قراءةٌ في عوامل النشأة وسبل المواجهة
أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
اخترْتُ في البداية الوقوف على المراد من مجموعة المفاهيم المطروحة، ومنها:
الظاهرة، وهي عددٌ من الحالات السلوكية المتكرّرة والمتزايدة في مجتمعٍ ما على نسق النشأة والآثار المترتبة عليها في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فاذا وجدت حالةٌ جزئية من التطرّف الفكري أو السياسي أو الديني…إلخ فهي نقطة توتر اجتماعي تتّقد في مكانٍ ضيِّق، لكنّها حين تتكرر وتتزايد نوعاً (أي اطّراد التطرف)، وكمّاً (أي زيادة المتطرّفين)، ينتقل الأمر إلى (الظاهرة)، وهي المتكرر الحاصل كسلوكٍ فردي وجمعي، يتبادلان بينهما التأثير والتأثُّر لتعظيم الظاهرة، فإنْ كانت معطياتها إيجابية، مثل: تحويل مفهوم الجهاد من معنى الحرب والقتال والغزو إلى تعظيم الجهود للبناء والتقدّم والتضحية للبلد والأمة، وبذل المزيد لأجل إسعاد الناس، كانت نتائجها إيجابية. ومثاله كذلك: تعظيم ظاهرة الوقف، وتطوير أشكاله وأنواعه ومشروعاته. فالوقف وإنْ كان حكماً شرعياً، إلاّ أنه في نطاق الاستحباب، فإنْ تحوَّل هذا الاستحباب إلى رغبةٍ عامة، ومعياراً للتفاضل الاجتماعي، فتنتج عنه آثار إيجابية على مستوى الكمّ والنوع، وذلك بتأثير الأفراد ببعضهم، أو على مستوى النوع بابتكار مشروعاتٍ جديدة في الوقف، مثل: بيوت نقل الخبرة في مثل أوضاع بلداننا. أما إذا كانت الظاهرة عدمية سلبية فإنها تجلب لها عدداً أكبر من (متدنّي الوَعْي)، وتؤثِّر على المستوى المدني الحضاري للأمة، وتفتقد الظاهرة السلبية إلى مشروعٍ حضاري. فالأصل والنشأة هما اللذان يحدِّدان طبيعة الظاهرة ومعطياتها وآثارها على مستوى راهن المجتمع ومستقبله.
ويُراد بالتطرُّف الجنوح غير المبرهن إلى اعتقادٍ ما بأفكار يعدّها النهايات الأخيرة للحقيقة. وبناء على ذلك فهو يرى أنه يمتلك الحقّ والحقيقة والحقّانية، وأن الآخرين ينطوون على الباطل والوَهْم.
ولا يرتبط التطرُّف بفكرةٍ محدّدة. فليس من الصحيح ربط التطرُّف بالفكر الديني فقط، إنما كلّ الأفكار قابلةٌ لكي تكون مادّةً للمتطرِّفين حينما يغادر أصحابها مبدأ نسبية المعرفة والبرهانية. فلقد عرف تاريخ الفكر البشري موجات من التطرُّف عند الماركسيين واليهود في إسرائيل([1]) والتيار الإنجيلي البروتستانتي، الذي صدرت عنهم عشرات المدوّنات التي تزعم أنها وصلت إلى نهاية التاريخ([2]). بَيْدَ أن التطرُّف يظهر تارةً كأنه حالات فردية؛ ويتحول تارةً أخرى إلى ظاهرة اجتماعية. وقد يطول زمن استحكام الظاهرة؛ وقد يقصر؛ بحَسَب نوع الوعي الذي يواجه الظاهرة، والبيئة الحاضنة، ووجود أسباب موضوعية تديم الظاهرة. ولا بُدَّ من أن نسجِّل أنه ليس كلّ تطرف يلزم أن يقترن بالعنف؛ فهناك متطرِّفون لا يستخدمون العنف لعرض أفكارهم. وقد تجبر الحركات المتطرِّفة على عدم استخدام العنف، مع رغبتها فيه، أنّ ظروفاً قاهرة لها تمنعها. وتجربتنا في بلدان العالم الاسلامي تكشف أن ممارسة العنف الديني الناشئة عن التطرُّف هي من خلايا نائمة لا تظهر إلاّ في حالة ضعف أجهزة الدولة؛ إما لعدم وجود الكفاءات التي تدير مؤسّساتها؛ أو لعوامل أخرى. ويكاد يكون موضوعياً أن التطرُّف رؤية فكرية لممارسة العنف. ويقابل مناخ التطرُّف الوسطية، وهي القَدْر من التوازن بين المتبنّيات الفكرية وبين ما يختلف معها من أفكار، بحيث يبدأ الاعتدال من ذلك القَدْر من المقبولية للآخر، على أنه ليس بالضرورة أن ينتج عن المقبولية مشروعية تلك الأفكار. ولعلّ ذلك هو مفهوم التعارف الوارد في القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ…الآية﴾، ولعلّ الوسطية التي يُراد منها أن تكون المناخ الذي يغلق الطريق على تدنّي الوعي المنتج للتطرّف هي الاعتبار الممنوح لكلّ صاحب رأيٍ، والسماح للاستماع له، ثم مطالبته بالبرهنة على ما يرى. فهي إذن في البداية منهج معرفي ينطوي على قَدْرٍ من الشمولية في الرؤية متعدّدة الأبعاد.
إن الأزمة في غياب الوسطية في إشكالنا الراهن (التطرُّف والعنف) مردُّها أن الإنسان الفطري يرتبط بالفكر الديني بسرعةٍ، وبانجذاب قويّ، ثم يقدّس التعاليم الدينية، صعوداً إلى كلّ ما يرتبط أو يعبِّر عن فكرٍ ديني، ويتماهى مع المقدّس، حتّى يصبح السؤال عن محتوىً ديني أو التساؤل عنه (مروقاً) عن الدين. لذلك يؤكد جان بول ويليم «أن الدين عبارة عن نظام رموز يعمل ويثير لدى البشر حوافز قوية وعميقة ومستديمة ومقدّسة لا يجوز السؤال عن حقائقها»، عبر صياغة مفاهيم عن الوجود والحياة والإنسان ودوره الوظيفي، وإعطاء هذه المفاهيم تجسيدات سلوكية، يتحدَّد نوعها بمقدار الوعي الحقيقي والبرهاني.
ويرى أن الدين يوحّد طريقة تصرّف عبر الشعائر الدينية، ويطرح عبر جاذبية شديدة مفاهيم تفوق ما تطرحه التجربة أو الحقيقة الارتقائية([3]). ففرصة الحوار والمراجعة والتأمّل غير كافية. لهذا يكون الجهل، وعدم إخضاع الفكر الديني للمنهج العلمي، سبباً مهمّاً في غياب التوازن والبرهانية وشمولية الرؤية الفكرية، وهي عوامل مهمة للتطرّف وغياب الممارسة النقدية، وغياب الاستعداد للتكيُّف الإيجابي مع المتغيرات.
وفي ظني أن الوسطية حاضنة للاعتدال، وليست رديفةً له؛ ذلك أن صفة الاعتدال بمعنى «وضع الأمور في مواضعها» لا تتكوّن إلاّ بعد أن يتوسط العقل بين التجاهل التامّ لحقائق الدين وبين الغلوّ في اعتبار كلّ ما جاء عن طريق رجال الدين أو المتصدّين للفكر الديني هو قول الله تعالى، المعبِّر عن الحقيقة الدينية النهائية. فالاعتدال ناتجٌ عن وسطية تنظر باعتبارٍ فكريّ إلى متبنّيات الآخر، بحيث لا يبقى للتشدُّد داعٍ، وتحترم ذاتُها الفكرية أن أدراك مناشئ التطرّف وتداعياته التي تسبب أزمات فكرية ومجتمعية يُعَدّ مقدّمة ضرورية لاكتشاف السياسات المجتمعية للمواجهة. ويعتقد الكثير أن مواجهة الظاهرة العنفية ذات الغطاء الديني يلزم أن تنطلق من النطاق ذاته، أو من جنس الظاهرة ذاتها، بحيث تكون مواجهة «الظاهرة العقائدية» بالعقائد، والثقافية بالثقافة، والاقتصادية بالوسائل الاقتصادية. فهذا هو الأصل، ولا يمنع من أن تعضد المواجهة الأصلية بمعزّزات أخرى، بحيث ترسم سياسة المواجهة رسماً استراتيجياً، شمولياً، يبدأ من الفكر إلى إعادة بناء المجتمع، إلى اقتصاديات ماحقة للتفاوت، إلى تطلُّع مدني للحاضر والمستقبل لا يقف من الدين موقفاً سلبياً. أما الارهاب فلا يرادف العنف، إنما الإرهاب أن يتحوّل من استخدام القوّة لأجل نشر (فكر متطرِّف) إلى سياسة مرسومة وقصدية تستهدف إشاعة أجواء الرعب، والإفادة من سايكولوجيا الخوف. فالإرهاب استخدام مرسوم وقصدي للعنف ونماذج من القوّة لترسيخ قناعات «غير برهانية»، ولتعظيم الشعور بالهزيمة والوهن وعدم القدرة على الصمود أو المواجهة عند الآخر المستهدف([4]). في ما يطلق عليه بالتوحيش المراحل ثلاث: استخدام العنف الديني؛ تحويله إلى الإرهاب؛ ثم تحويله إلى التوحُّش وما تقدّم.
إن التطرُّف ناشئ عن أسباب ذاتية وموضوعية ونفسية. وإن الوسطية والاعتدال هما البديل الذي يواجه موجة التطرُّف. وإن الأزمة إشكالية مركّبة لها أثار سلبية على الوضع العام. وإن السياسات المجتمعية عبارةٌ عن لائحة عمل استراتيجية تشتغل عليها أجهزة الدولة ومؤسّسات المجتمع المدني والأفراد. وإن الإرهاب وسيلةٌ بدائية لغرض القناعات من خلال الخوف.
وعلى تحديد مصطلحات البحث سنعرض أسباب شيوع ظاهرة التطرُّف، وأسباب انتشاره، ودواعي وأهداف استخدام الإرهاب، ومحاولة رسم استراتيجيات المواجهة ومكمّلاتها.
الموقف القرآني من المشروع التكفيري، إشكالية الدين والتديّن
لا يختلف اثنان على أن أصل مشروعية الأفكار والمفاهيم والاجتهادات هو المستند القرآني. وقد توالت على تفسيره عشرات الأجيال من المفسّرين. فكل أمر ينتسب إلى الإسلام لا بُدَّ أن يسوغه كتاب الله المجيد… ولو وقفنا على كتاب الله فإننا نرى:
1ـ أنه يدعو إلى السلام، فيقول: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
2ـ ويمنع ويحرّم أيّ ممارسة عدوانية: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
3ـ ويتحقّق الإيمان والأمان بمعرفة الله الإيمانية.
4ـ ويحرّم قتل النفس إلاّ بالحقّ.
5ـ ويكرّم الإنسان ويستخلفه.
6ـ ويجعل للعقائد طريق العقل وحرّية الاعتقاد.
7ـ ويمنع الناس من التفتيش عن عقائد الناس، ويختص البارئ تعالى بمحاسبة الناس على الإيمان.
8ـ يفتح القرآن باب الإنابة والتوبة لكلّ مَنْ خرج عن الطريق القويم.
9ـ ويغفر البارئ الذنوب جميعاً إلاّ الشرك بعنادٍ.
10ـ يأمر بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة في الدعوة إليه.
11ـ يخلق القرآن في نزوله المكّي إنساناً آمن طوعاً واستعدّ عقلاً لتحمل مسؤولياته، ثم يشرّع له بعد ذلك في السور المدنية نظاماً أخلاقياً للحياة.
فهل تجربة الفكر التكفيري تجربةٌ منسجمة مع التعاليم القرآنية الوارد ذكر بعضها في ما تقدَّم؟
1ـ الموقف القرآني من المشروع التكفيري
أعرض لنماذج قرآنية محدّدة:
1ـ يتّفق الفهم العلمي للقرآن الكريم على أن المعتقدات الأساسية هي الإيمان بالله واليوم الآخر. والشرط التوأم للإيمان هو العمل الصالح، أي «المشروع البنائي الإنساني»، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62).
2ـ يدين القرآن الكريم الغلظة وقساوة القلب (التوحُّش البربري)، فيقول: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة: 74). ومفهوم المخالفة أن المسلم يجب أن يكون رحيماً.
3ـ ويدين القرآن اتّخاذ المتشابه القرآني للفتنة، فيقول: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (آل عمران: 7).
4ـ يحرّم القرآن إجبار الناس على الاعتقاد (بأنموذجٍ خاصّ)، فيقول: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾.
5ـ لا يفوّض القرآن البشر حقّ التفتيش عن عقائد الناس، فقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ (الغاشية: 21 ـ 26). وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 30). وقد وردت لفظة البلاغ (11) مرة في القرآن الكريم، تحدِّد الذي يحاسب على المعتقدات، وهو الله تعالى، وأن الله لم يفوِّض المحاسبة إلى البشر، إلاّ أنه كلَّفه بالدعوة والنصح والإرشاد، وبوسائل الحكمة.
6ـ إن المشروع الرباني الذي أرسله الله إلى البشر بواسطة الأنبياء والقادة الربانيين هو مشروع الرحمة بالإنسان مطلقاً، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
قال الزمخشري: لأن النبيّ جاء بما يسعدهم. ويرى البيضاوي أن الدين سببٌ لإسعادهم؛ لصلاح معاشهم ومعادهم. وعند الرازي مباحث كلامية مهمّة في المراد من الرحمة للعالمين.
وقد روى أنهم قالوا له: ادْعُ على المشركين، قال|: «إنما بُعثْتُ رحمةً، ولم أُبعث عذاباً».
7ـ يتّضح الموقف القرآني في معالجة ظاهرة الكفر من النصوص التالية:
أـ ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ (البقرة: 126).
ب ـ في آية الحجّ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ (آل عمران: 97).
ج ـ ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (المائدة: 12).
د ـ ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ (الروم: 44).
هـ ـ ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ (لقمان: 29).
هذه نماذج قرآنية تؤكِّد أن خصائص المشروع الرباني أنه يحقِّق مصلحة الإنسان بواسطة (العمل الصالح)، وأن القتل والقسوة والعَدَمية لا تتّفق مع (مشروع العمل الصالح)، وأن مسألة الاعتقادات وتغييرها مسألةٌ نظرية معرفية حوارية إقناعية، طريقها العقل والجدال بالتي هي أحسن.
من السنّة الشريفة
1ـ جاء في مسند أحمد قوله|: «لا تنزع الرحمة إلا من شقيّ»([5]).
2ـ جاء في مسند أحمد قوله|: «أنا محمد نبيّ الرحمة»([6]).
3ـ في دلائل النبوة: يقول ابن عباس تفسيراً لقوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال: السكينة هي الرحمة([7]).
4ـ وردت مئات الأحاديث عنه| بوجوب نصيحة المسلم لأخيه المسلم، بل ورد أنها رأس الدين.
5ـ جاء في مسند أحمد قوله|: «لا تُقْتَل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ من دمها؛ لأنه كان أول مَنْ سنَّ القتل»([8]).
6ـ عن ابن عمر أنه| قال: «المسلم أخ المسلم، لا يظلمه ولا يخذله»([9]).
7ـ ورد عنه|: «إن القتل من كبائر الذنوب، وهو قرينُ الشرك بالله».
مناشئ التطرُّف
نظراً لأننا معنيون بظاهرة التطرُّف ونشوء الجماعات التكفيرية التي تزعم أنها حركات إسلامية فإننا ملزمون بتتبُّع أسباب النشوء. ويظهر من التتبع أن مناشئ ذلك النمط من التطرُّف أربعة:
أـ المناشئ الذاتية: «الأصول النظرية للدين».
ب ـ المناشئ الموضوعية: أزمات الواقع والحدث.
ج ـ المناشئ النفسية: «أزمات الوضع النفسي المتوتر».
د ـ المناشئ المنهجية في تلقّي المعرفة الدينية.
أـ المناشئ الذاتية «الأصول النظرية للدين»
أذا أجرينا مقارنةً مضمونية بين القرآن الكريم ومحتوى التوراة والإنجيل فإننا نرى أن التوراة نصٌّ تاريخي يحكي سيرة (بني إسرائيل) كاملة، بينما يحكي الإنجيل سيرة النبيّ (عيسى) والرسل الذين بشَّروا بالمسيحية بعده. أمّا الخلاف الذي يقع بين الأحبار والرهبان أو بين بعضهم فهو خلافٌ في فهم حقائق التاريخ الديني([10])، المعبّّر عنه في العهدين. ونجد في القرآن الكريم ثلاثة محاور أساسية للدين، هي: محور آيات العقيدة، وآيات التشريع، وآيات القِيَم الأخلاقية. وهذه الآيات فيها ما هو محْكَمٌ وفيها ما هو متشابِه. والفارق بينهما أن المتشابِه له أكثر من معنىً وأكثر من دلالة، بينما المُحْكَم نصٌّ في معنىً واحد محدَّد([11])، وهو نصٌّ حاكم ومعياري للمتشابِه.
ولكثرة المتشابِه في القرآن الكريم فقد تعدَّدت دلالات النصّ المؤسّس، وزاد في سعة تداعيات النصّ تنوّع مسالك التأويل، التي كثرت بازدياد طرق تحصيل المعرفة، بحيث صار بإمكان أيّ اتجاه أن يلتمس لنفسه مستنداً من القرآن الكريم.
وهذا الحال يفسح المجال لتفسيرات متطرّفة وراديكالية، ولا سيَّما مع غياب ضوابط التأويل المتفق عليها. لذلك لا بُدَّ للمؤسّسات الدينية المعترف بها، والتي تُعَدّ مرجعيات للمسلمين، أن تعمل على نشر منهجية علمية للتغيير. ومع تعدُّد اتجاهات التفسير ومدارسه، والتعامل مع آراء المفسِّرين على أنها بمنزلة النصّ المؤسّس من جهة احتوائه على الحقيقة النهائية، فإنه يزداد عدم الوصول إلى المراد. وفي ظني أن هذا العامل يُعَدّ من أبرز مناشئ التطرُّف. ويذكر القرآن ذلك فيقول: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (آل عمران: 6)([12]).
والذي يُفْهَم من الآية أن جماعاتٍ قاصرةً تنطلق من مقولاتها الفكرية، ثم تتبع المتشابه لإسناد وجهة نظرها. والهدف تحقيق الفتنة، وتأويل النصّ على وفق مرادها الأيديولوجي.
ثم يعقِّب القرآن بأسلوب الدعاء فيقول: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ (آل عمران: 7)، أي إن غياب «الأصول العلمية والبرهانية المقارنة» في صناعة تفسير النصّ القرآني، والتعامل مع فكر المفسِّر بوصفه (حقائق نهائية)، دون إجراء مقارنة مع مَنْ سبقه أو ألحق به، ربما يشكِّل واحدةً من المشكلات المعرفية التي ينمو فيها التطرُّف؛ لفقدان الرادع الفكري أو الضدّ النوعي له.
وقد اتّفق أهل العلم على أن سيرة الرسول محمد|، قولاً وفعلاً وإقراراً، هي المصدر الثاني للفكر الديني. لكنّ هذا المصدر قد عانى من مجموعةٍ من المشكلات، من أبرزها: إيقاف تدوين الحديث لقرنٍ من الزمان، في وسطٍ ظهرت فيه جماعات مختلفة الدوافع والأهداف عقائدياً وسياسياً، بحيث تسلل إلى مضامين الحديث «ما هو منكرٌ وغريب وضعيف ومرسل وموضوع». وحينما نلحظ موازين التعرُّف على صحة حديثٍ ما نصطدم باختلاف المحدِّثين في الموازين، بحيث أضحت كلّ مشكلةٍ تؤدّي إلى متاهةٍ فكرية أكبر. كما يتشبَّث المتطرِّفون بآراء شاذّة للمفسِّرين، ويستندون الى أحاديث ضعيفة. ومن أبرز مشاكل هذا المصدر أن أهل العلم بهذا التخصُّص لم يستكملوا صياغة المعيار الذي يفرِّق في الحديث النبوي بين ما هو (زمني)، أي في حدود زمن النبوة أو ما يقترب منه، وبين ما هو إطلاقي يُعْمَل به في كلّ العصور والبيئات بمختلف المجتمعات، حتّى بات لباس أهل ذلك الزمن وطريقهم تعاملاً مقدّساً لما يجب أن يعمل به أهل الأزمان اللاحقة. وعقائدياً انقسمت (أمة المسلمين) إلى مدارس، لها مصنَّفات؛ يعتمدها البعض؛ وغير معتمدة عند آخرين، بحيث تهاوَتْ وحدة الأصول النظرية الحاكمة والمعيارية التي نتحاكم إليها، سواء من جهة القرآن، أو من جهة السيرة النبوية، أو من حيث نصوص العقائد، أو من جهة النص الفقهي. فهناك اتّساع وتباين وآراء لكل الموضوعات المستجدّة، من دون أن يكون في هذا الشأن معيارٌ ترجيحي أو ميزان تفضيلي، مع إهمالٍ كامل لمتطلّبات الحاضر، باعتماد طريقة العيش في الأزمنة التاريخية الأولى.
لقد ظهرَتْ في العصر الأول مدرستان تفسيريتان: إحداهما: تتوسَّع في تفسير النصّ، مستعينةً بالعقل، معتقدةً أن الحقائق النهائية موجودة في النصّ ذاته فقط([13]). ولم نلحظ قدراً من التقارب بين المدرستين. ولأن النص القرآني نصٌّ معجز بلاغةً وصياغة، نصٌّ إطلاقيّ يتخطّى الأزمنة والمدنيات، وعندما نعتمد القراءة الحرفية نكون قد وقعنا في اتجاهٍ يحول الرأي البشري إلى نصٍّ مقدّس، ويعجز عن التكيف مع العصور اللاحقة ومقتضياتها. ونتيجة لاصطدام الفهم المتقدِّم للنصّ مع واقعٍ متغيِّر فقد وضع أصحاب الاتجاه أنفسهم أمام أمرين؛ إما التحوُّل نحو القراءة العقلانية الواقعية، وبذلك يتخلَّوْن عن اتجاهٍ آمن بأنه مقدّس ونهائي؛ أو التشدُّد على تلك القراءة، فيقع في التطرُّف الذي يدّعونه، حتّى جرّهم ذلك إلى أن يرووا عن النبيّ| أنه قال: «مَنْ قال بالقرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ»([14]). وهذا الحديث، رغم مخالفة (متنه) للاعتياد؛ إذ الوصول إلى الحقيقة أو إصابة الحقّ غرضٌ شرعي لا ينسجم مع وصفه بأنه (أخطأ)؛ لأن ذلك إقرارٌ بالإصابة وتوصيف بالخطأ، وهذا لا يتصوَّر صدوره عن النبيّ|([15]).
ولقد ترتَّب على الاعتماد على فهم الزمن الأوّل لمتلقّي النصّ أن آراء الصحابة وفهمهم صارت آثاراً ملزمة لأهل الأزمنة اللاحقة، فصار الفهم الصحابي وضعاً مرجعيّاً، حتّى لو وقف الحديث عليه، فقد اعتبروه مرفوعاً. وقد وضعوا لذلك قاعدة أن موقوف الصحابي كمرفوعه([16])، وبرَّروا ذلك أن الصحابي رُبَما قد سمع ذاك من النبيّ|، فصار بحكم المرفوع.
مما تقدَّم يتبين أن الجذر الأول الذي شكّل أساساً تاريخياً ودينياً للتطرُّف هو القراءة الحرفية وأحادية الرؤية. وكان قد تأسّس في عصر الصحابة. وقد أطلق عليه بعد قرنين من الزمان مرجعية (فهم السَّلَف)، أو عقيدة السَّلَف. وارتبط هذا المفهوم بمبدأ عدالة الصحابي مطلقاً، حتى لو ثبت عليه ما هو خلاف العدالة، أو حتّى لو لم يكن الصحابي فقيهاً أو عنده شيءٌ من العلم.
لقد ظهرت مرجعية السَّلَف في فكر الإمام أحمد بن حنبل، وفي آراء تابعيه، الذين زادوا على آرائه، وسُمِّي ذاك بتيار الحنابلة، الذي طوَّر مفهوم البدعة حتّى شمل كلّ الاجتهادات العقلانية، وعلى رأسهم المعتزلة([17])، وأسّس لمبدأ رفض تأويل النصّ، والعمل بالظاهر «الحرفي»، ممّا أوقعهم بالتجسيم؛ لأن التأويل عندهم حمل الظاهر على محتملٍ مرجوح يُراد جعله راجحاً([18]). وتأسيساً عليه وصل الأمر الى تكفير المتأوِّلين في القرن الرابع، فشمل المرجئة والمعتزلة والصفوية والشيعة والأشاعرة والإسماعيلية والمتكلِّمين…إلخ.
وكانت نظرية الفرقة الناجية، وأطروحة الطائفة المنصورة، التي صرفت حصراً إلى أهل الحديث، من دون الناس، مستنداً على ضلال بقية الفرق والاتجاهات ما عدا أهل الحديث، الذين هم أحقّ مَنْ يتكلم بالمعرفة الدينية. وإذا كان الإمام أحمد يرى أن مَنْ خالف (المتواتر) فهو ضالٌّ فإن تيار الحنابلة اعتبره كافراً، وكان أحمد يرى أن البلاد التي تظهر فيها البدعة هي دار الكفر، تجب الهجرة عنها، ويجوز غزوها، وتقتيل أهلها. وقد حصل هذا في (ماردين).
وبذلك تأسَّست المبادئ الأولى لخطاب العنف:
أـ اعتماد منهج القراءة الحرفية للنصّ الديني، والتشديد على الاجتهاد، وإسقاط البرهنة والحوار.
ب ـ الالتزام بمعيارية فهم أهل الزمن الأول، بحيث يتحول الدين من حقيقة كونية تستوعب الإنجاز الإنساني إلى أنموذج تاريخي سكوني.
ج ـ استخدام مفهوم البدعة ومفهوم الفرقة الناجية ضدّ جميع فرق المسلمين، ليتحوّل الأمر بعد ذلك إلى التكفير.
إن آراء أحمد وما زاده الحنابلة عليها أسّست لنظرية الخطاب الديني المتشدِّد كمقدّمة لفكر التطرُّف، الذي سيصبح نظريةً عند ابن تيمية، الذي وسَّع البدعة إلى التكفير، ووسم بعض تفاسير القرآن بأنها مروّجة للبدعة، وتنقل عن (المتهمين)، وصنَّف في نقض المنطق، والردّ على الفلاسفة، وطالب بإقامة الدولة على غرار (الخلافة) وأنموذج السَّلَف، ثم كفّر الأشاعرة والصفوية والمعتزلة والماتريدية والمرجئة والشيعة والإسماعيلية والدروز، وهاجم مذاهب الفقهاء، ولا سيَّما مذهب أبي حنيفة([19])، الذي اتَّهموه بالإرجاء. وجرّاء تناسل فكر التطرُّف دخل العالم الإسلامي بعد القرن الثامن الهجري في غيبوبةٍ كاملة، وقد أغلقت عليه السلطات سبل التطوير والتنوير. وقد استمرّت الفترة المظلمة حتّى القرن الثاني عشر، فكانت الحلقة التالية لهذا التناسل ظهور (اتجاه متطرِّف جديد يتبنّاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب النَّجْدي، صاحب النظرية الوهابية المعاصرة).
لقد قدّمت الوهابية نفسها كحركةٍ تصحيحية للعقائد، معتمدة الوسائل العنيفة والغزو. وقد اعتنقت آراء تيار الحنابلة، ولا سيَّما ابن تيمية، حتّى عاد مرجعيةً فكرية وحيدة للوهابية. وبناء على رأيه في تحريم البناء على القبور فقد سوَّغوا هدم الأضرحة والمساجد التي فيها مقابر الصالحين، وأفتوا بقتل مَنْ يتوسَّل بالأولياء، وصرَّحوا بأن مَنْ أسموهم أهل البدع والضلالات أغلظ شركاً من المشركين الأوائل([20])، واستتبّ الأمر لتجربة (دينية ـ قبلية)، وأعلنت الجزيرة إقليماً حصرياً لمذهبٍ واحد، بل لرؤية داخل المذهب الواحد. واعتمدت طرقاً تلقينية للتعليم الديني، صنعت به عقلاً متشدّداً أحادي التوجّه، صار بعد ذلك بيئةً فكرية للتطرُّف والعنف. ثم انتشر هذا الوباء في عموم العالم الاسلامي، محدثاً فيه البلاء الأعظم.
هذا هو التسلسل التاريخي والفكري لظاهرةٍ دينية ـ تاريخية ـ، تأسَّست من مناشئ عدّة، وساعدت عليها حالات التردّي المعرفي والانحراف السياسي لدولة المسلمين. فاذا عرفنا المناشئ الذاتية فكيف ترسم المواجهة عقائدياً وفكرياً؟
ب ـ المناشئ الموضوعية للتطرُّف
يُراد بالمناشئ الموضوعية ما هو مقابل الذاتية (مكوّنات العقل الديني). أما الموضوعية فهي (الواقع الفعلي) الذي بدأ بتمرُّد الخوارج، إلاّ أن هذا التمرّد ـ الذي دام قرناً كاملاً ـ قد انتهى فكرياً وعملياً بعد النصف الثاني من القرن الثاني، حيث حصل الصدام بين السلطة وأحمد بن حنبل، وبهذا تكوّنت جماعات الحنابلة في القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي اعتبره آدم متز قرن الذروة الحضارية للمسلمين. بعد ذلك توالت الانتكاسات السياسية، سواء في تعدُّد الدويلات أو ظهور تيارات التشدُّد، ثم هجوم المغول على العالم الاسلامي. وبدل اللجوء إلى مشروع عقلاني لمواجهة التدهور الفكري وإعادة بناء المجتمع، وقع المسلمون في تداعيات الهزيمة، وكان انعكاسها في تيار ابن تيمية. وهكذا دخل العالم الإسلامي بالغيبوبة الحضارية، وأوجدت شعوباً ابتلت بالفقر والجهل والخرافة وسيطرة الأساطير، وتدنّي طرق التعليم والتلقينية، وغاب الاجتهاد والبرهانية غياباً تاماً. فلما حلَّ القرن التاسع عشر الميلادي هاجمت أوروبا بلدان العالم الإسلامي، بدءاً بالهند، ثم قامت بعد الحرب الأولى بتفكيك دولة الخلافة العثمانية، وشكل ذلك صدمةً حضارية أذهلت المسلمين، وشاهدوا الفرق الكبير بين ما حقّقه الغرب وبين ما هم عليه من أوضاع. وإزاء ذلك كانوا بين ثلاثة خيارات:
الأول: الاستسلام الكامل لحضارة الغرب بوصفها صانعة للتقدُّم. وهذا يقتضي الإعراض التامّ عن التراث والدين.
الثاني: التمسّك الكامل بالتراث المملوء بالتدنّي المنهجي والمعرفي ونتاجات عصور التدهور الحضاري. وهذا يقتضي قدراً كبيراً من التشدُّد الديني.
الثالث: الاتجاه المدني العقلاني، الذي يحاول مراجعة وإعادة النظر بالتراث وإحياء الأفكار الحيوية، وإعادة صياغة مشروع النهضة على أساس مبادئ الإسلام عالية المضمون، من منهج عقلاني نقدي، منفتحٍ على الإفادة من تجارب الشعوب والأمم الراقية، ولديه قدرة المواءمة والتكييف بين مبادئ التراث المشرقة وإنجازات العقل البشري. لكنّ هذا الاتجاه تعرّض لهجمات واسعة من تيار الاغتراب المتطرِّف، وهجمات أقسى وتكفير وتبديع من التيار السَّلَفي، فلم تظهر بصماته واستراتيجياته على واقع المسلمين.
لقد انفرد العلمانيون في صنع الحَدَث. واستمرّ التيار العلماني باضطهاد وقمع السَّلَفي. وجرّاء ذلك عانى المسلمون من مشكلات في فشل مشروعات التنمية المستدامة، وشيوع الفقر والمرض، وتدنّي الخدمات والاستبداد، وعنف الدولة وإرهابها، والهزائم العسكرية أمام (عدوان إسرائيل)، والوقوع في التخادم للأجنبي…إلخ.
من مشكلاتنا المعاصرة أن هذا الواقع، بما فيه من تدهور في صناعة الأوطان، دفع بعض المنتفعين إلى تأسيس جماعاتٍ دينية متطرّفة، أسهمت بنشر فكرٍ متطرّف؛ لشدّها إلى طموحاته وأهدافه، فكانت هذه الجماعات تعتاش على تدهور الوضع الحضاري. ومن ذلك: شعار جماعة الإخوان المسلمين: «الإسلام هو الحلّ»، على الرغم من أن جماعة الخوان كانوا متقدِّمين خطوةً في طرح مشروع للنهضة لصالح الإنسان، في حين انشغل عموم التيار السَّلَفي بتصحيح العقائد، التي حسبها هو (منحرفة)، مع إهمال حاجات الإنسان وتطلُّعاته.
ج ـ المناشئ النفسية والسياسية للتطرُّف
لزمان الهزيمة تداعيات، وهي التي دفعت قادة جماعات التطرُّف وعناصرها إلى تحقيق «أنا» مأزومة، سحقتها عصور الانحطاط الحضاري بعد القرن الخامس الهجري حتّى القرن التاسع عشر.
فمن وجهةٍ نفسية إن التمرد على الدولة والمجتمع، وما استقر عليه العالم المعاصر من أنموذج للتعايش، يعكس حالةً ذهانية أو عصابية هدفها إرضاء الوضع النفسي المأزوم بين قِيَم الهزيمة وقِيَم النهوض.
ومن الناحية السياسية إن المتتبِّع لجماعات التطرُّف وحركتهم من عصور الإسلام الأولى إلى اليوم يكشف أنها تنطلق من بواعث سياسية، وتتّجه إلى أهداف سياسية، موظّفة الدين كوسيلةٍ تعبوية وأيديولوجية للحصول على مغانم سياسية. فالتطرُّف يتشكَّل على خلفيةٍ سياسية بتنظيرٍ عقائدي. لذلك ترى فقه السياسة واضحاً في مدوّناتهم، أكثر من فقه القِيَم وبناء الضمير والجانب الروحي والعبادات والمعاملات.
ومن الوجهة الأيديولوجية يقول الباقلاني عن الخوارج: «إنهم جعلوا آيات العذاب التي نزلت في حقّ الكافرين في أهل الإيمان والتوحيد»([21]).
ونجد ذلك في ما تُسَمّى بمحنة ابن حنبل، وصدامات تيار الحنابلة، ودعوة محمد بن الوهّاب، وحركات الإسلام السياسي، وصولاً إلى كتابات عبد الله عزّام، الذي بشرّ بأن أفغانستان ستكون ميداناً للمهامّ السياسية. ففكر التطرُّف يسعى أوّلاً لإقامة الدولة، ومن ثم يُقام المجتمع؛ بينما الفكر المعتدل يخلق المجتمع أوّلاً، ثم المجتمع نفسه يخلق الدولة.
القسم الثاني: تصوُّرات لسبل المواجهة
إن خطورة مواجهة التطرُّف، الذي يعتمد العنف الديني الذي أنتج (الإرهاب) بالمصطلح المعاصر، تزيد على دخول البلاد في حربٍ كبرى مع دولة أو عدّة دول إقليمية، من حيث استنزاف الثروة والأرواح وتعطيل الحياة المدنية، بل هناك آثار نفسية كبيرة تقع على الناس؛ بسبب احتمالات الوقوع في واحدةٍ من عمليات الغدر بالمفخّخات والأحزمة الناسفة والعبوات العشوائية. وكلّ هذا يتطلَّب اكتشاف سبل المواجهة. وأتصور أن المبادئ العامة لسبل المواجهة ما يلي:
أـ إن الدولة القوية تقلِّل من فرص الإرهاب وقوى التطرُّف. لذلك لا بُدَّ أوّلاً من بناء دولةٍ قوية.
ب ـ تقليل حالات الخصومة الوطنية «وإجراء عملية اندماج وطني»، وهو هدف أعلى من المصالحة.
ج ـ الدعوة والسعي الدؤوب إلى سياسات إقليمية تصغِّر المشكلات الجيوسياسية «باتفاقيات اقتصادية وأمنية».
د ـ تحليل مناشئ التطرُّف، ورسم الخطط على أساس فهم أسباب النشأة والتطوّر على مستوى الفكر والثقافة.
هـ ـ تحقيق التوافق بين المراكز الدينية في العالم؛ للتصريح بأن التطرُّف ظاهرةٌ مدانةٌ شرعاً، وأن العنف والارهاب جريمةٌ وانحطاط أخلاقي، بحيث يضع على الإرهابيين عاراً دينياً ووطنياً، والإعلان عن عدم استناد التطرُّف على أسس دينية صحيحة، وذلك:
1ـ بإعادة دراسة السيرة النبوية.
2ـ بدراسة سيرة الصالحين من أجيال المسلمين.
3ـ بإبراز القِيَم السلمية المشتركة.
4ـ ببيان أن العقائد والمعتقدات هي حقٌّ خالص لله تعالى، ولم يفوِّض البارئ أحداً يحاسب الناس على عقائدهم وآرائهم. فليس من حقّ أحدٍ أدانة أحدٍ، إنما حقه الإعلان عمّا يعتقده صحيحاً، والبرهنة عليه، والتدليل على الزلل كما يراه في ما يعتقده الآخرون، دون إقصاء أو تكفير.
5ـ بإعادة النظر بوسائل التعليم الديني وطرقه، وإعلاء شأن التفكير والبرهانية، وإعمال النقل في مسالك العقل.
الخاتمة
1ـ يمكن القول: إن التطرف الحاضن للعنف الديني نمطٌ من استجابات غير واعية لوقائع الفشل، ولأهداف سياسية تختفي وراء فكر ديني متزمت ماضوي؛ لإثارة الضمير الديني، ونزعة انتقائية للذات، وإقصائية للآخر بواسطة البدعة والتكفير.
2ـ إن للتطرُّف جذوراً في التاريخ الإسلامي، من القراءة الحرفية حتّى أدبيات الحركات (الجهادي) المعاصرة. ومهما تعدَّدت مراحل تطوُّر موجات التطرُّف فإنها متناسلةٌ مما قبلها، وكلّ مرحلةٍ لاحقة تضيف (فكراً متشدّداً) عمّا في سابقها.
3ـ يجد الباحث أن هناك علاقة طردية بين التخلُّف وفشل التنمية ومشروع النهضة وبين الفرص المتاحة للتطرُّف.
الهوامش
(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.
([1]) جمال الدين البدري، الاحزاب الدينية الإسرائيلية، النشأة والتطور: 177.
([2]) روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة: 15.
([3]) جان پول ويليم، الأديان في علم الاجتماع: 137.
([4]) أبو بكر ناجي، إدارة التوحش.
([5]) مسند أحمد بن حنبل 16: 201.
([7]) البيهقي، دلائل النبوة 4: 250.
([8]) مسند أحمد بن حنبل 7: 485.
([10]) زينو، موسوعة الأديان الحيّة: 11.
([11]) الذهبي، التفسير والمفسِّرون: 152.
انظر: محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي 1: 144.
([12]) يمكن التحقق من ذلك باستعراض تفاسير (راديكالية)، مثل: (في ظلال القرآن)، لسيد قطب.
([13]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون: 56.
([14]) الملاّ علي القاري، المشكاة: 235؛ سنن أبي داوود 2: 799.
([15]) قال عنه أهل العلم: إنه حديثٌ ضعيف وغريب.
انظر: سنن الترمذي 1: 360.
([16]) ابن الصلاح، مصطلح الحديث.
([17]) البدعة عند أحمد ما أحدث في الدين وليس منه، وما خالف السنّة، وما لم يؤيِّده سلوك الصحابة والتابعين وأتباعهم. وهي أخطر من الكفر. فأحمد لا يرى توبةً لمَنْ دعا إلى بدعةٍ، بينما للكافر الحقّ في التوبة، ويرى أن الردّ على أهل البِدَع أعظم من جهاد الكفّار.
([18]) انظر: السبكي، جمع الجوامع: 117.
([19]) ابن تيمية، منهاج السنة 2: 241
انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوي 7: 33.