ـ القسم الثاني ـ
د. أحمد النراقي(*)
نقد نظريّة بسط التجربة النبويّة ــــــ
1ـ دور النبيّ في نزول الوحي ــــــ
يشتمل مقال «بسط التجربة النبوية»([1])، لكاتبه عبد الكريم سروش، على معلومتين هامتين بشأن الوحي، وهما:
الأولى: إن «الوحي» أو «التجربة النبويّة» قابلة للبسط والتكامل([2]).
الثانية: إن «الوحي» تابع لشخصية النبيّ، دون العكس([3]).
ويبدو من سروش ـ على ما سيأتي توضيحه ـ أنه يستنتج المعلومة الثانية من المعلومة الأولى.
وسوف نستعرض في هذا المقال أدلّة سروش بشأن هاتين الدعويين، كما أوردهما في مقاله «بسط التجربة النبوية».
الوحي أو التجربة النبويّة قابلةٌ للبسط والتكامل ــــــ
وفي ما يتعلق بهذه المعلومة ينبغي الإجابة عن سؤالين هامّين:
الأول: ما معنى هذه الدعوى؟
الثاني: ما هو الدليل على قبول هذه الدعوى؟
وسأبدأ بحثي من السؤال الثاني، وفي معرض البحث سأجهد لكي أقدِّم إجابة عن السؤال الأول. وعليه أقول: لماذا يجب علينا القبول بالمعلومة الأولى؟ أرى أن بالإمكان بيان الاستدلال الذي يسوقه سروش لدعم المعلومة الأولى على النحو التالي:
1ـ إن «الوحي» نوعٌ من «التجربة الدينية».
2ـ إن جميع التجارب قابلةٌ للبسط والتكامل.
وعليه:
3ـ إن «الوحي» يقبل البسط والتكامل.
ولنعبِّر عن هذا البرهان من الآن فصاعداً بـ «البرهان الأوّل».
إن البرهان الأول من الناحية الصورية معتبرٌ، بمعنى أن نتيجة (القضية الثالثة) من الناحية المنطقية قابلةٌ للاستنباط والاستنتاج من المقدّمات (القضيّة الأولى والثانية). وعليه فإنّ صدق نتيجة هذا البرهان تتوقَّف على صدق مقدّماته. فهل القضية الأولى والقضية الثانية صادقتان؟
من الأجدر أن نفهم ما الذي يعنيه سروش من القضية الأولى.
إن سروش يذهب من بداية مقاله إلى اعتبار «الوحي» نوعاً من «التجربة الدينية»([4]). ولكنّه لا يبيِّن ما هو المراد من «التجربة الدينية» بدقّة. وإنْ كان بالإمكان التوصل إلى رأيه في هذا الشأن؛ انطلاقاً من بعض القرائن، حيث إنه يذكر لنا بعض مصاديق التجربة الدينية، إذ يقول: إن تجربة النبيّ الأكرم تقوم على تصوّر النبي وكأنّ شخصاً يحاوره، أو النداء الذي يحصل عليه في الرؤيا (تجربة النبيّ إبراهيم)، أو رؤية الملائكة وكلّ ما يستتر وراء حجب عالم الشهادة، وما إلى ذلك. يرى سروش أن أدنى مراتب التجارب الدينية هي «الرؤى الصادقة»، وأما المراتب القصوى فهي الأذواق والمواجيد والمكاشفات العرفانية([5]).
إن هذه المصاديق تزودنا ببعض الضوء، إلاّ أنها لا تكشف تماماً عن رأي سروش في ما يتعلَّق بماهية هذا النوع من التجارب. ولربما أمكن التكهُّن؛ من خلال بعض الإشارات التي يذكرها، بأنه يعتبر «التجارب الدينية» نوعاً من «الإدراك» (perception). فهو يرى أن النبيّ الذي يحصل على «تجربة دينية» أو «تجارب وحيانية» هو الذي يستطيع الحصول على مدركات خاصة من خلال بعض القنوات الخاصّة التي يعجز الآخرون عن امتلاكها([6]). إلاّ أن هذه الإشارة مبهمة وغائمة إلى حدٍّ بعيد. فهل يعني هذا أن التجارب الدينية نوعٌ من الإدراك؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا التعريف يشتمل على إبهامات أخرى، وهي:
أوّلاً: ما هي تلك القنوات «الخاصة»؟ لو أخذنا تلك المصاديق المتقدِّمة بنظر الاعتبار فإن هذه القنوات التي توصلنا إلى تلك المدركات لا تحتوي ـ بحسب الظاهر في الحدّ الأدنى ـ على خصوصية.
ففي ما يتعلَّق بالمورد الأول نجد أن قناة تلك المدركات ـ بحسب الظاهر ـ هو الجهاز السمعي الذي يمتلكه صاحب التجربة.
وفي التجربة الثانية يحصل على تلك المدركات الفرد المجرب في منامه.
وفي ما يتعلَّق بالمورد الثالث إذا حملنا فعل «الرؤية» على معناه الحرفي ستكون قناة الحصول على تلك المدركات هو الجهاز البصري لصاحب التجربة.
وعليه يبدو في جميع هذه الموارد أن القنوات الإدراكية لتلك المدركات (الجهاز السمعي، والمنام، والجهاز البصري) لا تحتوي على أيّ خصوصية مميزة.
وثانياً: ربما كانت تلك «الميزة» ناشئة من خصوصية متعلّق تلك المدركات. وهذا الكلام يبدو صائباً إلى حدٍّ كبير؛ فإنّ متعلق التجارب الدينية في أغلب الموارد هي «مميّزة» وخاصّة تماماً، بمعنى أن هذا النوع من التجارب ناظرٌ إلى الله أو الكائنات الغيبية، من قبيل: الملائكة. ولكنْ يصعب القول باعتبار إحدى خصائص هذه المدركات ـ كما يدّعي سروش ـ أن غير الأنبياء «يعجزون عن الحصول عليها»؛ وذلك لتصريح سروش نفسه بأن غير الأنبياء (كالعرفاء مثلاً) يتمتَّعون بهذا النوع من التجارب أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إن التجارب الدينية عند سروش لا تنحصر بالأنبياء، وقد ذكر سروش السيدة مريم العذراء شاهداً على هذا المدَّعى([7]).
ربما أمكن التغلب على هذه الإبهامات بشيءٍ من الجرح والتعديل إلى الحدّ الضروري للتقدُّم بهذا البحث. فلو اعتبرنا التجارب الدينية نوعاً من «التجارب الإدراكية» لن يكون هناك ما يضطرنا إلى حصرها في نوعٍ من الإدراكات الحسية. وعليه يمكن لنا الحصول على تلك المدركات إما من طريق القنوات الحسية؛ أو أن نتحدّث عن مدركات يتمّ الحصول عليها من دون توسُّط الأعضاء الحسّية، ولذلك فإنها تأتي من «قنوات خاصة». وبطبيعة الحال يمكن الحديث عن كيفية هذه «المدركات الخاصة» في موضعها. ولكنْ يبدو لي في حدود هذا البحث أن سروش لا حاجة لديه إلى أكثر من الانفتاح بالنسبة إلى إمكان مثل هذه المدركات. ومن ناحية أخرى يمكن لنا أن نتَّخذ من الكلام الذي يكرِّره سروش صراحةً ـ حيث يقول بإمكان أن يحصل غير الأنبياء على تجربةٍ دينية ـ أساساً، وكلامه الآخر الذي يقول فيه بعجز غير الأنبياء عن الحصول على مثل هذه الإدراكات الخاصة، ونعبِّر بهذا الادّعاء المتواضع، ونقول: هناك مستوى من التجارب الدينية هو حِكْرٌ على الأنبياء فقط.
ومن ناحية أخرى يستعمل سروش كلاًّ من «التجربة الدينية» و«التجربة السماوية» و«التجربة النبوية» أحياناً في موضع الآخر. ولكنّه يصرِّح أحياناً بأن هناك أنواعاً لـ «التجربة الدينية» أو «التجربة السماوية»، ويقول بأن «التجربة الدينية النبوية» نوعٌ خاص منها. وعليه يمكن لنا أن نتساءل: ما هو الفرق بين «التجربة الدينية النبوية» وبين سائر التجارب الدينية الأخرى، وخاصّة «التجارب العرفانية» (أو التجارب الدينية للعرفاء)؟
ربما لا يرى سروش فرقاً بين التجارب الدينية لشخص النبيّ وبين التجارب الدينية للعرفاء من غير الأنبياء. وإذا كان هناك من فرقٍ فإنه يعزوه أحياناً إلى موضعين آخرين، وهما:
أوّلاً: إن الاختلاف بين التجارب الدينية للنبيّ والعارف لا تكمن في النوع، وإنما في الدرجة. وكما تقدّم فإن سروش يميل على أغلب الظنّ إلى حصر مستوى من التجارب الدينية بالأنبياء فقط، وإنْ كنا لا نعلم بوضوحٍ ما هو ذلك المستوى؟ وما هو وجه الاختلاف بينه وبين مستوى تجارب العرفاء من غير الأنبياء؟
وثانياً: إن الملاك الأهمّ الذي يطرحه سروش للتمييز بين التجربة النبوية والتجربة العرفانية بالمعنى الخاصّ (أي التجربة الدينية التي تحصل للعارف غير النبي، أو ما يدعوه سروش أحياناً بـ «التجربة الصوفية») ناظرٌ إلى نسبةٍ خاصّة يحصل عليها صاحب التجربة الدينية تجاه مضمون التجربة. فالنبيّ يرى نفسه ملزماً بإبلاغ ذلك المضمون، في حين أن العارف لا يرى نفسه ملزماً بذلك. يقول سروش: «يختلف الأنبياء عن سائر أصحاب التجارب [الدينية] في أن هؤلاء لا يرزحون تحت نطاق وحصار التجربة الشخصية، ولا يقضون أعمارهم في الأذواق والوجد الباطني، بل يشعرون إثر حصول هذه التجربة بمسؤولية جديدة، ويتحوَّلون إلى شخص جديد. وإن هذا الشخص الجديد يطمح إلى بناء عالمٍ وإنسان من نوعٍ آخر»([8]).
إلا أن هذا الملاك لوحده لا يكفي لبيان الفارق بين التجربة الدينية للنبيّ وبين التجربة الدينية للعارف غير النبيّ. فإنْ كان المراد من «المسؤولية» ما أشرنا إليه في هذه العبارة من «التحوّل إلى شخص جديد، والطموح إلى بناء عالم وإنسان جديد»، ففي مثل هذه الصورة يجب عدُّ الكثير من كبار العرفاء الذين حصلوا ـ على حدّ تعبير المولوي ـ على «تبدُّل في المزاج»، وصاروا بصدد إبلاغ محتوى تجاربهم العرفانية اللطيفة، والأخذ بأيدي السالكين، يجب أن يكونوا واجدين للشأن النبويّ أيضاً. يبدو أن دائرة نفوذ وحجم النجاح الذي حقَّقه أولئك الأنبياء في القيام بمسؤولياتهم لا ربط له باعتبار نبويّة تلك التجارب. ويحتمل أن سروش كان ملتفتاً إلى هذه النقطة، وهي عدم إمكان اعتبار «الشعور بالمسؤولية» معياراً مناسباً للفصل بين التجربة الدينية النبوية من غيرها؛ إذ هو، خلافاً لدعواه في هذا الشأن، الذي يبدو فيه حازماً وقاطعاً للوهلة الأولى، يلتزم في الحقيقة جانب الاحتياط، ويقول: «[…] هناك في النبوة عنصر وشيء من المسؤولية، وهو أمرٌ لا نجده في التجارب الاعتيادية»([9]).
يبدو أن سروش قد عمد إلى إضافة قيد «الاعتيادية» منذ أن أدرك أن جانباً من التجارب الدينية غير الاعتيادية للعرفاء من غير الأنبياء تحتوي على عنصر المسؤولية أيضاً. وعليه إذا كان هذا الملاك يدخل عنصراً مشتركاً في التجارب الدينية للأنبياء والتجارب الدينية للعرفاء بالمعنى الخاصّ فكيف يتسنّى لنا جعله معياراً للفصل بين هذين النوعين من التجارب؟!
من هنا يتعين علينا أن لا نأخذ المعيار الذي يذكره سروش للتمييز بين هذين النوعين من التجارب الدينية على محمل الجدّ. ويحتمل أن يكون سروش قد تأثَّر في هذا الشأن بمذاق المولوي، فعمد إلى ذكر مثل هذا المعيار. وعليه أفضِّل هنا تجاهل هذا المعيار.
وبالتالي ربما أمكن تفسير القضية الأولى بالشكل التالي:
1ـ إن «الوحي» نوعٌ من التجارب الإدراكية عن الله، أو الكائنات الغيبية الأخرى، من قبيل: الملائكة.
وقد يكون موضوع الإدراك ضمن بعض هذه التجارب رسالة لغوية تلقى على صاحب التجربة من قبل الله أو كائن قدسيّ آخر. وبعبارة أخرى: إنّه بالإمكان الجمع بين الوحي بوصفه تجربة إدراكية وبين تجربة الوحي اللغوي.
وبطبيعة الحال إن مقال سروش يلتزم الصمت في ما يتعلَّق بماهية «التجارب الدينية»، ولا يقدِّم دليلاً على إثبات المقدّمة الأولى (القضيّة الأولى). وعليه من الممكن جدّاً أن تكون القضية الأولى تفسيراً طوبائياً، وبعيداً كلّ البعد عن مضمون النصّ. وأما إذا فسّرنا المقدّمة الأولى بصيغة القضية الأولى فربما أمكن في هذه الصورة أن نقدّم فهماً لتلك المقدّمة قابلاً للتبرير في الفلسفة المعاصرة([10]). وعليه فلنفسِّر المقدمة الأولى في برهان سروش بصيغة القضية الأولى. ولكي نمضي بالبحث قدماً لنفترض صدق تلك المقدّمة في صيغتها الجديدة (أو أن نرى في الحدّ الأدنى إمكان الدفاع عن صدقها عقلياً). وانطلاقاً من هذه الفرضية سنبحث في البرهان الذي يسوقه. ولكنْ ما الذي يمكن لنا قوله بشأن المقدّمة الثانية من البرهان الأوّل؟
كما تقدّم فإنّ المقدّمة الثانية تقول:
2ـ إن جميع التجارب قابلةٌ للبسط والتكامل.
يجب أن نعتبر هذه المقدّمة حجر الزاوية في برهان سروش؛ لدعم المعلومة الأولى. يبدو أن سروش يرى أن مجرد تصديق القضية الأولى يبرِّر الإذعان بالقضية الثانية، ويجعلها مسألة معقولة. وكأنّ البسط والتكامل من الأوصاف الذاتية لـ «التجربة». ويمكن لنا العثور على لبِّ استدلاله أو ادّعائه في العبارة التالية: «…إن من شأن كل تجربة أن تنضج بالتدريج. فكلّما تحدثنا عن التجربة صحّ الحديث عن تكامل التجربة أيضاً. وكلما أمكن الحديث عن الحصول على التجربة أمكن الحديث عن الحصول على مزيد من التجربة. وإذا أمكن الحديث عن تجربة كاملة أمكن الحديث عن تجربة أكمل»([11]). وبشكلٍ عام «فإنّ كلّ مجرب يمكن أن يغدو مع الأيام أكثر خبرة وتجربة»([12]). ثم أخذ يعدِّد موارد من التجارب التي يغدو فيها المجرِّب ـ بفعل تكرار التجربة ـ أكثر خبرة وأشدّ باعاً في التجربة؛ وذلك إذ يقول: «إن الشاعر من خلال ممارسة الشعر يغدو أكثر شاعرية، والخطيب من خلال ممارسة الخطابة يغدو أشدّ مراساً في الخطابة»([13]). ثمّ أضاف إلى هذين الموردين ثلاثة موارد أخرى، فقال: «إن الفنّان يصبح أكثر فنّاً، والعارف أكثر عرفاناً، والمدير أقوى إدارة»([14]).
في ما يتعلق بمعلومة القضية الثانية ينبغي الإجابة عن السؤالين التاليين:
السؤال الأوّل: ما الذي تعنيه هذه القضية بدقّة؟
إن القضية الثانية تبدو مبهَمة من ناحيتين هامتين:
الأولى: إننا لا نعلم بوضوح ما الذي يعنيه سروش هنا (وكذلك في جميع مواطن البرهان) من «التجربة»، فلا نستطيع أن نعثر منه في جميع مقاله على توضيحٍ بشأن المعنى المراد له من «التجربة». ويبدو أنه قد اكتفى بالاعتماد على الفهم المتعارَف من قبل مخاطَبيه، وافترض لـ «التجربة» معنى فضفاضاً للغاية. ويبدو أنّه بالإمكان طبقاً لهذا الفهم العامّ إطلاق مفهوم «التجربة» على طيف متنوّع للغاية من الحالات العاطفية ـ من قبيل: الحزن أو التعجب ـ، والنشاط الذهني ـ من قبيل: التفكير والاستذكار ـ، والنشاط العملي ـ من قبيل: السباحة أو قيادة السيارة ـ. وبعبارةٍ أخرى: يبدو أن ما يسمّيه سروش «تجربة» يشمل على السواء جميع أنواع «التجارب العاطفية»، و«التجارب الإدراكية المعرفية»، وكذلك «التجارب العملية» أيضاً. بَيْد أنه من غير المعلوم ما هي الخصوصية والميزة أو الخصائص التي تجمع هذه المجموعة المتنوّعة تحت المظلّة الواحدة لمفهوم «التجربة»؟ أو في الحدّ الأدنى ما هي الميزة أو الخصائص المشتركة بين هذه الأنواع المتنوّعة (على افتراض وجود مثل هذه الخصيصة أو الخصائص) المنظورة لسروش، والتي اتّخذها قاعدة لبرهانه؟
في اعتقادي إن هذا الفهم العامّ للغاية عن مفهوم «التجربة» يبدو في غاية الإبهام. وكما سنوضِّح فإن هذا الإبهام مخلٌّ، ويجعل البرهان الذي يقدِّمه سروش عرضة للانهيار.
وحيث تمّ وضع الثقل الرئيس لنظرية سروش في ما يتعلَّق بـ «الوحي» إلى حدٍّ كبير على كاهل مفهوم «التجربة» أرى من الضروري أن نجعل المفهوم الأدقّ والأوضح لـ «التجربة» أساساً للبحث. وأنا أميل هنا إلى اقتراح المعنى الأضيق، ولكنْ الأدقّ، لـ «التجربة». بَيْد أنّي في مقام إعادة صياغة النظرية سأجعل الفهم المحدود الذي اقترحه لـ «التجربة» أساساً للبحث. ويمكن بيان الفهم المحدود لمفهوم «التجربة» على النحو التالي: «إن التجربة بمعناها المحدود عبارة عن الواقعة الذهنية التي تحصل لشخصٍ في رقعة زمنية معينة، ويكون ذلك الشخص مدركاً لها إلى حدٍّ ما»([15]).
الثانية: لسنا نعرف تماماً ما الذي يعنيه سروش من «البسط والتكامل» في القضية المتقدّمة؟ فهل عندما نقول: إن «تجربةً» قد تكاملت نعني بذلك أن الفرد المجرِّب يحصل عند ممارسة التجربة مهارة وكفاءة أكبر؟ أي هل يكون «البسط والتكامل» من نوع ارتقاء مستوى «المهارات العملية»؟ وهل يعني بذلك أن محتوى التجربة ـ من قبيل: الدقة والسعة والعمق الفكري الحاصل بفعل التجربة ـ يتكامل؟ أي هل «البسط والتكامل» هو من نوع «الغنى النظري»، والإضافة إلى محتوى الصدق، والتقليل من محتوى الكذب، في ما يختزنه الفرد المجرِّب من ثروة معرفية؟ وهل المراد من «البسط والتكامل» هو «ازدهار شخصيّة الفرد المجرِّب» من خلال التجربة؟ وكما تقدَّم فإنني هنا أستعمل «التجربة» بذلك المعنى العامّ جدّاً الذي كان منشوداً لسروش نفسه.
يبدو أن مراد سروش من «بسط وتكامل التجربة» ما يشمل جميع هذه الوجوه، فهو يقول: «انظروا إلى المسار الجدلي الديالكتيكي بين الاختبار والمختبر، فإن هناك تأثيراً وتأثُّراً بين المقولتين. فهاك مثلاً العابد والعبادة؛ فالعابد كلّما كثرت عبادته أضحى أكثر تعبداً، وكلما أضحى العابد أكثر تعبداً زادت عبادته، وأضحت أكثر عمقاً»([16]).
ولكنْ هل «ارتقاء المهارات العملية لدى الشخص المجرِّب أثناء ممارسة التجربة» و«دقة وسعة وعمق المعارف الحاصلة من التجربة» و«ازدهار شخصية المجرِّب» تكفي لوحدها في تحقيق الشرط اللازم، والشرط الكافي، إذا انضمَّت لبعضها في «بسط وتكامل التجربة»؟ وبعبارةٍ أخرى: هل إذا كتب التحقّق لكلّ هذه الشروط الثلاثة يمكن القول: إن التجربة قد تكاملت، أم يكفي تحقّق واحدٍ من هذه الشروط فقط؟ لم يتّضح لنا رأي سروش بهذا الشأن. ولكنْ بالالتفات إلى المصاديق التي يذكرها للبسط والتكامل ـ وخاصة بناء على التوضيح الذي يبديه في بيان تكامل التجربة السماوية للنبيّ ـ يمكن التكهُّن إلى حدٍّ كبير أن مراده من بسط وتكامل التجربة هو ما يشتمل على تحقُّق جميع هذه الشروط الثلاثة.
السؤال الثاني: هل القضية الثانية صادقة؟
في حدود معرفتي يصعب القول بصدق القضية الثانية. ويبدو أنّه بالإمكان العثور على الكثير من موارد النقض عليها.
فمثلاً: إن جميع التجارب التي يتلاشى المجرِّب بسببها يجب عدّها ناقضة للمدَّعى الكلّي للقضية الثانية. وإن تجربة الانتحار مثالٌ بسيط لجميع أنواع هذه التجارب. فالشخص الذي يجرِّب تناول الثاليوم يفنى نتيجة ممارسته لهذه التجربة، ولذلك لن يبقى هناك من مجرِّب ليحصل على مهاراتٍ عملية أكبر (في تناول الثاليوم)! وبالتالي لن يكون هناك شخصٌ قد حصل على تقدُّم وازدهار في مجال هذه التجربة. كما أنه من المستبعد أن يكون في تكرار تجربة تناول الثاليوم (على فرض إمكانها) أن تضيف زيادة في المحتوى المعرفي للمجرِّب. وعليه يبدو أن لا شيء من الشروط الثلاثة المتقدّمة يمكن أن يكتب له التحقُّق في هذا النوع من التجارب، ولذلك ينبغي إمّا أن نقول: إن هذا النوع من التجارب لا يقبل البسط والتكامل، أو أن نقول بعدم إمكان إطلاق وصف «الانبساط والتكامل»، ولا صفة «عدم الانبساط والتكامل»، على هذا النوع من التجارب. وعلى كلّ حال فإننا سنكون أمام تجربة لا يمكن أن تدخل في نطاق المقدّمة الثانية (القضية الثانية).
كما أنّنا لا ندرك بوضوحٍ ما هو مكمن السبب في عدم العثور على تجارب على فرض تكرارها لا يتعرَّض المجرِّب والتجربة إلى الاضمحلال والزوال. يبدو أن هناك الكثير من التجارب التي لا يحصل فيها المجرِّب والتجربة على «البسط والتكامل» من خلال التكرار، بل إنّ هذا التكرار يؤدّي إلى الزوال والاضمحلال أيضا. من باب المثال: ما الذي يمكن قوله بشأن تجربة الإدمان؟ فهل يمكن لهذه التجربة أن تقبل البسط والتكامل؟ أليست هذه التجربة من نوع التجارب التي يؤدّي تكرارها إلى الزوال والأفول، واضمحلال التجربة وشخصية المجرِّب على السواء؟
وفي الوقت نفسه هناك في رأيي الكثير من التجارب التي وإنْ كان تكرارها يؤدّي إلى تكاملها وتحسينها في فترة محدَّدة من الزمن، إلاّ أنه وبعد انقضاء تلك الفترة المحدَّدة يتوقَّف مسارها الصعودي، وتتَّخذ منحىً أفقياً ـ إذا لم نقُلْ: إنها قد تتَّخذ منحى نزوليّاً أيضاً ـ، من قبيل: تعلم قيادة السيارة، أو تعلُّم السباحة، وما إلى ذلك؛ فإن التكرار في أغلب الموارد يجعلنا أكثر مهارةً وخبرة في هذه الموارد، إلاّ أننا في الكثير من الموارد نجد الفرد الذي يزاول هذه الأمور يقف عند حدٍّ من التقدّم، ويتوقّف مستوى مهارته في حدٍّ معين. وبطبيعة الحال يمكن القول في هذه الموارد: إن التجربة وإنْ لم تقبل البسط والتكامل من الناحية العملية، فإنّ التجربة قابلة للبسط والتكامل في نفسها. والذي يكون هو المبنى للاحتكام ليس هو البسط والتكامل الفعلي للتجربة، بل قابليتها على البسط والتكامل، وإنْ لم يُكتب لتلك القابلية التحقُّق في عالم الواقع أبداً. ولكن على كلّ حال يبدو أن لتكامل وبسط التجارب البشرية على الدوام حدّاً محدوداً بحدود الإمكانات البشرية. ورغم أن تعيين هذه الحدود في غاية التعقيد، بل ومستحيلاً في الغالب، إلاّ أننا إذا قبلنا بأصل مثل هذا الحدّ وجب علينا الإذعان بأن التجارب البشرية إذا بلغت ذلك الحدّ لن يبقى لها حتّى قابلية البسط والتكامل في ما زاد عنه. وبعبارةٍ أخرى: في عالم الممكنات الخاضعة لقوانين الطبيعة في عالم الواقع هناك حدٌّ لتكامل وبسط بعض التجارب البشرية في الحدّ الأدنى. وعليه إذا بلغت التجربة ذلك الحدّ لن تعود مشمولةً لحكم المقدمة الثانية (القضية الثانية).
ويحتمل أن قائمة الموارد الناقضة للحكم العام في هذه المقدّمة الثانية يمكن لها أن تكون أكثر من ذلك.
أرى أن المقدّمة الثانية تتضمّن دعوى في غاية السعة. وإن سورها العامّ يجعل الدفاع عنها في غاية التعقيد، ويجعلها عرضةً للإشكال، وسهلة التقويض في مواجهة الموارد الباطلة. من هنا ربما كان الاحتياط يقتضي منا أن نتنزّل بتلك الدعوى الواسعة العريضة إلى ادّعاءٍ أكثر تواضعاً، وأن نعمل على بيانها ضمن قضية يحكمها سور جزئي على النحو التالي:
القضية الثانية: إنّ لبعض التجارب قابلية البسط والتكامل.
وفي تصوُّري فإن الدفاع عن هذه الدعوى المحدَّدة أيسر بكثيرٍ من تلك الدعوى الواسعة والمطلقة. وأما إذا وضعنا هذا الادّعاء في موضع المقدمة الثانية من البرهان فإن البرهان لن يغدو معتبراً من الناحية المنطقية. بمعنى أن نتيجة البرهان (القضية الثالثة) لا تستنبط منطقياً من مقدّماته (القضية الأولى والثانية).
ولكنْ هل «البرهان الأوّل» قراءةٌ أمينة لاستدلال سروش؟ في تصوُّري يمكن فهم الاستدلال الذي ساقه سروش لدعم المعلومة الأولى بنحوٍ آخر. لقد كان «البرهان الأوّل» نوعاً من البرهان القياسي، ولكنْ ربما أمكن اعتبار برهان سروش نوعاً من الاستدلال القائم على التمثيل. وإنّ الاستدلال التمثيلي يمكن في ظروف معينة أن يتمتَّع بقيمة استدلالية توضيحية. وفي هذا النوع من البراهين يستدلّ غالباً على النحو التالي:
المقدّمة الأولى: إنّ (أ) من ناحية معيَّنة تشبه (ب).
المقدّمة الثانية: إن (ب) من تلك الناحية المعيَّنة تتّصف بصفات (ج).
النتيجة: إن (أ) تحتوي على صفة (ج).
طبقاً لهذا المبنى يمكن لنا بيان استدلال سروش بما يلي:
1ـ إن «الوحي» أو التجربة النبوية نوعٌ من التجربة الإدراكية عن الله، أو الكائنات الغيبية، من قبيل: الملائكة.
المقدّمة الأولى: إن الوحي أو التجربة النبوية من ناحية معيَّنة شبيهة بالتجربة الشعرية.
المقدّمة الثانية: إن التجربة الشعرية من تلك الناحية المعيَّنة تشتمل على صفة قابليّة البسط والتكامل.
النتيجة: إن الوحي أو التجربة النبويّة واجدة لصفة القابليّة على البسط والتكامل.
(ولنطلق من الآن فصاعداً على هذا البرهان عنوان «البرهان الثاني»).
إلاّ أن السؤال الصعب هو: ما هي تلك الناحية المعينة؟ وما هي تلك الناحية التي تكون «التجربة النبوية» فيها شبيهة بـ «التجربة الشعرية»؟
يتراءى لنا أن إجابة سروش عن هذا السؤال ستكون على النحو التالي: «إن التجربة النبوية تشبه التجربة الشعرية من حيث كونها تجربة»، بمعنى أن التجربة الشعرية من حيث إنها تجربة شعرية ليس لها أيّ أهمية خاصة، بل يتمّ الاهتمام بها من قبل سروش من حيث إنها تجربة. وبعبارةٍ أخرى: يبدو أن التجربة الشعرية، أو تجربة الخطابة، أو تجربة الإدارة، ليس لها أيّ خصوصية أو ميزة خاصّة تؤهِّلها لتقع طرفاً لمقارنة التجربة النبوية بها، بل إن كل تجربة بما هي تجربة يمكن أن تقع في البرهان المتقدّم طرفاً للمقارنة بينها وبين التجربة النبويّة. وهذه النقطة تنسجم طبعاً مع فحوى كلام سروش أيضاً. فهو يقول بصريح العبارة: إن صفة القابلية على البسط والتكامل «[…] موجود وجارية في كلّ تجربة […]»([17]).
وكما رأينا فإنّ الادّعاء القائل: «إن جميع التجارب قابلة للبسط والتكامل» ليس قابلاً للدفاع على ما يبدو، بمعنى أن القضية الثانية كاذبة، فإنّ أقصى ما نستطيع أن ندّعيه هنا هو «أن بعض التجارب قابلة للبسط والتكامل». ولكنْ علينا في مثل هذه الحالة تقسيم مجموع التجارب إلى قسمين عامين، وهما: التجارب التي تقبل البسط والتكامل؛ والتجارب التي لا تقبل البسط والتكامل.
وإذا كنا نعرف مسبقاً انتساب التجارب النبوية إلى أيّ قسمٍ من هذين القسمين لم نكن بحاجةٍ إلى البرهان الثاني.
وبحسب الحقيقة فإن البرهان الثاني يسعى؛ من طريق إقامة نوعٍ من الاستدلال التمثيلي، إلى إثبات انتساب التجارب النبوية إلى القسم الأوّل (أي التجارب القابلة للبسط والتكامل)، دون القسم الثاني. ومن هنا تبدو أهمّية تشبيه التجارب النبوية بالتجارب الشعرية. وعليه لا يكفي هنا القول بأن التجارب النبوية والشعرية متشابهة من حيث كونهما من التجارب؛ لأن التجارب النبوية من هذه الناحية شبيهةٌ بالتجارب من القسم الثاني أيضاً. فإذا كان يُراد من البرهان الثاني أن يثبت قابلية التجارب النبوية للبسط والتكامل ففي هذه الصورة يجب:
أوّلاً: بيان ما هي الخصوصية التي إنْ توفَّرت عليها التجربة كانت قابلةً للبسط والتكامل، وإنْ لم تتوفَّر عليها لم تكن كذلك؟
وثانياً: إثبات أن التجربة الشعرية واجدةٌ لهذه الخصوصية.
وثالثاً: إثبات أن التجارب النبوية تشبه التجارب الشعرية من هذه الناحية.
وبعبارةٍ أخرى: يجب البحث عن وجه الشبه بين التجربة النبوية والشعرية في نقطة تفوق مجرّد «التجربة». ولكنْ إذا استطعنا تحديد واكتشاف تلك الخصوصية التي تميِّز التجارب القابلة للبسط والتكامل من التجارب غير القابلة للبسط والتكامل ألا يكون «البرهان الثاني» في هذه الصورة زائداً وغير ضروري؟
يبدو أننا إذا استطعنا تحديد تلك الخصوصية أمكن لنا الرجوع إلى التجارب النبوية مباشرة، لندرك ما إذا كانت متوفِّرة على تلك الخصوصية أم لا.
ولربما أمكن من خلال الملاحظات المتقدّمة التي أثرناها بشأن «البرهان الأول» و»البرهان الثاني» أن نقدّم قراءةً أخرى لبرهان سروش. وفي حدود فهمي يحتمل أن تكون أفضل قراءة يمكن تقديمها عن برهان سروش على هذه الصورة:
1ـ إن «الوحي» نوعٌ من التجربة الإدراكية عن الله، أو الكائنات الغيبيّة، من قبيل: الملائكة.
المقدّمة الأولى: إذا كانت التجارب واجدة لصفة Y كانت هذه التجربة قابلة للبسط والتكامل.
المقدّمة الثانية: إن التجربة السماوية واجدة للصفة Y.
النتيجة: إن التجارب السماوية لها القابلية على البسط والتكامل.
(أقترح أننا يجب أن نفهم «التجربة» في جميع هذا البرهان بمعناها «المحدود». ولنطلق على هذه القراءة عنوان «البرهان الثالث»).
إن «البرهان الثالث» معتبر من الناحية المنطقية، بمعنى أن نتيجته تستنبط من مقدّماته.
إلاّ أن هذا البرهان يحتوي على نقصين هامّين: الأول: يجب توضيح الخصوصية الموجودة في Y. الثاني: أن نثبت أن المقدّمة الثانية صادقة.
وبالنسبة لي لم يتضح ما هي الخصوصية التي تحملها Y، أو يمكن أن تحملها أحياناً. وعليه فإننا لا نعلم ما إذا كانت التجارب السماوية واجدة لتلك الخصوصية أم لا.
الوحي تابعٌ لشخصية النبيّ، دون العكس ــــــ
في ما يتعلق بهذه المعلومة يجب أيضاً أن نجيب عن سؤالين هامّين، وهما:
أوّلاً: ما معنى هذا الادعاء؟
ثانياً: لماذا يجب القبول بهذا الادّعاء؟
وهنا سأبدأ بحثي أيضاً من السؤال الثاني، وفي الأثناء سوف أسعى إلى العثور على إجابة عن السؤال الأوّل أيضاً. فنقول: لماذا يجب علينا تقبُّل المعلومة الثانية؟
يدّعي سروش نفسه أن تصديق المعلومة الأولى يلزمنا بقبول المعلومة الثانية. بمعنى أننا إذا فهمنا معنى قابلية التجربة النبوية للبسط والتكامل بالشكل الصحيح فعندها سوف يغدو من السهل علينا القول بأن التجربة السماوية تابعةٌ لشخصيّة النبي، دون العكس: «[…] إنّ شخصية النبي الأكرم ـ التي هي كلّ ما يملك ـ كانت هي المحلّ والموجد والقابل والفاعل للتجارب الدينية والسماوية. وإن البسط الذي كان يحدث في شخصيته كان يؤدّي إلى بسط التجربة (والعكس صحيح أيضاً). ولذلك كان الوحي تابعاً له، دون العكس»([18]). وقال في موضعٍ آخر: «إن الدين [الإسلامي] كان يتمحور ويدور حول هذه الشخصية [يعني شخصية نبيّ الإسلام]. وهذه هي التجربة الباطنية والظاهرية التي كان يمارسها النبيّ […]. وبذلك يكون الدين تجربة روحية واجتماعية للنبيّ، ولذلك فهي تابعةٌ له […]»([19]).
لم يتَّضح لي كيف يمكن لنا الانطلاق من الادّعاء القائل بأن بسط شخصية النبيّ يؤدّي إلى بسط التجربة السماوية لنصل من خلال ذلك مباشرة إلى النتيجة القائلة: إذن الوحي تابعٌ لشخصية النبيّ، دون العكس. لنفترض أن الادّعاء الأول صادق، بمعنى أن البسط في شخصية النبيّ يؤدّي إلى بسط التجربة السماوية، بَيْد أن سروش نفسه سبق أن صرّح قائلاً: إن العلاقة بين التجربة والمجرِّب علاقة «جدلية ديالكتيكية»، وإنّ كلاًّ منهما يترك بتأثيره على الآخر. ويمكن للأمثلة التي يسوقها سروش لبيان هذه العلاقة المتبادلة أن توضح المسألة أكثر. ومن ذلك قوله: «[…] العابد كلما كثرت عبادته أضحى أكثر تعبداً، وكلما أضحى العابد أكثر تعبداً زادت عبادته، وأضحت أكثر عمقاً وروحانية»([20]). وعليه لو اعتبرنا العلاقة بين التجربة وصاحب التجربة ـ طبقاً لرأي سروش ـ علاقة ثنائية جدلية وديالكتيكية وجب علينا في هذه الصورة اعتبار التأثير والتأثُّر بين التجربة والمجرِّب علاقة ثنائية، وإذا كان هناك في البين نوعٌ من العلاقة «التبعية» فلا بُدَّ في الحدّ الأدنى أن يكون كلٌّ من التجربة والمجرِّب تابعاً ومتبوعاً للآخر، لا أن نعتبر أحدهما تابعاً مطلقاً للآخر. وطبقاً لتصوُّر سروش فإن التحوّل والبسط في شخصية النبيّ يؤدّي بدوره إلى البسط في محتوى التجربة السماوية. إلاّ أن هذا المحتوى (الذي هو طبقاً للتفسير الواقعي لمحتوى التجارب الدينية مستقلٌّ عن شخصية النبيّ) يشكّل بدوره مادّة لبسط وتكامل شخصية النبيّ. وعليه كما أن التجربة السماوية تكون تابعة لشخصيّة النبيّ فإن شخصيّة النبيّ تكون أيضاً تابعة لمحتوى الوحي.
ولكنْ ربما أمكن لنا أن نعثر من خلال كلمات سروش على نوعٍ من الاستدلال الاستقرائي لتعزيز المعلومة الثانية. فإن سروش يسعى جاهداً ـ من خلال الإسهاب النسبي في نقل بعض الشواهد القرآنية، وكذلك القرائن التاريخية ـ إلى تأييد تبعيّة الوحي لشخصيّة النبيّ، من الناحية الاستقرائية في الحدّ الأدنى. فهو يلجأ في الحدّ الأدنى إلى أربع قرائن هامّة لتعزيز مدّعاه. وبعبارة أخرى: إنه يسعى إلى إثبات أن الوحي كان في الحدّ الأدنى «تابعاً» لشخصيّة النبيّ من أربعة موارد. وإن هذه الموارد الأربعة يمكن اعتبارها قرائن يستخدمها سروش لتأييد المعلومة الثانية:
أوّلاً: إن طول مدة التجربة السماوية، وبتبع ذلك طول الآيات التي كانت تنزل على النبيّ، كانت تابعة لحدود تحمُّل شخص النبيّ. وقد استشهد سروش في هذا المورد بكلام ابن خلدون الذي يدّعي فيه أن تكرار التجربة السماوية قد رفع من حدود تحمّل النبيّ، ونتيجة لذلك أصبح بإمكان النبيّ أن يتحمّل تجربة الوحي إلى مستوى أكبر، وأن يتلقّى آيات أطول. يعتقد سروش ـ تبعاً لابن خلدون ـ أن هذا هو السبب الذي أضحَتْ فيه السور المكّية خلافاً للسور المدنية قصيرة. وعليه فإن قصر وطول الآيات القرآنية يعتبر في الحدّ الأدنى تابعاً لحدود تحمُّل النبيّ على المستوى الجسدي والروحي. ولهذا أصبح النبيّ أكثر قدرةً على تلقّي الوحي، واعتاد على هذه الظاهرة غير المعتادة إلى حدٍّ كبير، وأضحت الآيات القرآنية أكثر طولاً([21]).
وثانياً: إن محتوى الوحي ـ وخاصّة في جانبه التشريعي ـ كان متأثِّراً بالسجايا والخصال الشخصيّة للنبيّ. فهنا ـ خلافاً للمورد السابق ـ لا يقع الكلام في قابلية النبيّ في مقام تلقّي الوحي، بل الادّعاء يقوم على أن نوع الشريعة التي جاء بها النبيّ هي بدورها تابعة أيضاً لشخصيّة النبيّ وسجاياه الأخلاقية. وقد استشهد سروش لهذا المورد بكلام السلطان ولد ـ نجل المولوي ـ، حيث قال بأن اختلاف شرائع الأنبياء كان تابعاً لاختلاف خصائصهم. وبعبارةٍ أخرى: إن الشريعة في كلّ دين مرآةٌ تعكس أخلاق وخصال النبيّ الذي جاء بتلك الشريعة. فمثلاً: «بما أن محمداً× كان يتمتَّع بصفة حبّه للنساء والطهارة والنظافة كان دينه على هذه الشاكلة…»([22]).
وثالثاً: إن محتوى الوحي قد تبلور من خلال مواكبته للأحداث والوقائع التي حصلت في الحياة الشخصيّة للنبيّ، وبما يتناسب والتعاطي معها، والاستجابة لها. وقد عمد سروش من خلال التفصيل النسبي إلى إثبات أنّ محتوى الوحي قد تحدَّد من خلال «الحوار والتعاطي» مع أحداث الحياة الشخصيّة للنبيّ: «إن القرآن من خلال حفظه لروحه وأمّهات مضامينه ومحكماته أضحى تدريجي النزول، وتدريجي الحصول، بمعنى أنه حصل على تكوّن تاريخي. كان يأتي شخصٌ ويسأل النبيّ عن مسألة، ويأتي شخصٌ آخر ويفتري على زوج النبيّ، وثالثٌ يثير الحروب والفتن، ويقوم يهودي أو نصراني بفعلٍ يستدعي ردّة فعل، وينسب شخصٌ النبيّ إلى الجنون، وهناك مَنْ يثير الشائعات حول زواج النبيّ من امرأة ربيبه زيد […]، وكلّ ذلك ينعكس على القرآن وعلى كلمات النبيّ. ولو قُدِّر للنبي أن يعيش عمراً أطول ممّا عاش لواجه بطبيعة الحال مزيداً من الأحداث والوقائع، وهي تستدعي بدورها مزيداً من ردود الأفعال من قِبَله. وهذا ما نعنيه من أن القرآن كان من الممكن أن يزيد على ما هو عليه»([23]).
ورابعاً: إن محتوى الوحي في ناحيةٍ أعمق لم يتأثَّر بشخص النبيّ فحَسْب، بل بالمستوى المعرفي والمعيشي لعصر النبيّ أيضاً. وقد اكتفى سروش في المقال الذي نحن فيه بنموذج «الرقّ والعبودية»([24])، إلاّ أنه أسهب في الحديث عن هذا المورد في موضع آخر([25]).
ولستُ هنا بصدد البحث في اعتبار أو عدم اعتبار هذه القرائن الأربعة. وأقيم البحث على أساس صحّة هذه القرائن، والأهمّ من ذلك أن تفسير سروش لتلك القرائن صادقٌ أيضاً.
ويبدو من وجهة نظر سروش أن هذه القرائن مؤيِّدة للنظرية التالية:
إن الوحي «تابعٌ» لشخصيّة النبيّ، بمعنى أن شخص النبيّ، أو بعبارةٍ أدق: إن شخصيّة النبيّ هي التي تحدِّد محتوى الوحي برمّته.
(ولنطلق على هذه النظرية تسمية «القراءة الواسعة لمفهوم التبعية»، أو باختصار: «القراءة الشاملة»).
ولكنْ ما الذي تعنيه عبارة «القراءة الشاملة» بدقّة؟
باعتقادي إن لبّ القراءة الشاملة يمكن الحصول عليه في هذا التعبير الذي قاله سروش: «إن كلام النبيّ هو عين كلام الباري»([26]).
وقد لجأ سروش لتوضيح هذا الرأي إلى نظريّة «الولاية المعنوية» في التقليد العرفاني. وقد اكتفى في المقال الذي نحن بصدده بمجرّد الإشارة إلى هذه النظرية. ولكنّه في موضعٍ آخر يعمد إلى تفصيل هذه النظرية بشكلٍ أوسع([27]). وبطبيعة الحال فإن سروش لم يجهد نفسه أبداً في تقديم تفسير فلسفي للولاية المعنوية للوليّ الإلهي؛ فإن لغته لا تعدو اللغة الشاعرية والتمثيلية، والمبهمة والمشبعة بألغاز العرفاء في الأعمّ الأغلب. إن الأساس النقلي لتلك النظرية هو الحديث القدسي القائل بأن العبد المؤمن ليتقرَّب بالنوافل حتّى يبلغ مقاماً يكون الله سبحانه وتعالى سمعه وبصره ويده ورجله. وعلى حدّ تعبير المولوي يكون بمثابة الحديدة التي توضع في النار حتّى تكتسب صفات النار، فتغدو محمرّة وحارقة. وبعبارة أخرى: إن العبد المؤمن في مقام القرب بالنوافل تفنى صفاته البشرية، ويخلد من خلال تلبسه بالصفات الإلهية، بحيث يمكن عدّه مظهر الله في هذا العالم. وفي المرتبة يكون ما يصدر عنه صادراً عن العالم الآخر.
وأحياناً يمكن فهم هذه الكلمات التمثيلية بشكلٍ لا يكون متطابقاً مع فحوى «القراءة الشاملة». ولكنَّني هنا لا زلت أميل إلى اعتبار أن نظرية «الولاية المعنوية للعرفاء» منسجمة مع «القراءة الشاملة»، بل وتستلزمها.
إلاّ أنّني أتصوَّر أن تلك القرائن الأربعة تنسجم أيضاً مع تلك النظرية المخالفة للنظرية التي يختارها سروش. إنّ هذه النظرية الثانية تقوم في الحقيقة على تفسير مختلف عن مفهوم «التابعية».
(ولنطلق على هذه النظرية «القراءة في حدّها الأدنى لمفهوم التبعية»، أو باختصار: «القراءة في حدها الأدنى»).
وطبقاً لهذه «القراءة» يكون الوحي «تابعاً» لشخصية النبيّ، بمعنى أن الله في مقام تنزيل الوحي يراعي مستوى تحمُّل وطاقة البشر بما فيهم شخص النبيّ، بمعنى أنه ينزل رسالته وخطابه بما يتناسب والظرفيات الذهنية والعينية لشخص النبيّ وأمّته. وهنا كان أسلوب إرسال الوحي وسطح محتواه «تابعاً» ـ أي متناسباً، وفي حدود طاقة ـ شخصيّة النبيّ، والظرفية المعرفية والمعيشية للأمّة في عصر نزول الوحي.
ولكي يتبيَّن الفارق بين القراءة في حدّها الأقصى والقراءة في حدّها الأدنى نسوق المثال التالي: لنفترض عروض مشكلة في مؤسَّسة تجارية، وتعيَّن على مديرها العام أن يحيط الموظَّفين علما بشأنها. إن علم الموظفين بتلك المشكلة يمكن تصوُّر حصوله بأحد أشكال أربعة:
1ـ أن يعمد المدير بنفسه إلى الاجتماع بالموظَّفين في المؤسسة، وأن يحاورهم بشأن المشكلة مباشرة، دون توسيط سكرتيره الخاص.
2ـ أن يعمد المدير إلى استدعاء سكرتيره الخاصّ والخبير، ويملي عليه ما يجب أن يخبر به الموظَّفين، دون زيادة أو نقصان.
3ـ أن يطلب المدير من سكرتيره أن يفكِّر بطريقةٍ ويجتهد في إبلاغ الموظفين وإعلامهم بالمشكلة، اعتماداً منه على خبرته وحنكته.
4ـ أن لا يقوم المدير باتّخاذ أيّ خطوة في هذا الشأن، تاركاً تدبير الأمور إلى سكرتيره الخاصّ؛ لعلمه القاطع بأن سكرتيره المحنَّك ـ بالنظر إلى خبرته الطويلة والناجحة ـ يعرف خفايا المؤسَّسة جيِّداً، ويدرك كيف يعمل على تخليص المؤسَّسة من هذه الأزمة، دون تدخّل منه.
إن هذه الأشكال الأربعة تمثِّل في الحقيقة مختلف الآراء بشأن حقيقة «الوحي» وماهيّته.
فالشكل الأوّل ينسجم مع الرؤية القائلة بأن الوحي تجربة مباشرة من الله سبحانه.
والشكل الثاني يتَّفق مع الرؤية التقليدية لدى المسلمين في ما يتعلَّق بنظرتهم إلى الوحي القرآني («القراءة في حدّها الأدنى»، طبقاً للنموذج المقترح).
والشكل الثالث قريبٌ مما يذهب إليه بعض المسلمين في فهم الأحاديث القدسيّة أحياناً.
والشكل الرابع ينسجم مع النموذج الذي يتبنّاه سروش (أي «القراءة في حدّها الأقصى»).
وبطبيعة الحال يمكن لنا أن ندرك ـ طبقاً لهذا الشكل الرابع (المنسجم مع فهم سروش للوحي) ـ أن المعلومة التي تصل إلى الموظَّفين من قبل السكرتير الخاص ـ بالمعاني الأربعة التي يعدِّدها سروش ـ «تابعةٌ» لشخصيّة السكرتير، وأجواء عمله ونشاطه. بَيْد أنّنا حتّى في الشكل الثاني (المنسجِم مع الرؤية التقليدية للوحي) نستطيع أن نفترض بأن خطاب المدير العامّ ـ طبقاً لتلك المعاني الأربعة ـ «تابعٌ» لشخصيّة السكرتير، ومحيط عمله ونشاطه.
ومن الطبيعي أن لا يكون السكرتير في بداية عمله متمتِّعاً بنفس كفاءته ومهارته الراهنة. فمثلاً: لم يكن السكرتير في بداية عمله سريع الكتابة أو الطباعة، ولذلك كان يتعيَّن على المدير العام أن يملي عليه التعليمات بتمهُّلٍ وتأنٍّ. وفي الوقت نفسه قد يسعى المدير العام ـ حتّى في هذه اللحظة ـ عندما يلقي عليه التعليمات إلى أن يأخذ ذوق سكرتيره الرفيع وحسّه المرهَف بنظر الاعتبار، دون الإضرار بمضمون خطابه وتعليماته. ولذلك ترانا نستشعر بصمة وذائقة السكرتير في طيّات هذه التعليمات، وفي جميع الموارد يكون المدير العامّ قد راعى حدود استيعاب الموظَّفين وطاقتهم على تحمُّل تلك المعلومات، بمعنى أنه يلقي تلك المعلومات بما يتناسب ومستوى علمهم وقدراتهم الاستيعابية.
إذن النموذج الثاني يمكنه أيضاً أن ينسجم مع القرائن الأربعة، كما هو الحال بالنسبة إلى النموذج الرابع.
ومن وجهة نظري فإن الذي يثير الالتفات في نظريّة سروش ـ بل ويثير الحساسية أيضاً ـ هو أنه يسعى جاهداً إلى استبدال الفهم التقليدي لـ «الوحي» ـ المنسجِم في مثالنا مع الشكل الثاني ـ بفهمٍ آخر هو على أفضل حالاته لا يحظى بالقبول إلاّ لدى جماعة خاصّة من المسلمين. وإن هذا الفهم البديل ـ كما أسلفتُ ـ أقرب إلى الشكل الرابع في مثالنا.
وعلى حدّ علمي فإن الفهم البديل الذي يدعو إليه سروش لا يستلزم أيّ تبعات مخالفة للدين. ولذلك فإن هذه العملية الاستبدالية لا تستدعي الخشية من قبل المتديِّنين، ولا تؤدّي إلى زعزعة الأركان الإيمانية. ولكنَّني مع ذلك أرى أن الانتقال من الفهم التقليدي إلى الفهم المقترَح من قبل سروش غير مبرَّر، ولا ضرورة له إطلاقاً.
أمّا أنه غير مبرَّر فلما سبق من أن الشواهد التي يقدِّمها سروش لتأييد «القراءة في حدِّها الأقصى» تنسجم تمام الانسجام مع «القراءة في حدّها الأدنى» أيضاً. فعندما تؤيد القرينة (أ) نظريتين متوازيتين (ب) و(ج) على حدٍّ سواء، أو أنها تنسجم معهما بنفس المقدار، لا يعود بالإمكان تقديم إحدى هاتين النظريتين على الأخرى؛ انطلاقاً من هذه القرينة. وفي ما نحن فيه يبدو أن القرائن الأربعة التي ذكرها سروش تتناسب مع كلتا النظريتين (القراءة في حدّها الأقصى) و(القراءة في حدّها الأدنى) بنفس المقدار. وعليه لا يمكن لنا من خلال الاستناد إلى تلك القرائن تبرير المعلومة الثانية في القراءة القصوى، إلاّ إذا كانت هناك قرينةٌ أخرى ترجِّح القراءة في حدّها الأقصى على القراءة في حدّها الأدنى.
وأما سبب قولنا بعدم ضرورة استبدال الرؤية التقليدية لـ «الوحي» بالرؤية المقترَحة من قبل سروش فهو أنّ سروش لم يُشِرْ إلى ضرورة ذلك إلاّ من خلال قوله: «إن اعتبار كلام النبيّ عين كلام الباري خير طريق لحلّ المشاكل الكلامية المترتِّبة على تكلُّم الباري»([28]). وقد اكتفى سروش ـ طبعاً ـ بهذه الإشارة، ولم يوضِّح ما هي تلك الإشكالات الكلامية؟ ولماذا لا يمكن التغلب عليها وحلّها من وجهة نظره إلاّ من خلال استبدال الرؤية التقليدية؟ وفي حدود معرفتي يمكن لنا إعادة صياغة الرؤية التقليدية للوحي بشكلٍ يقبله العقل. وفي الأقلّ لا أرى هناك ما يضطرّنا إلى اعتبار النتائج المترتّبة على الرؤية التقليدية أسوأ من النتائج المترتّبة على غيرها من الآراء البديلة. وفي الوقت نفسه ليس هناك ما يثبت أن الإشكالات الفلسفية المترتّبة على نظرية «الولاية الباطنية» أقلّ من الإشكالات المترتّبة على نظرية «تكلُّم الباري»؛ فإن هذه النظرية على ما جاء في كتابات المفكِّرين ـ ومنهم سروش نفسه ـ تحتوي على الكثير من الإبهام والغموض وانعدام الدقّة، وإنها بحاجّة إلى إعادة صياغتها، ومع ذلك لا يعلم ما إذا كانت تقدِّم لنا حلولاً أكثر من تلك التي قدَّمتها الرؤية التقليدية بشأن تكلُّم الباري تعالى.
وعليه إذا كانت نتائج هذا البحث صحيحةً وجب علينا القول بأن المعلومتين المحوريتين اللتين يسوقهما سروش بشأن الوحي النبويّ لا تقومان على أسس استدلالية متينة. بَيْد أن هذا لا يعني أن تلك المعلومات كاذبة؛ فإنّ مجرد نقض الأدلّة التي تساق لدعم وتعزيز المدَّعى المطروح لا يكفي لإثبات كذب ذلك المدَّعى. ولربما أمكن الإتيان بأدلّة أخرى لإثبات تلك المعلومات، أو إعادة صياغة تلك الأدلّة وتقويمها.
2ـ تطوُّر أو تكامل التجربة ــــــ
إنّ من أهم أركان نظرية بسط التجربة النبويّة هي القضية التالية ـ واسمحوا لنا بتسميتها: «أصل تكامل التجربة»، أو «أصل التكامل»، اختصاراً ـ.
أصل التكامل: «إن جميع التجارب قابلة للبسط والتكامل».
بالنسبة لي يبدو أن الجذور الرئيسة لتعقيدات نظريّة بسط التجربة النبوية تعود إلى الإبهام المخلّ في المفاهيم المحورية لهذا الأصل، أي مفهوم «التجربة» ومفهوم «التكامل». وإن مفهوم «التكامل» في تصوُّري يلعب دوراً أهمّ في هذه النظرية. وعليه فإن إبهامه وغموضه يلعب دوراً أكبر في هدمها وتقويضها. من هنا فإننا سوف نتجاوز الإبهام في مفهوم «التجربة» في هذا المقال، ونركِّز بحثنا حول مفهوم «التكامل» في هذه النظرية.
فما هو المراد من «التكامل» في هذه النظرية؟ يبدو أنّه بالإمكان تفسير هذا المفهوم بثلاثة أنحاء مختلفة على الأقلّ، كما يلي:
1ـ إن لمفهوم «التكامل» قيمةً أخلاقية.
2ـ إن لمفهوم «التكامل» قيمةً أخلاقية، ولكنّ تقييمه ليس أخلاقياً.
3ـ ليس هناك لمفهوم «التكامل» أيّ قيمة أخلاقية أبداً.
إن الاختلاف بين التفسير الأول والتفسير الثاني واضحٌ؛ بمعنى أن الأحكام التقييمية لا تكون أخلاقية بالضرورة. من باب المثال: عندما يقال: «إن ليوناردو دافنتشي فنّان مبدع» فإن هذا الحكم والتقييم لا يكون بالضرورة أخلاقياً. فإن كلمة «مبدع» في هذه العبارة تعني الكفاءة في القيام بعمل محدّد، بغضّ النظر عن التقييم الأخلاقي الخاصّ الذي يصدر بالنسبة إلى ذلك العمل. وعليه يمكن التمييز بين نوعين من التقييم، وهما: التقييم الأخلاقي؛ والتقييم غير الأخلاقي.
إن جميع القرائن الداخلية في النصّ تحكي عن أن نظرية بسط التجربة النبوية ترى لمفهوم «التكامل» قيمة أخلاقية. وبعبارةٍ أخرى: يرى صاحب هذه النظرية أن «التكامل أو البسط» يدلّ على «التحسّن» أو «التطوّر» وما إلى ذلك. وإن المفهوم المقابل له هو «الأفول أو الزوال»([29]). وبطبيعة الحال ليس من الواضح ما إذا كان هذا التقييم هو من نوع الأحكام الأخلاقية أم لا. ففي حدّ علمي وفهمي ليس هناك في مقال بسط التجربة النبويّة ما ينفي إمكان التفسير الأخلاقي لمفهوم «التكامل». وفي الوقت عينه يبدو أن النصّ منفتح على التفسير التقييمي ـ غير الأخلاقي أيضاً. ومن المعاني الثلاثة المتقدّمة يبدو أن الاحتمال الأخير (أي الفهم غير الأخلاقي لـ «التكامل») لا يحتوي على أيّ قرينة داخلية أبداً. من هنا يصعب اعتبار الفهم غير الأخلاقي لمفهوم «التكامل» رأياً لصاحب نظرية بسط التجربة النبوية، رغم أن هذا الفهم يمكن أن يكون أسلوباً صالحاً لدفع موارد نقض «أصل التكامل».
وعلى هذا الأساس يمكن الحصول على ثلاث قراءات مختلفة عن «أصل التكامل»:
الأولى: إن جميع التجارب قابلة للبسط والتكامل، بمعنى أن الحالة اللاحقة للتجربة من الناحية الأخلاقية أفضل حالاً من الحالة السابقة.
ولنطلق على هذه القراءة مصطلح «التكامل بمنزلة التحسّن».
الثانية: إن جميع التجارب قابلة للبسط والتكامل، بمعنى أن الحالة اللاحقة للتجربة أفضل من الحالة السابقة لها بالمعنى اللاأخلاقي.
ولنطلق على هذه القراءة مصطلح «التكامل بمنزلة التطوّر».
الثالثة: إن جميع التجارب قابلة للبسط والتكامل، بمعنى أن الحالة اللاحقة للتجربة تختلف عن حالتها السابقة.
ولنطلق على هذه القراءة مصطلح «التكامل بمنزلة التحوّل».
في تصوّري من الواضح جدّاً أن القراءة الأولى كاذبة تماماً؛ فإن تجربة السرقة مثالٌ جيّد على نقض هذه القراءة؛ فإن الشخص الذي يبرع في السرقة بسبب التجربة لا يكون في وضع أفضل من الناحية الأخلاقية.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن القراءة الثانية؟ عندما نقول: «إن جميع التجارب قابلة للتكامل، بمعنى أن الحالة اللاحقة للتجربة أفضل من الحالة السابقة لها بالمعنى اللاأخلاقي» فما الذي نعنيه بذلك؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال. فلست أعرف تماماً كيف يعمد صاحب نظرية بسط التجربة النبوية إلى تحليل مفهوم «التحسن» اللاأخلاقي (أو ما أطلقنا عليه مصطلح التطوّر). في التقليد الفلسفي المعاصر يتمّ في العادة تقديم تفسير عملي عن مفهوم «الجيد اللاأخلاقي». طبقاً لهذه الرؤية عندما يقال: «إن الـ (أ) جيدة»، يعني ذلك أن (أ) تقوم بدورها بشكل جيّد. وعليه فإن مفهوم «الجودة»، وبتبعه «الحسن»، تابعٌ لنوع وماهية الظاهرة التي نصفها بـ «الجودة». عندما نقول «إن الـ (أ) جيدة» لا نستطيع أن ندرك معنى «الجودة» ـ وبتبع ذلك مفهوم «التحسّن» ـ إلاّ إذا علمنا الأمر الذي نتحدّث عنه، بمعنى أن نعلم ما هي (أ). فمثلاً لنفترض أن الـ (أ) عبارة عن مدية، فعندما نقول: «إن هذه المدية جيدة» نعني بذلك أنها حادّة؛ وعندما نفترض أنها عبارة عن معلمة يكون معنى «الجودة» مختلفاً. فمثلاً: عندما نقول: «إن هذه السيدة معلِّمة جيدة» نعني بذلك أن لديها معلومات كافية في مجال اختصاصها التدريسي، وأنها كفوءة في إيصال المعرفة إلى تلاميذها، وأنها جادّة ومخلصة ومثابرة في تعليم الطلاب، وما إلى ذلك.
ولكنْ ما الذي نقوله بالنسبة إلى القراءة الثانية؟ إن «التجربة» مفهوم عامّ يطلق على طيف واسع ومتنوِّع من المعلومات. إن معنى الجودة ـ وبتبع ذلك معنى الحسن ـ في التجربة يتغيَّر بتغير نوع التجربة. وعليه من الصعب أن نصدر حكماً عاماً بشأن جميع أنواع التجربة، دون إيضاح معنى التجربة، وبيان نوع التجربة التي نبحث عنها.
ولكي نرى ما إذا كانت القراءة الثانية صادقة أم لا يمكن لنا أن ندرس مورداً خاصّاً من موارد التجربة، من قبيل: التجارب المعرفية مثلاً. وأعني بالتجارب المعرفية توظيف القوى المعرفية في مقام الحصول على المعرفة. إن أهم القوى المعرفية لدينا عبارة عن الحواسّ الخمس والذاكرة والعقل. إن «حسن» التجارب المعرفية بمعنى أن القوى المعرفية لدينا تنتج المزيد من القضايا الصادقة. وفي هذه الحالة يبدو أنه يتعيَّن علينا اعتبار «حسن» التجربة الإدراكية أو «التكامل بمنزلة التطوُّر» في هذا المورد بمعنى «ارتفاع محتوى صدق» التجربة (على فرض ثبات أو انخفاض محتوى الكذب)، أو «تقليل محتوى كذب» تلك التجربة (على فرض ثبات أو ارتفاع محتوى صدقها).
من باب المثال: لنجري مقارنة للتجربة (أ) المعرفية في زمنين، وهما: (t1) و(t2). ولنفترض تسمية حالة تلك التجربة في زمن (t1) بـ «الحالة السابقة» أو (A). وحالة ذات التجربة في زمن (t2) بـ «الحالة اللاحقة» أو (B). والآن دعونا نأخذ بنظر الاعتبار أبسط حالة ممكنة: لنفترض أن محتوى صدق التجربة (أ) في الحالة السابقة يتضمّن قضية صادقة (p)، ومحتوى كذبها قضية كاذبة (q). وكذلك محتوى صدق تلك التجربة في الحالة اللاحقة بالإضافة إلى القضية الصادقة (p) تتضمّن قضية صادقة (r) أيضاً، بَيْد أن محتوى كذبها بناءً على فرض ثباتها. ويمكن بيان هذه الفرضيات على النحو التالي:
Ta: p
(Ta: محتوى صدق التجربة ألف في الحالة السابقة؛ p: قضية صادقة)
Fa: q
(Fa: محتوى كذب التجربة ألف في الحالة السابقة؛ q: قضية كاذبة)
Tb: p, r
(Tb: محتوى صدق التجربة ألف في الحالة اللاحقة؛ p, r: قضية صادقة)
Fb: q
(Fb: محتوى كذب التجربة ألف في الحالة اللاحقة؛ q: قضية كاذبة)
وفي هذه الحالة، حيث يكون محتوى صدق الحالة اللاحقة أكثر من الحالة السابقة، بمعنى (Tb > Ta)، ومحتوى كذب هاتين الحالتين ثابت ومتساوي، بمعنى (Fa = Fb)، فبناءً على التعريف يجب اعتبار الحالة اللاحقة «أفضل»، أي «أكثر تكاملاً» (بالمعنى الثاني).
بَيْد أن الحقيقة هي أن هذا المعنى من «التكامل» يحتوي على تناقضٍ داخلي. اسمحوا لنا بدراسة هذا الادّعاء بشأن هذه الحالة البسيطة. وقبل كلّ شيء لنعمل على بيان بعض الفرضيّات المتقدّمة في قالب لغة رمزيّة. من باب المثال: نعلم أن القضية الكاذبة (q) ترتبط بالحالتين (A) و(B) معاً. وبعبارة صورية:
1- q E F a
2- q E F b
كما نعلم أيضاً أن القضية الصادقة (r) بناءً على الفرض ترتبط بمحتوى صدق (B)، إلاّ أنها لا ترتبط بمحتوى صدق (A)، وبعبارة صورية:
3- r E T b
4- r E T a
وهنا يكون التركيب المعطوف على القضية (r) و(q) بمعنى (r & q) قضية كاذبة ترتبط بالحالة (B) كاذب؛ لأن أحد مؤلّفات هذا التركيب العطفي كاذب، ويرتبط بالحالة (B)؛ وذلك لأن (r) و(q) ينتجان عن المحتوى المعرفي للحالة (B) منطقياً (وهنا بشكلٍ عامّ)، وعليه:
5- r & q E F b
والسؤال الهامّ الذي يفرض نفسه هنا هو: هل القضية الكاذبة (r & q) تضاف إلى محتوى كذب (A) أيضاً أم لا؟ ولنفترض أن هذه القضية أُضيفت إلى محتوى كذب (A). وبعبارةٍ أخرى: لنفترض أن الدعوى الآتية صادقة:
6- r & q E F a (الفرض)
بَيْد أنه في مثل هذه الحالة حيث أن (q) ـ وبتبعها (r & q) ـ كاذبة، وكذلك (r) طبقاً للفرضية الرابعة لا ترتبط بمحتوى صدق القضية (A)، نستنتج أن (r) لا محالة ترتبط بمحتوى كذب (A):
7- r E F a
بيد أن القضية (r) لا يمكنها أن ترتبط بمحتوى كذب (A)، لأن القضية (r) يفترض أنها صادقة، وعليه:
8- r E F a
وعليه فإننا هنا نواجه التناقض التالي:
9- (r E F a) & (r e F a) (حصيلة المقدمتين السابعة والثامنة)
وبعبارةٍ أخرى: إن فرضيتنا في المقدّمة السادسة، التي تقوم على تركيب عطفي (r & q) بالنسبة إلى محتوى كذب (A)، تنتهي إلى التناقض. وعليه تكون تلك الفرضية كاذبة، ويكون نقيضها صادقاً لا محالة. بمعنى أن القضية العطفية (r & q) لا ترتبط بمحتوى كذب القضية (A):
10- r & q E F a
ولكنْ ما الذي يعنيه ذلك؟ إن معنى ذلك أنه كلّما أُضيف شيءٌ إلى محتوى صدق الوضعية اللاحقة لقضية صادقة مثل (r) لم يكن موجوداً في الحالة السابقة يستنتج منه في الوقت نفسه قضية كاذبة أيضاً، أي (r & q) التي تضاف إلى المحتوى الكاذب للحالة اللاحقة. بَيْد أنه من غير الممكن من الناحية المنطقية إضافة هذه القضية الكاذبة إلى محتوى كذب الحالة اللاحقة. وبعبارةٍ أخرى: بالتوازي مع زيادة محتوى صدق الحالة اللاحقة يضاف إلى محتوى كذبها أيضاً. وعليه من غير الممكن من الناحية المنطقية أن يتحقَّق الشرطان التاليان في وقتٍ واحد:
1ـ أن يكون محتوى صدق الحالة اللاحقة أكثر من الحالة السابقة، بمعنى (Tb > Ta).
2ـ أن يبقى محتوى كذبها ثابتاً وواحداً، بمعنى أن يكون (Fa = Fb). وهذا يعني أن فرضيتنا عن «التكامل» تحتوي على تناقض داخلي([30]). وعلى هذا الأساس فإن التجارب المعرفية في الحدّ الأدنى لا يمكن أن تقبل البسط والتكامل بالمعنى المنشود في القراءة الثانية. إن هذه التجارب بذلك المعنى لا تقبل حتّى البسط والتكامل أيضاً. وعليه يجب اعتبار التجارب المعرفية مورداً ناقضاً للقراءة الثانية.
في حدود إدراكي يمكن لنا في قبال هذا النقض أن نتّخذ في الحدّ الأدنى واحداً من الأسلوبين التاليين:
الأوّل: أن يتمّ تقديم فهم آخر عن معنى التكامل في التجارب المعرفية غير ما ذكرناه هنا. وليس من الواضح بالنسبة لي ما هو هذا الإدراك. وعليه يجب بعد طرح هذا الفهم أن نتكلَّم بشأن ماهيته.
الثاني: أن يدّعى أن هذه التجارب لا تقبل البسط والتكامل من بعض الجهات، ولكنّها قابلة للتكامل من حيثيّة أو حيثيات أخرى. ولكنْ ما هي الحيثية التي تتكامل هذه التجارب من خلالها؟
لو أننا اعتبرنا مفهوم التكامل في نظرية بسط التجربة النبوية فاقداً للمضمون ففي مثل هذه الصورة يجب أن نخرج المفهوم الأخلاقي لـ «ازدهار الشخصية» عن دائرة البحث، بمعنى أنه عندما نتكلَّم عن «تكامل» هذه التجارب فإن معناها ـ أيّاً كان ـ لن يكون هو «ازدهار شخصية» صاحب التجربة. إنّ مفهوم «ازدهار الشخصية» على نحو ما أفهمه إنما هو مفهوم أخلاقي؛ إذ من الصعب أن ندّعي مثلاً أن شخصية السارق أو المجرم تزدهر وتتحسّن من خلال قيامه بمزيدٍ من أعمال السرقة والجريمة. ومن ناحيةٍ أخرى ـ كما تقدّم أن ذكرنا ـ فإننا لا نستطيع هنا أن نعتبر التجارب قابلة للبسط والتكامل من الناحية المعرفية (في الحدّ الأدنى بالنسبة إلى المفهوم المقترَح هنا). وعليه يبدو أن الخيار الهامّ المتبقّي الوحيد هو أن نقول: إننا من خلال استخدامنا لقوانا المعرفية نزداد خبرةً في ممارستنا لمهامنا بشكلٍ تدريجي، ونحصل على مزيد من الخبرة والمعرفة، ولذلك فإنّ هذه التجارب «تتكامل» في الحدّ الأدنى في هذه الناحية الخاصة.
وعليه فإننا لو افترضنا أن التجربة (أ) إنما يمكن اعتبارها متكاملة إذا تحقّق في الحد الأدنى واحد من تلك الشروط الثلاثة ـ أي إما أن تغدو شخصية صاحب التجربة أكثر ازدهاراً؛ وإما أن يرتقي المحتوى المعرفي للتجربة؛ وإما أن يكون الفرد في قيامه بذلك الفعل المحدّد أكثر كفاءة ـ. وفي هذه الصورة يبدو أنّه بإمكاننا ـ طبقاً للأسلوب الثاني ـ أن نعتبر التجارب المعرفية أكثر تكاملاً، شريطة أن يغدو صاحب التجربة من خلال توظيفه لقواه المعرفية أكثر خبرة وكفاءة في هذا العمل الذي يمارسه.
وأما إذا قلنا: إن الفرد يغدو أكثر خبرة وكفاءة في استخدام قواه المعرفية، فما الذي نعنيه بذلك؟ في حدود معرفتي، بالنسبة إلى هذا المورد الخاصّ في الحدّ الأدنى (أي عندما نتحدث عن القوى المعرفية) يكون معنى هذا الادّعاء هو أن الفرد يمكنه توظيف قواه من أجل الحصول على مزيدٍ من القضايا الصادقة. وبعبارةٍ أخرى: إنما يمكننا الحكم على فردٍ بأنه قد أصبح أكثر كفاءة في توظيف قواه المعرفية إذا نظرنا إلى محتوى الصدق الحاصل من خلال توظيف تلك القوى في زمانين مختلفين، لنرى أن محتوى الصدق الحاصل من توظيف تلك القوى في الزمان اللاحق أكثر من الزمان السابق (على فرض أن يكون محتوى الكذب في الحالة السابقة أقلّ أو مساوياً لمحتوى الكذب في الحالة اللاحقة). ومن الواضح أن مفهوم «الخبرة أو الكفاءة الأكثر» يستند إلى حدٍّ كبير على مفهوم من «التكامل»، الذي أثبتنا ـ في ما تقدَّم ـ تناقضه المنطقي. وعليه ففي حدود فهمي لا يمكن الكلام عن «التكامل الذي هو بمنزلة التطوّر» (سواء بالمعنى النظري أو العملي) في ما يتعلّق بالتجارب المعرفية، إلاّ إذا تمّ تقديم إدراك جديد لمفهوم «التكامل».
ولكنْ ما هو مدى أهمّية التأكيد على تكامل التجارب بهذا المعنى؟ لنفترض أننا آمنا بأن التجارب تتحوّل على مرّ الزمان، فما هي العقدة التي نتوقّع حلّها من هذا الإدراك وهذا الوعي؟ فهل أجهد صاحب نظرية بسط التجربة النبوية نفسه من أجل إثبات هذا المعنى المستهلك؟! أشكّ في ذلك إلى حدٍّ بعيد. إن أكبر همٍّ لصاحب نظرية بسط التجربة النبوية هو أن يثبت أن اللاحقين قد أضافوا شيئاً إلى التجربة النبويّة. وهو لذلك يحتاج إلى أكثر بكثير من مجرّد إثبات «التحوُّل» في التجارب. وعليه رغم حصانة القراءة الثالثة من سهام النقد الموجَّهة إليها حتّى الآن، غير أنّ هذه الحصانة لم تتوفَّر إلاّ بسعرٍ باهظ الثمن، وهو تجريد هذه النظرية من اللون والطعم والرائحة.
خلاصة الكلام ــــــ
لو أنّا فسرنا «أصل التكامل» على أساس القراءة الأولى، بمعنى أن نفسّر مفهوم «التكامل» بـ «التحسّن الأخلاقي»، فإن هذا الأصل سيكون كاذباً بشكلٍ صريح، ودون أدنى شكّ.
ولو أننا فسّرنا «أصل التكامل» على أساس القراءة الثانية، بمعنى أن نفسّر مفهوم «التكامل» بـ «التطوّر» أو «التحسّن اللاأخلاقي»، ففي هذه الصورة إذا كان الملحوظ ـ في الحدّ الأدنى ـ هو التجارب الإدراكية ـ أي التجارب المشتملة على محتوى الصدق ـ تكون تلك المقدّمة قائمة على فهم لـ «التكامل» مشتمل على تناقض منطقي. وبهذا الاعتبار يكون هذا الأصل كاذباً.
وبالتالي لو أننا فسّرنا «أصل التكامل» على أساس القراءة الثالثة، بمعنى أن نفسّر مفهوم «التكامل» بمعنى من معاني «التحوّل» فارغ من المحتوى، ففي هذه الصورة سيكون ذلك الأصل صادقاً على نحوٍ هزيل جداً. وفي هذه الصورة لن تؤدّي النظرية مورد البحث إلى النتائج المنشودة لصاحب نظريّة بسط التجربة النبويّة أبداً. وبعبارةٍ أخرى: إننا سنحصل على صدق ذلك الأصل وحصانته تجاه الموارد الناقضة على حساب تمييع أصل النظرية، وتفريغها من روحها ومحتواها.
الهوامش
(*)باحثٌ وكاتب متخصِّص في مجال فلسفة الدين وعلم المعرفة. يُعْرَف بهذا الاسم، واسمه الحقيقي آرش نراقي.
([1]) تعود جميع إحالاتنا في هذا المقال، إلى مقال «بسط التجربة النبويّة»، الموجود في كتاب (بسط التجربة النبوية): 1 ـ 28، لكاتبه عبد الكريم سروش، انتشارات صراط، الطبعة الثانية، صيف عام 2000.
([2]) انظر: بسط التجربة النبوية: 13.
([7]) انظر: المصدر السابق: 5 ـ 6.
([8]) انظر: المصدر السابق: 4. التأكيد من عندنا.
([9]) انظر: المصدر السابق: 6. التأكيد من عندنا.
([10]) لمزيدٍ من الاطلاع بشأن البحوث المعرفية الجديدة التي تشرح التجارب الدينية طبقا للمبنى الإدراكي، انظر:
William P. Alston, Perceiving God (The Epistemology of Religious Experience), Cornell University, 1991.
وانظر أيضاً إلى مقال: «إمكان وساختار وحي زباني» في الكتاب الذي بين أيدينا.
([11]) انظر: بسط التجربة النبوية: 13.
([14]) انظر: المصدر السابق: 10.
([15]) يجب إلقاء المزيد من الضوء على هذا الفهم لـ «التجربة». بَيْد أنّي لست هنا بصدد بيان نظريتي بشأن «التجربة الدينية» والدفاع عنها. وعليه لا أرى إجمال هذا التعريف سيكون مخلاًّ بالبحث.
([16]) انظر: بسط التجربة النبوية: 13.
([18]) انظر: المصدر نفسه ، التأكيد من عندنا.
([19]) انظر: المصدر السابق: 19، التأكيد من عندنا.
([20]) انظر: المصدر السابق: 13.
([21]) انظر: المصدر السابق: 11 ـ 13.
([22]) انظر: المصدر السابق: 19، الهامش.
([23]) انظر: المصدر السابق: 20.
([24]) انظر: المصدر السابق: 22.
([25]) انظر: مقال «الذاتي والعرضي في الدين»، بسط التجربة النبوية: 29 ـ 82.
([26]) انظر: بسط التجربة النبوية: 14.
([27]) انظر: مقال «الولاية الباطنية والولاية السياسية»، بسط التجربة النبوية: 243 ـ 281، وخاصة: 247 ـ 268.
([28]) انظر: بسط التجربة النبوية: 14.
([29]) انظر إلى هذه العبارات التالية: «إذا كانت النبوة ـ بالمعنى القريب من عوالم المعاني وسماع نداء الغيب ـ تجربةً فعندها يمكن إثراء هذه التجربة وتقويتها وتطويرها» (ص 10). «[…] ولذلك كان النبي يزداد علماً بالتدريج، فيغدو أكثر عمقاً، وأشدّ ثباتاً، وأكثر تقدّماً وتجربة، وباختصارٍ يغدو أقوى في نبوّته» (ص 11). «إن هذا لازم كلّ تجربة تنضج بالتدريج. فكلما كان هناك حديث بشأن الخبرة جاز الكلام عن تطوير هذه الخبرة. فالشاعر من خلال الشعر يصبح أكثر شاعرية، والخطيب يصبح بالخطابة أكثر تأثيراً ومقدرة في فنّ الخطابة. وهذه الحقيقة جارية في كلّ تجربة، دون التلاعب بجوهر تلك التجربة، أو الإضرار بحقيقتها أو اعتبارها؛ فإنها بفعل الاستمرار والتجربة تغدو أكثر كمالاً. كانت تجربة النبيّ الداخلية تكتسب مثل هذا البسط والتكامل، وكان يوماً بعد يوم يزداد معرفة وبصيرة بمنـزلته ورسالته وأهدافه، ويغدو أكثر عزماً وتصميماً وثباتاً في القيام بمسؤوليته، ويصبح أكثر تجهيزاً وتسلُّحاً من أجل تحقيق أهدافه، ويكون في نشاطه أكثر تفوُّقاً، ويكون أكثر تفاؤلاً واستبشاراً بنجاح مهمته. […] فكلما زادت العبادة أصبح العابد أكثر تقدماً، وكلما أصبح العابد أكثر تقدماً أصبحت عبادته أكثر عمقاً وروحانية» (ص 13). […] في هذه التجربة الداخلية كان هناك وحي ورؤيا وإلهام ومعراج ومراقبة وتفكير، وقد أصبح في هذه الموارد أكثر خبرة وعطاءً أيضاً» (ص 24). «إن [آية اليوم أكملت لكم دينكم] ناظرةٌ إلى الإكمال في حدّه الأدنى دون حدّه الأقصى، بمعنى أن الناس قد تمّ تزويدهم بالحدّ الضروري والأدنى من الهداية، وأما الحدّ الممكن الأقصى في ما يتعلّق بالتكامل التدريجي والبسط التاريخي للإسلام فهو أمرٌ يتحقّق في المراحل التالية» (ص 24). «وهنا حيث نعيش غيبة النبيّ| يجب أن تخضع تجارب النبيّ الداخلية والخارجية للبسط، وأن تعمل هذه التجارب على إثراء الدين وغناه. وإن العرفاء الذين يتغذّون من معين سجايا النبيّ|، ويتبعون ظلّه، ويجلسون على خوانه ومائدته، يعملون على إثراء التجارب الدينية. وإنّ تجربة كل واحد منهم فريدة من نوعها، ولذلك تكون بدورها مرغوبة ومطلوبة وتستحقّ الثناء. […] إن التجارب العرفانية العاطفية مثلاً كانت من التجارب العرفانية اللطيفة التي تزيد من ثراء التجارب الدينية للمتدينين. […] وبالإضافة إلى التجارب الداخلية نجد التجارب الخارجية والاجتماعية قد زادت وتزيد من غناء وتكامل الدين […]» (ص 25). «إن المسلمين إنما يحافظون على حيويتهم إذا واصلوا هذه التجربة بالاستلهام من الوحي، والاستناد إلى المصادر الأولى، والتأسّي بشخصية نبيهم؛ ليبلغوا بكمال الدين في حدّه الأدنى إلى كماله في حدّه الأقصى» (ص 26). «علينا أن لا ننسى أن العرفاء قد زادوا في إثراء الدين وغناه، وأن المفكِّرين عندنا قد أضافوا شيئاً إلى إدراكنا وكشفنا للدين. علينا أن لا نخطئ في تقييم هؤلاء العظام، فنعتبرهم مجرّد شرّاح لكلام المتقدِّمين، أو ببغاوات عمدوا إلى تكرار واجترار تجارب السابقين […]. فلم يكتب لهذا الدين أن يتكامل أو يزدهر إلاّ على هذه الشاكلة. إن تجارب ومعطيات هؤلاء واكتشافاتهم الفكرية قيِّمة ثمينة، وقد عملت على إثراء الدين. وعليه فقد كان هؤلاء مكتشفين للدين، ولم يكونوا مجرّد مفسِّرين، وهذا هو مكمن عظمتهم […]» (ص 27).
([30]) كما يمكن صياغة هذه الأدلة لحالات أخرى، من قبيل: (Ta < Tb, Fb < Fa) أو (Ta = Tb, Fb < Fa) أيضاً. ولمزيد من التفصيل في ما يتعلّق بهذا البرهان، انظر:
- H. Newton – Smith, The Rationality of Science, Routledge & Kegan Paul, 1981, pp. 52 – 59.
وكذلك:
- Miller, (1974) , «Popper’s Qualitative Theory of verisimilitude», British Journal for the Philosophy of Science 25, pp. 178 – 88. (look at pp. 170 – 2).
- Tichy, (1974) , «On Popper’s Definitiion of Verisimiltude», British Journal for the Philosophy of Science 25, pp. 150 – 60. (look at pp. 156 – 7(.