د. يحيى محمد(*)
مدخل
بدأت الممارسة الفقهية كممارسة بيانية غرضها تسديد حاجات الواقع المتجدِّد. لذا فهي تبحث عن التفصيل. وتنبعث هذه الحاجة من أن الفقه هو العلم الإسلامي الوحيد المعني بالواقع المباشر. وحيث إن هذا الأخير يمتاز بالتنوع والتفصيل فالفقه الذي يعالجه ينبغي أن يكون مفصَّلاً مثله. لكن هذا التفصيل لا يتحصَّل إلا في الاجتهاد المعتمد على الحديث. فهذا الأخير، وإن كان مفصَّلاً إلى حدٍّ ما؛ إلا أنه لا يفي بحاجات الواقع وتغيراته. ولو كان كافياً لما لزم الاجتهاد بالمعنى الذي فهمه الفقهاء الأوائل، بل لاعتبر من المحرمات؛ باعتباره لا يمتّ إلى مصدر قدسي (إلهي)، وإنما اضطر إليه الفقه للحاجة وضغط الواقع، فبناه على الأصول البيانية؛ لينضبط بها، عبر تطبيق النصّ على ما لا نصّ فيه؛ لجامعٍ يجمعهما. وقد أشار عدد من العلماء إلى هذا الاضطرار، كالشافعي، وغيره([1]).
كما أشار آخرون إلى أن مبرر العمل بالاجتهاد إنما جاء وفقاً لتناهي النصوص قبال تجدُّدات الواقع غير المتناهية. ومن ذلك: ما نقله أبو بكر بن العربي عن بعض العلماء، من قولهم: إن النصوص معدودة، والحوادث غير محدودة، ومن المحال تضمن المعدود ما ليس بمحدود([2]). وكذا ما أشار إليه الشهرستاني، والشاطبي، وغيرهم([3]).
بدايات ظهور الاجتهاد الفقهي
لقد ظهر الاجتهاد الفقهي في فترة مبكرة أوائل القرن الثاني للهجرة، وربما قبل ذلك بقليل. وكان يُراد به أول الأمر معالجة القضايا التي لا نص فيها. وظل هذا المعنى مستحكماً لدى المذاهب الفقهية التي ظهرت خلال القرنين الثاني والثالث الهجريّين، ومن ثم أخذ يتوسّع، فشمل القضايا المنصوص فيها([4]).
ففي بادئ الأمر طُرح الاجتهاد كمرتبة بعد مرتبة النص. وكان يُعبّر عنه بصور وقواعد متعدِّدة لم تُثِرْ خلافاً بين الفقهاء القائلين به. وكان القياس على رأس هذه القواعد. ويُعَدُّ الشافعي أول من أثار الخلاف في الاجتهاد، وذلك عند ضبطه والتنظير له، حيث قصره على القياس، فخالف سابقيه، الآخذين بالمصالح المرسلة، والاستحسان، وغيرهما. ومع هذا بقي الاجتهاد مطروحاً في مرتبة تالية للنص، أي الكتاب والسنّة، وكذا الإجماع؛ باعتباره كاشفاً عنه، أو كون حجّيته تستمد منه مباشرة، تبعاً للحديث المرويّ في هذا الخصوص.
فالنصُّ أولاً، ثم الاجتهاد ثانياً.
هذا ما استندت إليه أغلب المذاهب الفقهية خلال القرنين الثاني والثالث الهجريّين. وهناك من المذاهب مَنْ رفض تلك الأدوات للاجتهاد، واعتمد على بيانات النصّ وحده. ومن ذلك: مذهب داوود الأصفهاني(270هـ)، وابنه، فكان في بداية أمره شافعياً لا يقرّ بأصول الاجتهاد، سوى القياس، إلا أنه انقلب على شيخه، واعتمد على ظواهر النصّ، بلا تأويل، ولا قياس. وتكرَّر هذا المنحى بشكل متطوِّر لدى ابن حزم الأندلسي الظاهري. وقبل هؤلاء جميعاً نحا الإمام الصادق ـ كما يبدو ـ إلى إنكار الاجتهاد في كافة مظاهره، وأصوله المتعارف عليها؛ لكونها مصدر التخمين والظنون.
وقيل: إن المذاهب الفقهية بلغت خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة ما يقارب العشرين مذهباً. وكان أغلبها يعمل بمبدأ الاجتهاد حسب المفهوم الآنف الذكر. وتُعَدُّ المذاهب الأربعة المعروفة أبرز مَنْ عمل بهذا المبدأ، وإن لم يتَّفق أصحابها على القواعد التي يصحّ العمل بها، لكنهم اتفقوا على العمل بالقياس، واختلفوا في غيره من القواعد. وليس من سببٍ يجعلهم يتفقون على القياس سوى أنه أقرب صور الاجتهاد إلى النص؛ إذ هو قائم عليه كمثال سابق. أما بقية قواعد الاجتهاد فلم تكن لها خصوصية الاعتماد على النص الخاص، ولذلك كانت موضعاً للردّ والقبول، أو كان يُلجأ إليها للحاجة والضرورة، كاستثناء للقياس، مثلما اتُّخذ القياس كاستثناء للنص؛ باعتبار أن العمل به هو للضرورة والاضطرار، وإن أصبح فيما بعد أصلاً يُعتمد عليه كما سنرى.
لقد صنّف الباحثون عمل المذاهب الفقهية إلى صنفين: أحدهما: يُعبّر عنه باتجاه الرأي، والآخر: يُعبَّر عنه باتجاه الأثر. ولفظة الرأي قد تثير جدلاً؛ إذ هي تعني في ظاهرها الرأي قبال الأثر أو النص. ولكنّ الأمر ليس كذلك. فالرأي يرادف الاجتهاد، وهو يستند إلى النصّ بشكل غير مباشر، أو إلى ما كان عليه سلوك الصحابة، وهو لا يفيد إلاّ الظنّ.
مدارس الاجتهاد في القرن الثاني
فخلال القرن الثاني شاعت مدرستان كبيرتان في الفقه: الأولى: في العراق، ويطلق عليها مدرسة الكوفة، ويتزعَّمها أبو حنيفة. وقيل: إن لها امتداداً يعود بها إلى بعض التابعين، مثل: ابراهيم النخعي، الذي اعتمد على فتاوى عبد الله بن مسعود، وأقضية الإمام علي وفتاواه، وكذا أقضية شُرَيح، وغيره من قضاة الكوفة؛ والثانية: مدرسة المدينة في الحجاز، ويتزعمها مالك بن أنس. وقيل: إن امتدادها يصل إلى التابعي سعيد بن المسيب، حيث تأثَّر بالكثير من الصحابة الذين كانوا في المدينة، فكان حافظاً لأقضية عمر بن الخطاب، وأحاديث أبي هريرة، وغيرهما. ومثله سار بقية علماء المدينة بالأخذ عن الصحابة الساكنين فيها. وكان أبرزهم: عروة، وسالم، وعكرمة، وعطاء بن يسار، وقاسم، وعبيد الله بن عبد الله، والزهري، ويحيى بن سعيد، وزيد بن أسلم، وربيعة([5]). وقد عملت كلا المدرستين بأصول الرأي، وإن اختلف الاعتبار، طبقاً للظروف الخاصّة بالعراق مقارنة بالحجاز. فقد ذُكر أن خصوصية الرأي في العراق تدعو إلى القياس والفقه الافتراضي، وكما كان يقول أبو حنيفة: «إنا نستعدّ للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه، والخروج منه»([6]). وقيل: إنه وضع لذلك ستّين ألف مسألة. كما قيل: إنه وضع خمسمائة مسألة. وذكر الخطيب الخوارزمي أنه وضع ثلاثة وثمانين ألف مسألة، منها: ثمانية وثلاثون ألفاً في العبادة، والباقي في المعاملات، ولولا هذا لبقي الناس في تيه الضلالة، وبيداء الجهالة([7]). وكان يقول: هذا رأي حسن، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن ممّا قلنا فهو أولى بالصواب منا([8]). وقيل: إن تعويل مدرسة الكوفة على القياس هو لقلّة الرواية في هذا البلد، كما يراه ابن خلدون([9]). في حين قام الرأي في الحجاز على المصلحة والعمل ضمن دائرة ما يفرضه الواقع من قضايا. وكما قيل: إن علة ذلك هي أن أهل الحجاز بنَوْا فقههم على المصلحة، اتّباعاً لعمر بن الخطاب في ما كان «يجتهد فيه لأمور الدولة»([10])؛ إذ كان يحكّم الواقع، ويعمل بالمقاصد؛ لتحديد قضايا الأحكام. وسار الفقه في الحجاز على هذا التقليد.
ومع ما عُرف عن فقهاء العراق من العمل بالقياس والافتراض فقد ظهر على يد أبي حنيفة ما هو جديد في الأمر، حيث امتاز فقهه بأصول الاستحسان والعرف؛ نتيجة خبرته الخاصّة بالسوق والتجارة. وكان كثيراً ما يناظر أصحابه، فإذا انجرت المناظرة «إلى البحث عن العرف، أو المصلحة، أو العدل في ذاته، فعندئذٍ يصمتون، ولا يتكلمون»([11]). فقد اعتمد على العرف والاستحسان كأصلين يترك بهما القياس، أي إنه لا يأخذ بهذين الأصلين إلا إذا استقبح القياس كاستثناء. وكما قال عنه محمد بن الحسن: «إن أصحابه كانوا ينازعونه المقاييس، فإذا قال: أستحسن لم يلحق به أحد، ولقد كان يقيس ما استقام له القياس، ولم يقبح، فإذا قبح القياس استحسن، ولاحظ تعامُل الناس»([12]). وكذلك قال عنه أبو يوسف: إنه كان إذا وردت حادثة سأل: هل عندكم أثر؟ فإن كان عنده أو عندنا أثر أخذ به، وإن اختلفت الآثار أخذ بالأكثر، وإلا أخذ بالقياس، وإن تعسَّر القياس تركه، وعمل بالاستحسان([13]).
ومهما يكن فقد وضعت القواعد الاجتهادية في مرتبة متأخرة لمصادر التشريع. فقد روي أن أبا حنيفة قال: «ليس لأحد أن يقول برأيه مع نص من كتاب الله، أو سنّة عن رسول الله، وإجماع عن الأمّة. وإذا اختلف الصحابة على أقوالٍ نختار منهم ما هو أقرب إلى الكتاب أو السنّة، ونجتنب عمّا جاوز ذلك، فالاجتهاد موسّع على الفقهاء لمن عرف الاختلاف، وقاس فأحسن القياس، وعلى هذا كانوا»([14]). وقال أيضاً: «إني آخذ بكتاب الله أوّلاً، فإن لم أجد فيه الحكم فبسنّة رسول الله‘، فإن لم أجِد في كتاب الله ولا سنة رسوله رجعت إلى ما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا أخذت من أقوالهم ما كان قريباً من القرآن والسنّة، فإن لم أجد للصحابة رأياً لم آخذ بقول أحد من التابعين، بل أجتهد كما اجتهدوا»([15]).
ورغم ذلك اعترض عليه البعض، من حيث إن قواعده الاجتهادية لا تقوم على الضوابط الشرعية المحدَّدة بالنص. وقام العديد باتهامه؛ لكثرة عمله بالرأي، وردّه للأحاديث المرويّة. وجاء عن وكيع قوله: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث. واتهمه الغير بأنه ردّ أربعمائة حديث أو أكثر. وكان حماد بن سلمة يقول: إن أبا حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه([16]). ونُقل أنه كان يعتدّ برأيه. ومن ذلك: ما روي أنه قال: لو أدركني النبيّ‘ وأدركته لأخذ بكثيرٍ من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟!([17]). وفي المقابل دافع عنه البعض بأنه ناظر إلى المصالح التي أولاها الشارع بالاعتبار([18]). كما دافع عنه بعضٌ آخر بأنه يقدّم الحديث الضعيف على القياس والرأي. ومن ذلك: ما ذكره ابن القيِّم من أن أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أنه يرى ضعيف الحديث أولى من القياس والرأي. فمثلاً: إنه قدّم حديث القهقهة ـ مع ضعفه ـ عليهما؛ كما قدّم عليهما حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر، رغم ضعفه هو الآخر؛ وكذلك «منع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف؛ وجعل أكثر الحيض عشرة أيام، والحديث فيه ضعيف؛ وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه كذلك»([19]). ونقل عنه أنه قال: «نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة؛ وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة، أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منطوق به»([20]).
المذهب الفقهي المالكي ومكوّنات مدرسة الحجاز
هذا في ما يتعلق بأبي حنيفة. أما فقيه الحجاز مالك فقد عُرفت مدرسته بوصفين متعارضين؛ فتارة يطلق عليها مدرسة الأثر، قبال مدرسة الرأي لأبي حنيفة؛ وأخرى يطلق عليها مدرسة الرأي. وجاء وصف مدرسته بالأثر؛ لأن المدينة كانت مصدر الحديث؛ باعتبارها موطن النبي والخلفاء. فقد اعتبر الشهرستاني أن المنتسبين إلى الحديث هم أهل الحجاز: أصحاب مالك؛ وأصحاب الشافعي؛ وسفيان الثوري؛ وابن حنبل؛ وداوود الأصفهاني، وقال: إنهم «سُمُّوا بأصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجليّ والخفيّ ما وجدوا خبراً أو أثراً»([21]). كما اعتبر ابن خلدون أن أهل الحجاز هم أصحاب الحديث، قبال أصحاب الرأي والقياس في العراق([22]). وأما وصف مدرسته بالرأي فلأنه درس الفقه على مَنْ عُرِفوا بأصحاب الرأي، فـ «فقه الرأي تلقّاه عن بعض فقهاء الرأي بالمدينة، كيحيى بن سعيد، واختص ربيعة بن عبد الرحمن، الملقب بربيعة الرأي، بالطلب»([23]).
ومهما يكن فقد عمل مالك بالمصلحة، وكان يسميها الاستحسان. وهي تتَّسع لما اصطلح عليه الفقهاء بالاستصلاح، والاستحسان([24]). وكان يقول: «الاستحسان تسعة أعشار العلم». وقد أثار عليه ذلك بعض الشبهات، حتى قال الشاطبي بأن مالكاً استرسل في قسم العادات من الأحكام «استرسال المدلّ العريق في فهم المعاني المصلحية، مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيراً من وجوه استرساله، زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع. وهيهات ما أبعده من ذلك رحمه الله، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتّباع، بحيث يخيّل لبعض الناس أنه المقلِّد لمَنْ قبله، بل هو صاحب البصيرة في دين الله»([25]).
ومع أخذ مالك بالرأي فإنه كان يأخذ أيضاً بالحديث غير المتصل، مثل: المرسل، والمنقطع، والموقوف. مضافاً إلى كونه يعمل بعمل أهل المدينة. وهو يجعل مرتبة الرأي في آخر مصادر التشريع، ويبدي أحياناً قلقه وتحفظه منه. وكان يقول: إنما أنا بشر، أُصيب وأُخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة([26]). وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلّمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي؟! ومن أحقُّ بالبكاء مني؟! والله لوددت أني ضُربتُ بكلّ مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطاً، وقد كانت لي السعة في ما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفتِ بالرأي([27]).
ومما أُخذ على مالك دعواه في عمل أهل المدينة. فكما ذُكر أن ابن عمر، وهو عميد أهل المدينة، كان يرى إفراد الأذان، وكذا القول فيه: حيّ على خير العمل، وكان بلال يكرر عبارة: قد قامت الصلاة، مع أن مالكاً لم يَرَ ذلك. كما أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضروات، في حين أن مالكاً لا يراها. وقد قال الصيرفي في كتابه «الأعلام»: «قد تصفحنا قول مَنْ قال: العمل على كذا، فوجدنا أهل بلده في عصره يخالفونه. كذلك الفقهاء السبعة من قبله فإنه مخالفهم. ولو كان العمل على ما وصفه لما جاز له خلافهم». وقيل: إن مالكاً كان لا يدع في «موطَّئه» إجماع أهل المدينة إلاّ في ثمان وأربعين مسألة فقط. وهناك من تتبَّع هذه الإجماعات المزعومة فوجد أن منها ما هو إجماع، ومنها ما لم يكن إجماعاً؛ لاختلاف علماء المدينة. وذكر من ذلك الكثير من التناقضات على شاكلة ما سبق([28]).
وقيل: إن مصادر التشريع التي عوّل عليها هي: الكتاب، والسنّة، وقول الصحابي، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، وسدّ الذرائع، والعرف، والعادة([29]).
الشافعي والوسطية البديلة
أما الشافعي فقد احتكّ بالفقه الحنفي والفقه المالكي؛ إذ أقام مدة طويلة يدرس على يد مالك في الحجاز، وكانت صحبته له تسع سنين، كما تلقّى العلم بعد ذلك على يد صاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن، ولازمه في بغداد مدة يرجِّح البعض أنها سنتان، حتى قال الشافعي في هذا الصدد: حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير كتباً([30]). ومعلوم أن لحياة الشافعي المعرفية طورين: أحدهما: ما كان عليه في بغداد، حيث نشر العديد من الكتب، كـ «الرسالة»، و«الأم». و«المبسوط»؛ والثاني: عندما انتقل إلى مصر (سنة 199هـ)، حيث أخذ ينقِّح ما كتبه في «الرسالة» و«المبسوط» ويمحّص الآراء فيهما، فرجع عن بعض الآراء، واعتمد بعضها، وبذلك نسخ ما كتبه في بغداد([31]).
ويظلّ الشافعي أقرب إلى التعويل على النصّ الخاصّ من سابقَيْه: أبي حنيفة؛ ومالك؛ لكونه يحصر حدود الرأي بالقياس، دون غيره من المبادئ الاجتهادية الأخرى. فهو لم يعمل بالاستحسان، كما فعل أبو حنيفة، ولم يعمل بالمصالح المرسلة، كما فعل مالك، بل اعتمد على النص، وأقام عليه الرأي أو القياس. فالاجتهاد عنده مرتبط بمثال سابق منتزع عن النص. ولذا كان أقرب المذاهب إلى النصّ منه إلى الرأي.
هذا ما جسّده الشافعي في أطروحته المسمّاة «الرسالة». وهي أقدم أطروحة وصلتنا في أصول الفقه. ويعتقد العديد من العلماء أنها أوّل ما صُنِّف في ذلك العلم، كالذي نصّ عليه ابن خلدون، وابن تيمية، والزركشي، ومن قبلهم الإمام الجويني([32]). وكان أحمد ابن حنبل يقول: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتّى ورد الشافعي([33]).
وقيل: إن علة إقدام الشافعي على الكلام في أصول الفقه، دون مَنْ سبقه من الفقهاء، هي أن الفقهاء كانوا منشغلين بالأحاديث التي ترد كل واحد منهم في بلاده، فإذا تعارضت عليه أدلة هذه الأحاديث حكم عليها بحسب ما لديه من فراسة. أما في عصر الشافعي فقد تفاقم الأمر، حيث اجتمعت أحاديث البلدان جميعاً، فكان التعارض مضاعفاً؛ تارة بين أحاديث البلاد الواحدة؛ وأخرى بين أحاديث البلدان المختلفة، فأوجب ذلك حيرة لدى العلماء؛ لكثرة التعارض والاختلاف، فانبرى الشافعي ليضع حدّاً للتعارض عبر رسالته في أصول الفقه، فوضع قواعد الجمع والترجيح بين الأدلّة المتعارضة([34]). كما ذكر ابن خلدون أن السلف لم يكونوا بحاجة إلى النظر في الأسانيد؛ لقرب عصرهم، وممارسة النَّقَلة، وخبرتهم بهم، لكن «لما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلّها إلى صناعة، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد؛ لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنّاً قائماً برأسه، سمّوه أصول الفقه»([35]).
وقد استهدف الشافعي بأطروحته في أصول الفقه أن ينظّم عملية الاجتهاد، ويضبطها بميزان النص، كي لا تكون سائبة، وعرضة للأهواء والبدع. وكما قال الفخر الرازي في وصفه للشافعي بما حقَّقه في «الرسالة»: «إن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل»([36]). فعند الشافعي يؤخذ العلم من أعلى([37])، أو من الكتاب والسنة، مباشرة وغير مباشرة. فالمصادر التي تفيد العلم عنده أربعة، هي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس. ويمكن اختصارها بأنها عبارة عن: النصّ؛ والقياس. وهو لا يعمل بهذا الأخير إلا عند الضرورة. ومن ذلك: قوله: «القياس إنما يصار إليه عند الضرورة»([38])؛ وقوله: «إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط»([39])؛ وقوله: «إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر»([40]).
ابن حنبل ومذاهب الحديث الإسلامي
أما ابن حنبل فمن المعلوم أنه كرّس جلّ اهتمامه في الحديث. وقد روي أن أستاذه الشافعي كان يستعين به في معرفة الحديث الصحيح. ومن ذلك: مخاطبته له: أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني، حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً([41]).
وقد عُرف عن ابن حنبل أنه كان ينكر الرأي والاجتهاد، ووضع الكتب القائمة عليهما. كما كان يخالف مَنْ سبقوه من الأئمة المجتهدين، بمَنْ فيهم معلّمه الشافعي.
ومن ذلك: ما رواه أبو يعلى الحنبلي وأبو المحاسن بن المبرد، من أنه كان لا يوافق أصحاب المذاهب الثلاثة وغيرهم من الفقهاء في ما نهجوه من طريقة. فقد روي أنه كان يقول: لو أن رجلاً ولي القضاء، ثم حكى برأي أبي حنيفة، ثم سُئلت عنه، لرأيت أن أردّ أحكامه. وقال في رواية عمر بن معمر: إذا رأيت الرجل يجتنب أبا حنيفة، والنظر فيه، ولا يطمئن إليه، ولا إلى مَنْ يذهب مذهبه، ممَّنْ يغلو، ولا يتَّخذه إماماً، فارجُ خيره. وسئل مرة ـ كما قيل ـ: أيُروى عن أبي حنيفة؟ قال: لا، قيل: فأبو يوسف؟ قال: كان أمثلهم، ثم قال: كلّ مَنْ وضع الكتب، ويجرد الحديث، فلا يعجبني([42]). ومثل ذلك سئل: أيّما أحب إليك جامع سفيان أو موطّأ مالك؟ فأجاب: لا ذا ولا ذا، عليك بالأثر([43]). كما سأله المروذي: أترى يكتب الرجل كتب الشافعي؟ فقال: لا، فسأله مرة أخرى: أترى أن يكتب «الرسالة»؟ قال: لا تسألني عن شيء محدث، قال المروذي: كتبتها، قال: معاذ الله، لا تكتب كلام مالك، ولا سفيان، ولا الشافعي، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أبي عبيد. وجاء أن أبا عبيد قال عندما أنكر عليه ابن حنبل وضع الكتب: لو علمت أنك تكرهها ما تعرَّضت لها، ولا وضعتها([44]). كما جاء أنه قال لبعض معاصريه: لا تكتب شيئاً من الرأي([45]).
أما سبب نفوره من كتابة الرأي فهو ـ كما ذُكر ـ أن صاحب الرأي قد يتراجع عنه فيما بعد. واستشهد على ذلك بما فعله سفيان ومالك حين وضعا الكتب، وأخرجا المسائل، رغم ما فيها من الخطأ في الرأي، حيث إن صاحبه يرى اليوم شيئاً، وينتقل عنه غداً([46]).
وفي خصوص الأفعال قبل ورود الشرع، إن كانت على الإباحة أو الحظر، روى عنه ابن عقيل روايتين. وعليها انقسم رأي الحنابلة إلى قولين([47]).
وهو يعدّ الرأي والقياس من الباطل في الدين، حتى عدَّ القائلين بهما من المبتدعة الضُّلاّل([48]). ومما جاء عنه قوله: مَنْ دلّ على صاحب رأي فقد أعان على هدم الإسلام([49]). وقوله: ليس في السنّة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، ولا الأهواء، إنما هو الاتّباع، وترك الهوى([50]). وكان يقول: عليكم بالسنّة، عليكم بالأثر، عليكم بالحديث. لا تكتبوا رأي فلان، ورأي فلان، فسمّى أصحاب الرأي([51]). وفي خبر آخر أنه قال: ما تصنع بالرأي، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟! أهل الحديث أفضل مَنْ يكلم في العلم. عليك بالحديث([52]).
وهذه الحدّة الملحوظة لدى ابن حنبل تخفّ في ما جاء في بعض الروايات. ومن ذلك: ما روي أن إبراهيم الحربي سأله عن مالك؟ فأجاب: حديث صحيح، ورأي ضعيف، قلت: والأوزاعي؟ قال: حديث ضعيف، ورأي ضعيف، يعني أنه يحتج بالمقاطيع، قلتُ: فالشافعي؟ قال: حديث صحيح، ورأي صحيح([53]).
هذا ما يروى عن ابن حنبل. وهو يخالف ما قيل من أنه كان لا يعمل بالقياس، إلا في حالات خاصّة تضطره إلى ذلك([54])، وعُدّ أقل العاملين به لثروته الحديثية. علاوة على ما قيل من أن أصوله خمسة، وهي: النص؛ وفتوى الصحابة؛ والاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا؛ والحديث المرسل؛ والقياس للضرورة([55]). وقيل: إنه جعل قاعدتي المصالح والاستحسان ضمن القياس، وبذلك وسّع من دائرة القياس، وأقام مصالحة بين طريقة الشافعي وطريقة كلٍّ من: أبي حنيفة؛ ومالك، لكنه كان ينفر من الإفتاء في القضايا المفترضة([56]). وقد أضاف البعض إلى أصوله المذكورة كلاًّ من: الاستصحاب، وسد الذرائع([57]).
وعلى هذه الشاكلة فإن ما يروى عنه يخالف ما قيل ـ أيضاً ـ من أنه كان يفتي السائلين حسب أحوالهم، ويرى وجوب دراسة حال المستفتي، كشرط من شروط الإفتاء، مما يؤدي إلى اختلاف الفتاوى في المورد الواحد، تبعاً لاختلاف أحوال الناس. فقد قيل: إنه «كان يفتي في حال من الأحوال في مسألة معينة، فيسأل عن المسألة نفسها، ويرى اختلاف حال السائل عن حاله في الأولى، فيفتي بما يراه من حاله، فيظن الراوي أنهما رأيان»، مع أن اختلاف الحكم جاء لاختلاف الحال([58]).
ومع هذا عُرف الفقه الحنبلي ـ عموماً ـ بروح الانفتاح في المعاملات. وقدّر البعض أنه يكاد يكون أكثر سماحة واتساعاً من الفقه الحنفي؛ لأن الحنابلة يرون الأصل في العقود الإباحة، أما غيرهم فيرى الأصل فيها الحظر([59]).
ومهما يكن فمن الثابت أن ابن حنبل ظلّ مشدوداً لأخذ العلم من فوق، مثل الشافعي، لكنه أشدّ إيغالاً من الأخير؛ لتعويله على الحديث الضعيف، وترجيحه على الرأي والاجتهاد. وهي العلة التي جعلت مقلِّديه قلّةً، كما أشار ابن خلدون في مقدمته([60]).
إذاً مع ما عُرف من تقسيم الفكر الاجتهادي للأئمة الأربعة إلى قسمين: أصحاب الرأي؛ وأصحاب الحديث، فتارةً جُعل أبو حنيفة من أصحاب الرأي؛ لإكثاره من القياس والفرضيات؛ وأخرى من أصحاب الحديث؛ لشدة اعتباره له وعنايته به. واختُلف في حق مالك، وهل أنه كان أقرب إلى أصحاب الرأي؛ باعتباره يقول بالمصالح المرسلة، أو أنه من أصحاب الحديث؛ لاهتمامه به. ومهما قيل عن العامل الظرفي، والفارق بين ظرف العراق وقلة الحديث فيه وبين الحجاز وغزارة الحديث فيه؛ باعتباره معدن النص والرسالة، فإن من الواضح أن أصول الرأي التي يقول بها هذان الفقيهان، وكذلك ما يقوله بعدهما الشافعي، وابن حنبل، قد جاءت كلّها استثنائية للضرورة. فالاجتهاد وارد في آخر قائمة مصادر التشريع. وعادةً ما يتربَّع القياس بعد النص، وتكون سائر مصادر التشريع الأخرى استثنائية مقارنة به. وهذا يدلّ على عدم اهتمام المذاهب الفقهية بالواقع وتجدُّداته، بل يلتفت إليه عند الحاجة والضرورة، بين الحين والآخر. وقد أبدى أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم من الفقهاء، الحرج من الاجتهاد، والرأي، والعمل بالقياس وغيره، ما لم تكن هناك حاجة واضطرار. فالأساس المعوَّل عليه هو نصّ الحديث؛ لكونه يحمل في الأصل سمة العصمة والنبوة، ولأنه مصدر التفصيل الذي يحتاجه البيانيون لتغطية حاجات الواقع وتجدُّداته.
ركود الاجتهاد وترنّحه
أما بعد فترة الأئمة السابقين، وبالتحديد خلال القرن الرابع الهجري، فقد وصل الاجتهاد إلى باب الإغلاق، وحصرت المذاهب الفقهية بالأربعة المعروفة، مع عدد قليل غيرها. ونقل القاضي عياض(544هـ) أن الناس أجمعوا على جواز تقليد المذاهب الأربعة، والسفيانية، والأوزاعية، والداوودية، دون غيرهم. لكن إلى زمانه لم يبقَ من المذاهب المذكورة غير المذاهب الأربعة، ومذهب داوود([61]). واستمر العمل بهذه المذاهب حتى نهاية القرن الثامن الهجري. فكما صرح ابن فرحون(799هـ) بقوله: صار الناس اليوم في أقطار الأرض على خمسة مذاهب: مالكية؛ وحنبلية؛ وشافعية؛ وحنفية؛ وداوودية، وهم المعروفون بالظاهرية([62]). ثم بعد ذلك آل الأمر إلى بقاء المذاهب الأربعة، دون غيرها.
ومع هذا فقد ظل التداول الفقهي للقضايا ممتداً طيلة القرون التالية، حيث لم يُلغَ الاجتهاد ضمن الفروع الخاصة بالمذهب المتبنى، فهو اجتهاد وتقليد، أو أنه تقليدٌ لأصل المذهب، واجتهادٌ في فروعه. وقد تبنَّت الدول الحاكمة آنذاك هذه المذاهب، ومهَّدت الطريق إلى تقليدها جيلاً بعد آخر، فكان الفقه الرسمي في الدولة العباسية هو الفقه الحنفي؛ وفي دولة الأدارسة في المغرب، وكذا في الأندلس، هو الفقه المالكي. وقيل: إن من أسباب اختصاص المغرب والأندلس بالفقه المالكي غلبة البداوة على أهلها، فكانوا أميل إلى أهل الحجاز لهذه العلة([63])؛ وساد في مصر الفقه الشافعي([64]). وكان للحكم العباسي أثر كبير على التطور الفقهي؛ إذ كانت الدولة تحتاج إلى ما يدعم سياستها، وتنظيم أمورها الإدارية عبر النتاج الفقهي. ومن ذلك أن الإمام مالكاً وضع كتابه «الموطأ» بأمر من المنصور، وأن الفقيه أبا يوسف وضع كتاب «الخراج» بأمر من هارون الرشيد. وذكر ابن حزم الأندلسي أن مذهبين انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة في المشرق؛ ومذهب مالك في الأندلس([65]).
وقد ولّد هذا التقليد ظهور أتباع يخالفون النهج الذي خطَّه المؤسِّسون، حيث أصبح التعامل مع النص الديني تعاملاً بالوساطة والوكالة، وهو أن يؤخذ برأي هؤلاء المؤسِّسين ولو كان مخالفاً للنصّ، فصار التعويل على الاجتهاد، وخاصّة القياس منه، هو الأصل المرجِّح على النص، وهو ما لم يجرؤ الفقهاء الأوائل على القول به. واشتهر قول بعض الأحناف: كل آية أو خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ، أو التأويل، أو الترجيح([66]). وزاد بعضهم بقوله: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح، والآية. فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مُضِلٌّ، وربما أدّاه ذلك إلى الكفر؛ فإن الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أصول الكفر»([67]).
وقد استغرب الشيخ عز الدين بن عبد السلام ما حلّ في المتأخِّرين من تقليد، وشنّ عليهم هجوماً بالإنكار، وقال: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلِّدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، ومع هذا يقلِّده فيه، ويترك من الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛ جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنّة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة؛ نضالاً عن مقلَّده. وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وطّن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، حتّى ظنّ أن الحق منحصر في مذهب إمامه… فالبحث مع هؤلاء ضائع، مفضٍ إلى التقاطع والتدابر، من غير فائدة يجديها. وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصير عليه، مع علمه بضعفه وبُعْده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء، الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتدِ إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح، والبرهان اللائح. فسبحان الله ما أكثر مَنْ أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذكر، وفَّقنا الله لاتّباع الحق أينما كان، وعلى لسان مَنْ ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام، ومسارعتهم إلى اتّباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم. وقد نقل عن الشافعي& أنه قال: ما ناظرت أحداً إلا قلتُ: اللهم أَجْرِ الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتَّبعني، وإن كان الحق معه اتبعته»([68]). وقال أيضاً: «لم يزَلْ الناس يسألون مَنْ اتفق من العلماء، من غير تقييد لمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصِّبوها من المقلِّدين، فإنّ أحدهم يتبع إمامه، مع بُعْد مذهبه عن الأدلة، مقلّداً له في ما قال، كأنّه نبيٌّ أُرسل. وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب»([69]).
وكان من خصائص هذه المرحلة أن أفضى الأمر إلى تشعب الآراء الفقهية في كل مذهب؛ بسبب اتساع دائرته، واختلاف آراء المخرجين فيه لأحكام الحوادث. مضافاً إلى اختلاف الروايات في كثير من الموضوعات عن إمام المذهب نفسه؛ إذ قد يكون له في الموضوع الواحد عدة آراء منقولة مختلفة. وهذا ما أدى إلى استمرار حركة الترجيح والتصحيح لبعض الآراء والروايات، والتضعيف للبعض الآخر. فوصفت المرحلة بأنها حركة التحرير والتخريج والترجيح في المذاهب، وأُرِّخت مدتها بأنها تمتد ما بين منتصف القرن الرابع وحتى زمن سقوط بغداد منتصف القرن السابع الهجري. أما المرحلة التي تلتها، منذ سقوط بغداد وحتى ما يقارب القرن الثالث عشر الهجري، فقد وصفت بأنها فترة ركود وجمود شمل مختلف نواحي الحياة العلمية، وعلى رأسها الدراسات الفقهية، حيث لم يصبح المذهب الفقهي هو الشاغل لطلاب الفقه، كما كان في السابق، بل زاد الأمر ضيقاً، وهو أن صار الانكباب على كتاب فقيه بعينه هو الشاغل للمريدين. فقد «أصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه، فلا ينظر إلى الشريعة وفقهها إلا من خلال سطوره»([70]). مما يعني أن هناك شرائع، بعضها ينتزع من البعض الآخر. ومع توالي الزمن أخذت هذه الشرائع تتسع شيئاً فشيئاً، فلم يَعُدْ هناك اهتمام بالنص الديني إلا عبر وسائط متعدِّدة.
وزامن هذا التقليد في الفروع والفقه تقليدٌ مثله في الأصول والعقيدة؛ إذ آلت المذاهب الأربعة أخيراً إلى تبني العقيدة الأشعرية، بعد أن كانت متوزِّعة على بعض الفرق، فاجتمع على العقيدة الأشعرية الشافعية؛ والمالكية؛ والحنفية؛ وفضلاء الحنابلة. أما قبل ذلك فقد كان أغلب الحنابلة حشويين، وأغلب الحنفية معتزلة، وأغلب الشافعية أشاعرة، وأغلب المالكية قدريين جبريين، كما أشار الشيخ عز الدين بن عبد السلام([71]).
وقد تبدو هنا مفارقة في ابتعاد الفقهاء عن الخطاب الديني، والتعويل على آراء الرجال وقياساتهم، رغم أنهم تبنوا العقيدة الأشعرية، التي ترى عدم صحة الاجتهاد والقياس ما لم يكشف عنه هذا الخطاب، وأنه لا مجال للانحراف عنه بأي وجه من الوجوه، تبعاً لنظرية الحسن والقبح الشرعيين، إذ زاد الأمر سوءاً بأن أخذ المتأخِّرون يجتهدون في الأحكام، ولو بمخالفة النصوص، كما أشار ابن القيم الجوزية([72]). وكان أبرز ما يعوّل عليه في الاجتهاد هو القياس.
الاجتهاد السني ومبدأ القياس
ما من مشكلة يواجهها الفقه أكبر من سدّ حاجات الواقع، وتغطية مستجداته. فعندما وجد الفقهاء النصوص عاجزة عن أن تغطي كل ما يفرزه الواقع من مستجدات لجأوا إلى الاجتهاد، وعلى رأسه القياس؛ باعتباره ظل النصّ، فينوب عنه، تبعاً لوجود مثال سابق يطرحه الأخير. فغرض القياس هو سدّ مشكلة التناهي الوارد في النصوص مقابل العدد غير المحدود من الحوادث المستجدة. ومع أن أئمة المذاهب الفقهية كانوا ـ في الغالب ـ لا يعملون بالقياس إلا عند الضرورة، إلا أن فترة التقليد التي شهدها عصر ما بعد الأئمة قد أولته اهتماماً منقطع النظير، كأهم مصدر للتشريع؛ وذلك تلبية لتغطية حاجات الواقع وتجدُّداته.
وهنا يحضرنا ما قاله إمام الحرمين الجويني في هذا الصدد، إذ بيّن أهمية القياس، واعتبره «مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعَّب الفقه، وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع، مع انتفاء الغاية والنهاية، فإن نصوص الكتاب والسنّة محصورة مقصورة، ومواضع الإجماع معدودة مأثورة، فما ينقل منها تواتراً فهو المستند إلى القطع، وهو معوز قليل، وما ينقله الآحاد من علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الآحاد، وهي على الجملة متناهية، ونحن نعلم قطعاً أن الوقائع التي يتوقَّع وقوعها لا نهاية لها. والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم لله تعالى متلقّىً من قاعدة الشرع، والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع هو القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال. فهو إذاً أحقُّ الأصول باعتناء الطالب»([73]). كما صرَّح غيره بأنه لو لم يستعمل القياس لأفضى ذلك إلى خلوّ كثير من الحوادث عن الأحكام؛ لقلة النصوص، وكون الصور لا نهاية لها([74]). وفي المقابل هناك مَنْ رأى عدم الحاجة إلى القياس، إلا في الموارد القليلة أو الاستثنائية، وكما قال البعض: مَنْ اتسع علمه بالنصوص قلّت حاجته إلى القياس، كالواجد ماء لا يجزيه التيمم، وإنما يحتاج إليه في القليل([75]).
لقد كان العمل بالقياس قبل تقنينه عملاً آلياً لا يسع الفقيه الاستغناء عنه، رغم عدم خضوعه إلى ضوابط محدَّدة. أما بعد عملية التقنين فقد أصبحت له شروط وقيود مصرَّح بها، حيث أقام الشافعي تحديداً لمصادر التشريع، واعتبر أن ثلاثة منها لا تعبّر عن الاجتهاد، بل هي كاشفة عن الشرع بدرجات متفاوتة، وأضاف إليها الاجتهاد محدَّداً بالقياس كمصدر رابع وأخير. وهذه المصادر هي بحسب رتبها عبارة عن: الكتاب؛ والسنة؛ والإجماع؛ والاجتهاد أو القياس. وتحديد القياس عند الشافعي هو كما يقول: «كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه، أو في غيره من أحكام الله أو رسوله، بأنه حُكمَ به لمعنى من المعاني، فنزلت نازلة ليس فيها نصُّ حكمٍ، حُكم فيها حكمُ النازلة المحكوم فيها، إذا كانت في معناها»([76])، أي هو تنزيل حكم شرعي في قضية معينة بدلالة معنى من المعاني على قضية أخرى ليس فيها حكم، وذلك حين تكون في نفس معنى تلك الدلالة. فالشرط الأساس في صحة القياس عند الشافعي هو أن تكون القضية التي تخلو من الحكم لها نفس معنى القضية المحكوم عليها من قبل الشرع. لكنه أضاف إلى ذلك وجهاً آخر للقياس، واعتبره صحيحاً أيضاً، وإن كان أقل رتبة من الأول، إذ رأى القياس من وجهين: «أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه؛ وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يُلحق بأولاها به، وأكثرها شبهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا»([77]).
وهو إذ يحدِّد الجانب الداخلي من القياس، والمتمثِّل بإدراك مطابقة المعنى بين الأصل والفرع، أو ذلك الذي يكون فيه الشبه، لا ينسى أن يذكّر بضرورة أخذ الجانب الخارجي للقياس بعين الاعتبار، كما يتمثل بحال القايس ذاته، إذ يشترط أن «يكون صحيح العقل حتى يفرّق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع ممَّن خالفه؛ لأنه قد يتنبَّه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً في ما اعتقد من الصواب. وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك»([78]).
ومع ذلك فإنه يستبعد من القياس حالة واحدة، هي الرخص، خلافاً للحنفية، أي «ما كان لله فيه حكم منصوص، ثم كانت لرسول الله سنّةٌ بتخفيف في بعض الفرض دون بعض، عُمل بالرخصة، دون سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها». ومثّل على ذلك بآية الوضوء، فحيث إن الرسول مسح على الخفين فإنه لا يجوز القياس عليه بالمسح على العمامة، أو البرقع، أو القفّازين([79]).
أما المتأخِّرون عن الشافعي فقد زاد اهتمامهم بالقياس وتفريعاته، ودوَّنوا له الكثير من التعاريف؛ لضبطه وتحديده، ووضعوا له الشروط الكفيلة بإجرائه وتطبيقه. وكان من بين التعاريف التي وُضعت له: إنه مساواة فرعٍ لأصلٍ في علّة الحكم. أو هو عبارة عن تحصيل حكم الأصل في الفرع؛ لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد. أو هو حمل معلوم على معلوم آخر في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما؛ بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. أو هو إدراج خصوص في عموم. أو هو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به. أو هو إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه. أو هو استنباط الخفي من الجلي. أو هو حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل. أو هو حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه. أو هو حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه؛ بضرب من الشبه. أو هو استخراج مثل حكم المذكور لما لم يذكر بجامع بينهما([80]). إلخ.
ومعلوم أن للقياس أركاناً أربعة، هي: الأصل؛ والفرع؛ والحكم؛ والجامع بين الأصل والفرع. وقد يكون هذا الجامع علة، أو نوعاً من الشبه، أو غير ذلك. وأهم ما في القياس هو معرفة الجامع، بل والعلة منه بالخصوص. وهناك عدة طرق للتعرف عليها من خلال الوصف. فمثلاً: حدَّدها القرافي بثمانية طرق([81])، أشهرها: النص، وتسمّى العلة المنصوص عليها. وقد تكون دلالة النص صريحة قاطعة أو ظنية. وكذلك الإجماع، وهو كاشف عن النص بشكل من الأشكال. وكذلك الاطراد، وهو اطراد ثبوت الحكم مع وصف يُفهم منه أنه العلة في الحكم. وهناك الدوران، وهو دوران الحكم مع وصف وجوداً وعدماً، فيُعلم أنه العلة([82]). وهناك تنقيح المناط، وهو تهذيب ما أنيط به الحكم، وبني عليه، وهو علة، أي يشترط أن يكون النص دالاًّ على العلة، وإن مهمة التنقيح أن يستبعد الأوصاف التي تقترن مع العلة وجعلها لا مدخل لها فيها. وهناك السبر والتقسيم، وهو الاختبار وحصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة حكم الأصل. فبواسطة الاختبار تستبعد الأوصاف التي لا يصح أن تكون علة. وهنا تتفاوت عقول المجتهدين؛ فمنهم مَنْ يرى أن المناسب هو هذا الوصف؛ ومنهم مَنْ يراه غيره، مثل: الاختلاف في علة ولاية البكر الصغيرة في التزويج؛ إذ رأى الحنفية أنّ المناسب في تعليل الولاية هو الصغر، بينما رأى الشافعية أنه البكارة. والتمايز بين التنقيح وبين السبر والتقسيم هو أنه في التنقيح يكون النصّ دالاًّ على علة الحكم، وأما في السبر والتقسيم فإن النص يكون غير دالّ، ويراد التوصل بها إلى معرفة العلة، لا إلى تهذيبها([83]).
وأهم ما في هذه الطرق ما يعرف بالمناسبة، وهي أن تكون العلة ذات علاقة بالمصلحة العامة، ودفع الضرر، أو رفع الحرج عن الناس. وفي هذه الحالة لا بد أن تكون علة الحكم وصفاً ظاهراً منضبطاً ومناسباً لمظنّة تحقيق الحكمة من الحكم التي يدلّ عليها الشرع. فمثلاً: إن الإسكار وصفٌ مناسب لتحريم الخمر؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول([84]). وهناك الكثير من النصوص التي يمكن القياس عليها تبعاً لملاحظة مصالح الناس. فمثلاً: قيس على الحديث النبوي: «القاتل لا يرث مورِّثه» حالةُ قتل الموصى له للموصي، فيُحرم الأول ممّا أوصي به له، كعقوبة، مثل حالة قتل الوارث. كما قيس على نص الحديث: «لا يحلّ لإنسان أن يخطب على خطبة أخيه، ولا أن يبتاع على بيع أخيه» عقدُ الإيجار، وهو أنّه لا يحلّ لإنسان أن يستأجر على استئجار أخيه؛ للتساوي في أن كلاًّ منهما فيه اعتداء على الغير([85]).
وزعم بعض المعاصرين أن الأصوليين استثنوا من ممارسة القياس وجريانه حالات مثل المجالات التعبدية، وكذلك العقوبات المقدَّرة، من حدودٍ وكفارات، وأيضاً الفروض المقدّرة، كما في الإرث([86]). يرى الكثير من العلماء أن القياس يجري في جميع الأحكام، حتى في الحدود والكفارات، خلافاً لما ذهب إليه الحنفيون، كالذي نصّ عليه صفي الدين الحنبلي([87])، وكذا جماعة من الشافعية، من أمثال: القاضي أبي الطيب، وسليم، وابن السمعاني، وأبي منصور([88]). وقد كان الشافعي يقول في كتابه «الأم»: ولا يقطع من قطّاع الطريق إلا من أخذ منهم ربع دينار فصاعداً، قياساً على السنّة في السارق([89]). وقد تتبَّع الشافعي مذهب الحنفية، وأبان أنهم لم يفُوا بشيء مما ذكروه من منع القياس في كلٍّ من الحدود والكفارات والمقدَّرات([90]).
وهكذا يتضح أن أغلب فقهاء السنة أوْلَوْا القياس جُلّ اهتمامهم، وطبَّقوه على مختلف القضايا الفقهية، وكان مبرِّرهم في العمل به هو عدم كفاية النصوص الدينية لتغطية مستجدات الواقع.
أما النافون للقياس فقد رأَوْا أن هذا النوع، مع غيره من أنواع الاجتهاد التي تفترض وجود حوادث لا نصّ فيها، تجري ـ كلّها ـ ضد البيان الشرعي، وأن ما جاء به الخطاب من التفصيل يكفي لسدّ كل ما يتعلق بالواقع وتجدُّداته.
وكان من أبرز النافين القدماء للقياس النظّام، الذي ساق الكثير من الأمثلة التي تكشف ضعف العمل بالقياس، حيث كشف عن أن الشارع فرّق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات، مما يعني ضرباً للجامع الذي يعتمد عليه القياس في التفريع. ومن الأمثلة التي تذكر بهذا الخصوص ما يلي:
إن الشارع قد فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً، لكنه لم يفعل ذلك بخصوص البول والمذي، وهو نجس.
كما أوجب غسل الثوب من بول الصبية، والنضح من بول الصبي، رغم تساويهما في النجاسة.
وكذا أوجب قضاء الصوم على الحائض، دون الصلاة، مع أن الصلاة أهمّ من الصوم.
وفرّق في العدة بين الموت والطلاق، رغم استواء حال الرحم فيهما.
وإنه نقّص الشطر من صلاة المسافر الرباعية، وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما.
وقطع يد السارق، ولو سرق ثلاثة دراهم، في حين لم يقطع يد المختلس، ولو اختلس ألف دينار، ولا قطع يد المنتهب، ولا الغاصب.
واكتفى في القتل بشاهدَيْن، دون الزنا، مع أن القتل أعظم من الزنا.
وأوجب حدّ الفرية على قذف الغير بالزنا، لكنه لم يفعل ذلك مع القذف بالكفر، رغم أنه أشدّ من الأول.
كما أوجب الصدقة في السوائم، لكنه أسقطها عن العوامل. وإلى غير ذلك من الأمثلة الفقهية([91]).
وأجاب ابن القيم الجوزية على هذه الشبهات، فرأى أن هناك عللاً وحِكَماً في تفريق الشارع بين المتماثلات وجمعه بين المختلفات، الأمر الذي لا ينافي العمل بالقياس الصحيح. فمثلاً: اعتبر أن الحكمة في قطع يد السارق، دون المختلس والمنتهب والغاصب، هي أن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فهو ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، وبالتالي فلولا التشريع بالقطع لسرق الناس بعضهم بعضاً، ولعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسرّاق، خلافاً للمنتهب، والمختلس، حيث إن المنتهب يأخذ المال جهرةً بمرأى الناس، وبذلك يمكنهم من الأخذ على يديه، أو يشهدوا ضده عند القاضي. وأما المختلس فإنه يمكن الاحتراز منه بالتحفُّظ والتيقُّظ، وهو أشبه بالخائن من السارق. في حين أن الأمر في الغاصب ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب([92]).
كما اعتبر الحكمة في الشهادة على الزنا أن الشارع بالغ في ستره، فلم يقبل فيه إلا أربعة شهود، يصفون الفعل وصف مشاهدة، ينتفي معها الاحتمال، حرصاً على الستر، وكره إظهاره والتكلُّم به، وتوعَّد من أحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. في حين يختلف الأمر مع القتل؛ إذ لو شرط الشارع أربعة شهود لضاعت الدماء، وتواثب العادون، وتجرأوا على القتل([93]).
واعتبر أن الحكمة في حد القذف بالزنا، دون الكفر، هي أن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه، فجعل حدّ القذف تكذيباً له، وتبرئة لعرض المقذوف، وتعظيماً لشأن هذه الفاحشة التي يُجلد مَنْ رمى بها مسلماً. وأما مَنْ رمى غيره بالكفر فإنّ شاهد حال المسلم، واطلاع المسلمين عليها، كافٍ في تكذيبه، ولا يلحقه من العار بالادعاء ما يلحق ذلك الذي يُرمى بالفاحشة، ولا سيما إن كان المقذوف امرأة، فإنّ العار الذي يلحقها بين أهلها، وتشعُّب ظنون الناس، وكونهم بين مصدِّق ومكذِّب، لا يلحق مثله بالرمي بالكفر([94]).
واعتبر الحكمة في إيجاب الشارع الصدقة في السائمة، وإسقاطها في العوامل، هي أن الأخيرة مصروفة عن جهة النماء إلى العمل، فهي كالثياب، والعبيد، والدار، التي ليس فيها زكاة([95]).
فهذه جملة ممّا أجاب به ابن القيم؛ لدفع الشبهات المطروحة على القياس.
ويلاحظ أنها تتعلق بذكر المصالح والحِكَم التي يقدرها العقل، لكن العمل بالقياس أعمّ من ذلك. كما أن التزاحم بين المصالح والحِكَم قد يمنع أحياناً معرفة تحديد الأحكام حولها، ولا سيما العبادات.
أزمة الاجتهاد السني
هناك عدد من المشاكل تعترض قاعدة القياس والاجتهاد، أهمها ما يلي:
أولاً: مشكل الشرعية
إن الاجتهاد ـ ومنه القياس ـ يفتقر إلى الدليل الشرعي القطعي. وإن العمل به لا يكون بحسب الاعتبارات الظنية؛ لكونه قاعدة كبرى تتوقف عليه الكثير من الأحكام. وقد كان الشافعي يستدل عليه استدلالاً دورياً من الخطاب القرآني. وإن المتأخرين استدلوا عليه تارة من القرآن؛ وثانيةً من السنّة؛ وثالثة بدعوى الإجماع، وكذا بدعوى أن الصحابة كانوا يمارسونه([96]). فمن القرآن ـ مثلاً ـ استدلوا بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2)، حيث استفاد الفقهاء أن لفظة {فَاعْتَبِرُوا} لها دلالة على القياس؛ لأن الأخير هو عبور من الأصل إلى الفرع، مما يعني أن الأمر الوارد في الآية بصيغة تلك اللفظة يتعلق بالحثّ على القياس، ومن ثم الاجتهاد. مع أن سياق الآية ليس بصدد الاجتهاد، ولا القياس المصطلح عليه، فهو دالٌّ على أخذ العبرة، ولا سيما أن العبرة أو «العبور» في الآية ليس من جهة الارتكاز إلى معنى النص، ومن ثم تطبيق حكمه على مشابهاته، كما في القياس والاجتهاد، وإنما هو عبارة عن النظر إلى واقع خارجي وتأمله، ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة بأخذ العبرة منه. وهذا المعنى لا علاقة له بالاجتهاد المصطلح عليه. فهو ليس ربط حادثة بنصّ، كما هو شأن الاجتهاد والقياس، بل ربط مصير بواقع لم يبقَ منه إلا الأثر، وما خلّفه من درس وعبرة، كما تنص على ذلك بداية الآية: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.
ويؤيد هذا المعنى ما ذهب إليه ابن حزم، من أن المراد بالاعتبار التعجُّب؛ بدليل سياق الآية. ووافقه على ذلك ابن عبد السلام، فقال في «القواعد»: من العجيب استدلالهم بهذه الآية على جواز القياس، مع أن الاعتبار في الآية يراد به الاتعاظ والازدجار. والمطلق إذا عمل به في صورة خرج عن أن يكون حجة في غيرها بالاتفاق. ثم قال: وهذا تحريف لكلام الله عز وجل عن مراده إلى غير مراده. ثم كيف ينتظم الكلام مع كونه واعظاً بما أصاب بني النضير من الجلاء أن يقرن ذلك الأمر بقياس الدخن على البر، والحمص على الشعير، فإنه لو صرح بهذا لكان من ركيك الكلام، وإدراجاً له في غير موضعه، وقراناً بين المنافرات. لكن الزركشي عجب من ابن عبد السلام، وطبّق على الآية مفهوم العبرة بعموم اللفظ، وأرجع المسألة إلى قياس العلة؛ لأن إخراجهم من ديارهم وتعذيبهم قد رُتّب على المعصية، فالمعصية علة لوقوع العذاب، فكأنه قال: تقعوا في المعصية فيقع بكم العذاب، قياساً على أولئك، فهو قياس نهي على نهي، بعلة العذاب المترتبة على المخالفة. قال الماوردي: وفي الاعتبار وجهان: أحدهما: إنه مأخوذ من العبور، وهو يجاوز المذكور إلى غير المذكور. وهذا هو القياس. والثاني: من العبرة، وهو اعتبار الشيء بمثله. ومنه: عبر الخراج، أي قياس خراج عام بخراج غيره في المماثلة. وفي كلا الوجهين دليل القياس؛ لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره، وبالشاهد على الغائب([97]).
لكن الآية ـ كما قلنا ـ بعيدة كلّ البعد عن القياس المتواضع عليه، وهو إلحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه؛ إذ لا نجد في مسألتنا إشارة للرجوع إلى النص، كما يشترطه القياس. كما أن الاستدلال بالآية على القياس يفيد ـ على فرض صحته ـ القياس المتعلق بالموضع الذي طرحته الآية، ولا دليل يتعدّى ذلك الموضع. مما يعني أن التعدي قائم على قياس مُصادر على المطلوب.
وقد استدلوا على الاجتهاد بعدد من الروايات. لكنهم لم يُوفَّقوا في إبراز حالة التواتر، ولا المعنى الذي راموا إليه. ومن ذلك أنهم استدلوا بما روي عن النبي: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد». وروي أن الرسول‘ طلب يوماً من عمرو بن العاص أن يحكم في مسألة، فقال: أجتهد وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: نعم، إنْ أصبت فلك أجران، وإنْ أخطأت فلك أجر. وقال لعقبة وعمرو بن العاص: اجتهدا، فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإنْ أخطأتما فلكما حسنة واحدة. واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة حينما رضي النبي بتحكيمه، فحكم بقتل الرجال، وسبي النساء والذراري، بالرأي.
ومع غضّ النظر عن سند هذه الروايات فالملاحظ أنها لا تدل على المعنى المصطلح عليه من الاجتهاد، فموردها محدَّد بأمور الحكم والقضاء، وهي أمور تتعلق بتقدير الأحكام وتطبيقها على المصاديق، الأمر الذي قد يجعل الحاكم أو القاضي مخطئاً في حكمه، لا من جهة معرفة الحكم الكلي، بل من حيث عدم تشخيص الواقع كما هو.
لكن أهم المنقولات التي لها دلالة على الاجتهاد بالرأي هي منقولة معاذ بن جبل حينما بعثه النبي إلى اليمن قاضياً، إذ قال له النبي: بمَ تقضي إنْ عرض لك قضاء؟ قال: بما في كتاب الله، قال‘: فإن لم تجد؟ قال: بما في سنّة رسول الله، قال‘: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد، ولا آلو. فسُرَّ بذلك رسول الله، وقال: الحمد لله أن وفَّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله. فهذه الحادثة لها دلالة على الاجتهاد استنفاد الجهد في ما لا نص فيه. لكنها من جهة وردت في خصوص القضاء، وهو يحتاج إلى فضّ المنازعات والفصل فيها، سواء بالاستناد إلى النص أو إلى غير ذلك، إن لم يتمكَّن القاضي من إيجاد الحكم في النص، وهو خلاف الحال في الفتوى؛ إذ قد لا يترتب على الفتوى أثر من المشاكل إن توقف المفتي وامتنع عن الإفتاء، أو قال بالاحتياط، أو أية وظيفة عملية أخرى، فيما لو عجز عن تحصيل الحكم الشرعي من النصوص. لهذا فإن قياس الاجتهاد في القضاء على الفتوى يعني إلغاء الخصوصية في الأول، وهو ما يحتاج إلى دليل منفصل يسمح بمثل هذا التعدي.
ومن جهة أخرى فإن منقولة معاذ ـ كغيرها من المنقولات التي ذكرناها ـ تُعَدُّ من أخبار الآحاد، التي لا تنفع في إثبات مثل هذا المطلب الكبير. فالاجتهاد أصل أساس، تتوقف عليه مختلف الفروع الفقهية. ومن غير المنطقي أن يتمّ إثباته بمجرَّد خبر الآحاد ظني الثبوت. ولهذا سبق لأبي حنيفة أن اعتبر بأن خبر الواحد إذا كان ممّا تعم به البلوى فليس بحجة، فكيف الحال والخبر مرسل؟! ناهيك عن أن هناك مَنْ عدّه من الموضوعات، كما هو الحال مع الجوزجاني، الذي علّق عليه بقوله: «هذا حديث باطل، جاء بإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة». وكذا اعتبره ابن حزم حديثاً باطلاً، لم يروه أحدٌ إلا الحارث بن عمرو، عن رجالٍ من أهل حمص لم يسمِّهم، وهو ذاته رجل مجهول لا يُعرَف مَنْ هو([98]).
كما استدلوا على حجية الاجتهاد ـ وخاصة القياس ـ بدعوى الإجماع. وهي مجرد دعوى لا يستفاد منها علم. بل يمكن القول: إنها باطلة؛ للعلم بأن العديد من السلف قد نهوا عن العمل بالرأي والقياس، كما هو الحال مع الإمام الصادق، وداوود الأصبهاني، وابنه، وغيرهم.
وكذا قيل: إن الصحابة كانوا يعملون بالقياس جميعاً، وإن لم يتبين الضابط لديهم. واعتُبر ذلك دليلاً على صحته([99]). والحال أن المؤشِّرات الكثيرة تشير إلى أنهم كانوا يعملون وفق المصلحة العامة، لا بمحض القياس، وذلك إذا ما استثنينا روايات قليلة رويت عنهم في هذا الصدد، كالرواية التي رويت عن الإمام علي بشأن حدّ الخمر. بل يلاحظ في المقابل أن روايات السلف التي وردت في النهي عنه، وعن الرأي، كثيرة، لا يرقى إليها ما يخالفها([100]). وسبق لابن حزم أن نفى أن يكون هناك أحد من الصحابة أباح القول بالقياس، باستثناء الرسالة الموضوعة عن عمر بن الخطاب، وهي عنده لا تصحّ، حيث رواها رجلان متروكان([101]).
ثانياً: أزمة الخلل في تطبيق القواعد والأقيسة
هناك قياسات لا يُطمأن لها؛ لكونها تفتقد التساوي في الاعتبار. ومن ذلك: ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء، من أن الجهل بالمهر في عقد الزواج يفسد النكاح، قياساً على ما يحصل في البيع، حيث إن الجهل في المعاوضة أو الثمن يفسد البيع، وكذا يكون الجهل في المهر، من حيث إنه عوض عن بضع الزوجة([102]). ومن ذلك أيضاً: ما عوّل عليه الفقهاء من صحة قياس الخلافة على الإمامة في الصلاة، رغم فارق المسؤولية والمصلحة بين الموضعين، حيث ما يصلح هنا قد لا يصلح هناك، وكذا العكس، لكن الفقهاء عوَّلوا على ما روي عن عثمان: نرضى لدنيانا مَنْ رضيه رسول الله لديننا([103]). وعلى هذه الشاكلة أوجب الحنفية الكفّارة على القتل، قياساً على المجامع، وعلى المجامع ناسياً في الإحرام، كما لو قتل الصيد خطأ، رغم وجود الفارق بين هذه الحالات. وكذا الحال حول إجراء القياس على مَنْ يكاتب الكفّار، ويطلعهم على عورات المسلمين، بإلحاقه بالسارق، وقد ردّ البعض على هذا القياس بقوله: إن ذلك يقتضي التصرُّف في علائق غيب لا يهتدى إليه، فانعدم طريق القياس، حيث إن الذي يكاتب الكفّار، وإن زاد ضرر فعله على ضرر السارق الواحد، فهو بالإضافة إلى سارق واحد، أما بالإضافة إلى الجنس فلا، حيث إن السرقة مما يتشوف إليها الرعاع، بخلاف مكاتبة المسلم، فإنها لا تكاد توجد، أو لا يظهر استواء السبب، فكل ما كان من هذا الجنس فلا يجري فيه القياس؛ لفقد الشرط([104]). وواقع الأمر أن البعد بين المسألتين عظيم!
وقديماً نصّ الغزالي على أن أكثر قياسات الفقهاء ـ وكذا المتكلمين ـ مبنية على مقدمات مشهورة، يسلمون بها لمجرَّد الشهرة. لذلك ترى أقيستهم تتضمن نتائج متناقضة، فيتحيرون فيها([105]). كما فصّل ابن القيم صور الاضطراب والتناقض التي شهدها أهل الاجتهاد في ما عولوا عليه من الممارسة القياسية، ولا سيما تلك التي لها علاقة بقياس الشبه، وقال في هذا الصدد: «إن أصحاب القياس قالوا بقياس الشبه، وعلَّقوا الأحكام بأوصاف لا يُعْلَم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلَم أن الشارع شرّع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا؛ فتارة يقدمون القياس؛ وتارة يقدمون النص؛ وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور. واضطرهم ذلك أيضاً إلى أن يعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شُرّعت على خلاف القياس»([106]).
وعرض ابن القيم في هذا الصدد صفحات كثيرة منقولة عن أتباع المذاهب الأربعة، دالّة على اضطرابهم وتناقضهم في ما مارسوه من قياسات. ومن شواهده على ذلك ما يلي:
قلتم يُقتل الرجلُ بالمرأة، ثم ناقضتُم، فقلتُم: لا يؤخذ طرفه بطرفها. وقلتُم: يقتل العبد بالعبد، وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم، ثم ناقضتم، فقلتُم: لا يؤخذ طرفه بطرفه، إلا أن تتساوى قيمتهما، فتركتم محض القياس.
وقِستُم قول القائل: (إن كلمتُ فلاناً أو بايعتُه فامرأتي طالق وعبدي حرٌّ) على ما إذا قال: (إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق)، ثم عديتم ذلك إلى قوله: (الطلاق يلزمني لا أكلم فلاناً) ثم كلَّمه، ولم تقيسوه على قوله: (إن كلمت فلاناً فعليّ صوم سنة، أو حج إلى بيت الله، أو فمالي صدقة)، وقلتم: هذا يمين، لا تعليق مقصود، فتركتم محض القياس؛ فإن قوله: (الطلاق يلزمني لا أكلم فلاناً) يمينٌ، لا تعليق([107]).
وقلتُم: لو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد، وولدت مرة بعد مرة، لم تُحَدّ، ولو تقيّأ الخمر كلّ يوم يُحَدّ، فتركتم محض القياس([108]).
وقلتُم: لو قال القائل: (بعتك هذا العبد بألف) فإذا هو جارية، أو بالعكس، فالبيع باطل، فلو قال: (بعتك هذه النعجة بعشرة) فإذا هي كبش، أو بالعكس، فالبيع صحيح، ثم فرَّقتُم، بأن قلتم: المقصود من الجارية والعبد مختلف، والمقصود من النعجة والكبش متقارب، وهو اللحم. وهذا غير صحيح؛ فإن الدرَّ والنسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر، وعَسْب الفحل وضِرَابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى، ثم ناقضتُم أبْيَن مناقضة بأن قلتم: لو قال: (بعتك هذا القمح) فإذا هو شعير، أو (هذه الإلْية) فإذا هي شحم، لم يصح البيع، مع تقارب القصد. وقلتُم: لو باعه ثوباً من ثوبين لم يصحّ البيع؛ لعدم التعيين، فلو كانت ثلاثة أثواب فقال: (بعتك واحداً منها) صحّ البيع، فيالله العجب! كيف أبطلتموه مع قلّة الجهالة والغَرَر، وصحَّحتموه مع زيادتهما؟ أفترى زيادة الثوب الثالث خَفَّفت الغَرَر ورفعت الجهالة؟ وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتغرير؛ لأنه قد يكون أحدهما مرتفعاً، والآخر رديئاً، فيُفْضي إلى التنازع والاختلاف، فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمَّن الجيد والرديء والوسط، فكأنه قال: (بعتك أوسطها)، وذلك أقل غرراً من بيعه واحداً من اثنين: رديء؛ وجيد، وإذا أمكن حَمْلُ كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه. وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غرراً وجهالة، فإن النـزاع كان في ثوبين فقط، وأما الآن فصار في ثلاثة، وإذا قال: (إنما وقع العقد على الوسط) قال الآخر: (بل على الأدنى، أو على الأعلى)([109]).
وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة، ثم سافر، لم تسقط عنه؛ لأن سفره قد يتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرع، فلا تسقط، وهذا بخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإنّ الكفارة تسقط؛ لأن الحيض والمرض ليس من فعله، ثم ناقضتم أعظم مناقضة، فقلتم: لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحَوْل، فملَّكَ ماله لزوجته لحظةً، فلما انقضى الحول استردَّه منها. واعتذاركم بالفرق ـ بأن هذا تحيل على منع الوجوب، وذلك تحيل على إسقاط الواجب بعد ثبوته، والفرق بينهما ظاهر ـ اعتذارٌ لا يجدي شيئاً، فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها، ولا تسقط بذلك([110]).
وقلتُم: لو قال لامرأته: (طلِّقي نفسك)، ثم نهاها في المجلس، ثم طلَّقت نفسها، وقع الطلاق، ولو قال ذلك لأجنبي، ثم نهاه في المجلس، ثم طلق، لم يقع الطلاق، فخرجتم عن موجب القياس، وفرَّقتم بأن قوله لها تمليكٌ، وقوله للأجنبي توكيل. وقد تقدم بطلان هذا الفرق([111]).
وقلتُم: لو أوصى له بثلث ماله، وليس له من المال شيء، ثم اكتسب مالاً، فالوصية لازمة في ثلثه، ولو أوصى له بثلث غنمه، ولا غنم له، ثم اكتسب غنماً، فالوصية باطلة، فتركتم محض القياس، وفرقتم تفريقاً لا تأثير له، ولا يتحصل منه عند التحقيق شيء([112]).
ثالثاً: مشكلات مضاعفة
يضاف إلى ما سبق أنه يمكن لحاظ النقاط المجملة التالية:
1ـ إن القياس الذي اعتمد عليه الفقهاء يفضي إلى نتيجة ظنية، لكنه في الوقت ذاته قائم في الغالب على ما هو ظني، أي على خبر الآحاد، فهو بالتالي يحمل ظناً مضروباً بمثله، فيكون بذلك أكثر ضعفاً، وأقل احتمالاً.
2ـ إن القياس الواضح قبوله هو ذلك المتعلق بمقاصد الشرع أو المصالح العامة، والتي هي قطعية، وعليها أدلة متواترة، كتلك التي طرحها الشاطبي بطريقته الاستقرائية([113])، وأما قياس الشبه، كالذي ذهب إليه الشافعي وغيره، والذي يعود إليه أغلب أقيسة الفقهاء، كالذي يحتمله الغزالي([114])، فليس عليه دليل([115])، ولا ضابط له، وكثيراً ما يصطدم مع مصالح الواقع، مما يعني أن العبرة بالمقاصد والمصالح، لا القياس.
3ـ إن النهج الفقهي لم يوظّف في الغالب طرق اعتبارات المصلحة في الكشف عن الأحكام الشرعية إلا عند الضرورة وضغط الواقع، وهو ما يكشف عن فشل هذا المنهج في ما عوّل عليه من سلوك استعلائي، كالذي بيّنَّاه في عدد من الدراسات.
4ـ في اعتقادنا ليس الاجتهاد الملحّ في الطلب هو ذلك الذي عوّل عليه أصحاب البيان من الفقهاء، سواء في دائرة النص، أو دائرة ما لا نص فيه، بل الاجتهاد المطلوب هو ذلك المتعلق بالواقع تحت ظل مقاصد الشرع، كالذي فصَّلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع)([116]).
الهوامش
(*) باحث وكاتب، له دراسات فكرية ونقدية متنوعة، من العراق، ويقيم في بريطانيا.
([1]) ابن القيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين 2: 284، راجعه وقدم له وعلق عليه: طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بيروت، 1973م.
([2]) أبو بكر بن العربي، المحصول في أصول الفقه، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثاني: في الدليل على صحة الأصل (لم تذكر أرقام صفحاته).
([3]) الشهرستاني، الملل والنحل: 86، عرض وتعريف: حسين جمعة، دار دانية بيروت ـ دمشق، الطبعة الأولى، 1990م؛ الشاطبي: الاعتصام 3: 197 ــ 199، دار الكتب الخديوية بمصر، تقديم: محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1913م. وكذلك: أعلام الموقعين 1: 333 وما بعدها.
([4]) انظر حول ذلك كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الأول، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2009م.
([5]) ولي الله الدهلوي، الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: 32 ــ 33 و36، دار النفائس، الطبعة الثانية، 1404هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية.
([6]) أبو بكر البغدادي، تاريخ بغداد 13: فقرة 7297، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية.
([7]) ابن أبي الوفا، الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: 620، مكتبة المشكاة الإلكترونية.
([8]) الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: 620.
([10]) أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 245 و273، دار الفكر العربي.
([11]) تاريخ المذاهب الإسلامية: 355 و378.
([12]) أبو زهرة، أبو حنيفة: حياته وعصره، آراؤه وفقهه: 348، دار الفكر العربي، 1977م.
([13]) الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: 621.
([15]) أبو حنيفة: 106؛ تاريخ المذاهب الإسلامية: 375.
([16]) تاريخ بغداد 13: فقرة 7297.
([19]) أعلام الموقعين 1: 77؛ الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: 592.
([23]) تاريخ المذاهب الإسلامية: 395.
([24]) تاريخ المذاهب الإسلامية: 428. ولاحظ كتابنا: فهم الدين والواقع، الفصل الثاني، طبعة دار أفريقيا الشرق، 2009م.
([26]) انظر المصادر التالية: ابن حزم الأندلسي، ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل: 66، تحقيق: سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1379هـ ـ 1960م؛ الإحكام في أصول الأحكام 6: 56؛ أعلام الموقعين 1: 75؛ الموافقات في أصول الشريعة 4: 289؛ الاعتصام 3: 256.
([27]) الإحكام في أصول الأحكام 6: 57؛ أعلام الموقعين 1: 76.
([28]) الزركشي، البحر المحيط: الفقرة 1217، شبكة المشكاة الإلكترونية.
([29]) الرويشد، قادة الفكر الإسلامي عبر القرون: 34 ـ 35، مكتبة عيسى البابي الحلبي.
([30]) ابن حجر العسقلاني، تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: 362، دار الكتاب العربي، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية؛ ابن قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية، عن شبكة المشكاة الإلكترونية.
([31]) تاريخ المذاهب الإسلامية: 477.
([32]) مقدمة ابن خلدون: 455؛ ابن تيمية، رسالة في الحقيقة والمجاز، فقرة عن أصول الفقه؛ البحر المحيط، فقرة 3.
([34]) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: 83 ـ 84.
([36]) مقدمة المحقق لرسالة الشافعي: 13.
([37]) الشافعي، الأم 7: 250، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ ـ 1983م.
([40]) الملل والنحل: 89؛ الاعتصام 3: 256.
([41]) أبو الحسين بن أبي يعلى الحنبلي، طبقات الحنابلة 2:مادة (محمد بن إدريس الشافعي)، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر أرقام صفحاته)؛ الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف: 48.
([42]) أبو المحاسن بن المبرد، بحر الدم في من تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم، تحقيق وتعليق: روحية عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1992م، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية.
([43]) طبقات الحنابلة 2: مادة (عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان).
([44]) المصدر السابق 1: مادة (أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي ).
([45]) المصدر السابق 2: مادة (محمد بن أحمد بن واصل المصري).
([46]) المصدر السابق 2: مادة (عبد الملك بن عبد الحميد الميموني الرقي).
([48]) طبقات الحنابلة 1: مادة (أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصطخري).
([50]) طبقات الحنابلة 2: مادة (عبدوس بن مالك العطار).
([51]) المصدر السابق 1: مادة (بديل بن محمد بن أسد).
([55]) المصدر السابق 1: 29 ـ 32.
([57]) قادة الفكر الإسلامي: 84 ـ 87.
([58]) تاريخ المذاهب الإسلامية: 540 ـ 541.
([59]) فقه الدعوة ومشكلة الدعاة، في حوار مع محمد الغزالي، ضمن فقه الدعوة، سلسلة كتاب الأمة 1: 131، مؤسسة الخليج، 1408هـ.
([61]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 8: فقرة 92، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية.
([62]) ابن فرحون، الديباج المذهّب في معرفة أعيان علماء المذهب 1: ضمن باب في ترجيح مذهب مالك، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر أرقام صفحاته).
([64]) حول المدن التي تبنت المذاهب الفقهية ذكر ابن فرحون أن مذهب مالك ساد لدى أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان، وكذا ساد لدى الكثير من بلاد الشام وقزوين وأبهر، كما ظهر في نيسابور، وانتشر باليمن، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً، ثم ضعف فيها بعد أربعمائة سنة، وكذا ضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة. في حين ساد مذهب أبي حنيفة لدى أهل الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان، كما ظهر بأفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام، فانقطع منها، ودخل منه شيء ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس. وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس إلى أن غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع منها. وأما الشافعي فقد كثر أتباعه، وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة، وكان أول ظهوره بمصر، وكثر أصحابه بها مع المالكية، ثم بالعراق وبغداد، وغلب عليها، وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن، ودخل ما وراء النهر وبلاد فارس، كما دخل شيء منه أفريقية والأندلس. ويبقى مذهب أحمد بن حنبل الذي ظهر ببغداد، ثم انتشر كثيراً في بلاد الشام وغيرها، وبعد ذلك ضعف. وأخيراً كثر أتباع مذهب داوود، وانتشر ببلاد بغداد وفارس، وقال به قوم قليل بأفريقية والأندلس، ثم ضعف (الديباج المذهّب في معرفة أعيان علماء المذهب 1: ضمن باب في ترجيح مذهب مالك).
([65]) ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء الزمان 7: 144، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، 1968م، عن شبكة المشكاة الإلكترونية.
([66]) محمد أمين بن عابدين، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية: 333، دار المعرفة، بيروت.
([67]) محمد الويلتوري المليباري، هداية الموفقين إلى الصراط المستقيم: 65، مكتبة إيشيق، إستانبول، 1399هـ ـ 1979م.
([68]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن قاعدة في من تجب طاعته ومن تجوز طاعته (لم تذكر أرقام صفحاته).
([69]) شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة 1: 155 دار التراث، القاهرة، 1355هـ.
([70]) مصطفى الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1: 158 ـ 159 وما بعدها، دار الفكر، الطبعة السابعة.
([71]) عبد الوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى 3: فقرة 365، شبكة المشكاة الإلكترونية؛ ومصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 292، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، 1386هـ ـ 1966م.
([72]) أعلام الموقعين 2: 305 وما بعدها.
([73]) البحر المحيط، فقرة 1250.
([74]) المصدر السابق، فقرة 1256.
([75]) المصدر نفسه، فقرة 1256.
([77]) المصدر السابق: 479 و40.
([79]) المصدر نفسه: 545 ـ 546.
([80]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول: 295 ــ 296، دار الكتب العلمية، بيروت؛ البحر المحيط، فقرة 1250.
([81]) القرافي، تنقيح الفصول، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثالث (في الدال على العلة).
([82]) قواعد الأصول ومعاقد الفصول، وهو مختصر كتاب تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل لصفي الدين الحنبلي، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن فقرة: أصول المصالح خمسة (لم تذكر أرقام صفحاته).
([83]) عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه: 65 ـ 66، دار القلم، الكويت، الطبعة الثانية، 1970م.
([84]) مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه: 50 ـ 52؛ أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه 2: 767 وما بعدها، تحقيق: محمد حميد الله، طبعة دمشق، 1964م.
([85]) مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه: 23.
([86]) المصدر السابق: 25 ـ 26.
([87]) قواعد الأصول ومعاقد الفصول، ضمن فقرة (القياس).
([88]) البحر المحيط، فقرة 1282.
([90]) إذ قال الشافعي: أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها، وتعدوها إلى الاستحسان، وفي مسألة شهود الزنا أوجبوا الحد، ونصوا أنه استحسان. وأما الكفّارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسياً على قتله عامداً، مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}. وأما المقدرات فقاسوا فيها، ومن ذلك تقدير عدد الدلاء عند وقوع الفأرة، ثم أدخلوا تقديراً على تقدير، فقدَّروا للحمام غير تقدير العصفور والفأرة، وقدروا الدجاجة على تقدير الحمامة، وقدروا الخرص بالقلتين في العشر (البحر المحيط، فقرة 1282).
([91]) أعلام الموقعين 2: 71 ـ 72؛ ابن قتيبة الدينوري، تأويل مختلف الحديث، دار الجيل، مراجعة محمد زهري النجار، بيروت، 1393هـ ـ 1972م، عن مكتبة سحاب السلفية الإلكترونية، ضمن باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي (لم تذكر أرقام صفحاته).
([92]) أعلام الموقعين 2: 80 ـ 81.
([94]) المصدر السابق 2: 83 ـ 84.
([95]) نفس المصدر 2: 99 ـ 101.
([96]) انظر: تفاصيل ذلك في: الفصل الثاني من الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.
([97]) البحر المحيط، فقرة 1260.
([98]) ابن حزم الأندلسي، النبذ في أصول الفقه: 60، شبكة المشكاة الإلكترونية.
([99]) المحصول في أصول الفقه، ضمن الفصل الثاني (في الدليل على صحة الأصل)؛ الغزالي، المنخول في علم الأصول، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الأول من الباب الرابع (لم تذكر أرقام صفحاته).
([100]) انظر: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الثاني.
([101]) النبذ في أصول الفقه: 69.
([103]) المحصول في أصول الفقه، ضمن الفصل الثاني (في الدليل على صحة الأصل). وكذلك: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه: 34.
([104]) البحر المحيط، فقرة 1282.
([106]) أعلام الموقعين 1: 349.
([107]) أعلام الموقعين 1: 278.
([108]) أعلام الموقعين 1: 282.
([109]) أعلام الموقعين 1: 284 ـ 285.
([110]) أعلام الموقعين 1: 286.
([111]) أعلام الموقعين 1: 289.
([112]) أعلام الموقعين 1: 290. ولاحظ على هذه الشاكلة: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فصل (في ما أثبت على خلاف الظاهر).
([113]) الموافقات 4: 230؛ فهم الدين والواقع، الفصل الثالث.
([115]) قيل: إن في صحة قياس الشبه وجهين: أحدهما: يصح، لأن عمر أمر أبا موسى باعتباره، والثاني: المنع؛ لأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بالشبه لوجب أن يصح كل قياس؛ لأنه ما من فرع إلا ويمكن ردّه إلى أصل بضرب من الشبه (البحر المحيط، فقرة 1276).
([116]) لاحظ: الفصل الأخير من كتاب فهم الدين والواقع: (منهج الفهم المجمل والمقاصد).