حركة التطور التاريخي في الفكر البشري يمكن دراستها بعدة طرق أحدها تطور الأدوات و الوسائل التي يُمارس بها تطوير مسيرته الفكرية ونمط حياته اليومية، بل يستخدمها في صناعة الوعي الاجتماعي ، أو تجهيله والهيمنة عليه لتمكين سلطوي نفوذي على المقدرات والعقول.
وعلي طول الخط التاريخي الزمني والمكاني هناك تطور في الوسائل ،الأدوات وحتي في الأفكار، وبعد الثورة الصناعية لعب الإعلام دورا بارزا في إدارة معارك العقل والوعي كما إدارة الحروب.
وما سنسلط الضوء عليه هو دور الإعلام في صياغة الفكرة والعقل والتجهيل والوعي ، وكيف لعبت وسائل التواصل الإجتماعي اليوم دورا بارزا في كشف كثير من التضليل الإعلامي والدور الذي يقوم به في صناعة الوعي أو تسويق الجهل من خلال رسمه لخارطة وعي تناسب استراتيجياته و خططه.
• الثورة الصناعية وخارطة الطريق:
طوال العصور الماضية من تاريخ البشرية لم تكن التكنولوجيا تدين للعلم الطبيعي في شيء بل كان العلم هو المدين لها بالكثير.
فدوما كانت مهارات الإنسان تتولد من حاجته لتسيير أمور حياته اليومية تحت مبدأ: “الحاجة أم الاختراع” ، حيث كان ضغط الحياة من حيث الوقت والجهد يدفع باتجاه ابتكار أدوات ووسائل جديدة توفر الجهد وتختصر الوقت وتلبي حاجة الإنسان الطارئة دوما ، خاصة مع ميل الإنسان الفطري للتجديد والابتكار.
استمر هذا الوضع حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر،بل ظل قائما في مجالات معينة طوال جزء كبير من القرن التاسع عشر. لكن الاكتشافات العلمية التي حصلت في القرنين السادس والسابع عشر دفعت باتجاه فكري جديد يسخر العلوم الطبيعية للأغراض التكنولوجية ، بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الصانع الشخصية وتدريبه الفعال، بل تعتمد على نظرية علمية مؤكدة.
وكان الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون رائدا في هذا الميدان، حين دعا إلى نوع جديد من العلم، لا يكون هدفه إرضاء الطموح النظري للعقل البشري، بل يكون هدفه تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة والوصول إلى مزيد من التحكم في العالم الخارجي .
وكان بيكون بدعوته هذه يستشرف المستقبل قبل انكشافه حيث كان يعيش في جو سياسي واقتصادي يعطي مؤشرات هامة حول بدايات انهيار الإقطاع في أوروبا ، وظهور مجتمع تجاري ثم رأسمالي له احتياجات تكنولوجية هائلة تعجز عن الوفاء بها أساليب الصناع القديمة مهما كانت براعتهم.
وتدريجيا تقلصت قوى التفكير والإبداع وضاقت لتصبح مقتصرة علر دائرة صغيرة رأسمالية تملك زمام الأمور الإقتصادية وصناعة القرارات السياسية ، وتطلب منها ذلك تحويل الإنسان في المجتمعات الغربية من إنسان ماهر يستخدم مهاراته اليدوية ليطور من نمط حياته ويطور من خبرته بطريقة تكاملية بين الخبرة والممارسة ، إلى شيء يسعى دوما دونما شعور للتسويق لذاته كي يغطي حاجياته الوهمية التي صنعها له الرأسماليين ضمن خطة الهيمنة على الطبيعة .
فالرأسمالي حينما وجد نفسه أمام مأزق الحاجة لزيادة التسويق لما ينتجه لجأ للهيمنة على الإعلام ليرسم النمط المعيشي الذي يجب أن تكون عليه حياة المجتمعات الغربية، فصنع لها حاجات وهمية افتراضية حولها لضروريات ضمن خطة صناعة الوعي بخلق شخصية الفرد ذو البعد الواحد ذو الشخصية التسويقية فهي شخصية بلا ذات تفتقر للمشاعر والحاجات الإنسانية الأصيلة ، شكلها أجهزة المونتاج والإعلام الرأسمالي.
• الاعلام من التمكين إلى التجهيل بصناعة الوعي:
لقد ساعد تطوير أجهزة الكمبيوتر في نهاية ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة والتي قامت على توصيل مراكز الكمبيوتر المتوافرة في المنشآت العسكرية ببعضها ، وذلك للمشاركة في البيانات المتوافرة لديها. ساعدت هذه الفكرة على تطور أجهزة الاتصالات الأخرى وأدت تكنولوجيا الرقميات إلى تطور ما يطلق عليه بالأطباق الفضائية، التي تستقبل بث التلفزيونات من مختلف بقاع المعمورة ليتحول العالم تدريجيا إلى قرية واحدة بعد فكرة العولمة ودخول الإنترنت على خط الاشتغال الإعلامي وتصبح المعلومة التي كان يبذل الجهد في سبيل الحصول عليها إلى شيء سهل المنال في أي وقت وزمن وبكبسة زر دون أدنى مشقة ولكن أيضا دون أدنى تحقق وتمحيص لمدى صدقها .
فالاعلام في الغرب كوسيلة مهمة في النظام الرأسمالي تم تسخيره للقوى الاقتصادية الرأسمالية في الهيمنة على وعي المجتمعات الغربية ، فكانت المراحل كالتالي:
المرحلة الأولى : التمكين:
وهي مرحلة بناء جسور الثقة بين السلطة والجمهور من خلال التركيز على مصداقية الحدث ونقله كما هو ، بعد أن صنعت هذه القوى لها مؤسسات إعلامية ضخمة احتكرت الساحة الإعلامية ومن ثم احتكرت الحدث والخبر والإعلانات من خلال منظومة رأسمالية كان لها رجالها الذين يهيمنون على المقدرات البشرية والطبيعية وعلى صناعة القرار.
هذه المؤسسات الإعلامية مارست دور العقل الجمعي من خلال خطة طويلة الأمد في صناعة وعي الجمهور بسياسة التجهيل، حيث احتكرت مصادر المعلومة والعلم، ورغم تعدد وجوهها البارزة في المجتمع في شبكات عنكبوتية لها أسماء مختلفة إلا أنها كانت تعود في حقيقتها لعقل مدبر ومدير واحد، يرسم لها استراتيجياتها المعرفية وما يجب أن تقدمه للجمهور مواكبة للاستراتيجيات الاقتصادية الرأسمالية والاستراتيجيات السياسية الرامية للهيمنة والاستعمار وإن بطرق مختلفة تتناسب وكل مرحلة ، فمن مرحلة الاستعمار العسكري تبدل خطابها إلى مرحلة الاستعمار العقلي المفاهيمي والثقافي والفكري اليوم حيث تبدل الخطاب والأدوات بما يناسب مرحلة الهيمنة الجديدة.
إضافة لتشكيلها نمطية الشخصية التي يجب أن تكون عليها الشخصية الغربية في المجتمعات بما يتناسب وثقافة الإستهلاك وتشيء الإنسان ليتناسب مع خطتها في التسويق، فرسمت له حاجات وهمية كحاجات ضرورية، وحولت نمط حياته الخلاق بالفكرة من خلال مهاراته التي منبعها الحاجة الحياتية ، إلى شخصية ذات بعد واحد لا تفكر بقدر ما هي تنكفيء على ذاتها بهدف التسويق لذاتها في السوق الانتاجية ، وما يتطلبه هذا التسويق من حاجيات توفرها تلك العقول المدبرة والمنتجة الماسكة بزمام أمره دون وعي.
فنمطت المجتمع كله بنمط واحد في المعيشة وطريقة رسم الأولويات ، والحاجات الضرورية بطريقة هيمنت بها على واقعه فبات لا يرى خارجه أي حقيقة وواقع أخر ، حتى رسمت له أعداؤه الوهميين وأصدقاءه الوهميين، ورسخت في ذهنه ثقافة الغلبة والاستعلاء على الشعوب الأخرى ، بحيث بات يصدق أنه الأقدر والأجدر والأكثر عقلانية وقدرة. لذلك هو الوحيد الذي يملك الحق في قيادة العالم تحت شعارات التحرير والحرية والديموقراطية ليخلص البشر من الهيمنات الإيديولوجية والدينية كونه يدرك من خلال العصور الكنسية وممارسته ،تجربته الدينية التاريخية خطورة الدين على الحياة،فعمم التجربة وانطلق على ضوئها كمخلص ومحرر للبشرية ، والواقع أن هذه القناعات الوهمية تستبطن له عبودية مطلقة، وسعي مستديم نحو الهيمنة عليه باستخدامه كأداة للهيمنة على غيره في صراع بين الضعيف والقوي. بعد أن آستاطعت العقول المديرة لهذا النظام الوحشي الرأسمالي في لحظات ضعفنا أن تهمين على عقولنا وثرواتنا تحت طأة الانبهار الحضاري في ظل انغماسنا بحلظات الانهيار الحضاري وانسحاقنا تحت عجلة الديكتاتوريات التي صنعتها تلك القوى لنبقى عاجزين ضعفاء منبهرين منشدين لها.
فبدأت المسيرة في الغرب بتكريس القدرة أي قدرتها على الوصول إلى كل منطقة حدث وخبر بحيث يكون لها دوما السبق، وأيضا بتكريس الثقة في دقة نقل المعلومة وصدقها وكان ذلك في مرحلة النهضة والثورة الصناعية وقبل نظرية السيطرة على الطبيعة وتشييء الإنسان.
بعد مرحلة التمكين ببناء جسور الثقة وبسط القدرة والسبق الاعلامي، بدأت مرحلة جديدة .
المرحلة الثانية: الاستيلاء:
وهي مرحلة الاستيلاء على العقول وتكوين المصدرية الوحيدة للمعلومة والخبر ، ولنمط الشخصية التي يجب أن يكون عليها الفرد الغربي ، وبعد نجاحها في الاستيلاء على العقل الاجتماعي للأفراد ، وقدرتها على بسط نفوذها الإعلامي وصناعة الحدث وفق ما تريد استراتيجياتها ، جاءت العولمة الإعلامية لتحول العالم لقرية صغيرة تنتقل فيه المعلومات بين الجميع بسرعة البرق، كان الهدف هو نقل خبرتها الطويلة في ساحات صناعة الوعي بالتجهيل في الغرب إلى عالمنا، حيث المطلوب هو عملية استنساخ للشخصية الغربية كاملة تتحول فيها الشخصية الفردية والاجتماعية في العالم العربي والاسلامي إلى شخصية مستنسخة عن الشخصية الغربية في طريقة العيش واللباس والأكل دون التفكير، لتوفر بذلك أسواق جديدة استهلاكية تروج فيها لما تنتجه من جهة ، ولتعيد صياغة الوعي العربي والاسلامي وفق استراتيجياتها بعد أن فشلت في الهيمنة العسكرية التي لم تثمر إلا مزيد من المقاومة والرفض لها ولكل ما ينتج منها نتيجة شعارات المقاطعة والفوبيا من كل ما هو غربي وأمريكي ، في ظل ما مارسته تلك الجيوش المستعمرة من ممارسات وحشية أثمرت رفضا مستنيرا بالمقاومة في مرحلة من مراحل الأمة الثورية.
فلم تستكين ولجأت لأفكار استعمارية أكثر نجاعة بعد أن اطلعت على متانة العقيدة التي يمتلكها الفرد في العالم العربي والاسلامي، ومتانة الارث الثقفاي والتاريخي الحضاري الذي دوما ما يشكل مرجعية ناهضة له، فعملت على اللجوء لعملية هدم ممنهج بالاحلال المفاهيمي والفوضى الثقافية الخلاقة بعد العلولمة التي كانت من أهدافها الاستعمار الثقافي واختراق الهوية وتذويبها وإحلالها بهوية مرسومة وفق متطلبات الغزو الاستعماري دون جيوش وعسكر.
بعد أحداث ١١ سبتمبر تحولت الآلة الإعلامية لصناعة الحدث العالمي وفق إرادتها وأطلقت الحملة على الإرهاب دونما تحديد لماهية هذا الارهاب، في استعداء واضح لثقافة الرفض والممانعة بخلطها بمفهوم الإرهاب ومن ثم الانقضاض على العقل وخاصة الجماهيري بمحطات إعلامية ضخمة التمويل والتهويل ، تحالفت فيها شخصيات إعلامية لها جمهور عريض مع سلطات مالية ودينية استطاعت أن تشرعن وجود هذه المحطات وتضم لها جمهور كبير ، بداية بمرحلة تمكين استقطابية تمثلت في استخدام كل الحواس في جذب هذا الجمهور في معارك كثيرة كانت بداياتها ثقافية وقومية ، وتركز على قضية جامعة مركزية هي فلسطين، ومع كل مرحلة كانت تتبدل الأدوات والمفاهيم وفق مستلزمات المرحلة في معركة كي وعي هذا المحيط وصناعة وعي جديد تراكمي تصل به في النهاية إلى مرحلة الاستيلاء الكاملة والهيمنة بصناعة وعي جديد يحقق لها استراتيجياتها في المنطقة،التي تتناسب وعقلية الاستعمار والهيمنة.
فكان الاعلام يتواكب مع حملات سياسية ودينية تكرس مفاهيم يطرحها الاستعمار كمحور الاعتدال ومحور الشر والارهاب وخلطه بالمقاومة وغيرها من المفاهيم التي واكبها الاعلام وقام بصناعتها في وعي الجمهور وسخر لذلك الفتاوى التي تكرس ذلك لفهمه لنمط العقلية العربية التي تهيمن عليها الثقافة الدينية التقليدية الموروثة وليست العقلانية العلمية.
وبذلك استولت هذه القوى من خلال هذا الاعلام الموجه والمدعوم ماليا وسياسيا ودينيا علي عقول الجماهير، وصنعت لها منظومة مفاهيمية جعلت من الهوية شخصية هلامية غير واضحة المعالم وكرست هلاميتها من خلال غمسها في تراشقات مذهبية كرست من تجهيلها وعمقت الهوة المعرفية بين أطياف المجتمعات المختلفة ، ببناء عوازل وهمية منعت من التعارف ومارست التضليل والتجهيل والذي نتج عنه الانكفاء على الذات وخلق شخصية أحادية البعد تعيش في صندوق معرفي سطحي عن الآخر حيث كرست بالفتوى التكفير، وأُلغِى دور العقل في السؤال نتيجة منهجية التلقين المعرفي النمطي الطويلة الأمد التي مارستها الديكتاتوريات على مدى عقود من الزمن وكرستها في مناهجها التعليمية ، والأسرية التي استلهمت نفوذها من السلطة الأبوية والنظام الرعوي في الحكم .
المرحلة الأخيرة : التجهيل بصناعة الوعي :
لم تكتف وسائل الإعلام ومن وراءها بعملية الاستيلاء هذه بل قامت بجهد كبير في صناعة وعي الجمهور من خلال تجهيله أولا وكي وعيه وتنميط عقله وتحويله لشخصية أحادية التفكير ، ثم بعد ذلك بنت على ذلك وعيه الجديد وفق استراتيجياتها الاقتصادية والفكرية والسياسية، فتحولت أغلب المجتمعات العربية تحت ضربات الحداثة والعلمنة إلى مجتمعات استهلاكية شبيهة في نمط معيشتها بالمجتمعات الغربية، بعد أن كرس الاعلام ثقافة الانهزام النفسي في وعي العربي وكرست غلبة الغرب في كل شيء كفهم قهري غير قابل للنقاش، وتحول مفهوم الحضارة والحضاري من منجزات معرفية حقيقية منشؤها السؤال وأدواتها العقل والحوار وأولياتها العدالة والكرامة ورفض الهيمنة والاستعمار، إلى حضارة الصناعة والرأسمالية والاستهلاك والتقليد في اللباس والمسكن والتعليم وكل ما يمكن التشبه به بالواقع الغربي حتى استيراد الأفكار حول الدين ونظام الحكم لتلبيسها لعالمنا المختلف في الهوية والقواعد الفكرية والثقافة والقابليات.
فبتنا نخوض صراعات ثقافية وجدليات فكرية غرقنا فيها دونما أسس للمقايسة منطقية تنطلق للانفتاح على الآخر والاستفادة منه دون مسخ لهويتنا وإرثنا الثقافي، بل انطلاقة الذي يريد الانقضاض على كل تراثنا ومسخ هويتنا تحت دعاوي التحديث والحداثة والتمدين، بينما يرزح أغلب الشعوب تحت أنظمة ديكتاتورية قهرية هي صناعة الغرب المتحضر.
لا ننكر أبدا كيف فتحت لنا الحضارة الغربية أبوابا لإعادة النظر والتمحيص والغربلة ، لكن الانفتاح لم يكن هدفه التلاقح الفكري والحضاري واحترام الاختلاف وهوية المختلف، بل هدفه الهيمنة الحضارية والاستعلاء والاحلال الثقافي لكل منجزاتنا وتاريخنا وهويتنا.
لذلك لعب الاعلام المرئي دورا كبيرا جدا في إحداث بلبة مفاهيمية من جهة ومذهبية من جهة أخرى ساند بها التغلغل الاستعماري وهيمنة مفاهيمه على العقول، وعسكرتها مذهبيا حجبا للمعرفة وتكريسا للفرقة وتضخيما للصراع وصناعة للوهم من خلال اختلاق أعداء وهميين وتوجيه السلاح باتجاهات مغايرة للواقع وليست باتجاه العدو الحقيقي.
وكان من أهم أسباب نجاح هذا الاعلام هو إمكانياته الهائلة ومواكبته لكل جديد وقدرته على توظيف طاقات الشباب توظيفا جاذبا استقطابيا، وبدفع مقابل مادي مغري في ظل ضنك معيشي يعاني منه المجتمع العربي والاسلامي، هذا إضافة لخطابه الجاذب في ظاهره والذي استطاع أن يطوع الدين في طيات خطاباته الممتزجة بمفاهيم غير واضحة وملتبسة وظفت دينيا لتلقى لها صدى في عقول الجمهور.
• آليات المواجهة والمقابلة: مراوحة أم مقابلة
التضليل وسيلة ناجعة ومواجهته لا يكون بمواجهته المباشرة كون المواجهة المباشرة قد تكرس من وجوده وتزيد من مريديه تحت شعار المظلومية في ظل انتشار عميق للتجهيل وهيمنته وقدرته على صناعة الوعي وانقسام مذهبي إثني عميق، فمواجهة هكذا مشروع لا يكون في قبال التضليل إلا المعرفة وإنتاجها بوسائل متطورة إعلاميا وبخطاب عالمي يترفع عن المذهبيات وعن الإيديولوجيات وعن الانتماءات بكافة أشكالها.
اليوم الاعلام المقاوم لا يعني فقط الترويج لمفهوم المقاومة العسكرية ضد النظام العالمي في الاحتلال، وإنما هو بناء منظومة ثقافية حول مفهوم المقاومة في كافة مراتبه الثقافية والفكرية والاجتماعية والاستهلاكية والاقتصادية والعسكرية لتشكل منظومة حياة مقاومة في مواجهة منظومة الاستعمار والهيمنة بكافة مراتبها وأدواتها، ففي قبال الترويج لثقافة الاستسلام والانهزام النفسي الموهوم الذي صنعته الآلة الاعلامية للاستعمار بأدوات داخلية نحتاج بناء ثقافة البقاء والقدرة والمبادرة والتضحية لأجل الكرامة وهو ما يتطلب التالي:
• مواجهة الذات ونقدها داخليا
• بناء منظومة معرفية منتجة على مستوى الواقع والفعل الاجتماعي وساحات العقل.
• خطاب استقطابي بديل مؤسس لثقافة المقاومة كمنظومة معرفية قادرة على المواجهة وطرح البديل.
• مظلة المقاومة الجامعة التي تعمق من حالة الرفض للعبودية والهيمنة وتؤسس لقيمة الحرية كقيمة غائية تحقق قيمتي العدالة والكرامة ، حيث تعزز قيمة الكرامة من حالة الرفض النفسي لكل ما يخالف كرامة الإنسان وترسخ مبدأ العزة والغلبة لا بمعناها السلبي المستدعي لحالة الاستكبار ، بل الغلبة من باب التواضع وحفظ كرامة الإنسان المحقق لتوازن القوى المانع للاستضعاف بنظام مستكبر.
• اختراق ساحات الغرب إعلاميا بنفس الأدوات والمنهج ولكن وفق مبدأ الصدق ونقل الواقع كما هو ، وكشف الحقيقة بلغة المجتمع الغربي وأدواته من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ،التي فتحت الفضاءات اليوم لنقل الحدث كما هو واخترقت نظام احتكار المعلومة وصناعة الحدث وفق رغبات الساسة ، بل أجبرت وسائل إعلام كبرى على نقل الحدث كما هو في كثير من الأوقات ، فخرقت فضاءات مغلقة صنعها ساسة الغرب للهيمنة على عقول شعوبهم بدعوى الحرية والشفافية،وما حرب غزة الأخيرة وزيادة سخط الشعوب الأروبية على الكيان الصهيوني إلا نتيجة غالبا هذه المواقع .
اليوم معركتنا الإعلامية معركة شرسة على كافة الأصعدة في ظل نظام القرية الواحدة والمعلومة السريعة ، فهي معركة ثقافية فكرية تكنولوجية ، هي باختصار معركة أدمغة تتطلب تسخير كل طاقاتنا في مواجهة عدو لا يؤول جهدا في تدمير كل مكتسباتنا في كل لحظة وتحويل انتصاراتنا لهزائم ، من خلال ضرب وحدتنا الداخلية وتشويه ماضينا بتلويث حاضرنا من خلال استحضار الماضي للاقتال الحاضر، رغم ما يحمله ماضينا من زخم حضاري هائل ، لكنه يتم استجلابه بطريقة مذهبية ركزت على الفروقات وأهملت كم التلاقي كون منطقتنا تضح بتراثها وآثارها بالدلالات والأدلة على حضور جميع الأديان ،المعتقدات في بقعة جغرافية صغيرة وغنية بالثروات المادية والمعنوية ، وتدلل في كثير من ثرواتها وآثارها على ما تزخر به من كم التعايش والتسامح بين أطياف شعوبها المختلفة ، وهي نقطة قوة يتم إضعافها اليوم من خلال التطرف ونسف كل آثارنا وتراثنا على يد فئة ضالة أخذت من الاسلام قشورا تلبست به عقلها ونهجها وألبسته لتاريخنا لتنسفه في حفلة جنون وسكر غيب فيها العقل والمنطق أمام شبه استسلام كلي للنخب والعلماء.
إننا أمام مسؤولية تاريخية يلعب فيها الإعلام دورا محوريا في تبيان الحقيقة، ومواجهة كل أدوات الضلال والكفر والتجهيل والتضليل ومحاولات صناعة وعي بكي وعينا ، وعي جاهلي يتناسب ومشاريع الهيمنة والاستعمار.
المواجهة الاعلامية اليوم لا تحتاج مهادنات ومراوغات ومجاملات ، بل هي معركة تحتاج جرأة مواجهة ورفض لكل محاولات الفتنة والتضليل، مواجهة لكل محاولات الفساد والإفساد، مواجهة لكل محاولات قلب المفاهيم وتمييع الهوية،مواجهة لكل محاولات الاحلال الهوياني والثقافي بل مواجهة بمشروع مقاوم يكرس حالة الرفض والعزة والأنفة بأدوات عصرية قادرة على المواجهة والاحلال والكشف لصناعة وعي حقيقي ليس مزيف.
مسؤوليتنا التاريخية اليوم تقتضي منا تفعيل المشروع الاعلامي المقاوم بكل ثقله ، وإلا وصلنا لمرحلة انسداد تاريخي سيحدث انفجارا حقيقيا قد نكون نحن آول ضحاياه، بل سيكون كل إرثنا وتاريخنا وراهننا ومستقبلنا ضحية تلعننا الأجيال عليها.