مقاربةٌ تفسيرية في الفكر والمنهج والمآل
ـ القسم الأوّل ـ
أ. نبيل علي صالح(*)
ملخَّص تنفيذي عام
بات موضوعُ التطرُّف الديني (الإسلامي) حديثَ الساعة، والشغلَ الشاغل لكل المواقع والفواعل الاجتماعية، من الإنسان العادي إلى المثقَّف والمفكِّر والسياسي. وتكاد لا تُعقَد ندوةٌ فكرية أو جلسةٌ سياسية أو منتدى أو ملتقى إلاّ ويحظى هذا الموضوع بالحيِّز الرئيسي فيها في المستوى السياسي والإعلامي، لتجد الكلّ يقاربه من زاوية، ويهجس به، ويحلّل عنه، ويخلص إلى رؤى واستنتاجات حوله.
ونحن هنا ـ في دراستنا هذه ـ ربما لن نضيف مقاربة تحليلية جديدة كلّ الجدة حول هذه القضية الحيوية، لكننا نزعم توفُّر إرادة المحاولة لتقديم وجهة نظرٍ ما، على صعيد التشخيص السليم للمرض، ومن ثمّ وصف العلاج الذي نراه مناسباً، وذلك بعد أن نحاول الوقوف أمام أسباب نموّها وتصاعدها في تربة وبنيان مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم (على وجه الخصوص)، حيث كان لطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة والمعقَّدة التي عاشتها وتعيشها مجتمعاتنا وشعوبنا العربية (من فشل تنموي، وعقم سياسي ناتج عن هيمنة نظم سلطوية ديكتاتورية شمولية) الدَّوْر الأكبر في نشأة واندفاع هذه الظاهرة المَرَضية، التي يمكن عدُّها ـ برغم طول إقامتها نسبياً عندنا ـ حالةً شبه طارئة، مرهونة بشروطها وظروفها الخاصّة، التي ما إن ترتفع ستبدأ تلك الظاهرة المَرَضية بالانحلال والذوبان والتلاشي والانمحاق، لتعود الأمور إلى طبيعتها البشرية على مستوى الحوار والتعارف والتفاعل الخلاّق والمُبْدِع بين البشر: ﴿وَجَعَلنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
وبطبيعة الحال ليس للتطرُّف طابعه النمطي الهيكلي الخاصّ بدين أو طائفة أو مذهب، بل هو (لدى أتباعه والقائلين به) حالة رفض للآخر المختلف فكراً وانتماءً وقناعات سلوكية، رفض يصل حدَّ استعمال القوّة والعنف بهدف التأثير والتحوير والنقل الإجباري للآخر من حالٍ مكروهة إلى أخرى مقبولة لدى أتباع الفكر المتطرِّف.
والتطرُّف ليس له أيضاً طابعه الديني البحت، وهو لا يضرب الأيديولوجيا أو الفكر الديني كفكرٍ خاصّ بعينه، بل يمكن أن يضرب أيّ فكر بشري، دينياً كان أم علمانياً وضعياً. فكثير من الحركات اليسارية القومية والماركسية العربية وغير العربية سبق لها أن آمنت بالفكر «الانقلابي» و«المشروعية الثورية» الدموية، ورسَّخت مبدأ استعمال أدوات العنف؛ بغرض الوصول إلى نعيم السلطة والبقاء فيها، والدفاع عنها بلا هوادة، بل وما يزال بعضها على قناعاته (الانقلابية الثورجية) السابقة حتّى الآن، بالرغم من النتائج الكارثية والمآسي الطويلة وتدمير المجتمعات، وقتل الحجر والشجر والبشر؛ بهدف تأبيد الملك والسلطان والصولجان.
لقد أدَّتْ هيمنة ظروف التخلُّف الفكري، وطول مراحل عصور الانحطاط الاجتماعي التي مرَّتْ علينا في تاريخ هذه الأمّة، بعدما دمّرت بغداد كحاضرة للعلم والثقافة الإسلامية سابقاً، وتفرّق المسلمون، وتكرَّست تقاليد الاتّباع والتقليد الأعمى، وأُلغي دور العقل كأحد أهمّ منافذ وممكنات الفعل والبناء والتطوير، وبالتالي أُقفلت أبواب الاجتهاد وسبل التجديد، كلّها أدَّت إلى تكديس ومراكمة طبقات التخلُّف تاريخياً، طبقةً فوق أخرى، حتّى وصلنا إلى حالة فقدان الوزن التاريخي، واختلال حركة الفرد في مجتمعه، ليعيش (هذا الفرد) حالة التناقض بين ثقافة دينية (مؤمن بها، ومهيمنة عليه، وثابتة لم تتغيَّر ولا يخالطها أيّ تعديل) وبين واقع خارجي هو في حالةٍ مستمرّة من السيرورة، يتطوَّر ويتبدَّل (له أسئلته وإشكالاته الدائمة) رغماً عن قناعات واعتقادات (هذا الفرد)، من دون الحصول على إجابات دينية واضحة وحاسمة على تلك الأسئلة ـ الإشكالية، وبما لا يلبّي ـ في حال توفَّرت بعض الإجابات ـ بالحاجات الجوهرية والأساسية لمعتنقي الدين، لتكون النتيجة: فقدان القدرة لدى هذا الفرد المسلم على العمل والفعل والتأثير، وبلوغ حالة الشلل والعجز عن الحضور في زمانه ومكانه، والبقاء (الغريزي) ضمن قوقعته وعالمه الذاتي الخاصّ، الذي يخاف أن تنتهك حرماته (المقدَّسة) بالتغييرات الخارجية الهائلة الحجم والتأثير والاندفاع.
وهكذا تشكَّلت ثقافات دينية تقليدية موازية (للثقافة الدينية الرسمية المَرْضيّ عنها من قبل السلطات وحكام الزمان)، ثقافة ثابتة متراصّة، رافضة للواقع الخارجي المتبدِّل، تكرِّسه في طروحاتها كعدوٍّ تكفيري، فكراً أم شخصاً.
ووصلت الأمور إلى ذروتها ـ على هذا الصعيد (التكفيري التطرُّفي) ـ من خلال الضغط غير المحتمل الذي اتّبعت (سبلَه القمعية والدموية الواسعة) السلطاتُ الرسمية العربية والإسلامية، الأمر الذي دفع بالمتطرِّفين من مختلف الانتماءات التكفيرية الإسلامية (سنَّةً وشيعة وغيرهم) إلى مزيدٍ من التشدُّد والرفض، والتمسُّك بالمنهج المتطرِّف، والانغلاق على أفكارهم الخاصّة، التي لا شَكَّ بانحرافها وغلوِّها الاجتماعي والحياتي، أو سعيهم للهروب إلى المنافي أو العمل تحت الأرض، بعيداً عن العلنية والكشف والإظهار. والناس عندنا تحبّ وتعشق الفكر الشهيد والعقائد الشهيدة.
وللأسف لم يعتمد أسلوب «الحوار بالتي هي أحسن» بين كلّ الأفرقاء (شخوصاً وجماعات). فلا السلطات (التي استأثرت بالسلطة، وتوسَّلت العنف) اعترفت بالإسلاميين (من حَمَلة فكر ونهج الإسلام السياسي)، وقبلت محاورتهم، ولا المؤسَّسات الدينية الرسميّة مضَتْ في مراجعاتها العقلانية النقدية للتراث النقلي والفقهي والكلامي، بل جُلُّ ما كان يهمّها هو استمرار مصالحها، وتجذير علاقاتها مع السلطات الرسمية الحاكمة.
وعندما نتحدَّث عن العنف الرسمي العربي، ونعطي رموزه (الرسميين) السهم الأكبر في رصيد المسؤوليات، فهذا لا يعني أننا نبرِّر للإسلاميين تطرُّفهم وعنفهم المرفوض والمدان بطبيعة الحال، ولكنَّنا نحاول شرح ومقاربة الظاهرة بكلّ ملابساتها وتعقيداتها، وخاصّة الجانب المتَّصل بمسؤولية الطغيان والاستبداد عن نموّ ظاهرة التطرُّف، وتوسيع منافذها من قبل نخب ورموز الحكم العربي المستبدّ، واستثمارها لمصالحهم السياسية في البقاء والاستئثار، وتكريس هذا الزمن السياسي الاستبدادي العربي المزمن (المدعوم من القوى الدولية الكبرى منذ عقود زمنية طويلة).
بل وأكثر من ذلك، حيث إن العنف المرتكب تاريخياً من قبل مؤسَّسات الدولة التحديثية العربية (دولة القبيلة والغنيمة)، بمختلف أجهزتها الإكراهية المعروفة، بحقّ ناسها ومجتمعاتها وأبنائها كان كافياً لتعقيم كلّ بذور الخير والمحبّة والأمان والفعل والإنتاج لدى إنساننا العربي المسلم. وأنا أقول بأنه عنفٌ جعل من هذا الإنسان العربي مجرّد «رجع الصدى» لأصوات غيره، بل جعله «مشروع تطرُّف» دائم بحقّ نفسه ومجتمعه ودولته ومؤسَّسات بلده.
إن الظروف الخارجية الصعبة قد تدفع المرء في كثير من الأحيان ـ نتيجة شعوره بالظلم والتمييز والحرمان ـ إلى اللجوء لأساليب ومناهج عمل متطرِّفة وعنيفة، قد تكون خياره الأخير؛ نتيجة حشره في الزاوية. ولكن بالإطار العامّ تربتنا الفكرية والتاريخية ومجالنا الحضاري الثقافي بمجمله كان مناخا ملائماً وداعماً لنموّ بذور العنف، ولهيمنة العنف والتطرُّف والتعصُّب الديني.
وأما اليوم لا حلّ مطلقاً لأزمتنا الراهنة (أزمة التطرُّف الديني كوجهٍ آخر لأزمة الاستبداد السياسي)، والتي يستحضر فيها عنصر التطرُّف بقوّةٍ، بعيداً عن أحدّ أهم مسبباتها، وهو الجانب السياسي.
أقول: لا حلّ من دون النظر والعمل على مسلكين اثنين:
الأوّل: علاج أزمة الدولة العربية المستعصية على الحلّ، وهي أزمة الحكم السياسي، والمواطنة المغيَّبة، وذلك من خلال العمل على إقامة الدولة المدنية العربية، دولة المواطنة والحكم الصالح، دولة القانون والعدل والمساواة.
الثاني: الاستمرار في إعمال حركة النقد في مختلف قضايا التجديد الديني، ومساءلة التراث عقلياً، بهدف ربط الدين بالواقع ربطاً واقعياً، لا ينزل فيه الدين إلى مستنقعات السياسة، ولا يرتفع إلى فضائه الغيبي بلا هدفٍ ولا معنى، بما يتناسب مع «مقاصد وغايات» النصّ الديني ذاته في حماية النفس والذات والحياة العاقلة الفاعلة على مستوى الغايات والقيم والمبادئ، بحيث تكون عملية التجديد عبارة عن «جدلية مستمرة بين النصّ والواقع، صعوداً من الواقع إلى النصّ، ونزولاً من النصّ إلى الواقع».
ونحن ـ من موقعنا كمثقَّفين مشتغلين على قضايا النقد والتجديد الديني ـ سنبقى ندعو ونكرِّر الدعوة إلى عقلنة التفكير الديني، وتطوير الخطاب الثقافي التاريخي الإسلامي بما يتناسب والتطوُّرات والمستجدّات والتحوُّلات الزمكانية (الزمان والمكان). وهذا أمرٌ ـ في نظري ـ مقدورٌ عليه عقلاً وعلماً وتفكيراً موضوعياً، طالما أن العقل موجودٌ، والمقدّمات والبديهيات العقلية قائمةٌ ـ ولا شَكَّ ـ لدى الكثيرين، والمصلحة الإنسانية هي الأَوْلى بالاتّباع دائماً وأبداً.
مقدّمة البحث
تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على مفهوم التطرُّف (الديني)، فكرةً ومنهجاً وسبيلاً متبعاً، من حيث إنه ظاهرةٌ مركَّبة ذات أبعاد متعدِّدة، ذاتياً وموضوعياً، ومحاولة تفكيك عراها الفكريّة ودعائمها النصّية الدينية، وإعادة موضعتها كحَدَث نافر وطارئ (برغم طول إقامته، خصوصاً في العقدين الأخيرين) على ميادين عالمنا العربي والإسلامي، وعلى ساحات المعرفة الإسلامية الأصيلة، واعتبارها (ظاهرة التطرُّف) مجرّد حالة مَرَضية عارضة (لا جوهرية)، تستلزم التشخيص الدقيق والعلاج التربوي والعقلي الصحيح، بعدما فتكت بالعقل الإسلامي، وأحالته إلى الهامش الوجودي، والاستقالة من مواقع الإنتاج الحضاري، وأضرَّت بمصالح المجتمع والناس والأمّة ومقاصدها الإنسانية العامّة، أي إنها أصابت الإنسان المسلم في مقتلٍ، وجوداً ودوراً ومكانةً.
كما سنحاول في هذه الدراسة أيضاً التركيز على أصل ومنشأ التطرُّف الديني، والتدقيق في بعض الأفكار الشائعة والمتداولة حول أسباب نسبة التطرُّف إلى الدين الإسلامي كبنية روحية ومفاهيمية، وكمبدأ ذاتي «قارّ»، بما يعنيه هذا التدقيق النقدي من ضرورة وضع الفكر المنتسب إليه (الفكر الإسلامي في مختلف طروحاته ومفاهيمه ونصوصه المؤسّسة، وعقائده الإيمانية، وفتاوى رجالاته التكفيرية وغيرها) على مشرحة التفكيك والمساءلة المعرفية، وخاصّة بعد أن وصل ما يُسمَّى بالتطرُّف الديني (الإسلامي) ـ في الآونة الأخيرة ـ إلى ذروته الكارثية العمليّة (على طريقة الصعود إلى الهاوية)، من حيث استباحة المحرَّمات الإنسانيّة، وارتكاب الفظائع الدموية، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاّ بالحقّ، وتدمير المجتمعات الآمنة، وتقهقر المدنية الحديثة.
والخطورة في هذا التطرُّف السائد والمهيمن على مناخاتنا العربية والإٍسلامية هو أنه بات يُمارَس على خلفيّةٍ دينية، وبشعاراتٍ مقدَّسة، أي تحت راية دينٍ هو الإسلام، في ما نلاحظه لدى أتباع فكر ونهج التطرُّف من سعيٍ حثيث لتطبيق الشريعة وإقامة الحدود الشرعية، وبناء ما يُسمّى بـ (دولة الخلافة) في ظلّ ظروف مختلفة كلّياً عن الأزمان السابقة، وتفجُّر تناقضات تاريخية وعقائدية هائلة، بما يعني أن التطرُّف الديني في أيامنا هذه يعكس أزمةً خطيرة سبق أن عاشها الفكر الإسلامي بالأمس، وآية ذلك أنّ نشوء التطرُّف لم ينطلق من فراغٍ، بل جاء نتيجة خللٍ ما (أصاب) ويصيب منظومة القيم والمبادئ التي تحكم العلاقة الإنسانية في بعض وجوهها.
لقد ازدادت مفاعيل وإرهاصات التطرُّف الديني، وخاصة المتلبس بالغطاء الإسلامي، بعد اندلاع موجة ما سُمِّي بــ«الثورات الربيعية العربية»، وصعود نجم الإسلاميين من (أتباع التيار السياسي الإسلامي التقليدي المعروف)، وفوزهم في كثير من تلك الانتخابات، واعتبارهم الحضن الدافئ لتربية وتنشئة وتضخُّم ظاهرة الحركات الدينية المتطرِّفة التي سلكت مسلك العنف والإرهاب الأعمى، فتمّ استغلال هذه الصور القاتمة لتشويه سمعة وصورة هذا الدين أكثر ممّا هي مشوَّهة أصلاً. وهكذا أصبحت فكرة وثقافة التطرُّف الدينيّ (الإٍسلامي) حديث الساعة اليوم، وتحوّل رموز هذه الثقافة، ممَّن ينتمون إلى الإسلام (كدينٍ ودولة)، إلى ماردٍ كبير أو شبح مفزع يخيف المسلمين وغيرهم على حدٍّ سواء.
إن نقد هذا الخطاب الفكري (بمختلف تنوُّعاته وأدبيّاته التاريخية) المزمن في ثباته وجموده، ومساءلته راهناً، هو الأمر الحيوي الأكثر إلحاحاً (في سياق العمل على قضايا التجديد الديني والحداثة الدينية العقلية)، وخاصّة مع بقائه ثابتاً كما هو في لحظة تشكُّله الأولى، ورفضه الانفتاح والتجدُّد، رغم بعض التعديلات الظاهرية السطحية البسيطة التي طرأَتْ عليه تاريخياً، ولكنَّها انتهَتْ إلى لا شيء عملياً، ليبقى (الخطاب الفكري التقليدي) غير قادر ـ بالتالي ـ على مواكبة الحياة وتطوُّرات الزمان والمكان، والاستجابة لحاجات المؤمنين به، واستمرار تداعياته السلبيّة على غيره.
وهذا النقد لا بُدَّ أن يتركَّز في أولوياته ونقاشاته وتحليلاته على موضوع رئيس هو «الهوية»، ومفاعيلها السلوكية الخارجية، حول علاقة الدين بالإرهاب، وقدرته على التجدُّد، وقابليّته للإصلاح، وتأقلمه (تكيُّفه) وانسجامه الإيجابي المنتج مع الحياة المعاصرة.
والصعوبة في تحقُّق إرادة الفعل التجديدي هنا تكمن بلا شكٍّ في كون هذه الهويّة الدينيّة مشوَّهة ومضطربة وعنيفة في عالمنا الراهن؛ كونها إفرازاً من إفرازات الواقع العربي والإسلامي القائم المليء بالتعقيدات والأزمات والتحدِّيات، والتي يأتي على رأسها تحدِّي انتشار وتفشّي ثقافة التطرُّف (والعنف والإرهاب) بين صفوف الأجيال الصاعدة الممزّقة بين هويّةٍ قديمة (دافعة ومحرِّضة) وبين واقعٍ حديث معاكس ومناقض ورافض لها في بنيتها الأولى.
على هذا الأساس لا يمكن الفصل بين مسألة «التطرُّف» وإشكاليّة الهويّة. وما التطرّف في حقيقته إلاّ تحوُّلٌ وسيرورة في طبيعة الهويّة ذاتها؛ إذ تحوّلت من هويّة مبدعة تبحث عن سبل الحياة المنتجة والفاعلة إلى هويّةٍ مغلقة قاتلة تجلب الدمار والخراب حيثما حلَّ أصحابها، وآية ذلك أنّ الهويّة يمكن لها أيضاً أن تقتل وبلا رحمة([1]). فكيف إذن ينتج عن بعض الهويّات فكر دمويّ وخطاب إقصائيّ وعنف رهيب، والنزاعات الوحشية قد تتغذَّى من وَهم الهويّة، ولكن كيف تستحيل الهويّة مجالاً للتطرُّف؟! وكيف تحوّلت الثقافة الإسلامية من ثقافة حياةٍ وإبداع إلى ثقافة موت وشقاء([2])؟! ولماذا لم نتمكَّن كمثقَّفين من بلورة خلاصات معرفية حقيقية حديثة عملية، وليس نظرية فقط، تنطلق من النصّ الديني حول القيم الفردية وحقوق الإنسان والديمقراطية وحكم الشعب والمواطنة الصالحة والدولة المدنية؟! ولماذا فشلنا حتّى اليوم في تقديم رؤية دينية بنّاءة تنتج وتوسِّع وترسِّخ قيم الاعتدال والوسطية والتسوية، تحاكي التطوُّر، وتتَّسق مع شروط العصر ومتطلَّباته في مواجهة مختلف نماذج ومعاني ووجهات نظر الفقه التقليدي المهيمنة حتّى اللحظة على العباد، والتي ساهمت هي ذاتها في بذر أفكار القداسة المزيَّفة، والتطرُّف والتشدُّد، ووسَّعت وعمَّقت أكثر فأكثر آليات العنف والقمع التي التزمت بها (كخيارٍ أوحد) نظم الحكم العربي الإسلامي الديكتاتورية المعروفة؟!
المبحث الأول: مفهوم «ثقافة التطرُّف» (التعريف، المعاني والدلالات)
أوّلاً: في معنى الثقافة
لا تأتي الثقافة من فراغٍ، بل هي علاقة بناء وتراكم وتفاعل جدلي بين الفكر والواقع، بين المعرفة والعمل والفاعلية (الإرادة) البشرية. إنها ثمرة التفاعلات العملية المتبادلة الخلاّقة بين الناس، أفراداً وجماعات، في سعيهم للتمكين الوجودي، بناءً وتطوراً.
وفي أيامنا الحالية تُحمل كلمة «الثقافة» على محمل التربية التي تنمو بها أساليب الفكر والعمل بما يلائم الزمان والمكان، وهذا ما نطلق عليه التحديد العام للفظ «الثقافة». أما التحديد الخاصّ لها فيمكن متابعته ـ في وعينا المعاصر ـ من خلال كونها (أي الثقافة) ذلك المركَّب الذي يشتمل على كلّ ما نفكِّر فيه، ونعتقده، ونقوم بعمله، ونلتزمه في حركة الحياة، من قيم ومبادئ وفنون وأخلاق وقوانين وتقاليد وطقوس متنوِّعة ومتعدِّدة. ونجد ذلك من العادات والأعراف التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمعٍ ما.
من هنا تكون الثقافةُ محصّلة تاريخية للقلق المبدع والخلاّق عند الإنسان في التغلُّب على محدّدات وإلزامات «المُعاش» التاريخي، وتعقيدات الوجود الراهن التي تتحدّاه، ويصادفها في حياته، وخَلْق أشكالٍ وأنماط جديدة للعمل، والبناء لتطوُّر حياة الفرد والجماعة، تجمع بين ما هو ثابت وما هو متغيِّر من أفكار ومبادئ وطروحات تأسيسية.
وبهذا التوصيف تكون الثقافة ـ كظاهرة مركَّبة من عناصر؛ بعضها فكري وسلوكي؛ وبعضها مادي ـ أساس الحضارة، التي هي شكل من أشكال تنظيم الحياة البشرية وتوأمها والملازمة لها؛ لأنها (الثقافة) متجذِّرة في أعماق أرواح الناس، ومن الطبيعي أن تكون أكثر ديمومة واستمرارية من الحضارة نفسها، ومن معالم الحياة العملية، ومراكز الأنظمة الاجتماعية، ونمط سلوك وتعامل الإنسان مع الآخرين، باعتبار (الثقافة) تمثِّل (وتجسِّد) الحضارة، وتعطيها روحها العامة الكلية. فكم من المظاهر، والمعالم، والخصائص الثقافية، والأنماط الفكرية، تستمرّ لقرون عديدة ـ بعد اضمحلال الحضارة وزوالها ـ في داخل ذهنيّة وروح الأمّة، وأفرادها الذين كانت لديهم في يومٍ ما تلك الحضارة؟!
إذن تتميَّز كلّ حضارةٍ جديدة بوجهٍ ثقافي يعبِّر عنها، وتنسجم معه في كلّ مظاهر وتنوُّعات أفرادها. وعندما تزول أو تتلاشى تلك الحضارة تبقى معالمها الثقافية ـ المتوافقة أو المنسجمة معها ـ حيّةً في نفوس وأرواح أبنائها. ومن هنا يقع التناقض الحادّ في داخل الأمة بين ثقافتها (وهي جزءٌ من هويّتها) التقليدية التي حافظت عليها من جهةٍ وبين الحضارة الجديدة المسيطرة بمتطلّباتها ومعطياتها وثقافاتها الجديدة المنسجمة معها من جهةٍ أخرى.
بهذا المعنى تأتي الثقافة لتكون ممارسة نظرية وعملية، فكرية واجتماعية وسياسية، وهي تحتمل الصفتين الإيجابية أو السلبية. فلا هي إيجابية بإطلاقٍ، ولا هي سلبية بإطلاق، وفقاً للدلالة القيمية للسَّلب والإيجاب. ممّا يستوجب سلوك طريق النقد البنّاء لبنى وقواعد تلك الثقافة السلبية؛ لكشف عيوبها وتظهير نقائصها الخفية. فكلُّ ثقافةٍ من الثقافات التي مرَّت على المجتمعات البشرية ـ ومنها: ثقافتنا الدينية التاريخية ـ انطوَتْ على كثيرٍ من القِيَم الإيجابية الإنسانية، بمعنى أن الإيجابي فيها كان يتداخل مع السلبي؛ فهناك القِيَم المدنية العقلانية الإنسانية، كالحُرِّية والمساواة والعدالة والكرامة؛ وهناك أيضاً القِيَم السلبيّة المنحطّة، كالعنصرية والغطرسة والتعصُّب والكراهية والتطرُّف وغيرها.
ثانياً: في معنى التطرُّف
التطرُّف لغةً([3])
التطرُّف كـ (فعل)
تطرَّفَ، يَتطرَّف، تطرُّفاً، فهو مُتطرِّف، والمفعول مُتطرَّف، للمتعدِّي.
رَأَى خِصَاماً فِي الشَّارِعِ فَتَطَرَّفَ جَانِباً: اِبتَعَدَ إِلَى الطَّرَفِ، أي: الجَانِبِ الآخَرِ.
تَطَرَّفَتِ المَاشِيَةُ جَوَانِبَ المَرعَى: صَارَت بِأَطرَافِهِ.
تَطَرَّفَتِ الشَّمسُ: دَنَت إِلَى الغُرُوبِ.
تَطَرَّفَ الحَدِيثَ: عَدَّهُ طَرِيفاً.
يَتَطَرَّفُ فِي أَفكَارِه: يَتَجَاوَزُ حَدَّ الاعتِدَالِ وَالحُدُودِ المَعقُولَةِ، أي يُبَالِغُ فِيهَا.
تَطَرَّفَ منه: تنحَّى.
تَطَرَّفَ الشيء: أَخَذَ من أَطرافِهِ.
التطرُّف كـ (اسم)
وهو مصدر تطرُّف.
التطرُّف إلى الشمال: الابتعاد.
تطرَّفت الشمس: دُنوُّها إلى الغروب.
أي إن التطرُّف هو ذهاب الشيء إلى الحدود النهائية. وفكرياً هو نوعٌ من الغلوّ أو المغالاة السياسية أو الدينية أو المذهبية لمجموعة أفكار وقيم يعتقد بها مجتمعٌ من المجتمعات البشرية، ويعتبرها مقدَّسة ومطلقة الحقيقة، محاولاً التبشير بها، والدعوة إليها، ومحاولة فرضها قَسْراً على غيره.
وورد في لسان العرب([4]): طرف كلّ شيء منتهاه، ومعناه: الوقوف في الطرف، وهو يقابل التوسُّط والاعتدال. ومن خلال هذا المعنى اللغوي يعني التطرُّف: «الخروج عن حدِّ الوسطية والاعتدال».
ثالثاً: مفهوم ومعنى «التطرُّف» و«ثقافة التطرُّف»
التطرُّف صفةٌ كاشفة عن واقع ذاتي فردي وموضوعي مجتمعي، تطلق على سلوكية الفرد أو الجماعة عندما يذهب ـ هذا الفرد الذي هو نواة تشكُّل مجتمع أو أمّة ـ إلى خيارات عملية حدِّية في ما يتعلَّق بقناعاته ومبادئه الإيمانية، مدَّعياً القبض على حقيقةٍ مقدَّسة مطلقة ما (دينية كانت هذه الحقيقة أم سياسية)، ليس لها أيّ قاعدة مجتمعية أو حاضنة شعبية مجتمعية عامّة في بلداننا في حالتها الطبيعية المنسجمة والمتوازنة.
والتطرُّف لا يقتصر على موقعٍ أو حالة خاصّة بفئة أو قومية أو طائفة، بل هو خطاب فكري ينتمي إلى نَسَق الأيديولوجيات الاصطفائية المغلقة (سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية)، التي تتأطَّر بأدبياتها الفكرية، وتجبر غيرها على الالتحاق بها والاستتباع لها، وتتبنّى العنف وسيلةً للوصول إلى الأهداف (وخاصّة هدف السلطة غاية الغايات عندها)، وهو عنفٌ مورس ويُمارس من قِبَل الجميع في كلّ المراحل التاريخية البشرية وفي الوقت المعاصر، سواء أكان هذا الجميع أفراداً أم أحزاباً أم تيارات أم جماعات وقوميات وحضارات، كلٌّ بحَسَب مآربه ورغباته ومصالحه ومطامعه.
لكنْ يبقى التطرُّف الديني أبشع وأسوأ أنواع التطرُّف البشري؛ لكونه يرتبط بالمقدَّس الديني الذي يتمّ تفسيره وتأويله من خلال أقوال وآراء الشيوخ ورجالات الدين وآراء العلماء وفقهاء عصور التدهور والانحطاط، والذي يتمّ من خلاله استخدام (واستغلال) قيم ومبادئ الدين (الحقّ، العدل، المساواة، إلخ) في «بازارات» السوق السياسية، أي العمل على استثماره سياسياً في صراعات المصالح الجزئية الفئوية، وكسر الإرادات التي تعجّ وتضج بها المنطقة العربية الإسلامية.
إذن يقوم التطرُّف على كثير من الرؤى والمقولات والمفاهيم الفكرية التي يتمّ استدعاء معظمها من المخزونات التفكيرية التاريخية التراثية، لتشكِّل بمجموعها ما نسمِّيه بخطاب أو «ثقافة التطرُّف» التي تتركَّز وتزرع في وعي الفرد الملتزم دينياً أو أيديولوجياً (كالشريحة الإلكترونية الموجَّهة المصنوعة مسبقاً)؛ لتضبط حركته الخاصة والعامة على إيقاعاتها «الشرعية»، نازعةً منه نسقه (الحيوي) واستقلاليته وإرادته، وجاعلةً منه مجرَّد عنصر منفعل (لا فاعل)، مستلب الإرادة، قابلاً لتنفيذ خياراتها وقراراتها، أي إنها تمنهجه وتقولبه (وتسبكه كالفلز الخام) كما تريد؛ لكي تدفعه باتجاه خياراتٍ سلوكية حادّة، رافضةٍ للحياة، وزاهدة بالدنيا زهداً سلبياً، يقوم على ثلاثيّة النفي والرفض والإقصاء، وناظرةٍ لباقي الناس، من غير الأتباع والمريدين والتابعين، نظرةً دونية غير سوية، وأنه لا بُدَّ من هدايتهم وإخضاعهم خضوع الصاغرين.
هذه الثقافة المنفعلة العدائية (تجاه الجماعات والأفراد والحقوق الفردية والقيم الفكرية)، والقائمة على كثير من النصوص والفتاوى والتشريعات الدينية التاريخية، ليست هي فقط مَنْ يشعل لهيب العنصر المتطرِّف، ولا يمكن لتلك الثقافة أن تتفجَّر في الواقع العامّ إلاّ كنتيجةٍ طبيعية لظروفٍ خارجية مؤهَّبة، وعوامل مساعدة ورافعة لفكر «التطرُّف» المؤسِّس ذاته.
إن التطرُّف (بما هو موقف فكري، وشعور نفسي عالي الحدّة، وسلوك عملي اندفاعي متعسّف ومجحف) هو أيضاً فعلٌ وجودي مؤسّس على الغلوّ والاعتداد بالذات، وادّعاء امتلاك الحقيقة (الدينية أو غير الدينية) على جهة الإطلاق، وإقصاء المخالف، والتمكين للأنا بديلاً من الآخر. إنّ (التطرُّف) من هذا المنظور خروجٌ عن الطبيعة الاعتيادية، والمألوف الروحي والعملي (المعروف)، والتعايش المشترك، ومحاولةٌ لتقويض مقوِّمات السلم الاجتماعي، وفرض مواقف محدَّدة أو نمط عيش معين (نمطي) على المجموع. وفي جذر هذا التطرُّف تتموضع بنيةٌ نفسية لشخصٍ متعصِّب يميل دوماً إلى العنف، وتتَّسم شخصيته بالعدوان. ويبدو من المفيد فهم ظاهرة التعصُّب من زاويةٍ نفسية فردية وجماعية، فالثقافات المأزومة تنتج نفسيات مصدومة وغير سوية. والتعصّب كأزمة ذاتية هي وضعٌ غير طبيعي، يتناقض مع العقل وخياراته الكبرى، ولذلك كلّ الثقافات تنتقد التعصُّب؛ لأنّه يؤدِّي بالضرورة إلى التطرُّف والغلوّ. ويبدو أنّ هناك علاقة بين التعصُّب والمَرَض العقلي، فالمريض ببعض الاضطرابات العقلية قد ينمو لديه اتجاه تعصُّبيّ كتبرير لسلوكه المَرَضي، فالتعصُّب مَرَضٌ، ومن السهل أن يقع صاحبه بين براثن الأيديولوجيات العنيفة التي تنزع إلى الكراهية والقتل([5]).
ولا شَكَّ بأن لنفسية المتطرِّف وطبيعة تربيته أبلغ الآثار على قناعته وسلوكه، حيث نجد أن المتطرِّف الذي أنتجته بيئة الضغط والقسر والظلم والحرمان هو إنسان محطَّم يائس محبط ـ في عمقه النفسي ـ من أيّ آفاق للإصلاح أو التغيير أو تسوية الحال أو الوضع الشاذّ القائم، ولهذا تراه يتحرَّك على نحو عصابي في حركته الحياتية. هو يرفض كلَّ شيءٍ، ماعدا التزاماته ومحدَّداته الخاصّة «المنمَّطة» (والمقولبة مسبقاً)، التي أُغلق وتربّى ونشأ عليها، أو تعلَّمها من مشايخ التطرُّف والغلوّ الإسلامي والاجتماعي؛ لأن أُفُقه مغلقٌ على أفكاره وقناعاته الخاصة «التمامية»، وهي أفكار غالباً لا تَنتُج عن ثقافةٍ ووعي وبصيرة وخبرة وتدقيق وتأمل عقلاني، بمقدار ما تكون كاللقمة الجاهزة، نصّية معلَّبة مسوَّرة بالمقدَّس والغيبي. وبهذا المعنى يقف المتطرِّف (الذي يكفيه الأقلّ من العلم، والأكثر من الجهل) على طرفي نقيض من الوسطي والمعتدل، الذي يحتاج إلى تفكُّرٍ وعلم كثير وعقل كبير وتديُّن إنساني «رحماني» عميق. أمّا التقوى فهي ليست في حسابات التطرُّف، ولا المتطرِّفين؛ لأنها تعني دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، الموارد الأولى للاحتياط، والتي لا تحفظ إلاّ بالاعتدال والوعي والتراحم وكره المعصية، لا كره العاصي من أجل علاج المعاصي، لا اجتثاث العصاة، الذين قد لا يكونون عصاةً لو تحاورنا معهم، وقد يكونون عصاةً ولكنّ الحوار يردّهم إلى طريق الصواب([6]).
المبحث الثاني: أشكال ومظاهر التطرُّف في مجتمعاتنا العربية الإسلامية
تلعب عوامل الثقافة والتربية، وقضايا الفقر والتخلُّف الاجتماعي، وطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المزرية لبلداننا ومجتمعاتنا([7])، وتنهض بدورٍ مهمّ وحيوي وحاسم في نموّ وولادة وتضخُّم فكر وثقافة وسلوكيات «التطرُّف». وهي وإنْ كانت من الأسباب الجدِّية الملموسة «المائزة» التي تساعد على اتّساع مساحة رقعة فكر وثقافة التطرُّف والعنف، وتمظهره بأشكال متعدِّدة (دينية؛ ووضعية)، ولكنْ يظلّ «الجهل» بصفةٍ عامّة، والجهل بالدّين بصفةٍ خاصّة، من أهم الدوافع والأسباب الكامنة وراء تفشّي وانتشار ظواهر التطرُّف والإرهاب والعنف الأعمى في مجتمعاتنا عموماً.
ونلاحظ بين حينٍ وآخر، سواءٌ في مجتمعاتنا أو حتّى في مجتمعات العالم، وخاصّة مجتمعات الغرب، وفي مختلف الأوساط الثقافية والسياسية، وجود ضجّةٍ قوية ـ تتصاعد أحياناً وتخبو أخرى ـ حول الحركة الإسلامية في طبيعة مضامينها الفكرية، وأساليب عملها الحركية، وطروحاتها السياسية، في ما يثيره البعض ـ في تلك المجتمعات والأوساط ـ من أحاديث وتحليلات حول التطرُّف الذي يطبع كلّ محتواها في مجرى الحياة، مع أن هذه الفكرة السلبية (فكرة التطرُّف) لا تتوافق في العمق مع خطّ الاعتدال المعروف عن الإسلام في انفتاحه وتسامحه ومرونته وواقعيته، وقد يؤدّي إلى ابتعاد الناس عنه، وخسارته لجماهيره في نهاية المطاف([8]). وهذا أمرٌ لا يريده الإسلاميون العقلانيون عموماً، وهم يرغبون بكسب المؤيِّدين إلى صفهم. وغالبيَّتُهم لا ترى في العنف والتطرُّف الأسلوب الوحيد للصراع، بل الرفق هو الأصل، وهو العنوان الرئيس، في مواجهة المشاكل في اتجاه الحلّ، ويروون الحديث الشريف: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»([9])، ويعتبرون أن الأسلوب العملي الناجح في إدارة العمل السياسي هو الأسلوب الحواري العقلاني، الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية الشريفة: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (سورة فصِّلت: 34 ـ 35).
وهذا لا يعني مطلقاً أن الإسلاميين (الحركيين بالذات) لا يؤمنون بحركة العنف، أو أنهم لم يسبق لهم ممارسته كأسلوبٍ للوصول إلى الأهداف والغايات الخاصّة بهم، بل يرَوْن أن العنف أسلوبٌ طبيعي تفرضه طبيعة الحياة في صراعاتها وتحدِّياتها، التي تلقي عليك بثقلها بالمستوى الذي قد يلغي وجودك، أو يسقط قضيتك، أو يصادر حرِّيتك، أو يثقل حياتك، من دون أن يفسح لك المجال في التماسك لتفكِّر، أو التوازن لتناقش أو لتحاور، فلا يبقى أمامك ـ وأنت محشورٌ ومحاصر في الزاوية، أو محبوس في القمقم ـ إلاّ أن تقوم بعمليةٍ وقائية لتربك وضعه، ولتهزّ مواقعه، وتسقط خططه، أو عملية دفاعية تحفظ بها موقعك وموقفك، وتملك به قرارك. وهذا أمرٌ لا يختصّ بالإسلاميّين، بل يؤمن به كلّ الناس الذين يملكون بعض مواقع القوّة في الحياة([10]).
طبعاً ما قدَّمناه من تحليلٍ هنا ليس تبريراً لفكر وثقافة العنف والتطرُّف التي مارسها ويمارسها الإسلاميون الحركيون، وإنما هو قراءةٌ واقعية للمشاكل والتحدِّيات المثارة أمام رموز وأتباع هذا التيار الشعبوي الجماهيري الواسع في سياق ممارسته للعمل في حركة الواقع العامّ، حيث الظروف القاسية والمعقَّدة التي يعيشها هؤلاء، مثلما عاشها أو يعيشها غيرهم من تيّارات ودول ومحاور أخرى، في مواجهة ظلم القوى الكبرى والنظم التسلُّطية والديكتاتورية، وما قامت به من عنفٍ واستئصال واستعباد واقصاء متعمَّد بحقِّهم، كجماعات وتنظيمات، وحتّى كأفراد ونخب وعلماء ودعاة ومبشِّرين. فما جرى في بلداننا العربية والإسلامية من ضغوط ومظالم وقتل وتدمير بحقّ الناس والمجتمعات كان كافياً لدفع الناس ـ وقد دفعوا ـ لتبنّي فكر ونهج التطرُّف([11])، ولإشعال عشرات الحروب والصراعات الأهلية والطائفية. وهذا ما حدث فعلياً، وهو كان نتيجةً طبيعية للخراب والدمار المستمرّ منذ أكثر من سبعة عقود زمنية كارثية على الأفراد والمجتمعات والأمة.
لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى وجود خلط متعمَّد ومقصود من قبل الإدارات السياسية الغربية (ومَنْ يدور في فلكها من مثقَّفين ومراكز قرار وتفكير وقوى ومحاور كبرى) في تعاطيها مع فكرة التطرُّف وتداولها، وحكمها على هذه الظاهرة التطرُّفية (إذا جاز التعبير) في عالمنا العربي والإسلامي، الذي كان للمظالم التي ارتكبتها (إدارات الغرب) بحقّ شعوبنا ومجتمعاتنا (استعماراً ووصاية ودعماً للاستبداد والمستبدِّين على مدى عقود طويلة) أبلغ الأثر في نموّ وصعود تلك الظاهرة.
أقول: لا بُدَّ من الإشارة الضرورية والمهمّة هنا للغاية إلى أن هناك استخداماً جائراً متواصلاً، غير علمي وغير صحيح البتّة، لمصطلح التطرُّف في الأجواء والسياسات الراهنة.
فعلى سبيل المثال: عندما احتلَّت إسرائيل جنوب لبنان، ونشأت المقاومة الوطنية اللبنانية (لاحقاً احتكر الإسلاميون العمل المقاوم)، وواجهت الاحتلال الصهيوني، كانت تسمَّى تلك الحركات بأنها حركات متطرِّفة وإرهابيّة.
كذلك الأمر عندما تحرَّكت الولايات المتحدة الأمريكية في تحالفها الدولي ضدّ العراق في العام 2003م، ومارست فعل الغزو والاحتلال والتدمير بحقِّه، مجتمعاً ودولة، فأعادته عقوداً نحو الوراء، ونشأَتْ على خلفية هذا العدوان مقاومةٌ وطنية ضد الاحتلال الأميركي كانت أمريكا (والغرب عموماً) تعتبرها تطرُّفاً، بل إرهاباً. وكان مَنْ يمارس هذا الفعل التحريري الأخلاقي الوطني يُسمّى عندهم بالمتطرِّف والإرهابي. وعليه فإن ثمة تلاعباً غير منطقي وغير أخلاقي بالمصطلحات والألفاظ، لا بُدَّ من إعادة ضبطها ووضعها في سياقاتها الطبيعية المنطقية والأخلاقية الصحيحة.
طبعاً نعود ونؤكِّد أننا لا نبرِّر للإسلاميين تطرُّفهم وعنفهم المرفوض والمدان، ولكنَّنا نحاول شرح ومقاربة الظاهرة بكلّ ملابساتها وتعقيداتها، حيث إنّ المشكلة الأكبر في أفكار وسلوكيات الإسلاميين (السياسيين) من الناحية العملية السلوكية أن عصرهم لم يقبلهم ليتحوَّلوا إلى مشروعٍ عامّ، فبقوا منبوذين ومرفوضين من الجميع، ولم يقدِّموا أيّ حلول جدِّية عقلانية، ولا معالجات اجتماعية واقتصادية حقيقية ضمن برامج عمل واقعية ميدانية، وخاصّة من جانب الفريق الأقوى الرافض لهم، وأعني به «الغرب» (كحضارةٍ مدنية حديثة)، الذي يعيش عقدة «الإسلام والغرب»، ويرفض أن يكون للإسلام أيّ دور أو مسؤولية حقيقية على الأرض في بلاده. وهذا ما تؤكِّده تحوُّلات الواقع، وتشير بوضوحٍ إلى حقيقةٍ لا يجب الهروب منها، وهي أن هذا الغرب ـ شئنا أم أبينا ـ كارهٌ ضمناً لثقافة الإسلام، حتّى المعتدلة منها، بل وحاقدٌ عليها، حتّى في أجلى تعابيرها ومعانيها كثقافةٍ دين رسالي إنساني خاتم جاء للهداية والتبشير والدعوة إلى إحقاق الحقّ وإقامة العدل والمساواة بين الناس.
لكنّ القضية ـ على صعيد معرفة أسباب نموّ ثقافة التطرُّف، وما نتج عنها من عنف وإرهاب وقتل وتدمير ـ ليست محصورةً في هذا الجانب الذاتي فقط، بل لها جذورها وامتداداتها الموضوعية على جانبٍ واقعيّ ميداني آخر، وهو أن التطرُّف لم يكن أبداً حدثاً معزولاً عن مناخاته وسياقاته التاريخية، وارتباطاته بأوضاع سياسية داخلية، وأخرى إقليمية ودولية، في قضايا الصراع بين النظم المستبدّة الحاكمة، والصراع التاريخي بين الإسلام والغرب، حيث خضع هذا الواقع العنيف دوماً في حركته السياسية وغير السياسية، ومن طرف الإسلاميين، تحت تأثير تشويه صورتهم في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهةٍ، وفي ذهنية الرأي العام الدولي من جهةٍ أخرى، حيث يقوم الغرب وكلّ مَنْ يدور في فلكه بالتقاط المفردات والسلوكيات الإسلامية التي تختزن السلبيات، وتوحي ببعض الانحرافات (لجهة علاقتها بالنصّ المؤسِّس)، ليتمّ التركيز عليها، وإثارة بعض المشاعر والعواطف الإنسانية المضادّة، كجزءٍ من الحملة (والحرب المستمرّة) المفروضة على الإسلام، وأهله وناسه؛ لمنع اندفاعة الإسلام كرسالة كأساس للفكر والعاطفة والحياة.
وقد كان غياب أو تغييب قيم التعدُّدية السياسية والتنوُّع الثقافي، والتي تجلَّت من خلال هيمنة أشكال الاستبداد السياسي ومظاهره المتعدِّدة، كان من أسباب انتشار ظاهرة التطرُّف والعنف، ثمّ تأتي أسبابٌ ثانوية، ساعدَتْ (وتساعد) في اكتمال تشكُّل تلك الظاهرة. وهنا لا يمكن أن نغضّ الطرف عن وجود سببٍ خارجي (موضوعي) مولِّد للعنف والتطرُّف في منطقتنا، وهو وجود «إسرائيل» كدولة «عنف» معتدية وراعية للإرهاب في قلب الوطن العربي، وهو ما أسهم وبفعاليةٍ كبيرة في تغذية روح التعصُّب والتطرُّف في عموم المنطقة، ردّاً على العنف البنيوي الصهيوني الذي مارسته الحركة الصهيونية وعصاباتها الإرهابية التي هجَّرَتْ شعب فلسطين واحتلَّتْ أرضه.
واليوم بات الكثيرون (من أهل السياسة والرئاسة والثقافة والفكر وغيرهم في مجتمعات الغرب والشرق على السواء) يصرخون عالياً من هيمنة التيارات الدينية، ويشتكون من مارد الأصولية الإسلامية، أو من غول الأصوليين ووحش السلفيين والتكفيريين، فهل هناك مبرِّرات حقيقية وواقعية لهذه الشكوى التي بلغت حدَّ المَرَض النفسي المزمن لدى هؤلاء، أم أن هناك دوافع سياسية ضيِّقة وراء «صيحات التخويف» من هذه الظاهرة التي تفجَّرت وامتدَّت وتجذَّرت على هذا النحو الواسع والعميق في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بعد تمكن الإسلاميين من الوصول إلى الحكم السياسي في بعض الدول؟
في ظنِّي أنّ حجر الزاوية في الموضوع كلّه هو أن معالجة التطرُّف والإرهاب، وإيجاد حلٍّ عملي وواقعي جذري ونهائي لمشكلة التيارات التكفيرية والسلفية التي باتت ذريعةً للقمع والاستبداد وإلغاء الحرِّيات وتكبيل إرادات الناس ومنعها من تحقيق طموحاتها في الحرِّية والكرامة والعدالة من قِبَل نظم ونخب الحكم «العلماني» العربي المستبدّ والفاسد، لن تكون ذات قيمة ومعنى وجدوى، ولا تنجح ولن تنجح إلاّ بمعالجة أسباب التطرُّف، بعد تشخيصٍ حقيقيّ لدوافعه وعلله «البدئية» الأولى، وليس فقط معالجة نتائجه ومصائره النهائية المعروفة للجميع، والتي باتت خطوطاً وعناوينَ عريضةً نراها أمام أعيننا يوميّاً على الشاشات وفي المنتديات والمجالس والمؤتمرات وغيرها. فبذور التعصُّب والتطرُّف الفكري والعقائدي والتشدُّد بالرأي والقناعات و«التحزُّبات» الضيِّقة لا تنمو ولا تنشأ ولا تقوم وتتقوّى إلاّ في أرضية القمع السياسي والأمني والعسكري، ولا تتضخَّم إلاّ في تربة الفساد والظلم والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي وشعور الناس بأن حقوقهم مهدورة.
وطبعاً نحن عندما نؤكِّد أهمّية معالجة أصل العلّة، من خلال انتهاج العمل السياسي التعدُّدي الديمقراطي في مجتمعاتنا السياسية، فلأنّ تأسيس مثل هذا النظام السياسي الحرّ القائم على الفردية والحرِّية ومنطق التعايش والائتلاف والتشارك هو الحلّ النوعي لنبذ التطرُّف، وتفكيكيه إلى عوامله الأولى. فهذا النظام الديمقراطي يوفِّر المشاركة في صنع القرار والمصير، ويعطي الناس حقوقهم الدستورية المكفولة، ويجعل الكلّ خاضعاً للقانون والعدل والمساواة، ويهيِّئ لكلّ الفاعلين السياسيين (من مختلف التوجُّهات والانتماءات والتنظيمات الحزبية) أجواء المنافسة والحرية..
لهذا عندما يرى «الفرد ـ المواطن» على أرض الواقع في بلاده أن حكومته انفتحت عليه، وشاركته في السلطة والثروة والقرار، ووفَّرت له مناخات العمل الاقتصادي؛ ليستثمر طاقته ومواهبه وخبراته، ليعمل ويقدِّم في بلاده، وليس في بلاد الاغتراب، وأن عمله وإنتاجيته لا تذهب هَدْراً ولا هباء منثوراً، بل يراها أمام ناظريه صناعة وتجارة واستثمارات متنوِّعة وخدمات راقية ورفيعة، وتنعكس على معيشته واقتصاده اليومي إيجاباً، وأن بلده توفّر له خدمات وترفع من معدلات الناتج القومي، عند ذلك كلِّه، وفي ظلِّ نموّ اقتصاد الرفاه، واقتصاد الخدمات والاستثمار، وتطبيق القانون والنظام العامّ على الجميع، وتحقيق نسبةٍ مهمّة من العدالة الاجتماعية، مع رفع مستوى معيشة مواطنيها، ومشاركتهم بالثروة والمورد، من أين سيأتي التطرُّف والتعصُّب؟ وكيف ستنمو الحركات السَّلَفية والتكفيرية؟!
في الحقيقة إنّ الناس في مجتمعاتنا ملَّتْ وسئمت من سماع أسطوانة «التطرُّف» و«الأصولية» المشروخة، التي تلوكها ألسنة السياسيين وبعض المثقَّفين النخبويين، وباتت تضحك في سرِّها وعلانيتها من إصرار الحكّام (وسادتهم من الغرب والشرق) على التنغيم والعزف الدائم إعلامياً وسياسياً على تلك النغمة البائسة. إن الناس ملُّوا وكفروا بتلك السياسات الفوقية القَسْرية، وبالثورات والربيع وغيره. أما الوعود والانتظار والتسويف ولغة المماطلة فالناس لم يعُدْ لديها القدرة والصبر على الانتظار، وتحمُّل تبعاته السلبية على مستقبلهم، ودفع الأثمان الباهظة، مادّية ومعنوية، إلى ما لا نهاية، بل هي تريد تغييراً حقيقياً([12])، وحلولاً واقعية مادّية، ونتائج حقيقية، عملية لا نظريّة، لأزماتها ومشاكلها الحياتية، الاجتماعية منها والسياسية الضاغطة والخطيرة للغاية. الناس تريد حلاًّ موضوعياً لمشكلة الفشل في إدارة الثروات والموارد، ومشكلة إدارة الفقر الاجتماعي التي أوصلتنا إليها نظمنا السلطوية الوطنية التحديثية الشعاراتية، التي فشلت حتّى في تحقيق بندٍ واحد أو هدفٍ واحد من أهدافها وشعاراتها المعروفة، والتي فرضتها على الناس بقوّة السلاح والقمع العاري، بل راكمت على فترات زمنية طويلة من سنيّ حكمها العقيم تجارب فاشلة مكلفة ومدمِّرة، كرَّست نقيض تلك الشعارات تماماً، نهباً وفساداً وصراعات أهلية ووطنية أفقية وعمودية.
وهذا قانونٌ عامّ اجتماعي يسري دوماً وأبداً، حيث إنه مع تزايد ضغوطات الحياة وهموم المعيشة على أفراد المجتمع، وتعمُّق حالة البؤس والإحباط لدى الناس مع فشل نماذج الحكم العتيدة القائمة في التنمية وتحقيق العدالة، والإصرار على الفساد والقمع والاستبداد، كلّ هذا سيكون أكبر مولِّد للتطرُّف، ولردود الأفعال المجتمعية السلبية أو الإيجابية، من احتجاجاتٍ أو ثورات، حتّى أنّه يمكن أن يفجِّر في وجوهنا جميعاً تيارات غاية في الإرهاب والتعصُّب والأصولية.
لكنّ المشكلة أن الحكم السلطوي والحكام المتسلِّطين فشلوا، بل أدمنوا الفشل، ولم يدركوا بعد أن السياسة عملٌ وإنتاج وحكمة ووعي وخبرة، وهي لا تبنى بعقدة الانتقام وحسّ الغريزة، ولا تدار بعقدة الثأر والحقد الأعمى على الوطن وأبناء المجتمع، أو التعامل مع الأجنبي الغريب ضدّ أبناء الشعب، بل تقوم السياسة على الوعي والعقلانية والرشد السياسي والحكمة والخبرة، وتتصلَّب بالتوازن والتوافق والتضحيات والحفاظ على مصالح الناس والمجتمع قبل أيّ مصالح شخصية هنا وهناك. لكنّ الذي حدث أنّهم ضحُّوا بمصالح الناس، وتاجروا بها؛ تحقيقاً لمكاسبهم ومصالحهم الخاصّة، فظهرت المظالم والمآسي في مجتمعاتنا، وبات عالمنا العربي اليوم أكبر محرِّض على التطرُّف والعنف. فهو يبدو لأيّ ناظر عالماً مهلهلاً ضعيفاً، رغم كثرة ثرواته وعظمة قدراته وضخامة أمواله وطاقاته. وهو يصرف كثيراً من تلك الأموال على حداثة قشرية استهلاكية لا معنى لها، تفتقد للمضمون العقلي العملي الحقيقي، فلا حداثة بلا مضامين فلسفية ومعرفية.
وحتّى لا يُقال بأننا نتجنّى على أنفسنا كعرب نقول بأن بعض مجتمعاتنا العربية، كمجتمعات الخليج، ولجَتْ الحداثة الاقتصادية فقط، ودخلَتْها من أوسع أبوابها على مستوى مشاريع البنى التحتيّة، وبناء المدن السكانية والصناعية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتشييد الأبنية والمُولات الكبرى، والاهتمام بالصحّة والتعليم.
ولكن بقيت تلك الحداثة خالية الروح والمعاني الفلسفية.
ففي مستوى الاقتصاد بقي الاقتصاد ريعيّاً، ولم ينتقل للاقتصاد المعرفي الإنتاجي الصناعي.
وعلى مستوى السياسة بقيت تلك البلدان تقوم على روابط القبيلة والعشيرة وتوريث الحكم.
إن الحداثة كلٌّ مترابط متداخل، لا يتحقَّق مظهرٌ أو شكل منها من دون شكلها ومظهرها الآخر. من هنا حداثتنا الشكلية التي نحيا فيها اليوم ستذبل وتهوي وتفشل (وخاصّة الحداثة الاقتصادية) ما لم نعمل على الانتقال الجدِّي إلى الحداثة السياسية القائمة على بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والحكم الصالح والقانون والمؤسَّسات. فوجود المؤسَّسات الدستورية والقانونية هي معيار حداثة البلدان والأمم، فهي التي تفرض احترام القانون والالتزام به، وفصل واستقلالية سلطات الحكم الثلاث، التشريعية والحكومية والقضائية، ومراقبتها لبعضها بعضاً، ووجود الإعلام الحرّ المُراقب والمُسائل، وترسيخ مبادئ المواطنة المتساوية، ستكون ضمانات ضدّ الفساد والمحسوبية والاستغلال في الحياة الاقتصادية، وضمانات لوجود الشفافية والمحاسبة وعدالة التوزيع من جهةٍ، والنقابات العمالية المستقلّة النشيطة من جهةٍ أخرى.
والحداثتان الاقتصادية والسياسية تحتاجان بدورهما إلى حداثةٍ اجتماعية، تغيِّر أسس العلاقات في المجتمع. إن مجتمعاتنا تحتاج إلى أن تنتقل من البدائية التقليدية، التي ترتع فيها مناخات التطرُّف، وتهيمن عليها العلاقات القبلية والعشائرية والأصول العائلية أو المذهبية أو العرقية، إلى الحكم الديمقراطي، حيث المجتمعات التي تكون فيها المعايير الحاكمة هي معايير الجهد والإنتاجية والكفاءة والإبداع والخدمة العامّة والتميُّز في القيام بواجبات ومسؤوليات المواطنة.
وتلك الحداثات الثلاث، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا يمكن أن تُشترى بالمال، ولا يمكن أن تحدثها طموحات هذا القائد أو ذاك. إن الطريق إليها هو السَّيْر في دروب الحداثة الثقافية والفكرية التي تؤدّي إلى تهيئة الإنسان والمؤسَّسات وكلّ قوى المجتمع المدني للانخراط في تلك الحداثات الثلاث بسلاسةٍ، وبدون هزّات كبيرة تشوِّهها أو ترجعها إلى المربع الأوّل. فالحداثة الثقافية والفكرية تهدف إلى تغيير الإنسان، من خلال إقناعه وتعليمه، ليصبح مقتنعاً وقادراً على ممارسة ثوابت ثقافية وفكرية جديدة في حياته([13]). وتأتي في قمّة هذه الثوابت والأولويات مسألة استعمال العقل والمناهج العقلانية والأساليب العلمية عند تعامله مع التراث والتاريخ، وما يقرأ أو يسمع أو يشاهد أو يمارس في حياته اليومية، وبالتالي لا يسقط تحت سحر الخرافات والدعايات والآمال الكاذبة. إنها عقلانيةٌ قادرة على تحليل الأمور بإبداع، ونقدها وتجاوزها إذا لزم الأمر.
ولكنْ للأسف فإن شعوبنا هي التي تدفع فواتير كلّ المناخات والأجواء المعاكسة للحداثة، والنقيضة لها، وهي مناخات التعصُّب والأصولية وشعور الناس باليأس والإحباط؛ نتيجة انعدام التغيير واستمرار الصراعات السياسية وغير السياسية، أوّلاً: من حاضرها وطاقاتها الطبيعية (مواردها وثرواتها)، وثانياً: من طاقاتها البشرية الهائلة، وثالثاً: من مستقبل أجيالها اللاحقة التي ستواجه أزمات كبيرة في تأمين سبل ومنافذ عيشها «الآدمي» الحقيقي البسيط. أمّا مَنْ أشعل الصراعات، وفجَّر بؤر التطرُّف والأصولية، وأشعل الحروب الدموية العنيفة، فهو غالباً المستفيد الرئيس من كلّ المستويات والأصعدة؛ لأنه يتاجر بدماء وأموال وثروات وموارد الناس، حتّى في مثل هذه الظروف السيئة والمعقَّدة.
وهذا ما حدث في بيئتنا السياسية والاجتماعية العربية منذ زمنٍ، حيث إنّ تعميم سياسة الإفقار الرسمية، وشيوع المظالم والقهر، ومجمل السياسات الفوقية القَسرية التي تمّ تطبيقها من قبل نظم الحكم العربية على مَدَيات زمنية طويلة، أدَّتْ كلّها إلى خلق تربة مناسبة للتطرُّف، وإلى إنتاج ظاهرات التطرُّف التكفيري الحالي، بالاستناد ـ طبعاً ـ إلى وجود تراكيب تاريخية متوارثة، وأفكار دينية شائعة (تتشكَّل معظمها في ظلّ فهمٍ خاطئ، وتفسيرات غريبة للنصّ الديني، مع هيمنة مؤسَّسات دينية كانت، بشكلٍ أو بآخر، مسايرةً وداعمة للمؤسسة السياسية الحاكمة)، استثمرت بقوّةٍ من قبل نخب الحكم العربي لتمكين التطرُّف وتفريخ المتطرِّفين، وتكاثرهم طيلة سنوات طويلة من الحكم العربي، وتفشّي هذه الظاهرة المقيتة على هذا النحو الواسع الذي نشاهده اليوم.
إذن كانت عملية تغذية منابع التطرُّف الديني في مجتمعاتنا العربية سياسة متعمَّدة، واستراتيجية عمل رسمية مسلكية حيوية للغاية، قامت بها النظم السلطوية العربية([14])، التي حاولت من خلالها تبرير وجودها، واستمرارية بقائها على رأس الحكم، وقدَّمت نفسها كوكيلةٍ للغرب أو عن الغرب في محاربة هذه الظاهرة. وقد تمَّتْ وجرَتْ عملية التغذية عبر التركيز على القمع الأمني المفرط، أو حتى من خلال ما يمكن وصفه بـ «تصنيع» جماعات التطرُّف وتنظيمات العنف مخابراتياً في أقبيتها وسجونها ومعتقلاتها، وذلك لتجد تلك النظم حينها مبرِّراً لمواصلة سياساتها القمعية ضدّ جميع الأطراف المعارضة لها (سلمية وغير سلمية)، ضاربةً هذا بذاك، بدعاوى محاربة الإرهاب، ومكافحة التطرُّف، وتفكيك الخلايا وتجفيف منابع التكفيريين. فهذا شكلٌ من أشكال التطرُّف والإرهاب، الذي أدَّى إلى كوارث كبرى في تاريخنا السياسي العربي الإسلامي الحديث.
مضافاً إليه شكلٌ آخر (ذكرناه سابقاً)، وهو تطرُّف وإرهاب الدولة المنظَّم، الذي مارسته دولة «إسرائيل»، وقوى كبرى ومحاور عالمية، كالغرب الحديث، الذي نشأت فيه بالأساس الأصولية، وبدأت حين آمنت فرقةٌ من البروتستانت بالعصمة لأفرادها، الذين يدَّعون تلقيهم عن الله مباشرة، ويُعادون العقل، والفكر العلمي، ويميلون إلى استخدام القوّة والعنف في سبيل هذا المعتقد، وبثّ الرعب.
كذلك ظهرت الأصولية اليهودية (الأرثوذكسية)، ردّاً على اليهودية الإصلاحية؛ لدرء الخطر الذي يمكن، بزعمهم، أن يهدِّد اليهود بالذوبان إذا ما استجابوا للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، فدافعت عن تراث «الغيتو» اليهودي، وعن فكرة الانغلاق، وعن الاختيار الإلهي، ورفضَتْ جميع الإغراءات التي أفرزتها دعوة التحرير والمساواة التي تهدِّد خصوصية اليهود. ورغم ذلك لا تقتصر الأصولية على الأديان والمذاهب الدينية، وإنّما تتعدّاها إلى المذاهب الفكرية والأيديولوجيات والنظريات السياسية.
والأنظمة القمعية التي عادةً ما ترضخ في سياستها لسياسات دول خارجية تولِّد عداء وصراعاً لدى طبقاتٍ واسعة يمكن أن تستغلّ في تأجيج النزاعات الداخلية.
وفي السياق ذاته يأتي النظام الاقتصادي الدولي الجائر، الذي يقود إلى خلق حالةٍ من الغضب والعداء المستمرّ بين مختلف شعوب العالم، في ظلّ الاستغلال الأجنبي للموارد الطبيعية الوطنية، والذي يمكن أن ينتج بفعل ظاهرة التَّبَعية، فضلاً عن السياسات المتَّبَعة من قبل (صناديق وبنوك التَّبَعية والقَهْر) «صندوق النقد والبنك الدوليين»([15])، عبر برامجهما المتمثِّلة بالإصلاح الاقتصادي القاسي (وربما المتعسِّف)، المشروط باتِّباع سياسات معينة من قبل البلدان المطبقة لتلك البرامج([16]).
وبرغم اندلاع ثورات الربيع العربي منذ نهاية العام 2010م، حيث كان متوقَّعاً منها (نتيجة الزخم الشعبي الشبابي الهائل الذي خلقته) أن تدفع الدولة العربية لتغيير أساليب تعاطيها مع ملفّ الحركات الدينية (المتطرِّفة) بالذات، فإننا لم نَرَ من نخب هذه الدولة، ومن مختلف مؤسَّساتها، إلاّ الإصرار على الحلول الأمنية والعسكرية، من حصار ومحاصرة المتطرِّفين، وقتلهم أو القبض عليهم، ومحاكمتهم، والزَّجِّ بهم في السجون والمعتقلات، وترحيلهم إلى المنافي الصحراوية، إلخ. ولكن هل تمَّت محاورة المتطرِّفين والإرهابيين ومقارعتهم بالحجّة والبرهان؟! هل حاولت الدولة إخضاعهم لدورات تكوينية دينية تصحيحية لفتراتٍ متواترة؟! وهل أرسلت الدولة إليهم مختصِّين في علوم الشريعة، ومختصِّين في علم الاجتماع، وأخصّائيين نفسانيين، يحاورونهم في المساجد، وفي المقاهي، وفي كلِّ مكان تواجدوا فيه؟
طبعاً، كلُّ شيءٍ من ذلك لم يحدث. بل بالعكس، فهناك كثيرٌ من السياسيين والمسؤولين والمحلِّلين السياسيين والإعلاميين لا يهمّهم إلاّ قهر وإذلال ومحاصرة هؤلاء الشباب، والتحريض عليهم، والزَّجّ بهم في السجون والمعتقلات. فلماذا يصرّ هؤلاء على اعتبار الشباب المتطرِّف شباباً من فصيلة المجرمين بالولادة وبالوراثة، في حين أنّهم من ضحايا الاستبداد، وُلدوا في ظلِّه، وتربُّوا في جوّ الاستبداد وفي حضن المستبدّين؟!
إن هؤلاء الشباب أشبه بيتيم الوالدين، الذي فقد رعاية الأب وحنان الأمّ وإحاطة ومساندة المجتمع، فماذا سيكون مصيره؟! وعلى أيّ هيئةٍ سيتشكَّل؟! وماذا عسانا ننتظر منه؟!
إن الفرد الذي يتربَّى في ظلّ منظومة تجفيف الينابيع يصبح بالضرورة في الأغلب الأعمّ متطرِّفاً، ومشروع تطرُّف وعنف وإرهاب. ومَنْ استطاع النجاة من آفة التطرُّف فبفضل رحمة الله. والبعض من المسؤولين والإعلاميين والسياسيين يتَّهمون الشباب المتطرِّف بالجهل، وبالبعد عن فهم الدِّين الصحيح، وبالكفر بمبادئ الديمقراطية التي لا تتعارض مع الإسلام الصحيح، في حين أنّ هؤلاء المتحدِّثين لم يؤمنوا بالإسلام وبالديمقراطية إلاّ بعد أن أحسّوا بالغَرَق، على غرار فرعون. هؤلاء القوم يريدون ويطلبون من الشباب المتطرِّف لفظ التطرُّف، وينعتونه بكلِّ نعوت التطرُّف والغلوّ والتحجُّر إنْ هو أبى ذلك، وفي المقابل هم لا يريدون أن يتخلَّصوا من التطرُّف الذي يدفعهم إلى بثّ ثقافة الفساد والإفساد، ولا يسعَوْن بالقدر المطلوب للمصالحة مع الدِّين الإسلامي، والمصالحة مع مقاصد وثوابت الأمّة([17]).
من هنا يمكن القول بأن «فوبيا» التطرُّف الإسلامي، أو «رُهاب» الإسلام، ليس نتاجاً لتراثنا نحن، مع ما في هذا المخزون التراثي من نزاعاتٍ وانحرافات وتحريفات وانقسامات وصراعات([18])، أي إن مشكلة التطرُّف الديني لا تكمن في بنية النصّ المقدَّس، ولكنْ في كيفية التعامل مع النصّ تعاملاً شمولياً وكلِّياً، ومن ثم تنزيله تنزيلاً واقعياً([19]). فالدينُ منظومةُ قيمٍ وعبادات وأخلاق ومعاملات، والدين الإسلامي يتعامل مع الإنسان، أيّ إنسان، من منطلق التكريم والتفضيل، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70). ومناط هذا التكريم صفة الإنسانية، و«خلافة» الأرض، أو ما يُسمَّى بالخلافة العامّة للإنسان، الثابتة بمنصوص آيات القرآن الكريم، ومنها: قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ﴾ (فاطر: 39)؛ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72). ومن لوازم قبول حمل أعباء الأمانة تحمُّل المسؤولية؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 34). والمسؤولية تقتضي التدبُّر والوعي والمراجعة والعقلانية والانفتاح والتعايش، وهي كلّها صفات لا علاقة للتطرُّف والمتطرِّفين بها، بل يعاكسونها ويحاربون مَنْ التزم بها، على مستوى الأخلاق والقِيَم والسلوكيات العملية.
والتعايش الذي شهدَتْه المدينة في صدر الإسلام يشهد لما قلتُ؛ فقد كان المسلمون (من المهاجرين والأنصار) والمشركون واليهود يتعايشون في وئامٍ تامّ. وقد أرسَتْ «وثيقة المدينة» أسساً مكينة لهذا التعايش، الذي استمرَّ حتّى أخلَّ المشركون واليهود بمقتضى الوثيقة. وواقع التحيُّز سمة بشرية لصيقة بالإنسان، و«الناس أعداء ما يجهلون»، ولذلك جعل الله الناس «شعوباً وقبائل ليتعارفوا»، لا ليتفاخروا، ولا ليبغي بعضهم على بعض، وفي حال استشراء واقع التحيُّز لن يجد الشخص غضاضةً في استخدام ما يؤيِّد به توجُّهه. وهذا الفهم المرتكز على اجتزاء النصّ، وفهمه خارج مقصده وسياقه وأسباب نزوله، ظلَّ مشكلاً عميقاً في الفكر والممارسة، ممّا أنتج حروباً وصراعات خطيرة عديدة، لم يكن النصّ سبباً لها، بل تأويله لصالح طرفٍ من هنا وهناك.
ورغم كلّ ما تقدَّم فقد تقبَّل المسلمون (على المستوى الاجتماعي والعملي) بعضهم بعضاً، وعاشوا مع بعضهم الآخر المختلف. وتعايشنا معه، وهيّأنا له أسباب وجوده ومعايشه في عمق تربتنا الفكرية والقيمية ووجودنا الواقعي، وسبل الحياة الحرّة له، وحافَظَ ديننا على ثقافة الآخر، بل ووفَّر له متطلّبات نموّه كذلك. رهاب الإسلام هو حصراً قبل ذلك نتاجٌ طبيعي وابنٌ شرعي لعقلية الأصولية الغربية ذاتها التي دمَّرت وسحقت وهيمنت واستباحت ثقافات وحضارات الآخر كلَّها (عربية وغير عربية)، وقدَّمت نفسها كثقافةٍ مركزية نهائية (نهاية التاريخ). هو نتاجٌ لأصوليةٍ نصية، تجذَّرت في المجتمعات الغربية، وتمثِّل الحاضنة الثقافية والسياسية لانتشاره. فمنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي غدا موضوع الإسلام ومكانته في العالم المعاصر مطروحاً في الأوساط الأوروبية النافذة.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربي والإسلامي. من سوريا.
([1]) أمارتيا صن، «الهوية والعنف»، سلسلة عالم المعرفة، العدد 352: 18، تموز/يوليو، 2008م، ترجمة: سحر توفيق، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
([3]) راجع: الجوهري، معجم الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الحديث، مصر ـ القاهرة، طبعة عام 2009م.
([4]) انظر: ابن منظور، لسان العرب (مادة طرف)، طبعة القاهرة، دار المعارف، بدون تاريخ.
([5]) ريتشارد مكلفين، مدخل إلى علم النفس الاجتماعي: 256، ترجمة: ياسمين حداد؛ موفق الحمداني؛ فارس الحلمي، دار وائل للطباعة والنشر، عمّان، 2002.
([6]) حوار مع العلاّمة الراحل هاني فحص، موقع آفاق للبحوث والدراسات. أجرى الحوار: حسين زين الدين. رابط الحوار: http://aafaqcenter.com/index.php/post/2125
([7]) يشير الباحث محمد برهومة إلى أن «ديموغرافيا النشاط الجهادي» في الأردن (على سبيل المثال، لا الحصر) تتركَّز في بعض المخيمات الفلسطينية الأشدّ تهميشاً وفقراً وعشوائية، مثل: مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين على أطراف العاصمة الأردنية عمّان، أو في مدينتي المفرق ومعان جنوبي الأردن، حيث معدّلات التنمية في أخفض مستوياتها، أو في مدينة الزرقاء، التي تعدّ المدينة الأكثر عشوائية، والأكثر اكتظاظاً بالسكّان بعد العاصمة الأردنية. وكذلك هو حال مدينة الرصيفة المحاذية للزرقاء، وهما معاً يشكِّلان «الخزّان البشري» الأكبر لتفريخ السَّلَفيين الجهاديين في الأردن، ومعقلهم الرئيس منذ نحو عقدين من الزمن. وهذا لا يقلِّل من مكانة مدينة معان كخاصرةٍ رخوة جاذبة لمثل هذه الظاهرات. ويكفي الإشارة إلى أن 17 مواطناً أردنياً من مدينة معان وحدها (حتّى كتابة هذه السطور) قتلوا في الحرب الدائرة في سوريا، كما أن المسيرة الأولى والوحيدة المؤيِّدة لـتنظيم «داعش» الإرهابي المتطرِّف خرجت من مدينة معان أيضاً، رافعةً شعار «معان فلوجة الأردن». راجع: محمد برهومة، «عوامل صعود السلفية الجهادية في بلاد الشام»، مجلة السياسة الدولية، عنوان الرابط:
http://www.siyassa.org. eg/NewsContent/3/110/3789
([8]) السيد محمد حسين فضل الله، الحركة الإسلامية: همومٌ وقضايا: 174، دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان ـ بيروت، ط1، 1411هـ ـ 1990م.
([9]) رواه مسلم من طرف السيدة عائشة رضي الله عنها. (رقم الحديث: 2593). راجع: الإمام النووي، مختصر صحيح مسلم، دار النوادر، سوريا ـ دمشق، ط2، 1432هـ ـ 2011م.
([10]) فضل الله، الحركة الإسلامية: همومٌ وقضايا: 196.
([11]) للأسف لم تعتمد نخب الحكم العربي، ولا حتّى معاهد وحوزات ومؤسَّسات الدين الرسمية المعنية، الحوارَ الجدِّي مع هؤلاء الإسلاميين (ولا مع غيرهم)، بل كان الحوار الحقيقي مغيَّباً دوماً، وإن وجد وعقد كان فقط بتوجيه السلطات الطغيانية الرسمية العربية، لزوم الاستهلاك الإعلامي الزائف ليس إلاّ، مع أننا بحاجةٍ إليه بقوة في اجتماعنا الديني الإسلامي المشوَّه والهشّ والمهزوز؛ لتحويل طبيعة هذا الحوار من مجرَّد لقاءٍ فنّي مؤطَّر بحسابات ومواقيت زمنية خاصة إلى حالةٍ عامة وحقل معرفي علمي منظَّم، بالإضافة إلى جعله حلقة معرفة وخبرة حياتية لدى أهلنا ومجتمعاتنا وتياراتنا وجماعاتنا المختلفة والمتنوعة والمتعدِّدة، أي إنّ هناك حاجة ماسّة إلى ما يمكن أن يُسمَّى أكاديمية الحوار ـ بحَسَب مقترح السيد هاني فحص ـ يلتقي فيه أهل العلم الديني والعلوم المدنية، ليؤسِّسوا معاً لرؤية مشتركة لمشروعنا النهضوي الحضاري والإنساني، الذي يؤهِّلنا للشراكة في المستقبل الكوني الذي يسحقنا بالتقدُّم المذهل البعيدين عنه، وبالعولمة الكوكبية الشاملة، إنْ لم نحقِّق شروطنا المعرفية والتنموية، التي لا يمكن إنتاجها إلاّ بالمشاركة بيننا، أي نحن بحاجةٍ إلى قراءة علمية دقيقة للمباني الفقهية التي تدخل في عملية الاستنباط الفقهي، على أساس أن الفقه هو الناظم الأساس والتفصيلي لحياتنا اليومية ولغتنا اليومية ومجمل علائقنا الاجتماعية، لعلنا نكتشف أن الخلافات على كثيرٍ من المباني بين مذاهب المسلمين هي خلافات سطحية، لا معنى لها، ولكنَّها أضحَتْ تناقضات عميقة شبه بنيوية؛ نتيجة الاستنكاف عن الحوار حولها، بحيث بات التطرُّف يبني عليها قواعده الفكرية المنحرفة والسلوكية العنيفة، مع أنها خلافاتٌ ربما أقرب إلى الخلافات اللفظية، وأن الخلاف على غيرها هو علميّ لا بُدَّ من فهمه ووعيه من الداخل واستيعابه؛ من أجل تجاوزه بالاحتكام إلى المقاصد العامة والكلِّية للشريعة، وإلى انفتاح الأفق العلمي على البحث والمراجعة الدائمة والحذف والإضافة، على أساس منهجي يجمع بين محمولاتنا وأسئلة العصر. (إشارة العلامة هاني فحص إلى «أكاديمية الحوار» وردَتْ خلال حوارٍ معه في موقع آفاق للبحوث والدراسات، أجراه: حسين زين الدين).
([12]) طبعاً كلُّنا يعلم بأنه قد اشتعلت أوطاننا بنيران التغيير، واندفع الناس لمحاولة فرضه على نظمها ودولها العسكرية التي فشلت بتحقيق أيّ شيءٍ ملموس وجدِّي على صعيد الدولة والمجتمع. فلا حرِّية ولا كرامة ولا عدالة ولا مواطنة، ولا دولة ديمقراطية تعدُّدية. وهذا ما أدَّى إلى بروز وظهور الإسلام السياسي في الانتخابات. ولذا فإن المطلوب اليوم منّا كمثقَّفين نصرة شعارات الشباب من أجل المستقبل الحرّ والمتقدِّم، والنضال الثقافي والديني لحماية الدين من الصراع على السلطة، وحماية الدولة من الضياع في الانقسامات الحزبيات الدينية والإثنية، كما يقول رضوان السيد (راجع كتاب إشكالية الدولة في الفكر العربي المعاصر، للباحث عبد السلام طويل، والصادر عن دار مدارك، لبنان ـ بيروت، 2015م).
([13]) د. علي محمد فخرو، «الحداثة العقلية شرط كلّ الحداثات»، صحيفة القدس العربي، تاريخ: 7/4/2015م، صفحة مقالات، الرابط:
([14]) طبعاً كلّ ما تقدَّم لا يعني أن فكرنا الديني التاريخي والمعاصر لا يحمل «بذور» التطرُّف والتطرُّف و«أجنّة» الإرهاب، أو أنه فكر «ملائكي» غاية في التسامح والروعة والجاذبية والكمال والسعادة، بل يوجد فيه ما لا يحتمل من أفكار العنف والتطرُّف. وهذا ما نلاحظه اليوم (كاستكمال لفظائع الأمس القريب) في ما تمارسه وتقوم به كثيرٌ من الجماعات والعصابات الإرهابية الدينية الإسلامية، التي كوَّنت لنفسها «إسلاماً قاعدياً» خاصّاً، يقوم على مبادئ الرفض والإلغاء والكفر بمبادئ الإسلام الأصيلة، القائمة على الحرِّية في الدين والتسامح في المعاملة والشورى (الديمقراطية) والعدل والسلام والإحسان، إلخ، واستبدالها بقتل الأبرياء عشوائياً باسم ركن «الجهاد»، ونهب أموال الناس واستعبادهم واستبعادهم لملاذاتهم التاريخية «الآمنة».
([15]) تحمّل «ديبا كومار» (Deepa Kumar)، وهي بروفسور دراسات الشرق الأوسط في جامعة روتجرز، هندية الأصل، في كتابها (إسلاموفوبيا وسياسات الإمبراطورية)، الغَرْبَ المسؤولية المباشرة عن اشتعال التطرُّف الديني: حربا العراق، التدخُّل في ليبيا، وفي غيرهما من البلدان. يجب البحث عنها كذلك في نظمنا التسلُّطية وإرهابها، في الفوارق الاجتماعية الفاحشة، وفي كثافة العَسْف والاضطهاد، وقبل ذلك كلّه في انسداد الآفاق. التكفيرية الإسلامية تستفزّها «إسلاموفوبيا» الأصوليات القومية والدينية الأوروبية، التي تُستَفزّ بدورها من التكفيرية الإسلامية، وهكذا. ولا يخفى أن الأصوليات الأوروبية إذا اشتعل أُوارها أشدّ خطراً ووبالاً وأكثر تدميراً بما لا يُقاس من إرهاب التكفيريين الاستعراضي. ومَنْ يستطيع أن يتخيَّل مصير العالم إذا انهارت القِيَم، واصطدمت «الجماعات»، وتداعَت المعايير التي تُعاديها الأصوليات من كلّ صوب؟!
([16]) راجع: د. أسعد عبد الرحمن، «وقفة أمام صعود الأصولية الجديدة والإرهاب بأسبابه وتداعياته»، صحيفة المستقبل، العدد 5341: 19، بتاريخ: السبت 4/4/2015م، صفحة رأي وفكر.
([17]) منجي المازني، «فهم دقيق لمفهوم التطرُّف والإرهاب»، صحيفة القدس العربي، العدد 318504، بتاريخ: 30/3/2015م، الرابط:
([18]) كلّ الأديان اختزنت قيم التطرُّف والتشدُّد في داخلها ضدّ نفسها، وضدّ بعضها الآخر. ولكن النصّ الديني (حتّى لو كان وارداً في سياق زمني سابق) لم يكن هو مَنْ دفع باتجاه تصنيع الشخصية المتطرِّفة عملياً، بل هي غرائز ومطامع الناس الخبيثة وأغراضهم السيِّئة. إن التطرُّف والتعصُّب وسلوك طريق العنف والإرهاب الدموي العضوي حالة استثنائية طارئة، لا أصالة بنيوية لها في بيئتنا الحضارية الإسلامية «التنوُّعية» بامتيازٍ، مهما حصل فيها من ضغوطاتٍ وتحدِّيات وتعقيدات. هي حالةٌ تتصل بظروفٍ خاصّة ومناخات طارئة، والدليل أنها لم تنجح في تشكيل أيّ حالةٍ (معيارية) طبيعية واقعية دائمة في بلداننا التي ضربتها رياح الأصولية والتعصُّب والتكفير، بل كانت مثل حالة عابرة للحدود وللقارات، ولم تكن نواةً لتشكيل دولة أو مؤسَّسات، ليس بسبب افتقادها الذاتي لهذا الأمر، وعجزها عنه، بل بسبب الرفض الشديد لها من قبل الناس أبناء الأرض الحقيقيين. وهذا التطرُّف السائد لا بُدَّ سيزول بزوال أسبابه، وارتفاع مسبَّباته ودوافعه، التي تجعل المرء يسير نحو حافة اليأس والاحباط وبالتالي العَدَمية.
([19]) راجع: مجلة ذوات الثقافية الإلكترونية، الصادرة عن مؤسَّسة مؤمنون بلا حدود، العدد السادس (http://goo.gl/nNuKoi)، من لقاء مع الباحث الموريتاني المتخصِّص في مجال الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية، الدكتور الكوري السالم ولد المختار الحاج، ضمن ملف العدد السادس للمجلة، وكان تحت عنوان: «التطرُّف الديني ومطلب التنوير»، وقد حاوره: المهدي حميش.