د. حميدرضا پور(*)
ترجمة: محمّد عبدالرزاق
تمهيد
يعتبر محمّد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول، والمستشهد عام 876 هـ بدمشق، أوّل فقيهٍ شيعيّ يدوّن كتاباً مستقلاً في القواعد الفقهية أسماه: القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية([1]).
أنهى الشهيد الأوّل عمدة دراساتهِ في مدينة الحلّة([2])، مستفيداً من أبرز أساتذتها اللامعين، وفي مقدّمتهم فخرالمحققين ولد العلامة الحلّي، وكانت له رحلات لمختلف البلدان هي الجانب الآخر من نشاطاتهِ العلمية، منها سفره إلى فلسطين ودمشق والعراق، وخصوصاً زياراته لمكّة والمدينة في موسم الحج، فقد تشرّف بزيارة بيت الله أكثر من ثلاثين مرةً، فروى عمّا يقارب الأربعين عالماً سنيّاً([3]).
ساهم ذلك كلّه في زيادة الاتصال والاطلاع على كتب الفقه ومصادره عند أهل السنّة، لاسيما في قواعد الفقه، وقد قرّر الشهيد الأوّل ـ بعد إكمال دراسة العديد من كتبهم في القرن السابع والثامن ـ أن يكتب كتابه بأسلوبٍ خاص ورؤيةٍ مختلفة.
تقسّم قواعد الكتاب المدوّن عام 784 هـ إلى مجموعيتن: الأولى في الأصول والأدب، والأخرى في قواعد الفقه.
وممّا لاشك فيه أن الشهيد الأول كان قد تأثر في كتابهِ بآراء علماء السنّة في القرن السابع والثامن، إلاّ أنّهُ اختار الأساليب الأجود في الاستدلال الروائي والقواعد الأوثق مع إلقاء نظرة خاطفة على الفقه الشيعي الواسع.
وقد وجدنا من الضرورة بمكان دراسة الكتاب ومنهجيتُه؛ لكونهِ البادرة الأولى في مجال تقعيد الفقه من قبل علماء الشيعة، ولابد في السياق ذاتهِ من المقارنة بين منهجيّة الكاتب وبين الاتجاهات والأساليب الرئيسة الأخرى عند علماء السنّة؛ كي يتسنّى الردّ على مَنْ يزعم أنّ الكاتب كان معتمداً بالدرجة الأولى على آراء القرافي والعلائي، وسنحدّد ـ بالدرس والتحقيق ـ مدى تأثرهِ بأولئك العلماء وإلى أيّ حدّ كان صاحب مدرسة مستقلّة ومنهجية خاصة ومتميّزة.
التدوين القواعدي الفقهي عند أهل السنّة، الطرائق والتطوّر التاريخي
صدرت العديد من كتب القواعد الفقهية في القرن السابع والثامن الهجريّين، من قبيل: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام، والفروق للقرافي، وكتاب المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي، وكتاب الأشباه والنظائر لابن السبكي. وتُعتبر هذه الفترة من العصور الذهبية عند أهل السنّة؛ نظراً للكمّ الهائل في مصادر الفقه وقواعده.
وفي القرن السابع كان أكثر الكتب حضوراً وتأثيراً كتابا: قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعزّالدين بن عبدالسلام الشافعي (666هـ)، وكتاب الفروق للقرافي المالكي (628هـ)، وكان للكتابين بصماتٌ واضحة في اتجاهات التأليف في القواعد الفقهية آنذاك، وقد اعتمدا على الأسلوب الجعلي، واستمرّ ذلك حتى النصف الثاني من القرن السابع، ويضاف إليهما كتابا: المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي الشافعي (761هـ)، والأشباه والنظائر لعبدالوهاب السبكي (771هـ).
كان لأهل السنّة في القرن الرابع أسلوبان مميّزان: أحدهما الأسلوب الجعليّ الذي يضع القاعدة ثم يسجّل لها مصاديق عديدة تثبتها، وهو أسلوب متّبع عند غالبيّة علماء الحنفية، وكان من بواكير التأليف في هذا المجال رسالة الكرخي (340 هـ)، وكتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبّوسي (430 هـ)([4])، وكلاهما من الحنفية.
أمّا الأسلوب الآخر، فهو يعتمد على القاعدة التي تتمتّع بخصوصيّتين: الأولى أن تكون موثقة روائياً أو قرآنياً، والثانية أن تكون قاعدة عامّة ينضوي تحتها أكثر ما يمكن من المصاديق، والقواعد الخمس أبرز مصاديق هذا المفهوم، وقد اشتهر علماء الشافعية بهذا الأسلوب، ويروي العلائي الشافعي في المجموع حول هذا المنهج: نُقل للقاضي أبي سعيد الهروي عن بعض أئمة هرات قولهم: إنّ الإمام أبا طاهر أرجع جميع مسائل مذهب أبي حنيفة.. إلى سبعة عشرة قاعدة، وهنا قرّر أبو سعيد الهروي السفر إلى أبي طاهر، وكان الأخير اعتاد أن يقرأ ويكرّر القواعد كلّ ليلة في المسجد بعد أن يخلو من الناس.
ففضّل أبو سعيد الاختباء بحصيرٍ مركون، فسمع بعضاً من تلك القواعد؛ لأنّ عطستَهُ فضحت أمره، الأمر الذي دعا أبا سعيد إلى إخراجهِ من المسجد.
يقول القاضي أبو سعيد: لمّا سمع القاضي حسين ـ من الشافعية ـ هذهِ القضية، قام بإرجاع الفقه الشافعي.. إلى أربع قواعد هي:
1ـ انتفاء الشكّ في مقابل اليقين (قاعدة اليقين).
2ـ الاستطاعة في المشقّة (قاعدة لا حرج).
3ـ نفي الضرر (قاعدة لاضرر).
4ـ الاحتكام للعادات (قاعدة تحكيم العادة)([5]).
تأسيساً على ذلك، تغدو كتب التقعيد الفقهي إمّا جعلية الأسلوب أو روائيته.
هذا وقد اعتمد كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام الأسلوبَ الجعليّ، واكتفى في جزئيهِ بقاعدة لاحرج من بين القواعد الخمس، بحيث يمكن القول: إنّه لم يذكر حتى اسمِ قاعدةٍ أخرى غيرها.
أمّا بالنسبة لمؤلّفه،ِ فهو محمد عزالدين بن عبدالسلام الشافعي (660 أو 668هـ)، كتب كتابه في جزئين، وقد حظي الكتاب باهتمام علماء السنّة بالإضافة لعلماء المذاهب الأخرى، وكان ابن عبدالسلام يبني مسائله الفقهيّة على قاعدتين أساسيّتين هما: اعتبار المصلحة ودفع الضرر([6]).
قاعدة «لاحرج» عند ابن عبدالسلام
تكلّم ابن عبدالسلام عن قاعدة لاحرج في كتابه:ِ قواعد الأحكام؛ فرتّب مواضيعها كما يلي: «المشاقّ ضربان: أحدهما: مشقّة لا تنفكّ العبادة عنها كمشقّة الوضوء والغسل في شدّة السبرات.. وكمشقة الصوم في شدة الحرّ وطول النهار، وكمشقّة الحج التي لا انفكاك عنها غالباً.. فهذهِ المشاقّ كلّها لا أثر لها في إسقاط العبادات؛ لأنها لو أثّرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات، الضرب الثاني: مشقّة تنفكّ عنها العبادات غالباً وهي أنواع:
النوع الأوّل: مشقّة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النفوس و.. فهذهِ مشقّة موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأنّ حفظ المُهج والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقّة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا لفتة إليه ولا تعريج عليه؛ لأنّ تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذهِ المشقّة التي لا يُؤبه بها.
النوع الثالث: مشاقّ واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفّة والشدّة، فما دنا منها من المشقّة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدُنيا لم يوجب التخفيف».
ثم يضيف: «ولا تختصّ بالعبادات بل تجري في المعاملات، مثاله: الغرر في البيوت، وهو أيضاً ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يعسُر اجتنابه كبيع الفستق والبندق. القسم الثاني: ما لا يعسُر اجتنابه فلا يُعفى عنه. القسم الثالث: ما يقع بين الرتبتين منها عظمت مشقته ومنها خفّت مشقته».
هذه نظرة إجمالية على قاعدة لا حرج المذكورة في كتاب قواعد الأحكام ضمن فصلٍ مستقل، ولم يُطرح موضوع القاعدة محدداً.
الشهيد الأوّل وتطوير دراسة قاعدة: لا حرج
وقد تنبّه لهذا الشهيد الأوّل لدى بحثه حول القاعدة في كتاب القواعد والفوائد.
أما الملاحظات المتعلّقة بقواعد الأحكام فجملة نقاط كالتالي:
أولاً: اندرجت تلك المواضيع تحت عنوان الفصل بعمومهِ، وليس ضمن عنوان القاعدة.
ثانياً: هناك تركيز من المؤلّف على هذه القاعدة دون أخواتها الأربع، فيما اهتمّ علماء الشافعية كثيراً بعناوين القواعد الخمس بوصف ذلك مجموعاً لا أمراً مفرّقاً، واستمرّ ذلك حتى مع بدء التقعيد الفقهي في القرن الرابع والخامس ـ كما مرّ ـ وهو ما امتاز بهِ علماء الشافعية عن الحنفية في مجال التقعيد.
ثالثاً: لم يُشر المؤلّف إلى دليل القاعدة.
رابعاً: لم يفصّل القول في مصاديق القاعدة بشكلٍ مستقل، ولابد لنا من الاعتراف ـ لدى إجراء مقارنة إجمالية بين كتاب القواعد والفوائد وكتاب قواعد الأحكام في باب القواعد الخمس ـ بأنّ الشهيد الأوّل كان قد أولى لها عنايةً بالغة وشرحها في محلّها ـ في الجزء الأوّل ـ مع ذكر الأدلّة، وبذل مجهوداً كبيراً في بيان مصاديق القواعد وإثباتها. وسنتطرق لذلك مفصّلاً في خاتمة المقال.
قاعدة «لا حرج» عند القرافي
القرافي صاحب كتاب الفروق، وهو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن العلاء المنهاجي المعروف بالقرافي (684هـ)، حظي كتابه بمكانةٍ مرموقة بين كتب التقعيد الفقهي، وقد تضمن 648 قاعدةً([7])، إلاّ أنّ القرافي ـ وكابن عبدالسلام ـ اكتفى بشرحٍ إجماليّ لمواضيعهِ دون التفصيل؛ فلم يرد ـ مثلاً ـ أصل أو عنوان لقاعدةٍ من القواعد في باب القاعدة الأولى، وهي تبعية العمل للنيّة، سوى بعض الإشارات في مسائل النية وبشكل مختصر جداً، وفي الفرع الثاني والعشرين بعد المائة، اكتفى بذكر الفروق بين قاعدة الرياء وقاعدة التشريك في العبادات([8])، وهكذا بالنسبة لبقيّة القواعد الأخرى، إن لم يكن أكثر اختصاراً أيضاً.
ويستثنى من ذلك قاعدة (لا حرج) التي ذكر فروعها بإسهاب وتفصيل، حين عنون بحثها القرافي بقوله: «الفرق الرابع عشر بين قاعدة المشقّة المسقطة للعبادة والمشقّة التي لا تُسقطها».
وقد تأثر كثيراً في هذا الباب بكتاب قواعد الأحكام، فبدأ ـ كابن عبدالسلام ـ بتقسيم المشاقّ إلى نوعين:
أحدهما: لا تنفكّ عنه العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، ونحو ذلك، فهذا القسم لا يُوجب تخفيفاً في العبادة؛ لأنّه قرّر معها.
ثانيهما: المشاقّ التي تنفكّ العبادة عنها، وهي ثلاثة أنواع: نوعٌ في المرتبة العليا كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع؛ فيوجب التخفيف؛ لأنّ حفظ هذه الأمور سبب مصالح الدنيا والآخرة، ونوعٌ في المرتبة الدنيا كأدنى وجع في إصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقّة؛ لتشرّف العبادة وخفّة هذه المشقّة، والنوع الثالث: مشقّةٌ بين هذين النوعين، فما قرُب من العليا أوجب التخفيف، وما قرُب من الدنيا لم يوجبه، وما توسّط يختلف فيه؛ لتجاذب الطرفين له، فعلى تحرير هاتين القاعدتين تتخرّج الفتاوى في مشاقّ العبادات([9]).
وعندما نقارن كلمات صاحب الفروق وعبارات قواعد الأحكام، يظهر لنا جليّاً مدى التشابه والتقارب في وجهات النظر بينهما، إلاّ أنّ القرافي لم يتطرّق لإجراء أصل المشقّة في المعاملات، واكتفى بجملةٍ أخيرة ـ دون أن يذكر أقسام الغرر كما فعل ابن عبدالسلام ـ فقال: «وكذلك الغرر والجهالة في البيع ثلاثة أقسام، واِعتبرْ ذلك في جميع أبواب الفقه».
ويطرح القرافي سؤالاً في القسم الثاني: «ما ضابط المشقّة المؤثرة في التخفيف من غيرها في العبادة والمعاملة؟» فيجيب: «هذا السؤال له وقع عند المحقّقين»، ثم يضيف: «إنّ ما لم يرد فيه الشرع بتحديدٍ يتعيّن تقريبه بقواعد الشرع؛ لأنّ التقريب خيرٌ من التعطيل فيما اِعتبره الشرع.. مثاله: التأذّي بالقمل في الحجّ مبيحٌ للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجزة، فأيّ مرض آذى مثله، أو أعلى منه أباح، وإلاّ فلا»([10]).
بعد ذلك ختم قوله بتحديد أدقّ لضابط المشقّة فقال: «ما لا ضابط له ولا تحديد وقع في الشرع على قسمين: قسمٌ اقتصر فيهِ على أقلّ ما تصدق عليهِ تلك الحقيقة، فمن باع عبداً واشترط أنه كاتبٌ يكفي في هذا الشرط مسمّى الكتابة، ولا يحتاج إلى المهارة فيها في تحقيق هذا الشرط.. والقسم الآخر ما وقع مسقطاً للعبادات لم يكتف الشرع في إسقاطها بمسمّى تلك المشاق، بل لكلّ عبادة مرتبة معيّنة من مشاقّها المؤثرة في إسقاطها، فما الفرق بين العبادات والمعاملات؟»([11]).
ويجيب بنفسهِ فيقول: «جوابه: العبادات مشتملةٌ على مصالح العباد، ومواهب ذي الجلال، وسعادة الأبد؛ فلا يليق تفويتها بمسمّى المشقة مع يسارة اِحتمالها؛ ولذلك كان ترك الترخيص في كثيرٍ من العبادات أولى؛ ولأنّ تعاطي العبادة مع المشقّة أبلغ في إظهار الطواعية، وأبلغ في التقرّب، وأمّا المعاملات فتحصل مصالحها التي بذلت الأعواض فيها بمسمّى حقائق الشرع، والشروط، بل التزام غير ذلك يؤدّي إلى كثرة الخصام، ونشر الفساد، وإظهار العناد».
ويزيد القرافي بعد ذلك موضوعاً ينأى بهِ عن قاعدة لا حرج: «ويلحق بتحرير هاتين القاعدتين الفرقٌ بين قاعدة الصغائر وقاعدة الكبائر، والفرق بين قاعدة الكبائر وقاعدة الكفر..»([12]).
وقد خصّص القرافي ثلثيّ المبحث لهذا الأمر فقط.
ولابدّ لنا من التفصيل أكثر؛ حتى يتسنّى لنا الوقوف على منهج الشهيد الأوّل في كتاب: القواعد والفوائد، كيف ابتدأ وكيف اِنتهى؟ وما مستوى تأثّرهِ بكتابي الفروق وقواعد الأحكام.
ونبدأ من رأيهِ في القواعد الخمس وقاعدة لا حرج تحديداً.
منهج الشهيد الأوّل في درس القواعد الفقهية، قاعدة «لا حرج» أنموذجاً
جاءت القواعد الخمس في كتاب القواعد والفوائد كما يلي: القاعدة الأولى: تبعية العمل للنية. والقاعدة الثانية: المشقّة موجبةٌ لليسر. والقاعدة الثالثة: قاعدة اليقين وهي البناء على الأصل، وأقسام الاستصحاب. القاعدة الرابعة: الضرر المنفي. والقاعدة الخامسة: العادة([13]).
وقد امتازت الموضوعات التي أثارها الشهيد الأول ـ قياساً بما جاء عند ابن عبدالسلام ـ بالأمور التالية:
الميزة الأولى: كان حديث الشهيد في باب القواعد الخمس مفصّلاً مستوعباً، ابتداءً بترتيبها العام ـ كما مرّ ـ وصولاً إلى شرح كلّ واحدة على استقلال.
الميزة الثانية: جاءت القواعد الخمس في الجزء الأوّل ضمن القواعد الأصولية والأدبية؛ ذلك لأنّ الشهيد لم يعدّها مِن القواعد الفقهية المدرجة في الجزء الثاني، ولعلّ سبب ذلك عدم تطبيقها.
يضاف إلى ذلك، أنّ الشهيد ـ وعبر التصنيف المفهومي للقواعد ـ تناول في باب الأحكام التكليفية والوضعية موضوع مدارك الأحكام، وذهب فيه إلى أنّها أربعة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، ودليل العقل، ثم قال: «وهنا قواعد خمس مستنبطة منها، يمكن رَدُّ الأحكام إليها، وتعليلها بها»([14]).
الميزة الثالثة: أكّد الشهيد على تعليل القواعد بالمدارك الأربعة؛ لذا تراه يقدّم كلّ قاعدةٍ مع مأخذها، وليس هذا مختصّاً بالقواعد الخمس وحدها، بل يجري عند كلّ قاعدة فقهية يمرّ بها، وعلى سبيل المثال، عندما يتطرّق لقاعدة لاحرج في الدين يقول: «القاعدة الثانية: المشقّة موجبة لليُسر»؛ لقوله تعالى: >ما جعلَ عليكُم في الدّين من حرَج< وآية: >يُريدُ اللهُ بكُم اليُسرَ ولا يُريدُ بكُم العُسر<.
ثم ينقل حديثين للرسول – في السياق ذاته: «بُعثت بالحنفية السمحة السهلة» و«لا ضرر ولا ضِرار»([15]).
الميزة الرابعة: الإشارة لفروع القاعدة ومصاديقها، حيث يقول في ذلك: «وهذه القاعدة تعود إليها جميع رُخص الشرع، كأكل الميتة في المخمصة، ومخالفة الحقّ للتقية قولاً وفعلاً، لا اعتقاداً، عند الخوف على النفس أو البضع، أو المال، أو القريب، أو بعض المؤمنين.. بل يجوز إظهار كلمة الكفر عند التقية، والأقرب أنّه غيرُ واجب هنا؛ لما في قتلهِ من إعزاز الإسلام، وتوطئة عقائد العوام. ومن هذهِ القاعدة: شرعية التيمّم عند خوف التلف من استعمال الماء، أو الشين، أو تلف حيوانهِ أو مالهِ، ومنها قصر الصلاة والصيام، ومنها المسح على الرأس والرجلين بأقلّ مسمّاه، ومن الرخص ما يخصّ، كرخص السفر، والمرض، والإكراه، والتقيّة، ومنها ما يعمّ، كالقعُود في النافلة، وإباحة الميتة عند المخمصة.. تَعمّ عندنا [الشيعة] الحضر والسفر، ومن رخص السفر: ترك الجمعة وسقوط القَسَم بين الزوجات لو تركهنّ بمعنى عدم القضاء بعد عودهِ..
ومن الرخص: إباحة كثيرٍ من محظورات الإحرام مع الفدية، وإباحة الفطر للحامل، والمرضع، والشيخ والشيخة، وذي العطاش، والتداوي بالنجاسات والمحرّمات عند الاضطرار، وشرب الخمر لإساغة اللقمة، وإباحة الفطر عند الإكراه عليهِ مع عدم القضاء»([16]).
وقد ذكر الشهيد موارد عديدة للقاعدة نكتفي بهذا القدر منها.
كما قسّم بعد ذلك التخفيف في العبادة إلى قسمين: «ثم التخفيف قد يكون لا إلى بدلٍ كقصر الصلاة.. وقد يكون إلى بدل كفدية الصائم»([17]).
ويعدّد الشهيد ـ بعد ذلك ـ ثلاثةً من الأحكام الخمسة فيما يخصّ مصاديق قاعدة «لا حرج»: والرخصة [الشرعية] قد تجبُ (كأكل لحم الميتة) عند خوف الهلاك، وشرب الخمر لإساغة اللقمة، وقصر الصلاة في السفر والخوف، وقصر الصيام في السفر عندنا، وقد تستحبّ من قبيل: إباحة نظر المخطوبة المجيبة للنكاح، وقد تباح كالقصر في الأماكن الأربعة [المسجد الحرام، المسجد النبوي، مسجد الكوفة، والحائر الحسيني].
هذا ما جاء في كلام الشهيد الأول في القواعد، وهو ما يتميّز به هذا الكتاب عن قواعد الأحكام والفروق.
لكن بقي أن نعرف ما مدى تأثّر الشهيد بالكتابين وأخذه عنهما، حيث يعقّب الشهيد على ما تقدّم من نصوص بقولهِ «وهنا فوائد»: الأولى: المشقّة الموجبة للتخفيف. الثانية: يقع التخفيف في القعود كما يقع في العبادات ومراتب الضرر فيها ثلاث. الثالثة: التخفيف على المجتهدين إمّا اجتهاداً جزئياً.. وإمّا اجتهاداً كلياً. الرابعة: الحاجة قد تقوم سبباً مبيحاً في المحرم لولاها([18]).
ويستنتج من ذكر هذه الفوائد الأربع أمورٌ لدى مقارنتها بكتابي قواعد الأحكام والفروق؛ حيث يمكن تصنيف ما جاء في القواعد والفوائد إلى ستّة مواضيع:
الاول: هو الفائدة الأولى: المشقّة الموجبة للتخفيف هي ما تنفكّ عن العبادة غالباً، أمّا ما لا تنفكّ عنه فلا، كمشقّة الوضوء والغسل في السبرات، وإقامة الصلاة في الظهيرات، والصوم في شدّة الحر وطول النهار، وسفر الحج، ومباشرة الجهاد، إذ مبنى التكليف على المشقّة، إذ هو مشتقّ من الكُلفة، فلو انتفت انتفى التكليف، فتنتفي المصالح المنوطة بهِ، وقد ردَّ الله على القائلين: >لا تنفروا في الحرّ< بقولهِ: >قل نار جهنّم أشد حراً< (التوبة: 81).
الثاني: النوع الثاني من الفائدة الأولى، وهو المشاقّ التي تكون على جهة العقوبة على الجرم، وإن أدّت إلى تلف النفس، كالقصاص والحدود بالنسبة إلى المحلّ والفاعل.. لقوله تعالى: >ولا تأخُذكم بهما رأفة.. < (النور: 2).
الثالث: «الضابط في المشقّة ما قدره الشارع، وقد أباح الشرع حلق المُحرم للقمل، كما في قصّة كعب بن عجزة.. وأقرّ النبي – عمراً على التيمّم لخوف البرد، فلتقاربهما المشاقّ في باقي محظورات الإحرام، وباقي مسوّغات التيمم، وليس ذلك مضبوطاً بالعجز الكلّي بما فيهِ تضييق على النفس، ومن ثمّ قصرت الصلاة، وأبيح الفطر في السفر ولا كثير مشقّة فيهِ ولا عجز غالباً؛ فحينئذٍ يجوز الجلوس في الصلاة مع مشقّة القيام وإن أمكن تحمّله على عسر شديد..»([19]).
الرابع: الفائدة الثانية: يقع التخفيف في العقود كما يقع في العبادات ومراتب الغرر فيها ثلاث: أحدها: ما يسهل اجتنابه، كبيع الملاقيح والمضامين وغير المقدور على تسليمهِ، فهذا لا تخفيف فيه. ثانيها: ما يعسُر اجتنابه وإن أمكن تحمّله بمشقّة، كبيع البيض في قشرهِ. ثالثها: ما توسّط بينهما، كبيع الجوز.. والظاهر صحّته؛ لمشاركتهِ في المشقة. ومنه الاكتفاء بظاهر الصبرة المتماثلة، ومن التخفيف: شرعيّة خيار المجلس.. ومنه شرعيّة المساقاة والمضاربة وإجارة الأعيان؛ فإنّ المنافع معدومةٌ حال العقد. ومنه: جواز تزويج المرأة من غير نظر ولا وصف.. وشرعية الطلاق والخلع.. ومنه شرعية الكفّارة في الظهار، والحنث.. ومنه التخفيف عن الرقيق بسقوط كثيرٍ من العبادات.. ومنه شرعيّة الدية بدلاً عن القصاص مع التراضي([20])، كما قال الله تعالى: >ذلك تخفيفٌ من ربّكُم ورَحمة< (البقرة: 178).
الخامس: الفائدة الثالثة: التخفيف على المجتهدين، إمّا اجتهاداً جزئياً كما في الوقت والقبلة و.. وإمّا اجتهاداً كلياً، كالعلماء في الأحكام الشرعية، فلا إثم على غير المقصّر وإن أخطأ، ويكفيهم الظنّ الغالب المستند إلى أمارةٍ معتبرة شرعاً، وذلك تسهيل. ومنه: اكتفاء الحكّام بالظنون في العدالة والأمانة.
السادس: الفائدة الرابعة: الحاجة قد تقوم سبباً مبيحاً في المحرم لولاها، كالمشقّة في نظر المخطوبة المجيبة للنكاح.. ويجوز النظر إلى المرأة للشهادة عليها، أو المعاملة إذا احتاج إلى معرفتها، ويقتصر على الوجهِ، ومنهُ نظر الطبيب إلى ما يحتاج إليه بحيث لا يعدّ المنكشف فيه هتكاً للمرأة..
فوراق منهج الشهيد عن منهج القرافي وابن عبد السلام في التقعيد الفقهي
بعد نقل هذهِ المواضيع الستّة ـ بالنص ـ عن كتاب القواعد والفوائد، تتضح لنا مسائل في المقارنة بينه وبين كتابي: قواعد الأحكام والفروق هي كالآتي:
الفارق الأوّل: ثمّة تقارب كبير بين ما جاء في الموضوع الأوّل والرابع وما طرح في قواعد الأحكام؛ فلاشك في أخذ الشهيد الأوّل عن ابن عبدالسلام في هذا الباب، وإن تبنّى بدوره ما جاء فيه واستشهد بالآيات القرآنية، وهكذا بالنسبة للموضوع الثالث ـ ضابط المشقّة ـ فإن الإطار العام مأخوذٌ عن كتاب الفروق الذي أشار أيضاً لرواية كعب بن عجزة.
الفارق الثاني: شرح الشهيد الأوّل نصوص قاعدة «لا حرج» في مبحثين، اندرجت مطالب الأوّل منهما ضمن عنوان القاعدة، فشرح من خلال ذلك الفوائد الأربع. أما ما تفرّد الشهيد به فهو المواضيع: الثاني، والخامس، والسادس، وهي التي تشكّل المشاق على جهة العقوبة، والفائدة الثالثة والرابعة: «التخفيف على المجتهدين إمّا اجتهاداً جزئياً أو كلياً، والحاجة قد تقوم سبباً مبيحاً للمحرم».
الفارق الثالث: إنّ الشهيد وإنْ كان أخذ إطار الموضوع الثالث عن الفروق، إلاّ أنّه قام بتشذيبهِ بمضامين الفقه الشيعي، وقد حذف المطالب الثانوية التي ذكرها صاحب الفروق، خارجاً بها عن أصل الموضوع.
الفارق الرابع: أضاف الشهيد للموضوع الرابع المأخوذ عن ابن عبدالسلام مصاديق للتخفيف في المعاملات.
الفارق الخامس: حاول الشهيد الإيجاز في كتابهِ، لذا كان نقلُه عن القواعد والفروق فيما يتعلّق بالموضوع الأوّل والثالث والرابع مقتضباً جدّاً.
الفارق السادس: يمكن اعتبار التمرحل في طرح البحوث، واختيار الأهم، وعدم الخروج عن صلب الموضوع، من ميّزات ما جاء في قاعدة «لا حرج» التي كانت أنموذجاً للبحث هنا.
من مجلة الاجتهاد والتجديد العدد الأول
الهوامش
([1]) يقول مؤلّف الكتاب لابن خازن: «لم يعمل الأصحاب مثله»، المجلسي، بحار الأنوار 26: 1، ح 38، نقلاً عن مقدّمة كتاب الفوائد: 7، تحقيق الدكتور عبدالهادي الحكيم، انتشارات مفيد.
([4]) كان قد طبع كلّ من الكتابين: «الأصول التي عليها مدار الفروع الحنفيّة» لعبيدالله بن الحسين بن دلدل الكرخي الحنفي، و«تأسيس النظر» لأبي زيد عبيد بن عمر الدبوسي القاضي الحنفي، طبع كلّ منهما في مجلّد واحد، مقدّمة كتاب القواعد: 5.
([5]) الشافعي، المجموع المذهب في قواعد المذهب، العلائي الشافعي، النسخة الخطية، عدد: 3556، مكتبة ملي ملك طهران.