إن من أخصِّ خصائص الإنسان، وأعوص أسرار تكوينه، ابتلاءه بالوسوسة. فهي تهويمات نفسية تخالط الفكر، وتحديات روحية تختبر الإرادة، وإشارات خفية تكشف عن أعماق الباطن.
ولقد أدرك علم النفس الحديث، بمنهجه التجريبي الثاقب، أنَّ هذه الوساوس ليست سقطاتٍ عابرة، بل هي ظواهر معقدةٌ لها جذورها في اللاوعي، وآلياتها في التشكل، وأثرها البالغ في السلوك. فهي تارةً تكون تحدياتٍ صعبةً تُثقل كاهل النفس، وتارةً تكون فرصًا كامنةً لمعرفة الذات وتقوية العزيمة.
والعجيب المدهش، أنَّ الدين ـ قبل قرونٍ مديدةٍ ـ قد سلَّط الضوء على هذه الحقيقة النفسية الدقيقة.
فيا لها من موافقةٍ عجيبةٍ، وانسجامٍ بديعٍ! حيث نرى تواردًا لافتًا بين ما كشفه العلم الحديث من آليات الوسوسة وطبيعتها، وبين ما أشارت إليه النصوص الدينية من حقيقتها ومصادرها، وإن اختلفت الألفاظُ والمصطلحات.
وإنَّ هذا المقام ـ في الحقيقة ـ لأوسعُ من أن يُحصر في سطور، وأعمقُ من أن يُستقصى في وريقات. فوسوسة النفس بابٌ من أبواب معرفة الذات الإنسانية، وجسرٌ بين العلم المادي والروح الإلهية. وهي تذكيرٌ دائمٌ بأنَّ الإنسان كائنٌ مُكرَّمٌ مُختارٌ، قادرٌ ـ بإرادته وإيمانه وعلمه ـ على أن يصوغ من تحديات وساوسه سلمًا يعرج به إلى معالي الفضائل، وأن يحوِّل همسات الظلام في داخله إلى منارات هدىً وإشراق.
فهذه أصولٌ كلِّيةٌ وحقائقُ نورانيةٌ في شأن الوسوسة، تجمع بين عمق البصيرة الدينية ودقة التحليل العلمي، نَظمناها سِلكاً من درر المعرفة:
الأصل الأول: الجوهر الخفي للوسوسة بين أغوار اللاشعور وسَمْتِ اليقظة
الوسوسة همسٌ وجوديٌّ يتخلَّل مساربَ النفس، لا يعلو إلى ساحة الوعي الصريح، بل يَستبطنُ أعماقَ اللاشعور، حيثُ تُخْتَمَرُ الرغباتُ وتتكوَّنُ العُقَدُ. وفي هذا المقام يَتَجلَّى البيانُ القرآنيُّ إعجازاً نفسياً فريداً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16).
فهذه الآية تثبت حقيقتين رئيستين:
ـ الوسوسةُ نشاطٌ نفسيٌّ جَوْهَرِيٌّ، وليست ظاهرةً عَرَضيةً.
ـ مصدرُها الأعماقُ الكامنةُ في النفس (الأنا السفلى/ في مصطلح التحليل النفسي)، حيثُ تُعَدُّ منطقةُ “ما قبل الوعي” (Preconscious) مَمرّاً لتصعيد هذه الهمسات.
وهذا يُطابق ما كشفه “يونغ” من أنَّ اللاوعي الجَمْعِيَّ يَختزن أنماطاً أوليةً (Archetypes) تَظهرُ في صورة وساوس وجوديةٍ. فليست الوسوسةُ شذوذاً، بل هي ظاهرةٌ سِيكوفيزيولوجيةٌ تَنتُجُ عن تفاعل دوافع غريزيةٍ مع آليات الكَبْح الحضاريِّ.
الأصل الثاني: الهُوية الإيمانية والوسوسة تشابكٌ بين القلق التكامليِّ والانفصام الوجوديِّ
الوسوسةُ في الميزانِ الديني مَحكٌّ لإخلاصِ اليقينِ، وفي الميزان العلميِّ مُنبِّهٌ لوظيفة القلق التكيُّفِيِّ (Adaptive Anxiety). وقد جاء الحديثُ النبويُّ شاهِداً على هذه الحقيقةِ:
«ذاكَ مَحضُ الإيمان أو صَريحُ الإيمانِ».
تحليلُ الظاهرةِ من زاويتين:
- الزاوية الدينية:
ـ الاضطرابُ تجاه الوسوسة دليلٌ على حَيَوِيّةِ الإيمان، فالنفسُ الميتةُ لا تضطربُ للانحراف.
ـ التمييزُ بين:
ـ وسوسة تنبيهٍ: تَكونُ جرسَ إنذارٍ ضد الغفلة (كوسوسة التقصير في الطاعة).
ـ وسوسةِ إغراءٍ: تَهدفُ لهَدْمِ البناءِ العقائديِّ (كوسوسةِ الشكِّ في الأصول).
- الزاوية العلمية:
ـ تُصنِّفُ “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” (DSM ـ 5) الوساوسَ إلى:
ـ وساوسَ مُلِحَّةٍ غيرُ مرَضيةٍ (Normal Intrusive Thoughts).
ـ وساوسَ اضطراب القلق الوسواسيِّ (OCD).
ـ تُؤكِّدُ مدارسُ العلاج السُّلوكيِّ المعرفيِّ (CBT) أنَّ مواجهةَ الفكرةِ (Exposure) مع منعِ الاستجابةِ (Response Prevention) هي الآليةُ الأمثلُ لتفتيت سلطان الوسوسة.
وهذا التوافقُ بين الدين والعلم يُبرْهِنُ أنَّ الوسوسةَ مَعْبَرٌ لتكاملِ الشخصيةِ، لا عَاراً على الإيمان.
الأصل الثالث: آلياتُ الدفاع التساميُ الوجوديّ بين المادّة والروح
لما سأل الصحابةُ عن الوساوسِ التي تَبلغُ بهم حدَّ تمنّي الموت (بقولهم: «نجد في صدورنا وسوسة الشيطان، لأن يقع أحدنا من الثريا أحبّ إليه من أن يتكلّم بها»، جاء الجوابُ النبويُّ: «ذَلِكَ صَرِيحُ الإِيمَان، إِنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ الْعَبْدَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ…».
تحليل الآلية النفسية:
هذا الموقفُ يُجسِّدُ آليةَ التسامي (Sublimation):
ـ التحويل: تحويلُ طاقة القلق الهدّامة إلى طاقةٍ روحيةٍ صانعةٍ.
ـ التكيُّفُ: اختيارُ الألم الوهميِّ (السقوط من السماء) بدلاً من التفريط في الثوابت.
ـ من منظورٍ عصبِيٍّ: تُفعِّلُ هذه الآليةُ قشرةَ الفصِّ الجبهيِّ (Prefrontal Cortex) لتثبيط نشاط لوزة المخِّ (Amygdala) المسؤولة عن الخوف.
وهنا يَبرُز التكامل بين المنظورَين:
ـ الدينُ يَمنحُ التساميَ بُعداً غائياً (حفظ العقيدة).
ـ العلمُ يَكشفُ له آليةً وظيفيةً (إعادة تنظيم الشبكات العصبية).
كيف نتعامل مع الوسوسة؟
الوسوسةُ جزءٌ طبيعيّ من تكوين الإنسان، حيث يلتقي فيها:
الجانب المادي: التفاعلات الكيميائية في الدماغ،
الجانب المعنوي: صراع الإرادة بين الخير والشر.
وقد أدركت الحكمة الدينية والعلمية أن الوسوسة ليست عطبًا، بل فرصة اختبارٍ للإرادة وجسرٌ للعبور من القلق إلى الطمأنينة.
فإذا أزعجتك وساوسك، فاعلم أنها دليل حياة قلبك وبصمة تكريم ربك. وللتعامل معها بوعي ونجاح:
الاستعاذة: حصنٌ روحي يحمي النفس.
التفكّر: سلاحٌ عقلي يكشف الحقيقة ويفكك الأفكار المضللة.
التسامي: نقلٌ وجودي يحوّل طاقة الوسوسة إلى رشد وإبداع.
وفي النهاية، الوسوسة ليست عدوًا، بل رسالة وجودية تذكّرك بأنك كائن مُختار، قادر على تحويل أعاصير اللاشعور إلى رياحٍ تملأ شراع روحك نحو موانئ اليقين.