د. السيد حسن إسلامي(*)
قراءةٌ في كتاب (دراسة العقائد النصرانية، منهجية ابن تيميّة ورحمت الله الهندي)، تأليف: محمد الفاضل بن علي اللافي، الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن ـ فرجينيا، بتاريخ: 1428هـ، الموافق لـ 2007م، في 527 صفحة.
إن للمناظرات الإسلامية ـ المسيحية تاريخٌ بطول المواجهة بين هاتين الديانتين السماويتين. ويمكن تتبُّع جذور ذلك في آيات القرآن الكريم. وفي هذا الإطار تبلور العديد من الجَدَل الشفهي والمكتوب. وقد كانت جهود المتكلّمين المسلمين في هذه المجادلات تصبّ في اتجاهين:
الاتجاه الأوّل: إثبات تحريف الديانة المسيحية عبر التاريخ.
والاتجاه الآخر: إثبات تفوُّق الإسلام بوصفه الدين الخاتم.
أما الذي قلَّما تمّ الاهتمام به في الأدبيات الكلامية فهو معرفة مناهج الآثار المتوفرة في هذا المجال، وتحليلها ودراستها. والكتاب الذي بين أيدينا ـ والذي صدر مؤخَّراً في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَل المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ يندرج ضمن هذه الآثار.
الخلفيات
لقد سعى مؤلّف هذا الكتاب إلى تشريح قائمتين هامتين ضدّ المسيحية، وعمل على المقارنة بينهما، وبيان قوتهما وضعفهما، وهما: الأوّل: كتاب «الجواب الصحيح لمَنْ بدّل دين المسيح»؛ والآخر: كتاب «إظهار الحقّ». إلاّ أنه يسلك في هذا الشأن طريقاً طويلاً، وبدلاً من الدخول في صلب الموضوع مباشرةً يبحث في خلفيات تبلور هذين الكتابين، والفترة الزمنية التي عاشها مؤلّفا هذين الكتابين، بالإضافة إلى بحث مضامينهما ومحتوياتهما، وتقديم صورةٍ كاملة عنهما. ولبلوغ هذه الغاية عمد المؤلّف إلى تأليف هذا الكتاب في ثلاثة فصول، ويحتوي كلّ فصل على عدّة بحوث. ويبحث الفصل الأول في الخلفيات الثقافية لتأليف هذين الكتابين، وأما الفصل الثاني فإنه يبيِّن محتوياتهما بشكلٍ مقارن، والفصل الأخير يخوض في بيان أسلوب هذين الكتابين.
ابن تيمية الحرّاني ورحمت الله الهندي
إن البحث الأول من الفصل الأول يدور حول حياة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية(661 ـ 728هـ)، ومرحلته الزمنية، ودافعه إلى تأليف كتابه. وقد قام المؤلّف أوّلاً ببيان سبب اختياره لهذين الكتابين، فعلى الرغم من وجود الكثير من الكتب الإسلامية التي تناولت نقد المسيحية، إلاّ أن كتاب ابن تيمية قد تميَّز بمنهجيته من سائر الكتب الأخرى، بحيث يمكن اعتباره كتاباً «تأسيسياً» في هذا المجال. في الفترة الزمنية لابن تيمية كانت المدارس الكلامية المتمخّضة عن التراث المتقدّم في الدفاع عن الإسلام فاقدةً للأسلوب والمنهج، وقبل أن توجّه خطابها إلى عامّة المسلمين تقتصر في رسالته على الخواصّ فقط. وفي ظلّ هذه الظروف أراد ابن تيمية من وراء تأليف كتابه تحقيق غايتين:
الأولى: التوجّه إلى عامّة المسلمين، والعمل على إزاحة جميع أنواع الشبهات من نفوسهم.
الثانية: تعريف المسيحيين بالإسلام بشكلٍ صحيح ودقيق.
ولهذا السبب يعتبر هذا الكتاب جديراً بالاهتمام. كما يُعَدّ كتاب «إظهار الحقّ»، لمؤلّفه رحمت الله الهندي، مثالاً لذروة المنهجية الكلامية في الدفاع عن الإسلام ونقد المسيحية. وقد تمكّن في هذا الكتاب من الاستفادة القصوى من تراث المتقدّمين من المسلمين. وبالإضافة إلى ذلك فإن أهمّية هذا الكتاب في أنه يمثّل في الواقع الشكل النهائي لمناظرات كانت بين الشيخ رحمت الله الهندي وزعيم الوفد التبشيري «فندر». لقد اهتمّ رحمت الله الهندي في هذا الكتاب بالمناهج المعرفية الأخرى أيضاً، وقدَّم تفسيراً صحيحاً للتعاليم المسيحية، وعمل على نقدها بعد ذلك بشكلٍ منصف.
كتابان مختلفان
بعد هذا الإيضاح قدّم محمد الفاضل اللافي تقريراً تفصيلياً بشأن السيرة الذاتية والعلمية لابن تيمية، وأخذ يعدّد خصائصه، مع ذكر المواقع التي حارب فيها ضدّ خصمه. ثم انتقل إلى بيان الدافع من وراء تأليفه لكتاب «الجواب الصحيح لمَنْ بدَّل دين المسيح»([1]). وفي الحقيقة تجب رؤية هذا الكتاب في سياق الردود على المسيحية، وعدم دراسته وبحثه باعتباره منفصلاً عنها. وهنا يجد الكاتب المناسبة والفرصة سانحةً لذكر خمسة وأربعين عنواناً من هذه الكتب، ليعود بعد ذلك إلى صلب البحث. وقد ألّف ابن تيمية كتابه هذا جواباً عن رسالة أحد رجال الدين المسيحيين من القبارصة، حيث استند في رسالته هذه إلى آيات القرآن الكريم والشواهد النقلية والعقلية الأخرى، ليثبت تفوُّق الديانة المسيحية على الإسلام. ويتّضح من رسالته اطّلاعه الواسع على الإسلام ونصوصه. وقد وجد ابن تيمية الفرصة سانحةً لتوجيه الخطاب إلى المسيحيين، وينتقد مدّعيات ذلك العالم القبرصي، التي هي في واقعها اجترار وإعادة لصياغة ذات المدّعيات التي ذكرها أسلافه، ولكنّه ألبسها ثوباً جديداً.
وأما المبحث الثاني من هذا الفصل فيختصّ ببيان حياة وعصر الشيخ رحمت الله الهندي(1233 ـ 1308هـ) في ضوء ذات المنهج والأسلوب الذي سار عليه في الفصل السابق. لقد عاش رحمت الله الهندي في فترة الاستعمار البريطاني لشبه القارّة الهندية، وكانت السلطات البريطانية ـ بالإضافة إلى هيمنتها السياسية على تلك الأصقاع ـ تسعى إلى تنصير الشعب الهندي، وكانت تعمل في هذا السياق على تشجيع الممارسات والنشاطات المناهضة للإسلام. وقد أشار رحمت الله في كتابه إلى هذه النقطة بالتحديد، حيث قال: إن الدولة الإنجليزية، بعد سيطرتها العسكرية والسياسية الكاملة على الهند، بسطت خوان التبشير للمسيحية، وقامت في الوقت نفسه بتأليف وكتابة الردود على الإسلام. وفي هذه الأجواء ظهرت كتبٌ من قبيل: «تصديق الكتاب»، و«البراهين الإلهية»، و«المرآة المرئية للحقّ»، و«مفتاح الأسرار»، و«إظهار الدين النصراني»، و«طريق الحقّ»، و«الميزان الحقّ»، من قِبَل قساوسةٍ من أمثال: القسيس (تي. جي. إسكات)، والقسيس (يونس)، والقسيس (فندر). ولم يكن هذا النشاط من غير تأثير؛ إذ تنصَّر على إثره بعض المسلمين، من أمثال: عماد الدين، ورجب علي، وصفدر علي، بل إنّ منهم مَنْ كتب مؤلَّفات ضد الإسلام، ومن بينها: «تحريف القرآن»، و«نيازنامه»، و«آئينه إسلام»، و«التعليم المحمدي»، و«آثار القيامة»، و«نغمة الطنبور»، و«إبطال دين محمدي». ويبدو أن القسيس البروتستانتي الدكتور فندر كان أكثر نشاطاً من غيره في هذا المجال، حيث كان يعمل على توظيف جميع الأساليب المتعارفة في الترويج للمسيحية. فبالإضافة إلى تأليف الكتب، كان يجوب المدن والقرى ويخوض الفيافي والأدغال خطيباً ومتحدِّثاً إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، ويعمل في الوقت نفسه على إعداد المبشِّرين أيضاً. وقد ألَّف الكثير من الكتب في تحقيق هذه الغاية، ومنها: كتاب «ميزان الحق» ـ وقد ألَّفه باللغة الإنجليزية، وترجم إلى مختلف اللغات الهندية الشائعة ـ، وكان هو سبب المناظرة التاريخية التي جمعت بين القسيس (فندر) وبين (رحمت الله الهندي) في العاشر من أبريل / نيسان سنة 1854م.
يعتبر كتاب «إظهار الحقّ»، لرحمت الله الهندي، جهداً نقدياً، يستهدف الثقافة التبشيرية في عصره، وسَعْياً في تجاوز المجادلات الكلامية السائدة وما شهده العصر من غياب للمنهج. وكان رحمت الله الهندي في هذا الكتاب مستجيباً للتحدّي الذي أظهره القسيس فندر، حيث دعا علماء المسلمين إلى المواجهة والمناظرة، فقام بنقد مدّعياته، وبيَّن مواطن ضعفه ومواضع النقص في منهجه وأسلوبه. وبالالتفات إلى أن كتاب «ميزان الحقّ»، للقسيس فندر، قد هاجم الإسلام بشدّةٍ، ولم يَرِدْ عليه جوابٌ شافٍ، فقد ملأت أصداؤه الآفاق، الأمر الذي وفّر مناخاً مناسباً لكتابة مؤلَّفات من هذا القبيل.
وقد كتب المؤلّف في هذا الفصل تقريراً تفصيلياً عن السيرة والنشاط العلمي والعملي للشيخ رحمت الله الهندي. فهو لم يكن من أولئك العلماء الذين يُؤْثِرون العزلة، مكتفياً بتأليف الكتب والتدريس وتربية الطلاّب فقط، بل كان، بالإضافة إلى ذلك، مبلِّغاً لا يعرف المَلَل والكَلَل، وكان مهتمّاً إلى حدٍّ كبير بتأسيس المراكز التبليغية والنشاط الاجتماعي وإقامة الندوات الحوارية والمناظرات. وقد أدّت جهوده هذه إلى تأسيس مختلف المراكز والمؤسسات، من قبيل: أنجمن حمايت إسلام، وأنجمن تبليغ إسلام، وجمعيت مدرسة إلهيات، وأنجمن إشاعت وتعليم إسلام، وأنجمن هدايت إسلام. كما ألّف العديد من الكتب في مختلف المجالات، بَيْدَ أن الذي يختصّ من بينها بالمناظرات بين الأديان عبارة عن «إزالة الأوهام»، الذي ألَّفه باللغة الفارسية في نقد كتاب «ميزان الحق»؛ و«إزالة الشكوك»، الذي كتبه في الإجابة عن بعض التساؤلات المطروحة من قبل القساوسة؛ وكتاب «الإعجاز المسيحي»، الذي أثبت فيه تحريف الأناجيل؛ وكتاب «أحسن الأحاديث في إبطال التثليث»، و«البروق اللامعة»، حيث أثبت فيه أن اسم النبي محمد| مذكورٌ في الكتاب المقدّس، وأثبت من خلال ذلك أنه خاتم الأنبياء؛ وكتاب «معدّل اعوجاج الميزان»، الذي هو نقدٌ على كتاب «ميزان الحقّ»، لفندر؛ و«معيار التحقيق»، وهو نقدٌ على كتاب «تحقيق الإيمان»، للقسيس صفدر علي؛ وكتاب «تقليب المطاعن»، ردّاً على كتاب «تحقيق الدين الحقّ»، للقسيس (لاسمند كارواور)؛ وكتاب «إظهار الحقّ»، الذي أورد فيه تفاصيل مناظرة «أغرة».
كما أن لـ (رحمت الله الهندي) الكثير من المناظرات التحريرية والشفهية مع قساوسة عصره، وقد نقلها اللافي في هذا الكتاب. بَيْدَ أن أهمّ هذه المناظرات هي تلك التي حدثت بينه وبين القسيس فندر، والتي عُرفت بـ (المناظرة الكبرى). لقد عقدت الجلسة الأولى من هذه المناظرة بحضورٍ من رجال الدين والعلماء وكبار الموظّفين من المسلمين والمسيحيين في مدينة أغرة، وقد انتهت هذه الجلسة باعتراف (القسيس فندر) بوقوع التحريف في كتب العهدين. وانعقدت الجلسة الثانية من المناظرة بحضورٍ جماهيري واسع، واختتمت لصالح المسلمين. ثم استمرّت الجلسات اللاحقة على شكل مكاتبات تمّ تبادلها بين الطرفين، وكانت نتيجة هذه المكاتبات أن فضّل القسيس فندر مغادرة الهند على البقاء فيها.
وقد كان لهذه المناظرة أهمّية قصوى من الناحية التاريخية والحيثية للمسلمين؛ لأن الشيخ رحمت الله الهندي كان قد اشترط على نفسه أمام الحاضرين أنه إذا لم يستطع الإجابة عن أسئلة القسيس فندر فإنه سوف يعتنق الدين النصراني، وقد اشترط (فندر) هذا الشرط على نفسه أيضاً؛ إذ صرّح بأنه إذا هُزم في المناظرة فإنه سيقبل دين الإسلام، بَيْدَ أن انسحاب فندر من المواجهة، وامتناعه عن مواصلة المناظرة في المحاور الأخرى ـ وهي عبارةٌ عن: النسخ والتحريف والتثليث والألوهية والنبوّة ـ قد بتر الموضوعات التي كان من المقرَّر مناقشتها([2]).
لقد تمّ تأليف كتاب «إظهار الحقّ»([3]) في مثل هذا المناخ، وبهدف الدفاع عن الإسلام، ونقد مدّعيات المسيحيين. وقد ألّف الشيخ رحمت الله الهندي هذا الكتاب في سياق العديد من الكتب التي سبق له أن كتبها، وقد ذكر اللافي بعضها، وقد ضمَّنه جميع تجاربه العلمية والعملية. وقد حظي هذا الكتاب باستقبالٍ واسع وحفاوة بالغة من قبل المسلمين، إلى الحدّ الذي قال معه (سعيد حوّى) في وصفه: «ولعل هذا الكتاب أعظم دراسةٍ نقدية لنصوص الديانتين اليهودية والنصرانية، وأدقّ نقد لاعتراضات أتباع هاتين الديانتين على الديانة الإسلامية».
وبطبيعة الحال فإن هذا الكتاب لم يترك من قِبَل علماء الدين المسيحيين دون جواب، فقد كُتب في الردّ عليه كتابٌ تفصيلي، من أربعة مجلّدات، بعنوان «الهداية»([4]). وقد استدعى ذلك ردّاً تفصيلياً من قبل العالم الشيعي العلاّمة محمد جواد البلاغي، إذ ردّ عليه في كتابٍ، من مجلّدين، يحمل عنوان «الهدى إلى دين المصطفى»([5])، حيث دافع فيه عن موقف الشيخ رحمت الله الهندي، وأجاب عن الانتقادات المتنوّعة الواردة في هذا الكتاب([6]).
المقارنة المضمونية بين هذين الكتابين
لقد عمد الأستاذ محمد الفاضل اللافي في الفصل الثاني من هذا الكتاب إلى تقرير كتابي «الجواب الصحيح لمَنْ بدَّل دين المسيح»، و«إظهار الحقّ» ضمن ثلاثة أبحاث، وقام بإجراء مقارنة بين الكتابين.
يعمد ابن تيمية في كتابه إلى تفصيل آحاد العقائد الدينية الإسلامية، ويعمل على تقريرها وتثبيتها، لينتقل بعد ذلك إلى تقرير ونقد آراء الخصوم، ويطوي في هذا الإطار ثلاث مراحل: تقرير المسألة؛ وذكر الشواهد؛ وتقرير الحقيقة في نهاية المطاف.
وأما الشيخ رحمت الله الهندي فيعمل في مقدّمة الكتاب على بيان سبب تأليف كتابه ومنهجه وأسلوبه.
ثم ينتقل الأستاذ اللافي إلى بيان الأبحاث المشتركة بين الكتابين، وهي: مسألة التثليث، والكتاب المقدّس، والنبوّة.
ومن خلال جولة في بحث التثليث من خلال هذين الكتابين ندرك أن غاية كلا المؤلفين وإنْ كانت واحدةً، تتمثّل في ردّ وإبطال هذه العقيدة المسيحية، بَيْدَ أن أسلوبهما يختلف في عددٍ من الموارد.
فإن ابن تيمية يسلك سبيل الأسلوب الجَدَلي، ويبذل كل ما في وسعه من أجل إبطال هذا الاعتقاد. وحيث إنه يرجع ذلك إلى جذور العقائد المسيحية فإنه لا يوفِّر طريقةً في هذا الشأن، ومن بينها طرح مختلف الشقوق والفروع والاستطرادات المتعلّقة بالبحث.
في حين أن الشيخ رحمت الله الهندي أكثر منهجية في بحثه. فبدلاً من سلوك الطريقة الجدلية يستند إلى النصوص المسيحية؛ ليثبت التناقض الداخلي الموجود في هذه العقيدة، متجنباً تشتيت البحث، الأمر الذي جعل من كتاب الشيخ رحمت الله أيسر على القارئ، حيث يتمكّن القارئ من التركيز على البحث ومتابعة الأفكار وتسلسلها بشكلٍ أسهل، خلافاً لما عليه حال كتاب ابن تيمية، الذي يأخذ بالقارئ في متاهات طويلة وعريضة، حتّى يفقد معها خيوط البحث الرئيسة، ويُصاب بالإعياء والتعب.
كما أن ابن تيمية، بعد الفراغ من بحث ونقد مسألة التثليث، ينتقل إلى بحث الصلب والفدية بشكلٍ مستقلّ. إلاّ أن الشيخ رحمت الله، بعد إبطال أصل التثليث، لا يرى حاجةً إلى بحث هذه المسائل بشكلٍ مستقلّ، وإنما يكتفي منها بإشاراتٍ عابرة ضمن أصل البحث.
وخلاصة القول: إن أسلوب بحث الشيخ رحمت الله الهندي أكثر تركيزاً واختصاراً ومنهجية، في حين أن ابن تيمية لا يرى غضاضةً في توسيع البحث، وتحشيد جميع الأساليب العقلية والنقلية، والانتقال عبر مختلف مستويات البحث.
والبحث الآخر المشترك بين هذين الكتابين هو مسألة الكتاب المقدّس (العهدين) وسماويته.
يسعى ابن تيمية في هذا البحث إلى إثبات نقد أصل القول بسماوية هذه الكتب، وإثبات تحريفها، ويعتبر قياسها بالقرآن باطلاً. وفي هذا البحث نلاحظ اختلافاً واضحاً في الأسلوب بين الكتابين؛ حيث ينتهج ابن تيمية في هذا البحث أسلوباً جدلياً، ويسعى من خلال تأصيل القرآن إلى إثبات تحريف العهدين وعدم صوابيتهما؛ في حين أن الشيخ رحمت الله الهندي يتناول المسألة بمنهجيةٍ أوضح، ويستدعي تاريخ كتابة الكتاب المقدّس ونصوصه لخدمة غايته؛ ليثبت أن هذا الكتاب لا يتمتّع بسلسلة سندٍ متّصلة، وأنه قد تعرَّض على طول التاريخ إلى التحريفات بالنقيصة والزيادة. وهو يتوصّل إلى هذه الغاية من خلال المقارنة بين الأرقام والإشارات التاريخية الواردة في الكتاب المقدّس.
وفي هذا البحث كذلك لا يبالي ابن تيمية بتطويل البحث دون أن تكون هناك ضرورة إلى ذلك؛ بينما يواصل الشيخ رحمت الله منهجه العام في ترجيح الاختصار، والابتعاد عن الخوض في الهوامش والتفاصيل.
أما البحث الثالث المشترك بين ابن تيمية والشيخ رحمت الله الهندي فهو بحث النبوّة. ففي الوقت الذي لم يوفِّر بعض بني إسرائيل وسيلةً إلاّ استعملوها في الاستخفاف بأنبيائهم والسخرية منهم، عمد بعضٌ آخر منهم في المقابل إلى رفعهم فوق مستوى الإله، وبذلك يكون كلا الفريقين قد تجنّب السبيل الوسط، وانحرف عن جادة الصواب.
يسعى هذان الكتابان إلى البحث في هذه الظاهرة جيداً، وانتقاد الأخطاء الشائعة في الكتاب المقدَّس وأتباعه في هذا الشأن، وإثبات نبوّة النبي الأكرم محمد.
ويكمن الاختلاف البارز لكتاب رحمت الله في هذا البحث في أنه يعتمد في الأساس لإثبات وجهة نظره على نصوص الكتاب المقدّس وكتابات رجال الدين المسيحيين، وقلّما يعمل على توظيف الآيات القرآنية والانتصار بها لرأيه. وهذا الأسلوب أوفق بمنهجه؛ لأنه إنما يروم إثبات تهافت نصوص الكتاب المقدّس، ومن هنا فإنه لا يرى ضرورة لإقحام القرآن في هذا الشأن، وإنما يكتفي بالاستعانة بالأحاديث النبوية عندما يتعلّق الأمر بمسألة نبوّة رسول الله|.
ومن خلال دراستنا لهذه الأبحاث ندرك أن ابن تيمية قد سلك في كتابه طريق التفصيل، فلم يترك شاردةً أو واردة في بحثه إلاّ ذكرها، وبذلك يكون كتابه أقرب إلى التأليف الموسوعي الذي يمكن العثور فيه حتّى على كلمات المتقدّمين؛ في حين أن الشيخ رحمت الله الهندي قد سعى إلى الاقتصار على الأصول، وتجنّب التطويل بلا طائل والانسياق وراء الحواشي والهوامش. ولهذا السبب وجد ابن تيمية مسألة الصليب وأعمال وسلوك أهل الكتاب جديرةً بالبحث المستقلّ؛ في حين آثر الشيخ رحمت الله أن يغضّ الطرف عنها. وهنا يجب التنويه والإشارة إلى خصائص ابن تيمية في كتابه هذا؛ فبينما عمد الشيخ رحمت الله الهندي إلى الاهتمام بالمسيحية من الزاوية النظرية فقط؛ عمد ابن تيمية ـ بالإضافة إلى ذلك ـ إلى الاهتمام بالسلوكيات والأعمال العبادية للمسيحيين على طول التاريخ أيضاً. ومن هنا كان كتابه غنياً، ويمكن اعتباره دائرة معارف لفهم السلوك الأخلاقي والعبادي للمسيحيين.
الحكم النهائي
أما الفصل الثالث والأخير من كتاب الأستاذ محمد الفاضل اللافي فيختصّ بالمقارنة المنهجية بين هذين الكتابين، حيث يعمل الكاتب في هذا الفصل على تفصيل البحث في الأسلوب النقدي لهذين الكتابين، واختلاف رؤية مؤلِّفيهما. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه يخوض في تحليل رؤية ابن تيمية بشأن ضوابط نقل الأخبار والأحاديث والاستناد إليها، وينقل الضوابط الستّة في رواية الحديث، ومن بينها أن القرآن الكريم قد أمر بالتبيُّن في مورد خبر الفاسق، وعدم تجاهل الخبر بمجرّد فسق الراوي؛ أو من غير الصحيح القبول بكلّ ما نسب إلى رسول الله|، إلاّ إذا تمّ إحراز هذه النسبة. وبعد نقل هذه الضوابط يقرّ الكاتب بأن ابن تيمية نفسه لم يكن ملتزماً بهذه الضوابط التي ذكرها؛ فقد استند إلى الروايات الضعيفة، بل المختلقة أحياناً. وقد أثبت ذلك من خلال ذكره اثني عشر مورداً من هذه الأحاديث، مع إثبات ضعفها بواسطة الاستناد إلى النصوص الثابتة. وخلافاً لابن تيمية ـ الذي يستند إلى الكثير من الأحاديث في كتابه ـ يعمل الشيخ رحمت الله الهندي على الاستعانة بالقليل من الأحاديث، وهو حتّى في مثل هذه الحالة أكثر دقّةً ومنهجية. ومن خلال القائمة التي يقدِّمها الأستاذ الفاضل اللافي بعدد الأحاديث المنقولة في كتاب «إظهار الحقّ» ـ والتي لا يزيد عددها على الخمسين رواية ـ يعمل على تحليل مبنى الشيخ رحمت الله الهندي في نقل الحديث القائم على أساس تحرّي الدقّة والعمل على بلوغ الحقيقة، وبذلك يقارن بينه وبين منهج ابن تيمية.
وفي ختام هذا الفصل، وبعد تقديم تقريرٍ تفصيلي حول اختلاف منهج وأسلوب هذين الكتابين، يقوم الأستاذ اللافي بعملية تبويب ومقارنة شاملة بين أسلوب ابن تيمية ورحمت الله الهندي، ويضع هذين المنهجين في مقابل بعضهما ضمن الإطار الشامل. يسعى ابن تيمية بشكلٍ رئيس إلى الدفاع عن التعاليم الإسلامية وإثبات صوابيتها؛ في حين أن الهاجس الرئيس الذي يشغل اهتمام الشيخ رحمت الله الهندي يكمن في إبطال التعاليم المسيحية، وإثبات تناقضها الداخلي، وردّ الشبهات المثارة ضدّ الإسلام، وليس تثبيت العقائد الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك كلّه فإن هذين الكتابين يشبهان بعضهما في الكثير من الجهات؛ فإن الموضوعات المطروحة والمبحوثة في هذين الكتابين، من قبيل: التثليث والنسخ والتحريف والكتاب المقدّس والنبوّة ـ على سبيل المثال ـ هي من الأمور المتناظرة في هذين الكتابين، وليس الاختلاف فيها إلاّ من حيث التفصيل والاختصار. وقد قام كلا المؤلِّفين بتوظيف التراث الكلامي للمسلمين بشكلٍ حَسَن، بَيْدَ أنهما لا يتوقّفان عند هذا الحدّ، ويسعيان إلى الإضافة عليهما بحذق، والخروج بأبحاثهما من حدود المسائل النظرية والانتزاعية البَحْتة، وربطها بواقعيات عصرهما. فقد تمّ تأليف كلا الكتابين في فترةٍ زمنية شهدت تعرُّض عقائد المسلمين للهجمة العشواء والشعواء، وكان كلّ واحدٍ من المؤلِّفين يحمل هواجس عصره. وبذلك كان كلا هذين الكتابين يعبِّر عن تواصل وتكامل المناظرات الكلامية بين الأديان وتحوّلها. وقد ختم الأستاذ محمد الفاضل اللافي كتابه بسؤالٍ جدير بالتأمُّل؛ إذ يقول: «ما هو مستوى تشبُّث الكتّاب المسلمين المعاصرين، الذين يواجهون ذات المسائل التي واجهها هذين الكاتبين، بالأصول التي أسّسا لها، وعمدا إلى توسيعها».
ثلاث ملاحظات
الملاحظة الأولى: إن مؤلّف هذا الكتاب هو الأستاذ محمد الفاضل بن علي اللافي، وهو تونسيٌّ، حائز على شهادة الدكتوراه في الأديان المقارنة من جامعة أمّ درمان. له تعاونٌ مع الكثير من المراكز التحقيقية. وقد ألّف الكثير من الكتب في مجال الدراسات الإسلامية والأديان المقارنة، ومن بينها: «الخطاب الإسلامي، المبادئ النظرية وشروط التجديد»، و«مقدّمة منهجية في تاريخ الأديان المقارنة».
الملاحظة الثانية: إن ناشر هذا الكتاب هو المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أو المؤسسة العالمية للفكر الإسلامي، الذي تمّ تأسيسه سنة 1401هـ من قِبَل عددٍ من المفكِّرين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أصدر حتّى الآن الكثير من المؤلّفات، وأقام أكثر من عشرين مؤتمراً عالمياً. وإن من بين البرامج الرئيسة لهذه المؤسّسة، برئاسة طه جابر العلواني، طرح أسلمة العلوم الإنسانية والمعرفة الإسلامية، والعمل في إطار تدوين علم المنهج الإسلامي، وأقيم مؤتمرٌ لهذه الغاية. كما أن لهذه المؤسّسة مراكز وجامعات تابعة لها في بعض البلدان الإسلامية، ومن بينها: إيران([7]).
الملاحظة الثالثة: والكلمة الأخيرة هي أن هذا الكتاب، رغم المعلومات القيِّمة التي اشتمل عليها، قد تجاوز الحدّ في التفصيل، بل قام المؤلّف في بعض الموارد بتكرار المطالب؛ ليزيد من حجم الكتاب، دون أن تدعو الضرورة إلى ذلك، في حين أنه كان بالإمكان المحافظة على متانة وقوّة هذا الكتاب، مع اختزاله واختصاره.
الهوامش
(*) باحثٌ بارز في الحوزة والجامعة، وأستاذٌ في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([1]) تحقيق: عليّ بن حسن بن ناصرون [وآخرين]، دار العاصمة، 1999م.
([2]) للوقوف على التقرير التفصيلي لهذه المناظرة انظر: محمد عبد القادر خليل، المناظرة الكبرى، مكّة، مطابع الصفا، 1990م.
([3]) إن أحدث طبعة لهذا الكتاب تشتمل على الخصائص التالية: الشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكبراتوي، إظهار الحقّ، إخراج وتحقيق: عمر الدسوقي، بيروت، المكتبة العصرية، 1998م.
([4]) ظهر هذا الكتاب بأحدث طبعةٍ له، وهو يتّصف بالخصائص التالية: كتاب الهداية، ردّ على إظهار الحقّ والسيف الحميدي الصقيل وغيره، المرسلون الأميركان، باريس، منشورات أسمار، 2007م.
([5]) لقد طبع هذا الكتاب مراراً، وقد ترجم الجزء الأول منه إلى اللغة الفارسية بعنوان: (إسلام آيين برگزيده). وقد صدر في أحدث طبعةٍ له مصحّحة ضمن سلسلة الأعمال الكاملة للشيخ محمد جواد البلاغي، وهو يحمل المواصفات التالية: موسوعة العلاّمة البلاغي، قم، مركز العلوم والثقافة الإسلامية ـ مركز إحياء التراث الإسلامي، 1386هـ.ش.
([6]) للتعرُّف على الشيخ العلامة محمد جواد البلاغي ومنهجه في هذا الكتاب ومحتوياته ومضامينه انظر: السيد حسن إسلامي، أنديشه علاّمه بلاغي، قم، كنگره بين المللي علاّمه بلاغي، 1386هـ.ش.
([7]) للتعرُّف على هذه المؤسسة ونشاطاتها انظر: معرفت شناسي إسلامي: طرح، برنامه، عملكرد، إعداد: المؤسسة العالمية للفكر الإسلامي، 1374هـ.ش.