصير أو تخاذل.
لكن رغم ذلك كلّه، ورغم جهود مضنية لا يقدر القلم ولا اللسان على وصفها، إلا أنّ أغلب حركات النهوض وتيارات الإصلاح ـ وبين النهوض والإصلاح تواصل وتقاطع ـ عانت من إخفاقات كبرى، ويشهد على ذلك أنّ العالم الإسلامي مازال يعاني إلى يومنا هذا من الكثير من المشاكل الداخليّة والذاتية على شتى الصعد، وهذا ما يشي ببقاء حالة التخلّف والتراجع تنخر في عظام هذه الأمّة رغم قرابة القرن ونصف القرن من انطلاقة مشروع النهضة والإصلاح مع خير الدين التونسيّ، ورفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغانيّ، وغيرهم.
لماذا حصلت الإخفاقات في مشروع النهوض والإصلاح؟ ولماذا لم تنجح كلّ هذه الجهود الهائلة؟ لماذا تراوح الأمّة مكانها على غير صعيد؟ تتقدّم هنا وتتأخَّر هناك، تنجح تارةً وتتعثَّر بها الخطى تارةً أخرى!!
الجواب عن هذا السؤال أصعب مما يتصوّره أيّ باحث أو مفكّر. يجب أن نبدي تواضعاً ملموساً أمام هذا السؤال، لكن يحقّ لعقلٍ يرغب في التفكير أن يضيء على بعض أسباب الإخفاق، علّ ذلك يشكّل سبباً ومفتاحاً معاً لتحقّق المزيد من التقدّم والتسامي.
من الطبيعي أنّ حركات الإصلاح والنهوض الإسلاميين ـ وهما موضوع حديثنا ـ واجهت إشكاليات موضوعيّة؛ وأخرى ذاتية، أي إنّ بعض المشكلات جاءتها من الخارج، من قبيل: القمع المفرط للسلطات السياسيّة، التي مارس بعضها عهراً سياسيّاً وسلطويّاً، وظلماً وبطشاً، لا تتصوّره الدنيا، ولا تقدر أكبر حركة إصلاح في العالم أن تواجهه؛ لأنه يخترق كل المعايير والموازين، ويطيح بكل قواعد اللعبة، فكيف يتحاور العالم مع الجاهل؟! أم كيف ينجز العاقل مهمّاته مع مجنون لا ضوابط له، وبيده المقدّرات كلّها؟!
يجب أن نقرّ بدايةً، وقبل كل شيء، أنّ أوضاعاً قاسية من هذا النوع عانت منها حركات إصلاح دينيّ ونهوض إسلاميّ في غير مكان من عالمنا العربيّ والإسلاميّ، وعلينا أن ننصف هذه الحركات التي بذلت قصارى جهدها لمواجهة الواقع المأزوم، لكنها لم تقدر على فعل شيء يُذكر؛ للأسباب التي أشرنا إليها، فليس معيار النجاح دائماً في تحقيق الأهداف المرجوّة بقدر ما هو في القيام بكلّ الخطوات الممكنة في ظل الظروف الموضوعيّة بطريقة سليمة، وأظنّ أنّ الظروفَ الموضوعيّةَ التي أحاطت بحركات النهوض والإصلاح في الأمّة، وأدّت إلى فشل الكثير من مشاريعها، وحصول حالة الترنّح فيها، تظلّ مسؤولةً عن الكثير من مظاهر الإخفاق التي نتحدّث عنها.
ومع ذلك ثمة إشكاليات تعاني منها حركات الإصلاح الإسلاميّ، تمثل مشكلات داخلية ذاتية، أي نقصاً في الحركة نفسها، بصرف النظر عن الظروف الموضوعيّة القاهرة، ويحلو لي أن أشير إلى بعض هذه النواقص والإشكاليات، التي ما زلنا نشهد حضورها داخل حركات الإصلاح الإسلاميّ.
وعندما أتحدّث عن هذه الإشكاليات، فلا أقصد أنّ كلّ حركات الإصلاح الإسلاميّ تورّطت فيها جميعها؛ بل قد تتوزَّع هذه الإشكاليات بين حركات الإصلاح، كما لا أقصد بحركات الإصلاح تياراً خاصاً، بل مجمل التيارات التي رفعت شعار إصلاح الوضع الإسلاميّ على اختلافها المذهبيّ والقوميّ والفكريّ، من موقع ما أعلنته من حرص على هذا الوضع، حتى لو كان بين هذه التيارات خصام وخلاف، بل سيفٌ وتكفيرٌ.
1ــ الإصلاح الإسلامي بين الوعي والأمّية السياسيّة والأمنيّة
يعيش المثقَّف المسلم مثاليّته المفرطة. إنه ينطلق من الصدق في إصلاح الأمور، ومن تحرّقه على الواقع المأساويّ القائم في عالمه الإسلامي. إنه راغب بصدق وإخلاص للوقوف على حلٍّ للمأزق الذي تعاني منه أمّته؛ لهذا فهو ينطلق من موقع الحرص والإيمان والإرادة الصادقة لعمل شيء مختلف، يمكنه أن يحدث تغييراً في مكانٍ ما.
ولكنّه لا ينتبه أثناء إصلاح المسيرة الفكريّة إلى أنّ الواقع أكثر تعقيداً وسوءاً من تصوّره، وأنّ العالم لا يبنى من أفكار فحسب، وإنما من لبنات واقعيّة خارج العقل البشري، إنّ حماسه يدفعه للانطلاق، لكنه لا يعرف أن كلّ مشروعه وحركته المخلصة قد تقع فريسةً لأجهزة مخابراتيّة تلعب بمشروعه في سياق الصراعات السياسيّة، قد يظنّ أن مشروعه ينجح؛ لأنه يحتوي العناصر اللازمة، ولا يدري أن نجاح مشروعه لفترةٍ ما كان لأنّ هذه السلطة أو تلك تنفخ فيه؛ ليكون أكياس رمل في مواجهة تيار آخر، فتضرب الإخوانيّة بالسلفيّة، وتفتِّت التطرُّف بالتصوُّف، وهكذا، وإذا انتهت ترتدّ سلطة الواقع عليهم جميعاً، فلا يلبثون ـ دون أن يكونوا متهيّئين ـ أن يسقطوا دفعةً واحدةً.
يندفع المثقَّف المسلم لإصلاح الأمور بدون خبرة سياسيّة، ولا أمنية، فيكشف أوراقه كلّها دون أن يدري أن هناك حيتاناً تتربّص به، يلعب الغرب المخابراتيّ لعبته هنا أيضاً، يظنّ مثقَّفنا أنه يسعى في التعاون مع مؤسّسات ثقافيّة، ولا يدري أن شركاً يُنصب له!!
إنّ هذا اللاوعي السياسيّ والأمنيّ، الذي تعاني منه بعض حركات الإصلاح الإسلامي، وعدم وعيها للأحجام الأخرى الموجودة على أرض الواقع..، ذلك كلّه يسقطها بعد ولادتها مباشرةً، فتغدو فريسةً سهلةً للنافذين الذين يملكون سلطة الواقع السياسيّة أو الأمنيّة أو الدينيّة أو الماليّة أو الاجتماعيّة، ولعلّ في تجربة الحركة الدستوريّة (المشروطة والمستبدّة) مطلع القرن العشرين الكثير من الشواهد على ما نقول، حيث أدّى ضعف الوعي والخبرة السياسيّين إلى قدرة التيارات غير الإسلاميّة على الإمساك بالمشروع، والإطاحة بأعمال الروّاد الأوائل الذين أطلقوه، مما دفع بعض رموز الحركة الدستوريّة ـ في ما يبدو ـ إلى الشعور باليأس، واعتزال العمل السياسيّ، مثل: الميرزا النائينيّ، وغيره، هذا إلى جانب بعض الحركات العلمانيّة المعاصرة.
ومن هنا، كان من الضروري رفع مستوى الوعي السياسيّ والأمنيّ و.. عند المفكِّر المسلم، لا ليعيش قلقاً أمنيّاً يعيق حركته، أو إحساساً بأنه محاصَرٌ على الدوام بما يعطِّل مشاريعه، بل ليملك حسّاً أمنيّاً وفهماً سياسيّاً، يجعله قادراً على تحريك أوراقه ضمن مبادئه وقِيَمه العليا، تحت مظلّة الواقع؛ ليتحرّك في دائرة الممكن، وليس فقط في مثاليّة الماينبغي.
إنّ الوعي السياسيّ والأمنيّ عند الحركات الثقافيّة الإصلاحيّة يدفعها إلى تعديل خطابها بطريقة واقعيّة، فتنتقل من مرحلة مجرّد اكتشاف الحقائق وبيانها إلى مرحلة تداول الحقيقة بما يخدمها، فعندما أريدُ إجراء تعديل في المفاهيم المذهبيّة في مكانٍ ما فإنّ وجود خصمٍ خارجيٍّ يدفعُ إلى المزيد من التدقيق في نوعيّة خطابي؛ لأنّ الخصم قد يستفيد منه بحيث أتحوّل داخل مجتمعي إلى ورقة مفيدة له، وهذا ما قد يعود بالضرر على المشروع الإصلاحيّ نفسه، وذلك عندما تستخدم هذه الحالة ورقة تشويه ضدّ الحركة الإصلاحيّة في داخل المحيط الذي تعيش فيه. وطبعاً هذا لا يعني توقُّف الإصلاح، وإنّما بذل جهود مضاعفة في التركيز على إنتاج خطاب ذكيّ يمكنه أن يمسك العصا من الوسط، حتّى لا ينهار لهذه الناحية أو تلك.
ومن هنا تحتاج الحركات الإصلاحية ـ ولاسيما تلك المختصّة بالمجال الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ ـ لوعي المحيط السياسيّ وعياً دقيقاً، والقيام بمتابعات سياسيّة دائمة، والاطّلاع على العمل المخابراتيّ، وتجارب حركات الإصلاح السابقة التي وقعت ضحيّةً له.
والملاحظ أنّ تيارات الإصلاح الفكريّ والثقافيّ قد تكون غابت عنها هذه الناحية؛ وربما يكون السبب في ذلك أنّ حركات الإصلاح الفكريّ صارت تعيش رفضاً لفكرة المؤامرة، التي طالما روّج لها السلطويّون في العالم الإسلاميّ؛ لحفظ مناصبهم، ونتيجة ذلك أنّه تمّ استبعاد منطق المؤامرة عن وعي المثقَّف، لكن هذا الاستبعاد كان شاملاً، مع أنّه كان من المطلوب أن يكون نسبيّاً؛ لأنّ المؤامرة حقيقة واقعة في ظلّ حال العالم الإسلاميّ اليوم، فهذا التغييب الذي جاء بوصفه ردّ فعل أدّى في امتداداته السلبيّة إلى غياب الحسّ السياسيّ والأمنيّ عن عمل المثقَّف المسلم؛ الأمر الذي بات يضطرّه اليوم إلى إعادة قراءة لهذا الموضوع بطريقة متوازنة.
انطلقت بعض من حركات النهضة والإصلاح الإسلاميّين من فراغ معرفيّ واضح، رغم أنها حملت مفاهيم صحيحة ومهمّة في آنٍ، لكنّ عدم تركيزها على الجانب العلميّ لتخريج كوادر مفكِّرة ومثقَّفة، قادرة على الحضور في المحافل العلميّة لمواجهة التيارات الأخرى وإثبات ذاتها أمامها..، أدّى بها يوماً بعد آخر إلى السطحيّة، وتخريج أنصاف مثقَّفين وأرباع مثقَّفين، ومن ثَمَّ انحصر بعضها في أن يكون حزباً سياسيّاً بامتياز، لا يحمل عمقاً فكريّاً وثقافيّاً، أو غدا جزءاً من بروتوكولٍ اجتماعيٍّ أو فولكلورٍ شعبيٍّ.
ولعلّ أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك أنّ حركات الإصلاح في المجتمعات يغلب أن تخرج من أوساط الشباب الصاعد الذي يتحمّس لها، فيما يرفضها الآخرون، الذين كانوا قد بنوا أوضاعهم ونفوذهم في ظلّ الوضع السابق، فلا يتفاعلون معها، من موقع الخوف ـ في كثير من الأحيان ـ على المنجزات الشخصيّة التي حقّقوها، ولهذا عندما تستهلك الحركة الإصلاحيّة جهود الشباب الصاعد المتحمِّس تتضاءل الفرص لتكوين كوادر مثقَّفة في المرحلة الأولى على الأقلّ، فغياب العلماء والمفكّرين الناجزين عن مواكبة حركات الإصلاح يفرض على حركة الإصلاح أحياناً الاستعاضة عنهم بجيل مقتنع بالمشروع، ولكنّه لا يملك نفس المقوِّمات التي يملكها الآخرون، وهنا يتمّ تخفيض سقف الشروط المطلوبة في الكادر العلميّ والثقافيّ للحركة الإصلاحيّة، انطلاقاً من التعامل وفقاً لقواعد الممكن.
لكنّ قيام شخصيات غير مفكِّرة بالإمساك بزمام نهضات كبرى قدّم المشاريع النهضويّة مشاريع عملانية وميدانية تلاحق الأوضاع السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والاجتماعيّة، دون أن تملك عمقاً فكريّاً وامتداداً ثقافيّاً ورؤية إستراتيجيّة، لهذا طغى فيها السياسيّ على الدينيّ، والاجتماعيّ على الثقافيّ، فغرقت وأغرقت في تسطيح الوعي، وتبسيط القضايا الفكريّة والثقافيّة. وعندما كانت تقع المواجهة بين الجيل الإصلاحيّ والنخب العلميّة والفكريّة القديمة كان هذا الجيل يعمد ـ أحياناً ـ إلى استخدام العنف، والسعي لجعل القضايا الفكريّة ـ مثل: المؤسّسة الدينيّة، والمرجعيّة العلميّة ـ تحت ضغط الواقع الذي تصنعه الحركة الإصلاحيّة.
في وضعٍ من هذا النوع صار السياسيّ يملك القرار، والمثقَّف مجرّد بوقٍ إعلاميٍّ لـه، وصار رجل العسكر صاحب الكلمة المتفرِّدة، فيما غدا المثقَّف مهمَّشاً مهشَّماً في الوقت عينه، فظهر داخل الحركات النهضويّة المثقَّفون المقاولون الذين يعتبرون الثقافة وظيفةً وعملاً يقتاتون منه، ويعيشون بفضل بركاته، وهو ما أدّى إلى تراجع دور المثقَّف في التوعية والترشيد، الأمر الذي ترك أثراً سلبيّاً عليه؛ فإما سقط في المقاولة؛ أو اعتزل ليعيش نرجسيّته ومخمليّته عاطلاً عن العمل الميدانيّ، غيرَ ممارسٍ للنشاط المعرفيّ المثمر، لاعناً لمجتمعه، متطهّراً من نقائصه، يغرّد خارج السرب.
كان يُفترض إحداث توازن بين السياسة والثقافة، بين الفكر والعسكر، بين الاجتماع والمعرفة؛ لتتكامل الأدوار، لا ليهيمن أحدها على الآخر، ويحتلّ المساحات التي كان يفترض بالآخر أن يضع يده عليها، وبهذا ربما يمكن تحقيق النهوض العلميّ الحقيقيّ على مستوى الأمة.
إنّ هذه الحاجة تصبح شديدة في حركات إصلاح دينيّ، ترى أنّ الدين يمثل مرجع عملها وقيمها في الحياة، ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون لفهم الدين والاجتهاد فيه دوراً كبيراً جدّاً، ولا يجوز من الناحية الشرعيّة والأخلاقيّة إعطاء هذا الدور لمن لا يقدر عليه، أو لا يملك اختصاصه، ولا أعني بذلك ضرورة أن يكون رجلَ دينٍ، بالمعنى الذي يفرض خروجه من أروقة الحوزات العلميّة والمعاهد والجامعات الدينيّة في الحواضر العلميّة المعروفة، كالنجف، والأزهر، وقم، والمدينة المنوَّرة، بل أن يكون باحثاً في المجال الدينيّ، غير متطفّل على هذه الملفّات البحثيّة، التي باتت اليوم أعقد مما نتصوَّر، ولاسيما في ظلّ تواشجها مع سلسلة علوم إنسانيّة معقّدة، كاللغات، والفلسفة، والتاريخ، والاجتماع.
إنّ عدم احترامِ البُعْد العلميّ داخل الحركات الدينيّة وإعطائه دوره الحقيقيّ يساعد اليوم ـ في ما يساعد ـ على انتشار سوق الفتاوى في أنحاء من العالم الإسلاميّ، والتي يبتعد بعضها عن القواعد الرصينة في الاجتهاد الدينيّ.
3 ـ من الإصلاح إلى التمترس، أو الإصلاح بين الجيل الأول والأجيال اللاحقة
لا تتوقف مسيرة الإصلاح والنهوض عند حدّ؛ لأنّ الأمة بحاجة ليس إلى نهضة واحدة، وإنّما إلى سلسلة متتالية من النهضات؛ فالمشكلات كثيرة، والتحدّيات كبيرة. وهنا، ومن شدة صعوبة تحقيق منجز استثنائي يحصل أن تحقّق حركة النهضة والإصلاح بعض المنجزات الكبيرة، فتخشى من زوالها وفقدان هذا المنجز مرّة أخرى، فتضع ثقلها في الحفاظ عليه. وهذا أمرٌ طبيعي ومطلوبٌ في الوقت عينه.
لكنّ الذي يحصل أن تغرق حركة الإصلاح في همّ الحفاظ على ما أُنجز، فتنسى إكمال المسيرة أو تؤجِّل ذلك إلى حين، بل قد تضحّي ببعض ما كانت تريد تحقيقه لمصلحة ما تحقَّق حتى الآن، وشيئاً فشيئاً تخفّ الحركة التقدّمية، وتتعطل المسيرة التكاملية نحو الأمام، فتقف الحركة عند ما أُنجز وتحقَّق. وحيث تسير الدنيا مسرعةً تعود حركة الإصلاح وكأنّها حركة تقليدية لا تواكب المستجدّ، وإذا واكبته نظرت إليه بعين الريبة، فيصبح ضحيةً لها، كما كانت هي ضحيّة لمن سبقها، وبعد أن كانت تستصرخ من ظلم السابقين غدت تمارس ما يشبه حركتهم تجاه الآخرين.
هنا يكمن مقتل حركات النهضة، ولاسيما التي تحقّق إنجازات ملموسة يمكن الحفاظ عليها، فيما المطلوب السعي نحو توازن في الحفاظ على المنجز والسعي لإنجاز المزيد.
وتتجلّى صور جديدة لهذه المعضلة عندما تنطلق الحركات الكبرى في الإصلاح والنهوض والتغيير، فيهبّ الجيل الأول، الذي تغلب عليه صفات التضحية والفداء والشجاعة والتحدّي والإباء و…، فيقدّم الكثير تبعاً لمعطياته وإمكاناته. وقد يحقّق بعض المنجزات، لكن وبمجرّد تحققها، أو بمجرد مجيء الجيل الثاني، يبدأ النشاط المصلحيّ، والتوظيف الشخصيّ، وتتلاشى حالة الصدق، فيأخذ الجيل اللاحق بمصادرة جهود غيره، ويشرع بممارسة مداراة مصلحيّة زائفة، لا تعبّر بالدقة عن الدينامية المطلوبة، وإنما تحوي إفراطاً لا ضرورة فيه؛ فلا نريد يأساً ولا إحباطاً في الطريق يغلَّف بمفاهيم.
كما ينبغي الحذر من شبكة العلاقات الجديدة التي تبنيها الحركة الناهضة، والتي قد تتحوّل تدريجياً إلى خيوط متشابكة تحاصر الحركة نفسها، فالخوف على خسارة الشبكة العلائقيّة، التي تسمح في العادة بمواقع نفوذ، وتحقيق منجزات، قد يفضي إلى التضحية بجملة من القيم والمبادئ والمفاهيم. وهنا من الضروري أن تدرس المصالح والمفاسد بنظرة شاملة هذه المرّة؛ فقد تحقّق شبكات العلاقات هذه الكثير من النتائج والمنجزات الجديدة، أو تحول دون التعدّي على الحالة الناهضة؛ لتكون حمايةً لها ودرعاً، لكن من الضروري في الوقت عينه عدم الاستغراق في بناء شبكات العلاقات هذه بما يقدّم القيم والمبادئ العليا قرابين على مذبحها الذي لا يجفّ.
ثمة توليفة يمكن أخذها من جمع سياستي النبيّ محمد‘ والإمام علي×؛ فسياسة الحزم والمبدئية التي تحلّى بها عليّ بن أبي طالب عبّرت عن جانب الرغبة في الحفاظ على القيم أمام شبكة العلاقات والإرضاءات. كان المهم الحفاظ على المفهوم أكثر من تأمين أكبر قدر ممكن له من الجماهير، فيما وجدنا عند رسول الله في المدينة المنوّرة سياسة انفتاحية تسعى بمنطق التوليف؛ للحصول على كسب المؤيدين بالتضحية بما لا تضرّ التضحية به أمام حجم المصالح الوافدة. إنّ الجمع بين المنهجين ـ والذي قد يجد له أتباع المذاهب الأخرى نماذج متعدّدة وفق الاجتهاد الكلامي والفقهي عندهم، مثل شخصيّتي الخليفتين أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب ـ قد يوفر لنا فسحة جيّدة في تعدّد أدوار العمل ضمن هدف واحد، على حدّ تعبير السيّد محمد باقر الصدر.
نعم، نحن ضدّ الراديكالية اللاعقلانيّة في العمل النهضويّ والإصلاحيّ، لكنّنا أيضاً نعارض المداراة الفارغة المضمون، والتي تفرّغ المشروع من معناه ومحتواه. فلا بد من توازن يخضع لطبيعة المتغيّرات ليحدّد المنهج الأسلم في التعامل مع الواقع.
ومع الأسف الشديد فقد لاحظنا على بعضهم أنّه بات يحاول تغييب أفكار روّاد حركته الإصلاحيّة أنفسهم؛ لأنّه يشعر بأنّ بعض مقولاتهم وصرخاتهم لم تتحقّق، فلا يريد أن يطالَب بتحقيقها؛ فيسعى لتغييبها، وإبداء الصور التي تتناسب مع وضعه الحالي؛ تلافياً للإحراج. وهذه من أعظم المعضلات، حيث يصبح قادة مسيرة الإصلاح أنفسهم ضحايا التغييب الممارَس من جانب جماعاتهم وتياراتهم في الجيل الثاني والثالث.
ظاهرة أخرى من الظواهر السلبية التي واجهتها أغلب حركات النهوض والإصلاح في العالم الإسلاميّ هي ظاهرة التشظّي الداخلي؛ فبمجرّد أن يصبح لها ظهورها تبدأ بالانقسام السلبيّ، وتتحوّل إلى جماعات تهزأ من بعضها وتسخر؛ وتنتقد بعضها انتقادات لاذعة، ويحاول كلّ فريق أن يزعم لنفسه تحقيق المنجزات دون غيره.
إننا نجد هذه الظاهرة تتواصل يوماً بعد آخر؛ فلا ترى بين هذه التيارات وبين رجالات النهضة والإصلاح في كثير من الأحيان سوى التشرذُم وتصفية الحسابات، الأمر الذي لا يستفيد منه سوى التيارات الراغبة في التحفظ والتثبيط والمراوحة والترنّح.
وفي داخل سياق حالة التمزُّق الداخلي نشهد غياب حالة الأعمال الجماعيّة الكبرى المتكاملة؛ ولهذا ظهرت الأعمال الفرديّة. فكلّ شخصية إصلاحيّة صارت لها أعمالها الخاصّة وأنشطتها الخاصّة، دون القيام بتنسيقٍ حقيقيٍّ بينها. وهذا ما ساعد على تعميم منطق الشخصانيّات، بحيث صار كلّ تيار إصلاحيّ يذوب في شخص، وينفي سمة النهضويّة والإصلاح عن غيره، وصار الفكر الإصلاحيّ منسوباً إلى أشخاص، بدل أن ينسبوا هم أنفسهم إلى هذا الفكر الكبير.
وسأشير هنا إلى نقطةٍ أعتقد أنّها على قدر من الأهمية، وهي أنّ حركات الإصلاح الفكريّ والثقافي ليست ذات لون واحد، بل تتباين أحياناً في ما بينها، وليست كلها حقّاً، حتّى بنظر بعضها بعضاً، وهذا أمرٌ واضح. لكنّ الذي نجده أنّ الفريق الموغل في النقد يمارس تقزيماً واستخفافاً بجهود فرقاء الإصلاح الآخرين، فيما يسعى الفريق الأقلّ إيغالاً إلى القطيعة مع الفريق الآخر، فيتعامل معه بمنطق التيارات التقليدية. عندما نجد حالةً من هذا النوع فمن الضروريّ أن نشعر بالخطر؛ لأنّ هذا المنطق الإقصائيّ لا يمكن أن يولِّد حالةً جماعيّة متعاونة. فنحن نجد تيارات فكريّة تسعى للإصلاح في دائرة إخراج الدين من الفرديّة إلى الجماعيّة السياسية؛ ونجد تيارات أخرى تسعى للإصلاح عبر إخراج الدين من الجماعية السياسية إلى الحالة الفردية. نجد فريقاً يعتبر إصلاح المفردات الجزئية، كهذه الفتوى أو تلك، أو هذا الملف الكلامي أو ذاك، هو غاية المطلوب، وأنّ به تتحقّق الأهداف المنشودة؛ فيما نجد فريقاً آخر يتحرّك في إطار إشكاليّة المنهج كلّه، مثل: استبدال المنهج التجزيئي الذي يريد رفع المنهج التوليفي (فقه النظرية) بالمنهج المقاصديّ المسقَط على الجزئيّات الفكريّة؛ وفريق ثالث يتخطّى المنهج إلى إشكاليّة عقم المفروضات القبليّة، مثل: أنّ للإسلام نظام حياة من الأوّل، وأن القوانين عرفية دنيوية، وليست إلهية أخروية. هذا التباين طبيعيٌّ ما دام لا يبلغ حدّ الرمي والقذف، أمّا عندما يبلغه، عبر سلب الفريق الأول صفة الإصلاح عن الثاني، ليراه تخريباً للدين، أو سلب الثاني صفة الإصلاح عن الأوّل، ليراه مجرّد فكر تقليدي ملمّع، فهذا معناه أنّ مساحة الوعي الإصلاحيّ سوف تتقلّص، وسيتحوّل الإصلاح من مشروع كبير له أنصاره وتياراته القادرة على التنسيق في ما بينها، رغم اختلافها، إلى مشروع من المشاريع الفكرية الجديدة الكثيرة. وهذا ما يتطلّب ـ في النطاق الفكري والثقافي على الأقل ـ السعي للتقريب بين التيارات المختلفة هذه، مع حقّ كل فريقٍ منها في إبداء رأيه الخاص ونقد آراء البقية.
5 ـ الإصلاح بين وهم النخبوية وأزمة الجماهيرية
وهناك مشكلة لعلّها من أعقد المشكلات، وهي أنّ غرق العديد من مثقَّفي الإصلاح في الجانب النخبوي يغيّب حضورهم في الوسط الجماهيري، الذي هو المفصل في حركات التغيير الكبرى. إنّ التنزّه عن التواصل مع القاعدة الجماهيرية ـ لأيّ حجّة من الحجج ـ لا يخدم مسيرة الرقي والإصلاح. فبالعامة ـ كما يسمّونهم ـ تتحرك الأوضاع العامة، ومن الصعب على المثقَّف إذا ظلّ يعيش وَهْم النخبة، ويطهّر نفسه ويلعن غيره، أن يحدث تغييراً يُذكَر.
هذا يعني أنّ الإصلاح يحتاج إلى مداخلة، وليس إلى تجافٍ عن المحيط الاجتماعي بطبقاته، الأمر الذي لا يقف عند حدود الارتباط المادّيّ الجسديّ، وإنما يتعدّاه إلى الارتباط الخطابيّ، فالتواصل مع القاعدة الجماهيرية يستدعي خطاباً يتناسب معها:«إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» (الكافي 1: 23؛ وانظر: كنز العمال 10: 242)، وهذا يعني أنّ المطلوب خطابٌ يتناسب مع هؤلاء، وليس فقط خطاباً نخبوياً. إنّ هذا يستدعي عدم التنزّه عن لغة المنبر والخطابة والإعلام المرئي والمسموع والمقروء بألوانه، ويستدعي احترام هذا النوع من الجهد الإصلاحيّ، بدل العيش في أبراج مخمليّة عاجيّة مرتفعة، ناطحة لسحاب الوهم والخيال، محلّقة فوق الأرض. إنّ هذا يستدعي أيضاً خطاباً واقعياً يلامس هموم المجتمع الحالي الذي يعيش فيه الفكر الإصلاحيّ، وليس المجتمع الذي سوف يأتي بعد قرون، أو مجتمع آخر لا حاجة فيه إلى هذا الفكر الإصلاحيّ.
من هنا ننظر بعين الرضا والتقدير للتجارب التواصليّة مع الطبقات المختلفة للمجتمع. وأطرح هنا إشكاليّة المرجع الدينيّ التواصليّ، الذي لا يعيش مفهوم الحاضر الغائب، بل يظلّ في الساحة، رغم انشغالات المرجعيّة، ورغم هموم الإصلاح الفكريّ.
وأمثِّل لذلك بتجربتين ـ مع وجود تجارب عديدة جيدة والحمد لله ـ:
الأولى: تجربة المرجع الدينيّ السيد الشهيد محمد صادق الصدر&. فمع انشغالاته الفكريّة، ومحاولاته الإصلاحية ضمن النطاق الذي تحرّك فيه، إلا أنّ سعيه الإصلاحيّ كان على صلة بالجماهير مباشرةً، في إطار المسموح ضمن ظروفه الزمكانية. هناك يصبح للعشائر فقهها وللحياة اليوميّة فقهها. لا يتخلّى المصلح الديني عن هموم المعرفة والفقه والاجتهاد في «من وراء الفقه» وغيره، ويظلّ ـ في الوقت عينه ـ عاملاً لرفع مستوى الوعي بالمقدار الممكن.
الثانية: تجربة المرجع الدينيّ العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله حفظه الله. فهذه التجربة سعت لملامسة قضايا الفكر والاجتهاد من جهةٍ، دون أن تغيب أبداً عن الجوانب التواصلية؛ لتحدث تغييراً ملموساً في الوعي الإسلامي العام في البلدان الإسلامية. بل إنّ هذه التجربة تكاد تكون الأبرز في سياق تجارب المرجعية الحاضرة بشكل مباشر أو شبه مباشر في أبسط تفاصيل المكلّفين، تتابع قضاياهم وتحلّ مشكلاتهم، وتقلّص المسافة الجغرافية والنفسية والتواصلية بينها وبينهم، لتكون بحقّ أنموذجاً يحتذى على هذا الصعيد بالذات.
إنّ حضور مفكّر ومرجع ديني وفقيه بشكلٍ ناشطٍ في وسائل الإعلام، وتواصله مع الجماهير؛ لتحويل فكره الإصلاحيّ إلى واقع، يمثل التجربة الأصعب في عملية الإصلاح الاجتماعيّ، فيما نجد الكثير من مثقَّفينا ومفكِّرينا يتنزَّهون عن ذلك، ويعيبون على الناس عملهم. إنّ الجلوس على المنصّة لتقويم هذا أو ذاك لا يعني أنّ الجالس قادرٌ على اللعب بالكرة لو كان في الموقع الآخر، ممّا يدعو إلى احترام متبادَل لهذه الجهود كلّها، دون أن تُبْخَس حقها، ودون أن تجعل هي نفسها أيضاً فوق النقد في الفكر والممارسة والوعي.
من الطبيعي أنّ دعاة التغيير في المجتمع ينطلقون من مجموعة من الأفكار والقيم والمثل التي يطرحونها، مدّعين أنّ بإمكانها تغيير الوضع الاجتماعي إلى ما هو الأحسن. وفي المراحل الأولى، ولاسيّما عندما تكون حركات التغيير هذه دينيّةً، نجد ممارسة قويّة من طرف أصحاب الدعوى. لكنّ المشكلة أنّ الأمور تسير بالتدريج ناحية قدر من الازدواجية بين المثل والقيم المنشودة وبين الواقع الذي تجري ممارسته ميدانياً.
قد يعود سبب ذلك أحياناً إلى أنّ المثل والقيم كانت غير واقعيّة من البداية، وتمّ اللهث خلفها بتصوّر أنّها قابلة للتطبيق، وستجرّ خير الدنيا والآخرة، وحصل أن اختبر المقدّس ولم يتبيّن شيء من ذلك، أو تبيّن بقدر دون الحدّ المنشود.
وقد يكون السبب شعور أنصار التغيير بقدر من التعب والإرهاق الذي نجم عن مسلسل التضحيات، فتتعالى الأصوات مطالبةً بقدر من الرأفة بحال المناصرين، بل والذات أيضاً، فتظهر ازدواجية خطيرة هنا حيث تبقى المثل كما هي، وبدل تغييرها، بمعنى إجراء تعديل ما فيها تكيّفاً مع الأمر الواقع، يظلّ هناك إصرارٌ عليها نظرياً ومقوليّاً، لكنّ واقع الحال يحكي عن قناعة بقدر جيد من التعديل، فتظهر هذه الازدواجية.
وقد يكون السبب أنّ دعاة التغيير ليسوا مؤهَّلين للارتفاع إلى مستوى القيم التي ينادون بها ويريدون تغيير المجتمع في ضوئها، فلكي يستروا عورتهم هذه تظهر هذه الازدواجية بين النظرية والتطبيق، بين العلم والعمل.
مثلاً: رأينا العديد من الذين طالما نادوا على الدوام بالتعدّدية وحرية الرأي يصابون بالهستيريا من تعرّضهم للنقد، ويتعاطون مع الرأي الآخر من موقع أحاديّ انعزاليّ. ورأينا الكثير من منادي الديمقراطية لا يمارسونها، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الاجتماعي، ولا حتى داخل مؤسّساتهم الاجتماعية والثقافية والتربوية والدينية. ورأينا من يريد أن يعمّ منطق النقد البنّاء في المؤسّسة الدينية، ويكتب ويقول في هذا المضمار، لكنّه وأنصاره على أرض الواقع لا يعبّرون عن عشر معشار هذا الطرح الذي يثيرونه، بل يستخدمون منطق الغوغاء في مواجهة من يريد تطبيق أطروحاتهم نفسها. إنّه شيء من النفاق على المجتمع، لا يبشر بالخير الكثير.
7 ـ عدم تحول المفاهيم الإصلاحية إلى جزء من النسيج الاجتماعي
ليس هذا الأمر فكريّاً بقدر ما هو تربويّ، فواحدة من أهمّ مشاكلنا أنّ بعض حركات التغيير في العالم العربي والإسلامي لم تتشرّب مقولاتها نفسها بوصفها جزءاً من المكوّن الذاتي للشخصيّة. وهذا معلم خطير ينذر بسوء. فعندما أطرح مقولةً ما، ثم لا أكون ممّن تربّى عليها، أو ربّى نفسه عليها، فمن الطبيعي أن تظهر حالة النفاق هذه. عندما تظلّ المقولات منفصلةً مخارجةً للذات، وتكون العلاقة معها علاقة عقليّة، وليست تربوية ونفسية وسلوكية..، فسنقع في مثل هذه المشاكل. يقولون: إنّ صحابة النبي الأكرم $ كانوا يتعلّمون عشر آيات من القرآن الكريم، ثم لا يتعلّمون ما بعدها حتى يطبّقوها على أرض الواقع. في عالم القيم والمثل هذه لا معنى للوقوف عند حدود التعقل والتعقيل، بل الأهم من ذلك هو العيش والإحساس بهذه القيم، ثمّ الانتقال من مرحلة تحمّل آلامها إلى مرحلة الشعور بالسعادة واللذة في عيشها وممارستها، بحيث تصدر بالسجيّة. وما قاله علماء الأخلاق هنا ليس مجافياً للصواب، ولا شأناً فردياً شخصيّاً، بقدر ما يصلح لممارسته على المستوى الاجتماعي أيضاً.
ولعلّ هذا الأمر انعكس على صدقيّة التجربة أيضاً. ففي بعض تجارب الوعي الإسلامي وجدنا هوّةً بين خطاب النخبة والقادة وواقع الجماهير. لقد عجز النخبة والقادة عن تحويل مقولاتهم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للحياة التي يملكون مفاصلها وقراراتها. فالناس في وادٍ وهم في وادٍ آخر. ورغم كلّ الإمكانات لم ترتقِ مفاهيمهم إلى أن تصبح جزءاً من التركيبة الاجتماعية، وعنصراً لا ينفكّ عن العقل الاجتماعي للقاعدة العامّة؛ ولعلّ السبب في ذلك هو التركيز على خطاب بعيد عن هموم الناس، وهو يلتقي بهمومهم، لا بهموم القاعدة الجماهيرية؛ ولعلّ السبب أيضاً هو عدم اتّباع السبل الصحيحة في ترسيخ المفاهيم في الحياة الاجتماعية، فقد يتّبعك الناس ويصفّقون لك، لكنّ هذا لا يعني أنّهم يتمثّلون أفكارك. هذا مؤشِّر بالغ الأهمية يدعو للتفكير أكثر فأكثر.
ليس غريباً أن يبدأ الإصلاح بوصفه ردّ فعل على واقع قائم، فهذا أمر طبيعي مترقّب، يعبّر عن حالة صحيّة سليمة، لكن ما هو غريب أن تظلّ بوصلة الإصلاح لا تتحرّك إلا بتأثير الخارج، لتعبّر دوماً عن ردّ فعل لحدث ما، ولا تصل إلى مستوى الفعل نفسه. ما أعتقده هو أنّ حركات الإصلاح والتغيير يجب أن تتحرّك وفقاً لثنائي الفعل وردّ الفعل معاً. فغياب حالة ردّ الفعل معناه أنّ الإصلاح لا يحاكي الواقع ولا ينظر في مشاكله، لكنّ غياب الفعل أيضاً لا يعبّر إلا عن مراوحة الإصلاح في دائرة ما يفعله الغير ويقوله، فالآخر يلقي المفاهيم فيما حركة الوعي تقوم بنقدها، والآخر يرمي بالمقولات فيما حركة الوعي تدور حولها. لماذا الوقوف على هامش الآخر؟!
العكس صحيح هنا، حيث المطلوب أن تلقي حركة الوعي مفاهيمها ليدور الآخر حولها. ومهما قدر الآخر على إحداث ضرر في المفاهيم هذه إلا أنّ السعي لإبقائها في وسط الحلبة سيكون بنفسه جهداً عظيماً، يعتمد مراكمة المقولات الملقاة وسط الحلبة لتتمكّن فيما بعد في اجتماعها من إيجاد زحزحة ما. إنّ هذا يعني أنّ الممسك بزمام الوضع الثقافي هو تيار الوعي، فهو الذي يلقي الأفكار ليدور الآخرون حولها، وليس العكس. وهذا في حدّ نفسه نقطة تقدّم تسجّل في هذا المضمار.
9 ـ حلول العناصر الأخرى مكان العنصر الديني في عقد جمان الجماعة
تعتمد الحركات الدينية النهضوية على القيم الدينية عنصراً رئيساً في تكوين تماسك الجماعة وانعقاد جمانها المنضود، فتظهر مقولات ضابطة ومحكمة تستطيع إيجاد التماسك واللحمة بين أفراد الجماعة، ويعتمد الخطاب الديني على هذه المقولات دوماً؛ لكي يحول دون انفراط العقد.
والإشكاليّة التي تحصل هنا أنّ هذه الجماعة عندما تشقّ طريقها نحو الأمام، وتغدو قوّةً فاعلة في المجتمع، تجد عناصر تماسك أخرى يمكن توظيفها لتحقيق هذا الهدف، سواء كانت هذه العناصر نبيلةً في حدّ نفسها أم غير نبيلة. فنجد مثلاً أنّ قوّة المال بإمكانها أن توفر غطاء قويّاً، وأن توجد تماسكاً عجيباً يشكّل قوة مغناطيسية تربط الأطراف بالمركز ربطاً محكماً؛ أو نجد مفهوماً قومياً أو وطنياً نبيلاً يمكنه هو الآخر أن يوفّر هذا التماسك والالتفاف حول المركز. والخطورة التي تحصل هنا ليس في دخول هذه العناصر؛ فلا يوجد ما يفرض جعل العنصر الديني هو الضامن الوحيد لتماسك الجماعة المؤمنة، وإنّما في ضمور وانطفاء شعلة القيم الدينية بوصفها عنصراً للوحدة. هنا تبتعد مفاهيم الأخوة الدينية، المرجعيّة الدينية (بالمعنى العام)، والطاعة، وغيرها من المفاهيم التي تساهم في مرحلة الانطلاق في تعاضد الجماعة، كما حصل مع المؤاخاة التي قام بها النبي في المدينة المنوّرة عقب الهجرة.
إنّ تراجع العناصر الدينية بوصفها عنصراً فاعلاً في تماسك الجماعة يؤدّي بمرور الأيام إلى ضعف تأثير هذا العنصر في هويّة الجماعة نفسها؛ لأنّ هذه الهوية الجمعية ستأخذ مبرّرات وجودها من منافذ أخرى ومنابع مختلفة. وهنا مكمن الخطر على الحركة الإسلامية الناهضة.
يمكن عدّ هذا الموضوع من أكثر الموضوعات خلافاً داخل حركة الوعي والنهوض في خياراتها واختياراتها. فعلى الدوام انقسم روّاد الوعي الإسلامي إزاء هذا الموضوع إلى فريقين: أحدهما: كان يفضل المراحل التدريجية في العمل التغييري، وهو الفريق الذي كان يؤمن أيضاً بالتغيير غير المباشر؛ وثانيهما: كان يعتقد بالعمليات القيصرية حلاًّ للمشكلات القائمة. وأحد أمثلة هذا الخلاف ـ في بعض صوره ووجوهه على الأقلّ ـ ما حصل بين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده.
يبرّر الفريق الداعم لفكرة الصدم والعمل الجراحي رأيه بأنّ الواقع لا يتغيّر بلمسات ناعمة إلا عندما نكون في مجتمعات مستقرّة تختلف حول التفاصيل فقط، لا حول الخيارات الإستراتيجية التي ينبغي أن تتّبعها الأمّة وتعتمدها. ففي مثل بلداننا في العالم الثالث لا يمكن إيجاد تغيير بطيء؛ لأنّه سيتطلّب وقتاً كبيراً جداً. وفي هذا الوقت تكون عجلة الحياة قد أكملت مسيرتها المسرعة، بحيث إنّ حركة التغيير المرحلي الذي قمنا به لن يمكنها مجدّداً اللحاق بالهدف المنشود وتأمين عنصر المواكبة. من هنا كان لابدّ من صدم الواقع وهزّه هزّاً عنيفاً ـ على حدّ تعبير العلامة المغفور له السيد محمد حسين فضل الله ـ. إنّ هذا الصدم، وإنْ جاء قاسياً في مراحله الأولى، لكنّه سيفرض نفسه على الواقع ضمن فترة قصيرة نسبياً. ومن هنا يرى هؤلاء أنّ الأسلوب المباشر الصريح والجريء والشفاف سبيلٌ أفضل لحلّ مشاكلنا، بدل المماطلة، والمراوغة، والتستّر، والتعمية، والتغطية على الأمور، وعدم مقاربتها بصورة مباشرة وواضحة وحاسمة.
وقد يجد هذا الفريق في التجربة النبوية عموماً ما يوفّر له شكلاً من أشكال الشرعية الدينية، أو مرجعاً يستأنس به في مواقفه الدينية التي يراها. إنّ القرآن الكريم قدّم الأنبياء على أنّهم يعملون بأسلوب الصدم، فقد طرحوا على مجتمعاتهم ـ وبصراحة ووضوح ـ ما يعدّ هدماً مباشراً لأكبر شعار في هويّة تلك المجتمعات، أي إنّهم هزّوا ركائز البنيان الاجتماعي الذي تقوم عليه مصالح الجماعة، ولاسيّما الملأ منهم، أليس هذا استخداماً لأسلوب الصدم؟ أليس هذا هزّاً للواقع الاجتماعي، رغم أنّ الكثير من الأنبياء لم يتمكّن من حشد الأنصار من حوله، بل ظلّ عنوان ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ﴾ (هود: 40) هو الحاكم على أغلب تجارب الأنبياء عبر التاريخ، كما يحدّثنا الكتاب العزيز؟ أليس المطلوب الاهتداء بنهج الأنبياء ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ…﴾ (الأنعام: 90)؟
أمّا الفريق الآخر فيعتمد في وجهة نظره على أنّ أسلوب الصدم المباشر قد يؤتي ثماره على بعض الصعد، لكنّه يعاني من مجموعة مشاكل ينبغي التنبّه لها. فهناك ـ مثلاً ـ مشكلة الانتحار، وذلك أنّه عندما تقوم بجرح المجتمع جرحاً نرجسياً كبيراً قد يفضي ذلك إلى انتقام المجتمع منك، ممّا يسبّب في قتل حركة التغيير في مراحلها الجنينيّة الأولى. يجب تحديد حجم قدرتنا على التغيير قبل الشروع في مرحلة الصدم، وإلاّ ارتدّ ارتجاج الهزّة علينا، بحيث يكون تأثيره هنا أكبر من تأثيره هناك.
ويعزّز هذا الفريق موقفه بأنّ الأساليب غير المباشرة تترك تأثيراً كبيراً في النفوس، وقد باتت معتمدةً في مناهج التربية والتعليم والإعلام وغيرها؛ نظراً لفاعليتها وقدرتها على الحفر في أعماق الوعي بطريقة لا تثير أماكن أخرى في العقل الإنساني، بل تأخذ طريقها إليه لتتكرّس أمراً واقعاً في منظومات التفكير والذوق والإحساس معاً.
وقد يجد هذا الفريق أيضاً في التراث الديني ما يدعمه، ولاسيما في مدرسة أهل البيت النبويّ، التي طرحت التقيّة بمعناها الواسع الشامل لتقيّة الخوف وتقيّة المداراة معاً، فإنّ هذا النهج الذي اتّبعه أئمة أهل البيت^ في الغالب يكرّس ضرورة التعامل مع الواقع بطريقةٍ مرنةٍ حمايةً للجماعة والمشروع والرؤية معاً.
وفي ظنّي أنّ وجهتَي النظر المذكورتين صحيحتان بقدر. ولا مانع من تنوّع الأدوار وتعدّد الخيارات باختلاف الأزمنة واللحظات التاريخية المفصليّة، وباختلاف مواقع القوّة والنفوذ هنا أو هناك. لهذا لا أفضّل تبنّي خيار واحد في هذا المجال، بل تبنّي الخيارين معاً، كلٌّ بحسب موقعه ومناخه وسياقه. إنّ الإفراط في أسلوب الصدم قد يضعنا أمام المجتمع والعامّة من الناس؛ والإفراط في أسلوب المرحلية قد يضع مشروعنا في الثلاّجة، ويفقده عنصر التأثير الفاعل. فالموضوع موضوع لحظة تاريخية؛ وموضوع مجتمع هنا يتحمّل هذا الخيار وهناك لا يتحمّله؛ وموضوع ملفّات يمكن اختيار أسلوب الصدم في أحدها، دون الثاني، تبعاً للّحظة، وانصياعاً لمدى تأثير هذه الملفّات على صنع ردّات فعلٍ تقف لصالحنا أو لا.
أمّا التجربة النبوية فلا نعدم وجود عناصر فيها يتحرّك من خلالها الأنبياء تحت إطار التذكير بموروث الجماعات التي يواجهونها، ليكون موروث الآخر مرجعاً، كما كان يحصل مع بني إسرائيل. وكذلك الحال في تجربة أهل البيت^، فإنّها لا تنحصر في الشكل الذي أُبدي، بل تتنوّع تنوّع تجربة الإمام الحسين من جهة؛ والإمام الحسن من جهة ثانية؛ والإمام الصادق من جهة ثالثة؛ والإمام الرضا من جهة رابعة.
إنّ تنوّع الأساليب بعد وعي الواقع يبقى ضرورة لسلامة المشروع التغييري في الأمّة. وقد تقضي الحركة الناهضة على نفسها باتّباع سبيل من السبيلين، والتقوقع داخله، كما رأينا في أكثر من مفصل هنا وهناك.
ثمّة سؤال مهمّ جداً يتعلّق بقضايا الإنسان والدين عامّة، وهو: من الذي يفترض الاشتغال عليه أولاً: الدين أم الإنسان؟ ما هو الحقل الأوّل للإصلاح: الإنسان ثم الدين أم الفهم الديني ثم الإنسان؟ بمعنى من أين نبدأ مشوار التجديد: من الداخل، من تحليل النصوص وطريقة التعامل معها؛ لنغيّر عبر ذلك حياتنا وتتجدّد وتتقدّم، أم من الخارج، بما يصلح وعينا العام وثقافتنا، ويطوّر أجهزتنا المعرفية، ويحسّن مستوياتنا العلمية، ثمّ بعد إصلاح ذواتنا نأتي لقراءة الدين ونصوصه، الأمر الذي يسمح بولادة فهوم سليمة وصالحة ومتطوّرة تلقائيّاً؟
هناك تاريخ زمني للإنسان ـ الفرد أو الجماعة ـ لا تحصل فيه قفزات نوعية وتحوّلات كبرى تعيد تكوين الاجتماع الإنساني، ولا تحدث زحزحة في القواعد الرئيسة التي يقوم عليها هذا الاجتماع. إنّه شيءٌ ما يشبه حالة الركود حتى لا ترى الحركة الموجودة داخله تحوّلاً، إنّها كحركة الطحن أو ناعورة الماء التي تدور دون أن تتقدّم، حركة تعود إلى نقطة البداية لتسير منها مجدَّداً إلى النهاية، بل البدايات هناك هي النهايات عينها، ليس هناك فرق، والناتج عن هذه الحركة طحن وتذويب وتفتيت لكل قوى الإبداع والانطلاق.
ليس هناك سكون في الحياة الإنسانية، لكن هنا تصبح الحركة نفسها شكلاً من أشكال السكون، ولا يشعر الإنسان أنّه بحاجة إلى تغيير وضع أو تطوير حالة؛ لأنّ شعوره بالحركة يسكره دون أن ينتبه إلى أنّ حركته دائرية لا تقدّم فيها، حتى لو كانت الدائرة أفضل الأشكال الهندسية عند قدماء الفلاسفة. إنّه الوهم الضار هذه المرّة الذي يوحي للإنسان أنّه يفعل شيئاً ما، لكنّه لا يفعل في الحقيقة ـ بهذا الحساب ـ أيّ شيء.
في هذا النوع من ركود الحياة وسكونيّتها ـ كما حصل في عصور الظلام الأوروبية وقرون الانحطاط الإسلامية ـ لا يمكن الشعور بالحاجة إلى الإصلاح. وليس من تحقّق له سوى بالخروج من هذا الوضع، ومن هذا المناخ الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ و… فلن يتمكّن الإنسان من الإحساس بضرورته مادام داخل هذا المربّع المقفل، أو كما يسمى: السياج الدوغمائي المغلق؛ إذ ـ كما قلت ـ سيظنّ نفسه متحرّكاً. ولن يقدر على رؤية سكون حركته ـ إن صحّ التعبير ـ سوى بالنظر إلى هذه الحركة وهذا التموضع من الأعلى. هناك سيعرف أنّه يدور في حلقة مفرغة، حلقة الانتقال من سلطان مستبدّ إلى آخر مثله أكثر استبداداً، وحلقة انتقال من المتن إلى الحاشية إلى شرح الحاشية إلى التلخيص، ومن ثم شروح التلخيص إلى تعليقة الشرح أو حاشية التعليق..، وحلقة الانتقال من زراعة الحمضيات إلى زراعة الأرز و..
هنا، وقبل أن نسأل في مناخ من هذا النوع عن ضرورة الإصلاح والتجديد في الفكر الديني، وقبل أن نقنع أحداً بمسوّغات الحركة التجديدية..، من الأفضل أن نخرج هؤلاء من حياتهم الراكدة الكاسدة هذه إلى حياة أخرى، يقدرون من خلالها ـ ولو للحظات ـ على رؤية حياتهم الأولى..، وكما قال الغزالي(505هـ) من قبل، ومعه علماء الأخلاق الإسلاميون: لن يقدر على فهم لذة العرفان واللقاء بالله تعالى إلاّ مَنْ تسامى ليرى تفاهة لذّة السلطة والمال و..، تماماً كالطفل الصغير لن يعرف لذة السلطة والمال والجنس و.. إلا بخروجه عن حدّ الطفولة، ودخوله عالم المراهقة والشباب والنضج، هناك سيدرك أنّ كلّ تلك المعارك القاسية التي كان يخوضها في لعبه ولهوه مع أصدقائه لم تكن سوى حفنة من تفاهات وسخافات كان يظنّها شيئاً ما، ولم تكن بشيء.
من هنا، نعتقد أنّ الحياة الراكدة ـ وهي حياة قد تكون مجتمعيةً، وقد تعيشها شريحة واحدة في المجتمعات، وقد يعيشها أفراد ـ لا يمكن إصلاحها بالإقناع الفكري والثقافي المباشر، بل بالخطوات العملية التي تضع هؤلاء الناس في واقع آخر. وقد أتعب بعض الإصلاحيين والتجديديّين المستنيرين في عالمنا العربي والإسلامي أنفسهم في إقناع المسلمين بضرورة الإصلاح والتجديد، ولم ينتبهوا إلى أنّ العقل الذي يتلقى خطابهم هو عقل زراعيّ ـ مثلاً ـ فيما خطابهم وليد حياة صناعيّة، وأنّ هذا العقل لن يتمكّن ـ بجدّ وحقيقة ـ أن يعي معنى هذا الخطاب الجديد إلاّ بأن يصبح صناعيّاً بنفسه، وإلا فلن يفهم الإصلاح إلاّ أولئك الأفراد ـ وليس الجماعات والشعوب ـ الذين امتازوا ففهموا. وإذا ظلّت مشاريع الإصلاح والتجديد تعيش مع الأفراد والنخب فلن يكتب لها النجاح؛ لأنّ نخبنا في كثير من الأحيان نخب مخمليّة، تجيد لعن المجتمع والتطهُّر منه، ويكثر في مُعْجَمِها نقد الآخر، بدل نقد الذات، فكيف سيسير المجتمع معها حينئذٍ؟!
وعلى هذا الأساس نحن بحاجة إلى خطاب إصلاحيّ تجديديّ يتزامن مع العصر الذي يعيشه العقل المسلم اليوم. وعندما أقول: العقل المسلم اليوم فأنا أحدّد زمنه الطبيعي المادّيّ، ولا أحدّد زمنه المناخيّ والثقافيّ والمعرفيّ. وهنا مكمن الخطر: أن أقدّم خطاب الغرب اليوم للمسلمين مع فارق زمنيّ أساس بين العقلين: الغربي؛ والإسلامي. فخطاب ما بعد الحداثة في الغرب لن يتمّ هضمه ببساطة في مجتمعات عربيّة لم تدخل إلى الآن الحداثة نفسها… حرقٌ للمراحل أدّى إلى حرق مشاريع الإصلاح، ومن ثم إلى اضطرارنا اليوم ـ بعد أكثر من قرن ونصف على حسن العطار ورفاعة الطهطاوي والأفغانيّ وعبده ومحسن الأمين ـ لتبرير شرعية الإصلاح والتجديد، بعد فشل أكثر من مشروع في الأمّة. إنّ مشكلة الكثير من مفكّرينا ومثقَّفينا أنّهم انتقدوا مخاطبة المؤسّسة الدينيّة التقليديّة لأمم قد ماتت، كما يعبّر السيد الصدر، لكنّهم وقعوا داخل مجتمعاتهم أحياناً في مخاطبة أمم لم تولد بعد.
في هذا السياق لا نجد أنّ مشروع الإصلاح ينطلق من الثقافة الدينية وحدها. وبعض أولئك الذين أطلقوا خطاب تجديد الفكر الديني ليرَوْا فيه حلاًّ وحيداً لمعضلات عالمنا الإسلامي فكّروا هذه المرّة بطريقة قديمة وملغومة معاً؛ قديمة لأنّهم ما زالوا ينظرون إلى الفكر الديني في موقعه الذي كان يحتلّه في القرون الهجريّة الأولى؛ وملغومة لأنهم يقرّون بأن السبب الوحيد لتراجع حالنا اليوم هو الفكر الدينيّ، متناسين أنّ الذين تركوا الفكر الدينيّ من التيارات الأخرى لم يقدّموا هم أيضاً شيئاً يتباهون به على التيارات الإسلاميّة، ولو أنّهم فكّروا في عصرنا الحاضر لعرفوا أنّ إصلاح الفكر الدينيّ ليس سوى ضلع من أضلاع خارطة الإصلاح في الأمّة، بل في الفكر الدينيّ نفسه. فطريقة التجديد الداخل ـ دينيّة شكل من أشكال التجديد، لا يكفي لوحده للنهوض بالأمّة اليوم، وإنّما لابدّ في عصرنا الراهن من التجديد الخارج ـ دينيّ أيضاً، أي تجديد أجهزتنا ومنظوماتنا المعرفيّة الأخرى وأوضاعنا السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة والتنمويّة والعلميّة والجامعيّة وغيرها. فليس من الضروري أن تعالج أمراض الجلد منه، بل قد تعالج من مكان آخر، كالمعدة.
إذاً هناك علاقة جدليّة بين الإصلاح الدينيّ والإصلاح الإنسانيّ؛ حيث يؤثِّر كلٌّ منهما في الآخر، ويسبق كلٌّ منهما الآخر ويلحقه. وهنا حصل وهم التجديد، عندما أوقعنا القطيعة بين هذين المسارين، وكأنّ إصلاح الفقه أو الكلام كفيلٌ لوحده بإصلاح حالنا!
12ـ الإصلاح بين الداخل ـ ديني والخارج ـ ديني
تعتمد بعض الاتجاهات الإصلاحيّة على الإصلاح الداخل ـ دينيّ، فيما تذهب جماعة أخرى إلى الإصلاح الخارج ـ دينيّ. ونقصد بهذا التصنيف أنّ الإصلاح هل يجب أن يكون من خلال النصوص والمنظومات الدينيّة نفسها أم لابدّ أن يسبقه إصلاح آخر في المنظومات العقليّة التي يقوم عليها فهم الدين؟
أشرنا قبل قليل إلى ضرورة الإصلاح الخارج ـ دينيّ، لكنّ ما نريد التأكيد عليه هنا هو أنّ إحدى نقاط الانطلاق يفترض أن تكون من الوعي الفلسفيّ السابق على الدين، بما يستوعبه من فرعي: فلسفة المعرفة (الإيبستمولوجيا)؛ وفلسفة الوجود (أنطولوجيا). وأخصّ بالذكر هنا فلسفة المعرفة، سواء في ذلك دراسة المعرفة بوصفها دراسةً للأوّليات أم للمعارف الثانوية، وهذا ما يفتح على قضيّة المنهج، وأهمية الاشتغال على موضوع نقد العقل، وهو أمر أغفلته الكثير من حركات الإصلاح في الأمّة، اعتماداً على عنصر الإحياء. فنحن نعرف أنّ بعض الإصلاحيين في الأمّة اعتقد بأنّ صلاح حال هذه الأمّة يكون بإحياء المفاهيم الغائبة والفرائض المستبعدة، مثل: الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك، ولم ينظر إلى إشكاليّة سوء فهمنا لهذه الفرائض، الأمر الذي يستدعي إصلاحاً في الفهم قبل الشروع في إحياء هذه الفرائض، حتى لا نقوم بإحياء فرائض ذات صور مفهوميّة وتاريخيّة قد تخرّب حال الأمّة، بدل أن تصلحه.
من هنا يكون الإصلاح المعرفيّ الفلسفيّ أسبق على المستوى العلميّ من الإصلاح الفلسفيّ الوجوديّ. وكذلك إصلاح فلسفة الوجود وعلم الكلام أسبق من إصلاح الفقه وعلوم الشريعة. وإصلاح أصول الاجتهاد أسبق من إصلاح بعض الاجتهادات والفتاوى هنا وهناك… إنّ هذا الترتيب مهمّ جدّاً، دون أن يلغي صحّة ألوان الإصلاح كلّها. وقد تعرّضت في مناسبات أخر لهذا الموضوع فلا أطيل.
لكنّ ما أريد الإشارة إليه هو أنّ العقل الفلسفيّ الإسلاميّ، الذي يفترض أن يكون سابقاً على العقل الدينيّ، بما يمثِّل من منظومات تشريعيّة أو ملّيّة أو مذهبيّة أو غير ذلك، قد أدخل هو نفسه في مناخنا غير الصحّيّ في إطار انتماءات مغلوطة وغير صحيحة. فعندما تكون الفلسفة أمّ العلوم وأباها فهذا معناه أنّها سابقة على المعطيات الدينيّة التفصيليّة لأهل الأديان والملل والمذاهب. ومن الطبيعي في حال كهذه أن يكون العقل الفلسفيّ هذا ببُعدَيْه الوجوديّ والمعرفيّ عقلاً متعالياً على مثل هذه الانتماءات في مسيرة بحثه وتحليله، دون أن نلزمه بالوصول إلى عكسها في المرحلة اللاحقة، التي تعبّر عن مرحلة النتائج والآراء. وفي حال من هذا النوع عندما يتمّ دَيْنَنَة الفلسفة وأسلمتها ومذهبتها فهذا يعني ليّاً لعنقها، وتطويعاً لعقلها وإخضاعاً، وليس توفيقاً بين العقل والنصّ. فليس التوفيق المذكور بمجرّد أن نخرج بنتائج تتوافق فيها الشريعة مع الحقيقة ومع الطريقة ولو على حساب سلامة المنهج، فهذا الأمر قد فعله المعتزلة من قبل وفقاً لنظريّاتهم في المجاز والتأويل، وليس بالمفخرة للفلسفة الصدرائيّة، وإنّما المهم أن تكون عملية التوفيق هذه عفويّة واستدعاءً تلقائياً، دون فرض على العقل الفلسفيّ، أو تطويع لدلالات النصوص الدينية، أو توجيه في اللاوعي لشهود الباطن عند العارف والصوفيّ. هنا يكون التوفيق منسجماً مع حجم الشعار الذي أطلقته بعض المدارس الفلسفيّة المتأخِّرة، وصار بمثابة الحقيقة القطعيّة، التي قد يشكّك فيها على مستوى قدرتها على المقاربة بين النصّ والعقل من خلال المحافظة على هويّتهما وكينونتهما معاً.
إنّ الإنجاز الصدرائيّ الذي تعتمده بعض حركات الإصلاح في مجتمعاتنا اليوم كان كبيراً جدّاً، يستحقّ الدرس والتقدير، وكان تغييبه لأسباب قوميّة أو مذهبيّة ظلماً كبيراً، لكنّه ما زال بحاجة ماسّة إلى الاختبار المنهجيّ الذي أشرنا إليه، من حيث قدرته على الحفاظ على هويّة النصوص ودلالاتها في أفقها القائم لها. ولهذا فلدينا تحفّظ على غير طريقة من طرق فهم النصوص من قبل بعض رجالات هذه المدرسة. ونميل إلى خيار تبنّي مصالحة تجعل الثلاثة ـ أي العقل والنصّ والقلب ـ متحرِّرة من بعضها في مرحلة ذاتها وعملها، وقادرة في المرحلة اللاحقة على التوفيق الذي يحافظ عليها وعلى استقلالها، بحيث لا يتمّ تمزيق دلالات النصوص بحجّة المعاني الباطنيّة وجهاز الترميز الذي يقال بأنّ القرآن الكريم ـ مثلاً ـ قد بُني عليه، كما لا يتمّ إسقاط الدلالات اللغوية بحجّة أنّ هذه النسخة القرآنية التي بين أيدينا هي الشكل الأدنى لتجلّي العلم الإلهيّ، ومن ثم فينبغي الذهاب خلف نسخة أرفع قيمةً يمكن أن نطلّ عليها في عالم المثال أو في عالم أرقى منه، وهو عالم العقل. إنّ هذه الطرق حتى لو كانت صحيحة في حدّ ذاتها لا تحقّق مفهوم المصالحة؛ لأنّ المصالحة تعني بقاء كلّ طرف في مستوى ذاته، لا تلاشيه أمام الآخر. فهذه مصارعة وصرع، وليست مصالحةً وصلحاً.
وأخيراً، كنتُ أودّ من خلال هذه الملاحظات النقديّة المتواضعة على بعض الرؤى الإصلاحيّة أن نساهم في نقد الذات نقداً هادئاً وموضوعيّاً، ولا نريد جلدها بقدر ما نريد ترشيد وعينا الإصلاحيّ، الذي نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للمزيد فيه، وفي طريقه سبحانه، إنّه وليٌّ قدير.
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ: 24).
([1]) كلمة تحرير العدد: 17 ـ 20 و 22، من مجلة نصوص معاصرة، لعام 2010 ـ 2011م.