مقاربةٌ تفسيريّة في الفكر والمنهج والمآل
ـ القسم الثاني ـ
أ. نبيل علي صالح(*)
المبحث الثالث: التطرُّف الديني، عوامل اجتماعية وأسباب ودوافع سياسية
إن منشأ التطرف إذن يعود ـ بالدرجة الأولى ـ إلى ظروف وعوامل خارجية، أكثر مما يعود إلى أسباب داخلية ذاتية. ويمكن هنا إعادة ضبط أسباب ومولدات التطرف في مجتمعاتنا، حيث بقي مناخ التطرُّف والعنف السياسي وغير السياسي، بنوعَيْه: العضوي؛ والرمزي، حاضراً بقوّة، له بيئة مجتمعية وفكرية حاضنة، وتربة ملائمة لنموه وتصاعده. ولهذا جذوره ومولداته وعوامل لنشوئه وامتداده، وهي بالإجمال العام:
1ـ الاستظلال بالفقه التقليدي (التحريمي والتحليلي)، والقراءة (القشرية) للنصوص الدينية، وهيمنته على عقول رجالات الدين الإسلامي، ممّا أدى إلى تضخم المتون والشروحات الفقهية والتأويلات الكلامية، وإنتاج كمٍّ هائل من التشريعات الدينية، ومحاولة استلهام سنّة السلف واقتفاء أثرهم بصورةٍ حرفية وقشرية، تنظر إلى الظواهر والسطح، ولا تتعمق في المعنى والمدلول. هذا النوع من التسطيح الديني للنصوص والمفاهيم الدينية جاء على خلفية ترك القراءة المعمقة والرصينة، التي دعا إليها القرآن الكريم نفسه في ألفاظ عديدة، وردت ضمن آيات قرآنية كثيرة (يتدبّر، يذّكر، يعقل، ينظر). ولا نزال حتّى اليوم نعاني من هذا الفكر التقليدي، والقراءة السطحية ذاتها، التي اختلفت في الشكل، وبقيت محافظة على المضامين نفسها. وما نتابعه يومياً من خروج بعض المسلمين على القانون العام أو انتهاك الحرمات المدنية بقلبٍ بارد في الكثير من الدول يشير إلى حجم الأزمة التي تعيشها بعض الجماعات الدينية، وهو الأمر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطرُّف الفكري، الذي نعتقد أنه يعيد إنتاج نفسه بصورةٍ مختلفة، حَسْب الزمان والمكان الذي يكون فيه.
وقد تجلَّتْ هذه القراءة السطحية والمجزوءة للنصّ الديني (التي التزمها حرفياً فقهاء الوعظ المسجدي والفقه التقليدي العتيق) من خلال فصل أو نزع النصّ المقروء من سياقاته ودلالاته الزمانية والمكانية والتاريخية، والجهل بطبيعة مضامينه الحقيقية، ممّا أدّى إلى كارثتين:
الأولى: تثبيت فهم مغلوط لبعض المفاهيم الإسلامية، كمفهوم الجهاد، ومفهوم التكفير، في الذهنية العامّة للأمّة، ممّا كان له الأثر الأكبر في تبنّي خيار التطرف والعنف، وسلوك طريق الإرهاب كممرٍّ إجباري للوصول إلى الأهداف والغايات.
الثانية: استنتاج ما يتلاءم ومفهومهم للحياة والدين والإنسان والآخر. فالديمقراطية عندهم، مثلاً، فكرةٌ واردة من بلاد الكفر، لا يجوز الأخذ بها في بلاد المسلمين. والانتخابات مشروع غربي لا يحقّ للمسلم تبنِّيه. والليبرالي كافر مرتدّ، يلزم قتله؛ حتى لا يستشري خطره بين الجماعة ـ الأمة. وغير المسلم مباحٌ ماله ودمه وعرضه للمسلمين. والمرأة عورةٌ كلها، لا يحقّ لها أن تمارس أيّ نشاط اجتماعي، أو تتدخل في الشأن العام. والأحزاب فكرةٌ غربية يجب قتل مَنْ ينتمي إليها. وهكذا.
2ـ هيمنة تراث ثقافي وعقائدي تديُّني (غير ديني) انقسامي إقصائي غير تسامحي، يمجّد القوة، ويبرّر العنف، ويعتبره نوعاً من العبادة والتقرُّب من الخالق، وأيضاً يجعله طريقاً وحيداً لحلّ القضايا والخلافات والخصومات بين المتصارعين والمختلفين وأصحاب الخصومات والعداوات السياسية وغير السياسية. ولا نعدم في تاريخنا كثرة الأمثلة عن تلك الجماعات التي تتبنّى نظرية وأيديولوجية العنف (من منهج عنف الصحابة الأوائل بين بعضهم البعض، إلى الحروب والفتوحات الدينية، إلى سلفية فتاوى ابن تيمية، وطروحات وفتاوى السيد الخميني، إلى غيرهم من مشايخ ورجالات الدين الإسلامي وغير الإسلامي، وغيرهم من أتباع منهاج وعقائد الأصوليات الاصطفائية الدينية وغير الدينية. ومجمل أصحاب هذه الاتجاهات الفكرية يؤمنون بعقلية «عقيدتي حقٌّ ويقين، وعقيدة غيري بطلانٌ وتشكيك». وهم بذلك يدَّعون حالة من التطهُّرية الفكرية والسياسية وامتلاك الحقيقة المقدّسة، وأنهم يمثّلون «الخير المطلق» في مواجهة الآخرين الذي هم «الشرّ المطلق». هذه العقلية الإلغائية هي أساس وقاعدة العنف العضوي في مجتمعاتنا عموماً.
3ـ وجود نظم أمنية متطرّفة عنيفة مغلقة، لم تَرْقَ إلى مفهوم الدولة([1])، تبنَّتْ (وما يزال يتبنّى ما تبقى منها) العنف منهجاً وطريقاً وحيداً للعمل السياسي وغير السياسي، باعتبارها فاقدةً لشرعية التمثيل السياسي إلاّ بالقوة. وهي تتستّر بالشعارات الكبيرة والضخمة، التي هي فوق إمكانياتها وقدراتها؛ كي تبرِّر هذا الوجود اللاشرعي، وامتلاكها لوسائل العنف والقوة العارية غير المقيدة، أي إن تلك النخب الأمنية الحاكمة عوضت عن هشاشتها، ولا شرعيتها، بممارسة مزيد من العنف، واستخدام كثيف وعارٍ لأفظع تلك الأدوات العنفية؛ لتطويع وكسر إرادة شعوبها ومعارضيها ومجتمعاتها عموماً، وخاصّةً عندما يرفع أفرادها ـ أو بعض معارضيها ـ الصوت عالياً مطالبين بالحرّية والكرامة والعدالة والمساواة والعيش الحرّ الآمن.
ويمكن هنا وضع كلّ أو معظم ما كان يسمّى بــ «حركات التحرر العربي» القومية واليسارية عموماً كأمثلة بارزة وصارخة على تيارات التطرف والعنف، وأيديولوجيا الانقلاب والاصطفاء العقائدي والعنصري، التي كانت بمعظمها ـ بحَسَب ما عبرت في منطلقاتها النظرية ومبادئها التأسيسية ـ حركات تغييرية انقلابية، أي ثورية عنيفة، تمتلكُ مخزوناً «تراثياً» عنفياً كبيراً، تتبنّى فيه العنف والانقلاب الثوري كأسلوب عملٍ وحيد للعمل السياسي والاجتماعي، وربما الاقتصادي. وهذا التراث السياسي العنفي لاحظناه لدى كلّ تلك النظم القومية والاشتراكية والإسلامية، التي اختلفت في كلّ شيء، واتّفقت ـ بالرغم من تناقضاتها الذاتية والموضوعية ـ على تبنّي فكر التطرّف، ومنهج العنف والقوة والبطش؛ للوصول إلى السلطة، والبقاء في الحكم بالقوّة، بعد فرض أيديولوجياتها وأفكارها العبثية المدمّرة على الآخرين، مستنيرين في ذلك بتجارب العسكرة الشيوعية «الستالينية»، و«الناصرية» المخابراتية، وغيرها من مواريث دول القمع والاستبداد العربي والعالمي الحديثة أو التاريخية.
4ـ تصاعد وتزايد معدلات الفقر والبطالة بين صفوف الشباب على وجه الخصوص، ممّا تسبّب بانهيار تدريجي للطبقة الوسطى حاملة مشروع التغيير والنهوض والتقدُّم والعدالة الاجتماعية في أيّ مجتمع. فعدم حصول الناس، وخاصّة هؤلاء الشباب العاطل عن العمل، والذي يريد تأمين فرص عيش صحية ملائمة له، ويرغب في تأسيس شبكة أمان مجتمعية قوامها العمل الصالح المنتج والنافع، القائم على الحرّية والكرامة والاستقرار، ليؤسّس بيتاً وعائلةً ودخلاً مناسباً، هو أكبر عامل مساعد، وربما أكبر دافع، لخلق بيئة ومناخ العنف في بلداننا الشرقية؛ حيث إن الشاب العاطل أو المعطل عن استثمار طاقته وشهادته ومهارته التي تعلّمها في الجامعات أو المعاهد سيجد نفسه تنزلق بالضرورة في تيارات سياسية أو ثقافية قد تستثمر حاجته لتوظيف قدراته بما يلائم قناعاتها ومصالحها هي، مقابل أن تضمن له كلّ ما يرنو إليه من مطالب حيوية أساسية كان يفترض بدولته ومؤسّسات مجتمعه أن توفّرها له بصورة طبيعية، على الصورة الأمثل والأفضل، بدلاً من أن يجد نفسه في أتون محرقة أيديولوجيا العنف والقوة. وكثير من شبابنا العربي والمسلم ضاعوا في هذا الطريق. إذن عدم تأمين مطالب الناس السياسية وغير السياسية هو أوّل خطوة على طريق العنف والقوّة، وخاصّة مع فشل الحكومات العربية في إنتاج حداثة عقلية حقيقية، وتشييد مدن عصرية مضموناً، تقوم فيها العلاقات الاجتماعية على الحالة المؤسساتية والتعاقدية وتشجيع الهيئات المدنية، وعدم تهميش المجتمع، بجانب حداثة القوميين واليساريين الناقصة نقصاً فادحاً، والمرتكزة على استبداد سلطوي عميق. كل هذا كان يتلاقى مع تديُّن سياسي واستعراضي، يقدِّمه «الإخوان المسلمون» مثلاً، يقوم على «الشعبوية»، ولا يقيم وزناً كبيراً لحقائق العصر، وأسس العلاقات الدولية. وكله أيضاً اجتمع، بوعيٍ أو بدونه، على إضعاف إنتاج مدن حقيقية تقوم على سيادة القانون، وما يجمع بين أبنائها من روابط مؤسّسية، وكأنّ مدننا تغدو يوماً بعد يومٍ أقلّ مدينية. وهذه البيئة قد تكون تربةً قابلة لاستقبال الأفكار المتشدّدة والأصوليات على شتى ألوانها. والأصوليات تتماهى في بعض الحالات مع فئات اجتماعية تتعرض للانحسار، وتعاني التهميش، كما تتماهى في حالاتٍ أخرى مع جماهير مدنية حديثة التشكل، أو ـ كما هو في وضع أفغانستان بعد 1978م ـ مع جموع ريفية يهدِّدها توسُّع رقعة السلطة المركزية. وحتى نقترب أكثر من مجتمعاتنا فالأحداث الدائرة في بعض مجتمعاتنا العربية المشرقية انتقلت أساساً من الأطراف والأرياف والمناطق الفقيرة إلى مراكز المدن الكبرى. وكان واضحاً أن عدم اكتراث تلك النظم، على مدى عقود، بتلك الأطراف، وسوء الإدارة التنموية في هذا الصدد، قد ولّد هذا الغضب الشعبي العنيف، تحت وطأة غياب الحرّيات، والقمع الأمني، وانسداد أفق الإصلاح السياسي، وتحوُّل «النظم المركزية الاشتراكية» اسماً لنظم رأسمالية شرهة وفاسدة في تحالفها الابتزازي مع البورجوازية، والطبقة الوسطى، والعائلات التجارية والثرية.
5ـ العلاقة الفوقية النخبويّة الجائرة بين النخب الحاكمة والجماهير المحكومة. وعدم وجود جسور وصل، وقنوات تفاهم، أو توسّطات مدنية حقيقية مهيكلة بينهما، من تنظيمات ومؤسسات مدنية وأحزاب ومنظمات أهلية، يمكن أن تكون محطة تواصل وتفاعل بين أهل الحكم وعموم الجمهور. الأمر الذي باعد ويباعد المسافة، ويزيد الشرخ، بين مؤسّسات الدولة النخبوية وباقي أفراد المجتمع، الذين هم مَنْ تقع (وتترتّب) عليهم نتائج أعمال وممارسات حكوماتهم، باعتبارهم موضوع الفعل السياسي وغير السياسي (ومعظم دولنا العربية تمثل نماذج واقعية لما تقدم من شرح للعلاقة المختلة بين الحكم والشعب)، وخاصّة بعد أن عمدت تلك النخب التي شكّلت نظماً أمنية وعسكرية مصمتة ومغلقة بالكامل إلى بناء جدران عالية فاصلة بينها وبين مجتمعاتها، جعلتها لا ترى حقائق الأرض وتعقيدات ومشاكل الحياة لشعوبها وجماهيرها، أو أنها تراها فقط من منظورها الأمني فقط، ومن زاوية مَنْ معي؟ ومَنْ ضدّي؟ بحيث هناك حالة قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع، الأمر الذي حول الدولة العربية إلى دولةٍ خاصة بالنخبة السياسية الحاكمة. ولم تتمكّن الدولة من التحول إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء أصحاب الكرامة والعزّة، أي إنها دولة منفصلة كلّياً عن المجتمع المهمَّش والمدمَّر، والأمة المقصية والمستبعدة كلّياً عن ساحة الفعل والإبداع الحضاري، أي عن تقرير مصيرها بيدها.
6ـ عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية متوازنة بالنسبة إلى الشعب المدني المهمَّش والموجود خارج دائرة السلطة أو الحكم، باعتبارها دولة قهرية غير قانونية في كلّ مواقعها حيال أكثرية مواطنيها. وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخبة الحاكمة ـ في استمراريّتها على رأس الحكم، وتحكُّمها بمفاصل القرار ـ إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير النظم القائمة المتشكِّلة على هذا النحو الفوقي، وخاصة مع تلاشي أيّ أمل في وجود ولو نافذةٍ بسيطة لإصلاحها، أو العمل على إيجاد حلول ناجعة (لأزماتها) من داخلها. كلّ ذلك كان نتيجة تفاقم حالة الاستبعاد والتهميش المنظّم لمختلف قطاعات الشعب، وانعدام الوزن للعديد من الفئات والشرائح الاجتماعية الشعبية وغير الشعبية.
7ـ فشل التكوين الوطني الديمقراطي للدولة العربية الحديثة في شكلها ولبوسها السياسي ـ الاجتماعي والاقتصادي حتّى الآن. حيث إن نموذج الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية يحتمل الاختلاف والتعدُّد في الرؤى والأفكار، وكذلك يحتمل النزاع والتخاصم والسجال السياسي، ويكفل حلّ تلك المنازعات والخصومات بالطريقة السلمية الحضارية، البعيدة عن العنف والقوة، رمزياً ومعنوياً كان هذا العنف أم مادياً عضوياً، كما يكفل ـ من خلال القانون والدستور ـ إيجاد مخارج طبيعية سلمية لمواقع وأماكن الاحتقانات والتناقضات المجتمعية ذات الأبعاد الطائفية والإثنية والأقوامية تحت مظلّة وفضاء الحكم الصالح الديمقراطي التعدُّدي، بما يمنع اشتعال بذور العنف الموجودة أساساً، ويضمن عدم الانجرار وراء الاقتتالات الطائفية والنزاعات الأهلية، التي ما تزال ناراً تحت رماد أزمات مجتمعاتنا العربية حتّى الآن.
في هذا الجوّ بالذات تتناقض مصالح النخبة السياسية الحاكمة، العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف الجماهير، مع مصالح الكتلة الأكبر من الناس أصحاب الحقوق الأساسية غير المتحققة حتّى الآن في أيّ اجتماع عربي. وهذا حوّل ويحوِّل مختلف مواقع الدولة العليا النخبوية عندنا ـ عندما تعمل على ترسيخ شعاراتها ومقولاتها الذاتية المقدّسة الفارغة من أيّ مضامين عملية مثمرة ومفيدة؛ كونها تدعو لتأليه وتأبيد الحكم الاستبدادي ـ إلى مجموعة إقطاعات ومافيات حقيقية، لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ تطفو على السطح ظاهرة جديدة هي ظاهرة «التشبيح» السياسي والاجتماعي، التي لها دعائمها ورموزها، الذين يعملون على تحويل الدولة إلى مجموعة مزارع وإقطاعات واستثمارات ربحية نفعية خاصّة.
وطالما تجري في ظلّ دولة الاستبداد العربية القائمة مثل هذه المظالم المتراكمة، على مستوى انتهاك حقوق ومصادرة حرّيات وعدم تحقيق مطالب الناس، فإنه سيجري دوماً إعادة توليد وتخصيب مستمرّ لثقافة التطرف، وسيادة عقلية وسلوكيات العنف، بما يؤدّي إلى بروز وظهور أشكال نافرة مقزّزة من أعمال العنف الانتحاري الإلغائي العدمي والتدميري. وهذا ما شاهدناه في الجزائر والعراق وأفغانستان واليمن والسودان وسوريا وغيرها. وهذه الدول والمجتمعات المقهورة، التي حدثت وتحدث فيها موجات من العنف الانتحاري المتعاظم، نلحظ فيها وجود حجم غير مقبول وكبير للغاية من التمايزات والفوارق الاجتماعية بين مختلف مكوّناتها الإثنية والدينية والقومية.
من هنا لا يمكن إزالة التطرُّف والعنف إلاّ عبر تشييد وتأسيس هياكل الدولة الديمقراطية ذات البنية المؤسّساتية القانونية الراسخة والقوية بحكم العراقة والضمانات الدستورية والوعي العقلي الشعبي، وهي الوحيدة القادرة على إضفاء طابع الشرعية القانونية على مناخ العنف، عبر التحكُّم بمختلف آليات ووسائل الضبط والردع لطرق استخدام القوة ومختلف أدوات العنف، مع حصر احتكار سلطة إصدار الأمر بها بيد أقلية سياسية منتخبة إرادياً من الناس، وهي التي تتحمّل مسؤوليات العمل السياسي وغير السياسي، وبناء مناخ عامّ لها مناسب لذلك.
إننا نعتقد أن إشادة هيكل المدنية الراسخ والمتين، من خلال بناء قواعد الديمقراطية وتحقيق القيم العملية للتنظيم الديمقراطي المدني، المرتكز بدوره على تحقيق التوازن المجتمعي، الذي يجعل الإنسان مركز وجوهر وقاعدة عملية التنمية، يبقى هو أفضل مناخ مناسب للتعايش السلمي المتين بين مختلف المكوّنات المجتمعية في بلداننا، وخاصّة أن أحد أسباب نشوء العنف قد يكون نتيجة وجود فوارق وتمايزات بين تلك المكوّنات، عبر عدم مراعاة أوضاعها وحقوقها.
المبحث الرابع: التأصيل «الشرعي» لثقافة التطرُّف لدى أتباع الدين الإسلامي، «فكرة الجهاد» أنموذجاً
تعود الأسس التأصيلية والبنى التنظيرية الأولى التي يقوم عليها مجمل الخطاب والفكر السلفي الجهادي المتطرّف الحديث إلى تفسيرات وشروحات الإسلامي المصري «سيد قطب»، الذي يمكن عدّه الأب الروحي ـ الفكري لتنظيمات السلفية الجهادية والجماعات الإسلاموية السياسية الحديثة، التي ظهرت منذ منتصف القرن الماضي وفي أغلب البلدان العربية، مع عدم نسياننا ـ بطبيعة الحال ـ أن مرتكزات فكر وشروحات وتأويلات سيد قطب نفسه للنص الديني تمتدّ موغلةً في التاريخ، لتصل إلى ابن تيمية وغيره من رموز الفكر الإسلامي التاريخي المتشدّد الرافض للآخر. وقد ظلت تلك الرؤى المتطرفة كامنة في عقول شرائح مختلفة من أعضاء الحركات الإسلامية في القرن الماضي، إلى أن وجدت طريقها إلى الاستلهام والتطبيق في «بلاد الشام» بالتحديد، عبر التحرُّك شبه الثوري الذي قاده السوري الإخواني «مروان حديد»، عقب عصيان مدينة حماة السورية عام 1964، ووجد حديد ورفاقه ـ بعدما مانع «إخوان» سوريا تنفيذ مطالبه بالعمل المسلَّح لإسقاط نظام البعث الحاكم في سوريا ـ ضالّته في الانضمام إلى العمل المسلح الذي كانت تتيحه قواعد حركة «فتح» الفلسطينية في الأردن، ضمن ما عرف بـ «قواعد الشيوخ» في غور الأردن (1968 ـ 1970)، التي كان أبرز وجوهها مدرِّس الشريعة في الجامعة الأردنية «الدكتور عبد الله عزّام»، الذي لم يجد في الأردن أو فلسطين بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 1970 أيّ بيئةٍ حاضنة لأفكاره، التي شكّلت البذور النظرية الأولى للسلفية الجهادية في الأردن، فسافر بها إلى أفغانستان، وصار فيما بعد أحد أهمّ المنظِّرين لـ «الجهاد» (وتنظيم القاعدة السلفي) في أفغانستان، وقاتل فيها، وقُتِل([2]). وكان «مروان حديد» قد أعدّ في قواعد «فتح» في الأردن الخلايا الأولى لتنظيمه «الطليعة المقاتلة»، الذي كان البذرة الأولى للسلفية الجهادية في سوريا، حيث قاد في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي المواجهات المسلحة الأولى مع النظام السوري. وقد انضمّ إليه لاحقاً تنظيم «الإخوان المسلمين» في سوريا. وكانت المواجهة العسكرية بين النظام السوري والتنظيم في أحداث مدينة حماة الشهيرة عام 1982م. وحين أراد النظام تجفيف منابع الفكر الجهادي المسلَّح في سوريا عمد، إلى جانب العمل الأمني، إلى ترسيخ نمط مهادن من «التديُّن الشامي» (التديُّن الاجتماعي الوسطي) غير المعارض، وكانت أفكار محمد سعيد البوطي (الذي قتل في خضمّ الأزمة السورية)، وجماعة القبيسيّات، ورعاية التوجُّه الصوفي، بعضاً من روافده الأساسية. لكنّ هذه الوصفة، في ظلّ نظامٍ غير ديمقراطي وقمعي، لم تكبح جماح الأفكار الإسلامية الجهادية المتشدِّدة، التي وجدت فيما بعد في غزو العراق عام 2003 مناسبةً للإعلان عن نفسها والانطلاق والتحرّك.
وقسم كبير من رموز تلك التنظيمات خرج من سجون النظم العربية ميتاً إلى القبور، وقسم أكبر خرجوا منها كارهين ضدّ الآخر، ورافضين للدولة والمجتمع، ومنغلقين على أفكار «اللاهوت السياسي الإسلامي» العتيق (إذا جاز التعبير)، وقارئين قراءة تابعة لا ناقدة لأفكار وخطابات وشروحات سيد قطب، وأبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي، وغيرهم من مرجعيات الإسلام السياسي الحركي، وهم في حالة تعبئة روحية وعاطفية وفكرية طهورية بأفكار هؤلاء، حيث الثقافة الخاصّة، ثقافة الجماعة أو الحزب أو الفئة.
لقد كان القاسم المشترك بين كلّ هذه التيارات والجماعات ـ التي قبع رموزها رَدْحاً طويلاً من الزمن في السجون والمعتقلات، وخرجوا من رحم هزائم القومية واليسار العربي عموماً ـ هو تشرُّبها بثقافة العنف والسيف، ووضع ثقافة السلم وراء ظهرانيها. وتتضاعف المشكلة في الجماعات والتنظيمات والأحزاب السياسية بعامّة، والإسلامية بخاصة. فهذه الأحزاب حينما أرادت أن تثقف أفرادها تثقيفاً سياسياً فإنها وضعت على موائد الأفراد تجارب المجموعات السياسية والمسلّحة في أدغال أمريكا اللاتينية، وهي في مجموعها تجمُّعات يسارية آمنت بالسلاح والقوة طريقاً للوصول إلى الحكم، ولو على أشلاء الناس أنفسهم الذين يدّعون الدفاع عنهم. وبعض الجماعات الإسلامية التي حاولت الابتعاد عن ثقافة العنف القادمة من المجاميع اليسارية تكهّفت بثقافة السلف، ولكنْ في جانبه العسكري المتزمِّت فقط، فعرفوا أن منتهى التوحيد هو «حمل الناس عليه بالسيف»، فارضين ثقافة البداوة على المجتمع العربي والمسلم. وبعض المجموعات المسلحة تتحرّك بثقافة وقيم العشيرة لمرحلة ما قبل مجيء الإسلام، حيث كانت سلوكيات الغنيمة والغزو والسطو المسلح (بالسيف طبعاً) على الآخرين مبلغ الرجولة. وهذه الثقافة الجاهلية المتخلِّفة تتكرّر بين عصر وآخر، وإنْ بصور مختلفة، بل وبعضها مشابه لما كان يفعله بعض السلف. وهذا ما لمسناه في أفغانستان والجزائر، ونجده اليوم في العراق واليمن وسوريا أيضاً، حيث الظهور الكلي للراديكالية الإسلامية المتطرّفة بأبشع صورها، وأقبح وأفظع سلوكيّاتها، من قتل وتدمير وسحق واستباحة حرمات الناس، والتي وصل بها الأمر أنها تجعل الأطفال يمارسون سلوكيّاتها العنيفة الهمجية، بعد تربيتهم وتدريبهم على كراهية القانون والنظام العام، ورفض كلّ ما هو آخر مختلف، والحقد عليه، ورميه بأقذع الصفات اللاإنسانية.
إن الفكر الثقافي المهيمن على عقل وسلوك هؤلاء هو ـ في أعلى وأجلى وأوضح تعابيره ومعانيه ـ فكر رفضي إلغائي، قائم على تفسيرات وتأويلات مبتورة من سياقاتها، كما في الآية الكريمة التي يردّدها أتباع تلك الجماعات: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (البقرة: 191). في حين يفترض أن يلتفتوا إلى آيةٍ أخرى لا تفسر الأولى إلاّ بها، وهي: ﴿وَمَاْ أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وأن يتمعَّنوا في أحاديث الرسول([3]): «إيّاكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك مَنْ كان قبلكم الغلوّ في الدين»؛ و«لا تشدِّدوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم»؛ و«إنّ هذا الدين يسرٌ فأوغلوا فيه برفقٍ، ولن يشاد الدين أحدٌ إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا»، إلخ.
وأن يدركوا أن التطرُّف غير مقبول دينياً وأخلاقياً، بل هو فعلٌ مرفوض ومنهيّ عنه في الإسلام؛ بدلالة قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185)؛ وقوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
ودلالة قول الرسول|: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»([4])؛ وقوله: «لن يشادّ الدين أحدٌ إلاّ غلبه»([5])؛ وقوله: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً»([6]).
لكن المشكلة ليست في النصوص المؤسّسة لفكرة الوسطية والاعتدال، المعبَّر عنها بكلّ وضوح وشفافية، بل المشكلة والأزمة مركوزة في الوعي المتشكِّل، وآليات التلاعب بالعقول، الرافضة لمنطق الاعتدال والتسامح. إنّه التَّبَعية للواقع الظالم القائم، وكسر النصوص له، أي الانطلاق من الواقع السلبي إلى النصّ (ليس المحكم، بل المتشابه) في قراءةٍ عكسية غير تقديرية.
وفي ظنّي أن الأجيال التي تربَّتْ على هذا التطرُّف والعنف لا تتحمّل بطبيعة الحال المسؤولية لوحدها، ولا يمكن وضع اللوم كلّه على هذا الجيل؛ لأن المادة التي يتثقّفون عليها هي مادة التطرُّف ومادة العنف ومادة الإرهاب، بل وبعض المناهج التربوية تعلِّمهم كراهية المسلم كما قلنا، وتكفيره، وحتّى الجهاد ضدّه، بمجرد أنه لا يتفق مع هذا المذهب أو ذاك، حتّى في بعض الفروع الفقهية، وتوزّع في بعض المواسم الدينية الملايين من الكتب والكراسات، وبلغاتٍ مختلفة، في تكفير بعض المسلمين من هذا المذهب الفقهي أو ذاك.
وحتّى فكرة الجهاد نفسها (وهي ركنٌ من أركان الدين، وتحفر عميقاً في داخل تربة الاجتماع التاريخي السياسي للإسلام) لم تفهمها تلك الجماعات المتطرِّفة والتكفيرية ـ في المحصلة وبقطع النظر عن بعض التنظيرات المجمِّلة ـ إلاّ كثقافة غزوٍ وسلب ونهب وحرب وغنائم ومقاتل ودماء، ونسيَتْ أو تناسَتْ أن للجهاد أسسه وظروفه وأنواعه ودوافعه وموضوعاته وأشكاله ومرتكزاته ومبانيه وأحكامه الفقهية، وهو بالأساس جهادٌ دفاعي مبدئي وقائي، لا هجومي قتالي، فقدَّمَتْ الدين كله للآخر على أساس أنه دين الغزوات الحربية، ودين السيف البتّار، دين أسلمة الناس تحت حدِّ الحراب والسيوف.
ولا شَكَّ بأن «الجهاد» ـ كفاعلية إجرائية إسلامية ـ يسجِّل حضوراً متميِّزاً في داخل المنظومة العقيدية والسياسية التاريخية للإسلام، الأمر الذي يجعل منه على الدوام ـ وبصرف النظر عن الدرجة والنوع ـ موضوعاً دائم الحيوية والتجدُّد، خصوصاً في الحالات الحَرِجة والصعبة التي يمكن أن تمرّ بها الأمّة ككلّ، حيث قد تتطلب الظروف المعقَّدة استحضار هذه الفكرة (الجهاد) لتشكِّل نمط حياة، وأسلوب تفكير، ومنهج عمل متواصل. ولكنّ الإسلام لم يدعُ إلى اتّباع طريق الجهاد على المستوى الخارجي بمعزل عن معاييره وضوابطه ومحدّداته وشروطه، أو بمعزل عن المستوى والكيان الذاتي للإنسان المسلم، الذي يشتمل على الروح والفكر والمعنى والقلب والعاطفة والإرادة، إلخ. بل إنه دعا إلى ضرورة الربط بين المستويين الذاتي الفردي والموضوعي العملي لفكرة الجهاد، أي الربط بين الجهاد الأكبر (وهو جهاد النفس ومجاهدة الشهوات، وهو الجهاد الأساس والقاعدة) وبين الجهاد الأصغر (الذي هو جهاد العدوّ)([7])، بما يعني أن تحقيق الجهاد الخارجي لا ضمانة له إلاّ بالنفاذ إلى الخزان الروحي للفرد المسلم، في أخلاقياته وفضائله وقيمه الرسالية الإسلامية؛ لإقامة الانسجام النفسي، والتوازن الداخلي، والسير على طريق العدالة والاستقامة. وهذا يحتاج إلى جهادٍ يتشعّب ويمتدّ ويتعمّق ليشكِّل كل الآفاق الداخلية لهذا الفرد، في علاقاته الذاتية، وكلّ آفاقه الخارجية، في علاقاته مع كافّة مفردات حياته في المجتمع والبيئة المحيطة.
إذن هذا الربط بين الجهادين ـ مع النظرة الإسلامية التفضيلية للأول على الثاني ـ هو المدخل لفهم معنى الجهاد ككلّ، ولا يمكن بالتالي تفسير الجهاد الأصغر (جهاد العدوّ) بكل تلاوينه وأشكاله بمعزلٍ عن عمقه وركيزته (الجهاد الأكبر). وما نشاهده اليوم، أو منذ ظهور تيارات الجهاد الدينية في مجالنا الإسلامي، من تطرُّف وتعصُّب وأفعال مشينة وسلوكيات فظيعة، تعتمد العنف والقوّة كمنهجٍ عملي وحيد لدعوتها وخطابها الفكري والسياسي، ما هو إلاّ نتيجة فصل الجهاد الأكبر عن الجهاد الأكبر، وتفسير كلّ واحدٍ منهما بمعزل عن الآخر، فتمّ تشويه صورة الجهاد، الذي هو ـ كما عبَّر عنه الإمام علي× ـ «لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة»، و«مَنْ تركه؛ رغبةً عنه، ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، ودُيِّث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف»([8]). ومَنْ يتعمَّق قليلاً في هذه الكلمات سيدرك الأهمية الكبرى لفكرة الجهاد، فهو ركنٌ وثيق من أركان الدين، وهو جزء من المنظومة العقيدية للإسلام، ولا يصحّ إيمان المسلم ما لم يعتقد به، ولكنْ تاريخياً غلبَتْ عليه صورة الغزو والهجوم، واستعمال العنف الأعمى؛ لتحقيق الغايات والمصالح والمطامع الخاصة، كما ذكرنا. وسلّط المستشرقون الضوء على هذه الناحية المظلمة، فزادوه تشويهاً وتحريفاً في ذهنية الناس، في سعيهم للنيل من سمعة الدين الإسلامي، ومكانته، ودوره، وحضوره في العوالم الإسلامية، والأخرى غير الإسلامية.
وبالرغم من كون الجهاد (بفرعَيْه: الأكبر؛ والأصغر) ركناً أساسياً من أركان الإسلام، لكنّه ليس سبيلاً دائماً ومستمرّاً، أو أسلوباً وطريقاً متواصلاً واستراتيجياً (وبالتحديد فرعه الأصغر)، بل هو واجبٌ بشروطه وشرائطه، وهو مرهونٌ بأوضاع المسلمين، وظروفهم وعلاقاتهم وموازين قوّتهم. أما المبدأ العام الرئيسي في السلوك الدعوتي الإسلامي على هذا الصعيد (وعلى كلّ الأصعدة) فهو قائمٌ على قواعد متينة من العدل والتسامح واليسر والإحسان، وهي مفردات «مبادئية» (إذا صحّ التعبير) قيميّة ومعيارية و«مقاصدية» راسخة، تستوعب كلّ تشريعات وقوانين وأخلاقيات هذا الدين، حتّى في تفاصيلها الدقيقة. ونحن نجد في القرآن الكريم تأسيساً دينياً لمفهوم وثقافة التسامح، يتمثَّل في كلّ هذا الحديث الواسع حول مفردات ومفاهيم «الصفح» و«العفو» و«الإحسان» و«الدفع بالتي هي أحسن» و«الإعراض عن الجاهلين»، «والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة»، وغير ذلك من المعاني التي تلتقي وتنطلق معه. فنحن نقرأ الآيات الكريمة التالية:
﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 22).
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ (المؤمنون: 96).
﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (فصّلت: 34 ـ 35).
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾ (الفرقان: 63).
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: 125).
﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (البقرة: 109).
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص: 77).
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90).
﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).
وهكذا نلاحظ أن مبدأي التسامح والعدل يشكِّلان قلب وجوهر أيّ تشريع ديني (حتّى تشريع وركن الجهاد)، فمبدأ «التسامح» يمثِّل الأسلوب المسالم الوديع، الذي يواجه به الإنسان اعتداء الآخرين عليه، وإساءتهم إلى حقوقه، فهو يهدف إلى أن يجعل من الإنسان المُعْتَدى عليه إنساناً مثالياً، تنبع الرحمة من قلبه لتنطلق في حياة الآخرين محبة وسلاماً، ويتدفّق الخير من روحه ليقبض على مجتمعه نعمى وهناء([9]).
ولكنّ المشكلة التي حدثَتْ عبر تاريخ تشريع وتأصيل فكرة الجهاد عملياً في تاريخنا السياسي العربي والإسلامي حتّى اليوم هو ارتباط الجهاد بقضيّتين تمّ التلاعب بهما:
الأولى: اعتبار الجهاد هجومياً، وليس دفاعياً، مع أن العداوة المشروعة في الإسلام لا تنشأ إلاّ في حالة وجود عدوان([10])، أي العدوان الذي يتوجّه من فريقٍ إلى فريق، وهو نوعٌ من البغي والتميّز، الذي يدفع فريقاً يرى في نفسه القوّة والتفوق ليعتدي على فريقٍ آخر؛ بقصد التجبّر والهيمنة والسيطرة. وهذا ما يحدث بين الشعوب والأمم، كما يحدث بين الأفراد. فالعدوّ هو المعتدي، والذاهب في عدوانه إلى الحدود القصوى والآثمة، وهو الذي يجوز اعتباره عدوًّاً، ويجوز قتاله، وفي هذه الحالة يكون هذا القتال نوعاً من «الجهاد». وأساس ذلك هو أن الجهاد في الإسلام هو جهاد دفاعيّ، وليس جهادًا هجوميّاً. وعلى هذا الأساس فإنّ الصراع مع العدوّ الصهيوني (من وجهة نظر إسلامية) هو صراع مشروع، وربما يكون واجباً، ولكنْ أوّلاً ليس بوصف الإسرائيليين يهوداً، بل معتدين؛ لأن اليهود بتصنيف الإسلام هم أهل الكتاب، الذين قرّر الإسلام الانفتاح عليهم واحترامهم واحترام شعائرهم، والسماح لهم بالتعبير عن عاداتهم وطقوسهم وشعائرهم وحرِّيتهم الكاملة في ممارسة هذه الشعائر([11])، والصهاينة بوصفهم يمارسون أعلى صور العداء للمسلمين عموماً، وللعرب والفلسطينيين خصوصاً، فهم اغتصبوا الأرض، وشرَّدوا الشعب، ونهبوا الثروات، وارتكبوا ويرتكبون الجرائم والعدوان الحربي، أي قتال المسلمين، وبالتالي فإنّ مثل هذا العداء من قبل المسلمين هو ردُّ فعلٍ، وجهادنا لهم هو جهاد دفاع، وليس جهاد عدوان.
الثانية: ربط الجهاد بالكفر. وقد تنامي هذا الاعتقاد خلال القرن الأخير، ممّا شكّل ضربةً قاسية لفقه العيش وفقه الدين معاً، واضطر ذلك عدداً من كبار الفقهاء، أبرزهم: محمود شلتوت شيخ الأزهر، إلى مهاجمة ذلك، والردّ عليه في كتابه «القرآن والقتال»(1949)، حيث نبَّه إلى أنّ «القتال لا يكون إلاّ لدفع العدوان، ورد المعتدين»، كما جرى التوضيح، بل نبّه أيضاً إلى خطر التكفير، وبالتالي الجهاد على الداخل المسلم؛ بسبب عودة مفهوم الولاء والبراء، والذي لا يتناول غير المسلمين فقط، بل يتناول مسلمين آخرين أيضاً يختلف معهم المتشدِّدون في الرأي (والاعتقاد)! وقد حصل ما توقَّعه شلتوت، عندما انتشرت ظواهر تكفير الحكّام والأنظمة والمجتمعات، واستحلال ممارسة العنف ضدّها. وهكذا فقد تطوّرت المسألة من دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكافحة البِدَع إلى ربط العنف بإقامة الدولة الإسلامية التي تطبِّق (الشريعة)! وبذلك تطرَّق الخلل والاختلال لدى فئة من المتشدِّدين إلى مفهوم الدين ذاته، فالشريعة هي الدين، وعندما يقال: إنها غير مطبَّقة فهذا يعني أن الدين لم يَعُدْ حاضراً في المجتمعات والدول، وأنه لا بُدَّ من فرضه بالقوّة. وعلى هذا الأساس الفاسد قامت الأحزاب الدينية العنيفة والسياسية. وهذا التحريف والتحوير لمفهوم الجهاد أخلّ بفقه العيش مع العالم، وأخلّ التحوير في مفهوم الشريعة بفقه الدين. والتحوير في مفهوم الجهاد جعلنا نتصادم مع الجميع، ووضعنا في مواجهة (خاسرة) مع بعضنا، ومع العالم كلّه، ما تزال على أشدّها. وأما التحوير في فهم الشريعة فقد وضع الدين ذاته في مواجهة الأمّة ككلّ. وكان الأمر الثاني خطيراً لأن كثيرين ـ بحجّة صَوْن الهوية ـ اندفعوا ليس لفصل الإسلام عن العالم وحَسْب، بل ولفصل الدين عن حاضنته الاجتماعية. والمعروف منذ أكثر من ألف سنة أنّ «الجماعة» في الاعتقاد الإسلامي هي التي تحتضن الدين، والدين عبادات وأخلاق ومعاملات يعيشها المسلمون بالتزامٍ شديد. وها نحن نتلفَّت فنجد أن عصابات مسلَّحة (وعن طريق قيامها بالتأصيلات المحرّفة والمنحرفة)، وأخرى مسلحة بالأسلحة النارية، تستلب الدين بمفاهيمها الخاصة، ثمّ تقتل الناس بحجّة إقامة الدولة، و(إحقاق الشريعة)! ولهذا نحن محتاجون لأكثر من تجديد «الخطاب»؛ فالتجديد ينطوي ـ بحَسَب الداعين إليه ـ على جانبٍ واحد هو فتح التقليد، واستحداث تغييرات ونوازل، وفقه جديد للتلاؤم مع العالم، والسير مع حركة التاريخ([12]).
المبحث الخامس: إصلاح حال الأمّة وتغيير النفس كأساس لتغيير واقع التطرُّف السائد
لعلّ اشتداد أزمات مجتمعاتنا العربية والإسلامية حالياً، وزيادة وطأتها وقسوتها اليوم، قد ساهم بفعالية كبيرة في إعادة التداول والطرح والتركيز على أسئلة الإصلاح والتغيير والحرّية والحوار. وإن «إصلاح الحال ـ إصلاح الذات الدينية والمعرفية الثقافية» هو المدخل الضروري والقاعدة الأساسية والأصل لإصلاح الفرع (وهذا ما سبق أن ذكرناه في سياق هذا البحث)؛ لأن صلاح البدن من صلاح النفس، و﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. وما نشهده في لحظتنا الراهنة من هيمنة قوى التطرف، وعلوّ كعب «أمراء الجهاد» و«أرباب الشعائر الإرهابية»، واتّساع نطاق الانقسامات والتفرُّق والتوترات الفكرية والعملية ـ ومنها ـ على سبيل المثال ـ: مرض التعصب والتطرف الديني الأعمى ـ يعود أساساً لجذور معرفية لاهوتية عقائدية، تهيّأت لها ظروف وأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وإنْ كان للأخيرة دورٌ مهمّ وحيوي بالمآل والنتيجة.
فكيف يمكن البدء بالسير الجدّي على طريق الإصلاح الديني المطلوب لدرء مخاطر التطرُّف في عالمنا العربي الإسلامي طالما بقيت بذور هذا التطرُّف والعصبية الدينية، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتقسيم العالم إلى عوالم ثنائيات خيرة وشريرة، قائمة ومسيطرة على العقول والأفئدة في بلادنا العربية والإسلامية؟! وكيف يمكن إقناع الناس في تلك البلاد بإعادة الاعتبار لقواعد الفكر الديني الإسلامي (وغير الإسلامي) الحرّ والمتسامح العقلاني والحواري الذي يقبل الآخر (الذي هو نظيره في الخلق) حتّى لو كان مسلماً على مذاهب أخرى، أو كافراً، أو ملحداً، أو حتّى مشركاً، أي بقطع النظر عن انتماءاته الفكرية والأيديولوجية الإسلامية وغير الإسلامية؟!
إن التطرُّف الإسلامي الحالي يبدو لي أشدّ تأثيراً وخطراً من أيّ فكرٍ حادّ ومتعصب آخر قائم أو مرّ في تاريخ هذه الأمّة؛ لأنه يخلع على نفسه عبادة الدين والتعالي الإلهي. ولكي ننزع عنه هذا القناع الرهيب، الذي يخدع الجماهير بالملايين، يلزمنا، نحن المثقّفين العرب، بذل جهودٍ جبّارة على مدار العقود القليلة المقبلة على مستوى تركيز الحركة النقدية المعرفية لأفكارنا وتراثنا، وتنقيته من مجمل طروحات وأفكار التعصُّب والتطرُّف والتفكير الحادّ، الذي لا يقبل حتّى بأخيه في الدين.
إن المسألة خطيرةٌ للغاية، بل هي تدنو من كونها من أخطر بلايا ومصائب هذه الأمة في تاريخها القديم والحديث. فهل يعقل ما يحدث في بلداننا اليوم؟! وقد سبق أن حدث منه الكثير في تاريخنا الإسلامي (المجيد)! أي إن له أعماقاً تاريخية تعود إلى مئات السنين، وبالتحديد إلى اللحظة التي دخلنا فيها إلى عصر الانحطاط، وتعطلت تلك الجدلية الرائعة بين العقل والنقل، أدبية الفلسفة والدين.
ويتَّفق المفكِّرون على القول: إن هذه اللحظة تعود إلى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي، حيث ماتت الفلسفة، وانعدم السؤال (والتأمُّل)، وتكرّست العقلية الاتِّباعية المقلِّدة، ودخلنا في غيبوبة عقلية وفكرية وحضارية، وتشكَّل فكر ظلامي، هو الذي يستخدمه أدعياء الجهاد والمقاومة المزعومين، من أمثال: «البغدادي» و«الجولاني» «والشامي» و«اليماني» وغيرهم (وسابقاً كان «ابن لادن»، و«الزرقاوي»، إلخ)؛ لتبرير أعمالهم الإجرامية الشنيعة في القتل والتنكيل والتدمير.
فقد تشكَّل في تلك اللحظة التاريخية من زماننا العربي والإسلامي وعيٌ زائف وإدراكٌ قاصر لمسائل الدين والتديُّن، أنتج فهماً ضيقاً وعدوانياً لمعنى الدين الإسلامي، وللعقل والانفتاح، والتسامح إلى أقصى الحدود. وهذا الفهم، أو بالاحرى الجَهْل، هو الذي تواصل من ذلك الوقت وحتّى يومنا هذا، وهو الذي يسيطر على واقعنا اليوم محلّياً وإقليمياً ودولياً.
إن جذور التعصُّب الديني والتطرف الفكري والعملي الذي نشهده اليوم في كلّ أنحاء العالم الإسلامي، والذي وصلت نتائجه المدمِّرة و(خيراته) العظيمة حتّى إلى الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، لا تعود إلى ماضٍ قريب، وإنّما تعود إلى زمن تاريخي قديم، أي إلى أكثر من 800 سنة خلَتْ، وهي لا تزال تفعل فعلها في راهننا المرير حالياً.
والمفترض حالياً القيام بحملة ثقافية وفكرية شاملة لمواجهة تلك الأفكار المتعصبة. وينبغي هنا طرح تلك المسألة بإلحاحٍ شديد على علماء ومشايخ ورجالات الدين الإسلامي، الذين يفترض بهم أن يكونوا حَمَلة لواء العلم والورع والتسامح والهدى للناس في دينهم ودنياهم، لا أن يكونوا ـ كما هم بمعظمهم حالياً ـ مجرّد واجهة مزيفة مكشوفة لرموز القتل والإرهاب والتطرُّف.
ولكنّ الشيء الذي يحزّ في النفس أن غالبية مَنْ نطلب منهم ذلك من العلماء والمشايخ لا يعتمد عليهم كثيراً في تنوير الرأي العام، وهداية الناس وتوعيتهم على قِيَم ومبادئ الفضيلة والعدل والمحبة والتسامح. فقد تراجع دور هؤلاء العلماء إلى درجة مخيفة على حساب تصاعد دور مشايخ الإفتاء الجهادي المتطرِّف، والوعظ السلطاني والتفيقه الصبياني. ونشأَتْ خلال الفترة السابقة معاهد ومدارس وكلِّيات وحوزات دينية (شرعية) تحت ظلّ وبرعاية ودعم السلطات الرسمية العربية، يفوق عددها أضعاف مضاعفة عدد كلّيات ومعاهد العلم والتقنية والتكنولوجي والبحث العلمي، وصُرفَتْ أموال ذات أرقام فلكية لنشر أفكار وثقافة التكفير، ممّا أنتج فائضاً كبيراً من الشباب غير المدرك لحقائق العصر، وأساسيات الدين، والملمّ فقط بمظاهر التديُّن السلبي الظاهري الشكلاني.
وهنا يتمّ التركيز دوماً على كلّ ما يشير إلى الجهاد والقتال ونشر الدين والمذهب بأساليب القوة والعنف والإكراه، وادّعاء التفوُّق والتعالي وامتلاك الحقيقة المطلقة، حيث نجد هؤلاء يخرجون آيات القرآن الكريم من سياقاتها التاريخية الزمانية والمكان، ويحشدون الكثير من أحاديث الرسول ـ ذات الأسانيد الضعيفة والمبهمة ـ؛ لتأييد وجهة نظرهم ورؤيتهم الخاصة التي تتناسب ومصالحهم الخاصة، والمأثور يقول: «مَنْ فسَّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده في النار».
إننا نعتقد أن هذا الضخّ الإعلامي ـ الذي تحشد له كثيرٌ من فضائيات التضليل كلّ إمكانياتها ـ، والمتركِّز حول فكرة تكفير الآخر، وادّعاء التفوُّق الكاذب، رغم الفقر والتشتُّت والتخلُّف والانقسام، لن ينتج سوى ما نشاهده اليوم من أعمال إرهابية تنتهك من خلالها حرمات الآمنين.
طبعاً نحن هنا لا نقصد الدين، وإنما التديُّن، فلا شَكَّ أن الإسلام هو الوعاء الحضاري والقاعدة الفكرية البنيوية التي لا يمكن للأمّة أن تفكّ قيودها التاريخية الرثة، وتنعتق من ربقة تخلُّفها المقيم، إلاّ عبره ومن خلاله، شئنا أم أبينا. فالإسلام هو الحاضنة المغذِّية، وهو المنطلق الحضاري لنهضة هذه الأمّة، وغالبية المسلمين يشعرون بالانتماء الراسخ والمتين إليه، ولكنّ القضية هنا ليست في ذاتية وأصل وأصالة هذا الانتماء، بل في نوعية وطبيعة وموضوعية واتّزان هذا الانتماء وتطبيقاته العملية اللاحقة، وكيفية إيجاد مواقع قوية منفتحة مسؤولة ورصينة ومنتجة جديدة له في عالمنا المعاصر، بعيداً عن أمراض الغلوّ والتطرُّف والنزوع «الهوياتي» المغلق. القضية هي كيف يمكن تأسيس البنى الجديدة في هذه الأمّة على رؤى ثقافية منفتحة قوية، تصل ولا تقطع؛ لكي تتمكّن من القبض الفعلي على أسباب تقدُّمها وتطوُّرها الحضاري؛ لكي تحضر في العصر والحياة، وتمارس دورها الرسالي الإنساني إلى جانب الحضارات الأخرى، في عالمٍ لا يحترم إلاّ المبدعين والمنتجين والأقوياء عقلياً وعلمياً.
· والتطرُّف الذي ظهر في أمتنا لم ينشأ هكذا فجأة بلا مقدّمات، كما أسلفنا، ولم يأتِ من فراغ، ولم يهبط على مجتمعاتنا من كواكب أخرى، بل كانت ـ وما تزال ـ له جذوره وأسبابه ودوافعه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الضاربة عمقاً في تربة مجتمعاتنا التقليدية، وبنية دولنا العربية المعاصرة.
ومن المفترض أن تكون ساحة المواجهة ضدّ هذا التطرُّف، وأفكار وعقائد التكفير والأصولية التكفيرية، هي ساحة المثاقفة والوعي النقدي الثقافي والمعرفي، والعمل المنتج، والعلم النافع، وتحقيق التنمية الإنسانية الفعّالة، وإعطاء الناس حقوقهم الطبيعية، ومعاملتهم كبشر حقيقيين، والإقرار بوجودهم ككائنات سياسية حيّة تريد أن تساهم في البناء، وتشارك في صنع القرار والمصير والمستقبل؛ كي تكون مسؤولة عنه وعن الوطن؛ لحماية وجوده وثرواته وأمنه.
نعم، المواجهة الأكبر والأهمّ والأكثر حيوية ونجاعة ضد المتطرّفين هي في تحقيق الدولة المدنية المؤسّساتية العادلة. أما تفشّي الفقر، وانتشار التخلُّف، وانتهاك الحقوق البديهية الطبيعية، والتفرُّد بالرأي والقرار، والتسلُّط على الناس، وشيوع الفساد وثقافة الإفساد، وإعاقة التنمية والنمو، كلها كانت مواطن ضعف وثغرات كبيرة دخل (ويدخل، وسيدخل) منها التطرُّف (وكلّ عقائد الاستئصال والعنف) إلى قلب أيّ بلد؛ لإعاقة وتدمير وتخريب أيّ تطوُّر وازدهار حقيقي حضاري فيه.
إن الخلل والفشل الأساسي الذي كرّس عقلية التطرُّف في مجتمعاتنا هو ثمرة طبيعية لعقلياتنا وأفكارنا وثقافتنا، وهو أيضاً حصيلة نهائية لطرق سَوْسِنا للهويّات وإدارتنا للأشياء التي ارتكزت على تعميق الاستبداد السياسي، الذي منه انقدحت ظاهرة التطرُّف والعنف، ثمّ تأتي أسباب ثانوية ساعدت في اكتمال تشكُّل الظاهرة العنفية. لكنْ يبقى الاستبداد وغياب الديمقراطية كناظم للمشهد السياسي في هذه الدول بمثابة العامل الرئيسي في كلّ ما نشاهده اليوم، من انفلاتٍ أمني واقتتال بعناوين شتّى، كلّها نتاج طبيعي للاستبداد السياسي المدعوم غربياً([13]).
خاتمة البحث
ما تزال للتطرُّف مواقع قوة فكرية وتاريخية متجذِّرة في وعينا التاريخي المهيمن منذ قرون عديدة. وفي كثير من فترات التراجع الحضاري للمسلمين كان جسد الأمة يصاب بهذا المرض، الذي بقي عصياً على المعالجة الجدية والجذرية حتّى تاريخه.
في الواقع لا يمكن معالجة مرض وظاهرة التطرُّف بصورةٍ سحرية طوطمية، بل بالتشخيص الدقيق لأسبابه وجذوره الضاربة في الفكر والتربة والتاريخ. وعلى الرغم من أن البعض ما يزال يصرّ على الحلّ العسكري الأمني لظاهرة التطرُّف، ولكن يبقى المدخل الأمني وحده غير مُجْدٍ في مكافحتها، ربما يؤجِّل مفاعيلها وتداعياتها السلبية في المَدَيات الزمنية القصيرة، ولكنّها ستبقى قائمةً وموجودة في المدى الطويل. لهذا يجب اعتماد خطّة وأسلوب عمل للعلاج الحقيقي، المنطلق من المنظور الثقافي والأنثروبولوجي، القائم على الاحتواء والتدجين وإعادة الترتيب والتصنيف والتوظيف؛ لتشكيل قنوات الوعي والتأثير للثقافة التنويرية الجديدة، ثقافة الاختلاف والتسامح، كبديلٍ من ثقافة التشدُّد والتعصُّب والاختزال والرأي الواحد.
وبهدف البدء بسياسات عملية لاحتوائه، والسيطرة على مفاعيله من العنف والإرهاب، لا بُدَّ من النظر في ما يلي:
1ـ تأكيد المنهج الوسطي الاعتدالي للإسلام، حيث إن البناء الاجتماعي لهذا الدين تأسَّس منذ عهده الأوّل على نقض ظواهر التعصُّب والعنف والتطرُّف والإرهاب ونحوها ممّا يعنيه بها أهل العصر اليوم، تلك الظواهر التي كانت شائعةٍ في الجزيرة العربية، وفي سائر بلاد العالم القديم، واتّجه إلى محاربة أسبابها المنتجة لها، من الظلم والعبودية لغير الله سبحانه، والعدوان بغير وجه حقّ. هذا ما دعَتْ إليه نصوص قرآنية كثيرة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ (النساء: 1).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).
﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (البقرة: 205).
2ـ وضع برنامج فكري تربوي متكامل من قبل المؤسسات الدينية، والعلماء، وأصحاب القرار ومراجع الدين العقلانيين، والمثقّفين المعنيين، يعالج الأسس الفكرية والدينية التي يرتكز عليها دعاة العنف، ويوضِّح بجلاء حقيقة المفاهيم والطروحات التي يبني عليها دعاة التطرُّف والعنف الديني فكرهم وسلوكيّاتهم، ويفضح زيفهم وادّعاءاتهم الباطلة في ما يتعلّق بقضايا الدين والشرع والمفاهيم الإسلامية. ونخصّ هنا بالذات كبار العلماء والفقهاء الذين عليهم مسؤولية مضاعفة في التّصدي لمعالجة مشكلة التطرُّف ونتائجها الكارثية الخطيرة. ومن المهمّ للغاية تشجيع قِيَم وثقافة التعدُّد والحوار والتسامح، والتحلّي بأخلاقيات الاختلاف، واحترام التنوُّع المذهبي والديني والعِرْقي. ولا بُدَّ هنا (في صلب هذا البرنامج التربوي) من توجيه صدمةٍ ثقافية قوية للعقلية المتطرِّفة، وإفهامها بأنه لا هوية دينية أو غير دينية مطلقة نقية صافية ثابتة هبطت على المتطرِّف من سماء متعالية مفارقة، هي التي يجدر التشبُّث بها والمحافظة عليها، وهذا ما يشير إلى جهل (هذا المتطرِّف) بالكيفيّة التي تُصنع بها الأشياء، وتُبنى الحياة، ويسير العالم، ومآله كلّ هذا الحمق والجنون أو العمى والعبث بالمصائر، كما يُترجم الإسلام على يد الأصوليات الجهادية، وسط ذهول المسلمين الذين اكتشفوا، بعد فوات الأوان، كيف أن إسلامهم الحنيف والسمح يختزن كلّ هذا العنف الفاحش والمدمِّر. وإذا كانت الجماعة أو الأمة الإسلامية احتاجت لكي تلتئم وتتوحّد إلى مبدأ غَيْبي أو رمز قدسي، فإن الاجتماع الإسلامي لم يكن مملكةً للفضيلة، بقدر ما كان يُنسَج من شبكة المصالح وعلاقات القوّة. والمسلمون، وإنْ آمنوا أو صدّقوا أو خضعوا، فإنّهم لم يكونوا ملائكةً، بل كسواهم من البشر، قد تحرِّكهم مبادئ الشريعة، وقواعد الفضيلة، بقدر ما تحرِّكهم الأهواء والمطامع أو الأحقاد والعداوات. هذا ما شهدَتْ به الحوادث في زمن النبيّ العربي، صاحب المشروع ومؤسِّس الشريعة، وهذا ما حدث خاصةً بعد وفاته، حيث أفضَتْ الصراعات والحروب بين خلفائه على المشروعية إلى حروب سالت فيها أنهار من الدماء، شاهدةً بذلك على أن الكلام على عصر ذهبي أو فردوسي هو خرافة صنعتها النرجسية الثقافية لأصحاب الدين الغالب([14]).
3ـ وبما أنّ مشكلة التطرُّف هي في أساسها «مشكلة ثقافية»، حيث يبني المتطرِّف عقله على مجموعة من المفاهيم والطروحات الخاطئة؛ لتكوِّن لديه أيديولوجيا خلاصية، سيكون مستعدّاً للموت في سبيلها، لذلك فإن «المعالجة المعرفية» هي الأهمّ في مكافحة الإرهاب، إلاّ أن هذه الخطوة لا يمكن أن تكون مجرَّدة من إصلاحاتٍ كثيرة مصاحبة لها، وهي إتاحة الحرِّية الفكرية في البلدان الإسلامية والسماح للتعدُّد أن يأخذ مداه، وتأسيس منتديات الحوار والتداول الفكري، ودعم المؤسّسات التثقيفية ومراكز البحث الفكري؛ لتقوم بدورها باقتدارٍ. فنحن في الوطن العربي آخر ما نفكِّر فيه هو دعم المشاريع الثقافية بشكلٍ عام، وعلى سبيل المثال: تنفق إسرائيل على البحث العلمي والتعليم أكثر ممّا تنفقه الدول العربية مجتمعةً، وهذه مأساةٌ حقيقية ينبغي الالتفات إليها، أي لا بُدَّ من البدء بالإصلاح السياسي والاجتماعي الشامل، والذي يقوم على بثّ ثقافة التعايش والتسامح وإشاعة الحرِّيات العامة، واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة، وفصل السلطات الثلاث، وسيادة القانون أمام الجميع، وتكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للثروات، أي بناء الدولة المدنية الديمقراطية. وهذا ما يساهم في احتواء أفكار التطرُّف، وسلب المتطرِّف أهمّ سلاحٍ بيده، وهو التخلُّف الاقتصادي، واحتكار السلطة، وقمع الحرِّيات، بحيث إن الناس سيمتلكون زمام أنفسهم، وسيعبرون عن الرأي من دون خوفٍ أو قلق، وسيكون الجميع تحت طائلة المحاسبة والمراقبة بالقانون، وليس بمزاج السلطات، وهو ما يسهم في تبنّي خيار الحوار، بدلاً من العنف.
4ـ العمل على قضايا النقد والتجديد الديني، حيث إنه وحتّى يكون التجديد الديني منتجاً ومثمراً لا بُدَّ من ربط قضايا الدين بالواقع المعاصر وإشكالياته، والعمل على إعادة قراءة النصوص الدينية في ضوء متطلّبات ومعطيات العصر، ومعالمه وقضاياه المتنوعة هائلة الاتّساع كمّاً ونوعاً، بغاية البحث عن رؤية تصلح الواقع الرثّ القائم، وترتقي به إلى مستوى يتناسب مع مقاصد النصّ الديني ذاته في حماية النفس والذات، على مستوى الغايات والقيم والمبادئ، بحيث تكون عملية التجديد هي عبارة عن «جدلية مستمرّة بين النصّ والواقع، صعوداً من الواقع إلى النصّ، ونزولاً من النصّ للواقع». وبذلك من الممكن لهذا التجدُّد والانفتاح المنشود أن يساهم في إرساء «مصالحة عقلانية» مع تراثنا التاريخي، في الحدّ من التطرُّف والتعصُّب، والارتهان الانفعالي إلى الماضي من ناحيةٍ، ويمكِّننا من توظيف مخزوننا الحضاري المستنير في الانتماء (ليس التقليدي، بل وحتّى المنتج) إلى العصر، والفعل والإبداع فيه؛ ذلك أننا اليوم لسنا في حاجةٍ إلى تقسيم العالم إلى ما يُسمّى بـ «دار حرب ودار كفر»، أو أهل إيمان وأهل كفر، إلى آخر تلك الثنائيات القاتلة، بل نحن في حاجةٍ إلى الانتماء إلى مجتمع المعرفة والعلوم العقلية، لا النقلية فقط. وهذا ما يقتضيه فعلياً موضوع المعالجة الثقافية للتطرُّف، في هذا المستوى من التحليل، وخصوصاً على صعيد «إشاعة ثقافة التنوير والاختلاف»، المتمثِّلة في تربية الناشئة على قِيَم المواطنة، ومبادئ ثقافة الاختلاف واحترام الآخر، والإقرار بالنسبيّة، وضرورة التعدُّدية([15]). ويندرج نشر الأفكار التنويرية، بامتيازٍ، في إطار المعالجة الثقافية للتطرُّف، فمن المهمّ دمقرطة الوعي العربي الإسلامي، ونشر الثقافة العالمة، بديلاً من الثقافة المتعالية أو الثقافة الطاردة للآخر. وهذا لا يتأتّى إلاّ بتوظيف قنوات تشكيل الوعي الجمعي، من وسائل إعلام، ومؤسسات تعليمية، ودور شباب، ومواقع في الإنترنت، في تعريف الناس بماهية التطرُّف، وأسبابه، وسوء مآلاته، وانعكاساته السلبية على الفرد والجماعة، وتعريف الأجيال الصاعدة بالجوانب النيِّرة في التاريخ العربي الإسلامي، وتوجيههم نحو الإفادة من التراث والانفتاح على العصر، وتدريسهم ثقافة الاختلاف والتسامح.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربي والإسلامي. من سوريا.
([1]) ولا شَكَّ بأن «هشام شرابي» كان مصيباً عندما لاحظ بأن الدولة العربية المعاصرة خليطٌ من البنى الأبوية والتنظيمات البيروقراطية الاستعمارية، وأن لهذه الدولة خطابها الوصائي الأبوي الهادف إلى تحقيق الإخضاع التامّ للفرد والجماعة، وأن مفهوم الأمّة في هذه الدولة يشكِّل امتداداً لمفهوم الأسرة، من حيث التراتبية والتوزيعية في جوهره. ويؤكّد شرابي أن الإصلاحات العثمانية ـ المعروفة بـ (التنظيمات) ـ في القرن التاسع عشر، والحقبة الاستعمارية، أدَّيا إلى تركيز السلطة في أيدي الزعامات القبلية والتقليدية، وهو ما قاد إلى تحديث قانوني للبنى الأبوية نفسها. ويضيء شرابي، هنا، على أزمة الدولة العربية، حيث لم يصِلْ التحديث فيها إلى مداه، بل أعادَتْ إنتاج البنى التقليدية ما قبل الحديثة باستمرار، ليكون المضمون ذاته والأشكال مختلفة، حتّى على مستوى الدول ذات شكل الحكم الجمهوري، وليس دول الممالك فقط.
([2]) راجع: محمد برهومة، «عوامل صعود السلفية الجهادية في بلاد الشام»، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في مصر. رابط الدراسة:
http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/3/110/3789
([3]) لمراجعة هذه الأحاديث انظر: ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم 2: 257 وما بعدها، مؤسسة الرسالة، 1422هـ ـ 2001م.
([4]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري 1: 119 ـ 120، القاهرة، دار الريان للتراث، 1407هـ ـ 1986م.
([5]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 1: 117 ـ 118.
([6]) جامع العلوم والحكم 2: 257.
([7]) محمد حسين فضل الله، «كتاب الجهاد»: 9، دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1416هــ ـ 1996م.
([8]) ابن أبي الحديد المعتزلي، نهج البلاغة 2: 74، الباب 27، تحقيق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي ـ دار الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007م.
([9]) فضل الله، «كتاب الجهاد»: 33.
([10]) لا وجود البتّة في الإسلام لمبدأ «العداوة» انطلاقاً من تعدُّد العقائد واختلاف المذاهب وتنوُّع الرؤى وشمولية الدعوة؛ لأن الإسلام انطلق كما ذكرنا من ثوابت ومبادئ جوهرية معيارية رصينة «قارّة»، هي مبادئ التعدد والتسامح والحرِّية في الاختيار. ولهذا فالاختلاف بالعقائد بين الناس هو حالة صحّية، ولا يشكّل مصدراً مشروعاً لأيّ صورةٍ من صور العداء والخصام العدائي. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وهي تعطينا فكرة عن إنسانية وشمولية الدين، حيث لا قومية معينة، أو عنصرية معيّنة، وإنّما هو دين الإنسانية. والقرآن نفسه يخاطب الرسول، مثنياً على تسامحه، ومادحاً انفتاحه على الآخر: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159).
([11]) الحرّية المنطلقة أساساً من حرية العقيدة الواردة في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…﴾ (البقرة: 256)، حيث سعى الإسلام ابتداءً إلى أن يفتح عقول الناس على كلّ أنواع العلم والمعرفة الواسعة، قبل أن يدعوهم إلى الإيمان به؛ ليكون لهم إيمانهم والتزامهم الإيماني الحرّ والمسؤول والواعي والواثق والراسخ، البعيد عن القهر والإكراه والتقليد والتبعية والاقتداء بسنّة الآباء والأجداد، التي رفضها الإسلام. وهذه الدعوة للإيمان الحرّ تتعارض كلّياً مع ما نسبه الكثير من المستشرقين، ومَنْ لفّ لفهم من مثقّفينا، إلى الإسلام، من أنه يمارس الدعوة بالقوّة والعنف، وأنه أقرّ الإكراه، واتّخذ سبيل القهر سبيلاً من سبل العمل في نطاق الدعوة. كما أنه لا ينسجم مطلقاً مع دعوة هذا الدين للتفكُّر والتعقُّل والتدبُّر واتّباع سبل الحكمة والموعظة الحسنة، وإدانة الإكراه، والإشادة بقيم التسامح والرحمة والصفح…، رغم كلّ محاولات وأعمال تشويهها تاريخياً.
([12]) رضوان السيد، «دعوات تجديد الخطاب الديني»، مقال في صحيفة الاتحاد الظبيانية، تاريخ: 22/3/2015م، صفحة وجهات نظر. الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=83948
([13]) د. علي حرب، «عام الإرهاب… الوحشية المعاصرة»، صحيفة البيان الإماراتية، صفحة قضايا واتجاهات، تاريخ: 6/1/2015م.
([15]) أنور الجمعاوي، «في المعالجة الثقافية لظاهرة التطرف»، صحيفة العربي الجديد، صفحة مقالات، تاريخ: 17/3/2015م.