د. حميد صادقي(*)
ترجمة: علي الوردي
مقدّمة
هل يجوز ـ طبقاً لمبادئ علم الأخلاق ـ تعذيب شخص بغية إبعاد الضرر عن عدد أكبر من الناس أم لا؟ وهل يجوز لنا التجاوز على حقوق الآخرين بقصد توفير أعلى درجات السعادة للناس؛ والتقليص من وضعهم المأساوي إلى أدنى حدٍّ ممكن؟ وهل يجوز أخلاقياً التصدّي لظاهرة تفشي الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين من خلال التعدي على حقوق الآخرين أم لا يجوز لنا ذلك، حتى لو علمنا أنّه يحقق لنا نتائج كبيرة؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وفقاً لمعطيات النزعة الهيدونية، أو ما يسمّى: بمذهب اللّذة.
تمهيداً للخوض في هذا البحث يمكننا طرح السؤال التالي: ما هو المعيار الصحيح الذي يعتمده أتباع مذهب اللذة لقياس السلوك الصحيح؟ إن السلوك الجيد بالنسبة لهذا المذهب الأخلاقي الذي له قوانينه الخاصة هو السلوك المثمر الذي يحقق للمجتمع السعادة والرفاه. وبعبارة أخرى: الشخص المحظوظ هو الشخص الذي يشعر معظم الأوقات بالرضا، وينعم بسعادة العيش. وبناءً على ذلك فالسعادة تعني أن يتمتع الفرد بنصيب وافر من اللذائذ. والعمل الصحيح ـ من وجهة نظر هذا المذهب ـ هو العمل الذي يجلب الخير ويدرأ الشر. فكلّ عملٍ يجلب المتعة يعدّ عملاً جيداً، وكلّ عمل يؤدّي إلى الحرمان منها يعدّ سيئاً. وانطلاقاً من ذلك فإن العمل الذي يحقق أكبر قدر من اللذة، أو يدفع أكبر قدر من الأذى، هو عمل جيد، وهو عمل يجدر بنا القيام به. فعلى سبيل المثال: لو أن شخصاً تمكَّن من إدخال السرور إلى قلب أحد المعاقين، من خلال اصطحابه إلى أحد المتنزهات، وتوفير كل ما يجلب له المتعة، فمن الطبيعي أنّ قيام ذات الشخص بإدخال السرور إلى قلب خمسة من المعاقين هو أفضل بكثير من فعله في المثال الأول، وعمله هذا ـ بدون أدنى شك ـ عملٌ صحيح يجدر القيام به.
يرى أتباع مذهب اللذة أنّ اللذة تنحصر في الشيء الذي يكون ممتعاً في ذاته، وبذلك يمكن الانطلاق في تقييم باقي الأمور تبعاً لهذا المبدأ. والمتعة قد تتحقق بما هو في متناول اليد، وقد تتحقق بما سنصل إليه فيما بعد.
ومن المناسب هنا أن نعرف كيف نميّز بين الأمر الإيجابي كوسيلة وبين الأمر الإيجابي كهدف، فإذا كان الشيء الإيجابي هدفاً بحدّ ذاته فإن فوائده تعود عليه فحسب، في حين أنه إنْ كان وسيلة فإنّ ما يحققه من فوائد سيعود للغير أيضاً. ويتفق أتباع مذهب اللذة على أن الأعمال الصحيحة هي تلك الأعمال التي تكون إيجابية كوسيلة، لا كهدف. وإنّما يكون الفعل فعلاً صحيحاً حقاً إذا أريد منه تحقيق أهداف جيدة ومحددة. وبعبارة أخرى: الأعمال الصحيحة والمقبولة هي الأعمال التي تحرز أهدافاً جيدة.
ويعتقد الهيدونيون التقليديون بأن قصد الخير وتحوّله إلى هدف كافٍ في تحقيق اللذة والسعادة و إقصاء الألم والمعاناة. أما المثاليون فيرون أنّ المتعة واللذة ليست أمراً إيجابياً في حدّ ذاته، لكنّ امتزاجها بالإيمان والمحبة والعلم والجمال، وتحوّلها ـ معاً ـ إلى غايات، يجعل منها أمراً إيجابياً.
وعلى أيّ حال فإنّ الفريقين يسلكان نفس الطريق؛ لأنّ كلاًّ منهما يعتقد أن اشتمال العمل على اللذّة دليل على صحّته.
يقول رافائيل: إنّ القيمة الأخلاقية ـ بحسب الهيدونية ـ على نوعين: الأوّل: يأخذ نفس إنجاز الأعمال الصحيحة بالحسبان؛ وذلك لأن إنجاز العمل يكون بدافع الإحساس بالمسؤولية؛ الثاني: إن نفس إنجاز العمل يقاس وفقاً لدوافع أخرى، كالعاطفة، والإخلاص، والشجاعة.
ويعتقد التقليديون من أتباع مذهب اللذة أن كلَّ حالة من الحالتين هي بمثابة وسيلة جيدة. وقد تقدَّم أنّ الأعمال الصحيحة بالنسبة لمذهب اللذة هي الأعمال التي تتحدَّد قيمتها وفقاً للفائدة التي تعود منها، ولذا فإن اعتياد القيام بعملٍ ما بدافع الإحساس بالمسؤولية يعتبر أمراً مفيداً؛ لأنه يجعل الفرد ينجز العمل برغبة وشوق. إن أهمية وقيمة بعض المحفِّزات، كالشجاعة، والعطف، والإخلاص، تكمن في قدرتها على جلب السعادة ودرء التعاسة. لذا فإن أهميتها تكمن في تأثيرها الإيجابي في رفع مستوى السعادة، والحدّ من التعاسة.
وهنا سؤال قد يطرح نفسه: ما هو موقع التضحية والفداء بالنسبة إلى النزعة الهيدونية؟ وهل تعد التضحية عملاً صحيحاً في جميع الأحوال؟ يعتقد رافائيل أن مَنْ يضحي بسعادته من أجل إسعاد الآخرين فإن عمله يُعدّ صالحاً، بشرط أن لا يمتلك الآخرون تطلُّعاً نحو سعادةٍ أسمى. ففي حال وجود تطلُّع نحو سعادة أسمى فإن التضحية تعدّ عملاً خاطئاً؛ إذ ليس هناك أيُّ مبرر للتضحية من أجل زيادة نصيب الآخرين من السعادة. ومن الأمثلة على ذلك: المعاناة والمأساة التي واجهها أولئك الذين وقفوا إلى جانب هتلر عندما دفعوا ثمناً غالياً بتضحيتهم من أجل زيادة نصيب غيرهم من السعادة.
وفي مقارنته بين التقليديين والمثاليين من أتباع مذهب اللذة يرجِّح رافائيل التقليديين (الكلاسيكيين) على المثاليين، ويمنحهم مكانةً أسمى؛ وذلك أن الكلاسيكيين يسخّرون نظريتهم الأخلاقية لتكريس الإصلاح الاجتماعي، في حين لا يتجاوز المثاليون قيمة الفرد، والجانب الجمالي.
وقد يتساءل البعض: وفقاً للفلسفة الهيدونية مَنْ هو المستهدف بالسعادة؟
يرى التقليديون أنّ السعادة الفردية هي المعيار المطلوب. وبالطبع فإن هذه السعادة لا تقتصر على بني البشر فقط، بل تشمل كلّ أنواع الحيوانات التي تعرف معنى السعادة والمعاناة.
وفي مقابل أتباع الاتجاه التقليدي، الذي يدعي أن توفر اللذة أمرٌ مرغوبٌ وعدم توفرها غير مرغوب ـ وبغض النظر عمّا ينجم عن ذلك ـ، يعتقد غير التقليديين من أتباع مذهب اللذة بأنه لو تردَّد أحدٌ في اتخاذ القرار الذي ينشده فلا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار العواقب المحتملة لسعادة أو تعاسة أي شخص أو أي كائن يمكن أن يتأثر بهذا العمل، لكن ليس من الضروري الأخذ بنظر الاعتبار العواقب غير المباشرة التي قد يتعرض لها أناس آخرون في أماكن أخرى من العالم. يقول رافائيل: إن البعض يتصور أن الهيدونيين يعتقدون بأن الواقع النفسي هو الذي يتحكم بسلوك الآخرين، فيدفعهم لتحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة، وقد دفع ذلك بعض الكتّاب للدمج بين الواقع النفسي النرجسي والمنهج الأخلاقي الهيدوني.
وعلى الرغم ممّا قد يبدو عليه الدمج بين الأمرين من غموض، إلاّ أنّ السؤال الذي يبقى ملحاً هنا هو: ما هو الطريق الذي ينبغي سلوكه من أجل زيادة نصيبنا، وكذلك نصيب سائر الناس من السعادة؟
الطريق بحسب الهيدونية هو تجنب كل أشكال الفوضى وعدم الانسجام. فالهيدونيون يعتقدون بأن أي عمل يؤدي إلى زيادة نصيب عامة الناس من السعادة عمل حسن وممتع؛ إذ لا يمكن للعاقل الاستغناء عن معونة غيره في أي وقت. وعليه فلكي يحقق أكبر قدر من اللذة يحاول مساعدة الآخرين بتقديم أفضل الخدمات لهم؛ ليحصل على دعمهم ومساعدتهم متى شاء؛ إذ كما قلنا: إن العاقل بحاجة مستمرة لمساعدة الآخرين.
وبتعبير أدقّ: إنْ رغب الشخص في تعزيز قيمته الذاتية فما عليه سوى تلبية رغبات الناس، وتحقيق أكبر قدر من السعادة لهم، وهذا النمط من الأداء ضروري لكلّ مَنْ يحاول الوصول إلى غايته المتمثلة في التوفر على أكبر قدر من اللذة.
وطبقاً لرأي رافائيل فإنّ الهدف من الأصل الأخلاقي، الذي يدعو الإنسان لتلبية رغبات الناس، وتحقيق أكبر قدر من السعادة لهم، هو أنّ مثل هذا السلوك ضروري للفرد إذا كانت غريزة حب الذات ـ الأسلوب الأفضل لضمان المنافع الشخصية ـ تتحرك في إطار الإدراك العقلاني.
ووفقاً لأتباع مذهب اللذة فإنّ باستطاعة الإنسان تحقيق نفس المستوى من الجودة في العمل، سواء كان متضمناً للدافعية أو مفتقراً إليها. ويمكن التأكُّد من هذه النتيجة عبر القيمة الأخلاقية الهيدونية، المتمثِّلة بتحقيق أكبر قدر من السعادة للناس، ليس عن طريق الإحسان البسيط لهم فحَسْب، وإنما عبر الحرص والاهتمام بتلبية رغباتهم، وتحقيق ما يطمحون له.
ويبدو أن مبدأ الأنوية لم يكن خالياً من التأثير على الاتجاه الهيدوني؛ وذلك أن اهتمام الأخير بالصلة بين القيم الأخلاقية لا يقل عن اهتمامه بالقانون والسياسة.
ويعتقد أتباع هذا المذهب بأن العمل الصالح هو العمل الذي يرفع مستوى السعادة إلى أقصى ما يمكن، ويقلّص الأذى إلى أدنى ما يمكن. ومن المعلوم أن أكثر الناس يسعون لتحقيق سعادتهم الشخصية بدافع حب الذات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا على المرء أن يفعل كي يحقق لنفسه ما يريد ويلبي رغبات الآخرين في آنٍ واحد؟
يعتقد رافائيل ـ وانطلاقاً من الهيدونية ـ أن أغلب جوانب الحياة الاجتماعية لا تشهد انسجاماً طبيعياً، أو نظاماً محدَّداً يجعل الجمع بين الأمرين، أو لنقل: «الدافعين»، أمراً ميسوراً، ومن هنا فإن الدول تسعى لإيجاد انسجامٍ «وضعيٍّ» بين «البواعث» و«الدوافع» عبر سنّ الدساتير وتشريع القوانين؛ لغاية تتمثَّل في رفع مستوى السعادة المجتمعية. فمثلاً: تحاول اللوائح القانونية، التي يتم المصادقة عليها من قبل الدول، تشويه صورة الفعل غير المشروع، وإفراغه من العناصر التي تشدّ إليه مَنْ تسوّل له نفسه ارتكاب مثل هذا الفعل، وبذلك يتغيّر انطباع الأفراد تجاه هذا النمط من السلوك.
ولْنَرَ كيف يفسِّر الهيدونيون الآلام الناجمة عن العقوبات الجزائية.
لا شك أن كل فعل ينجم عنه الألم والمعانة هو فعل مرفوض، بل لا نجد ثمّة مَنْ يتمنّى حصول ذلك له. أمّا العقوبات الجزائية وما ينجم عنها من آلام للمجرم فهي أمر لا مناص منه؛ إذ يبرِّرها تخليص المجتمع من فساد أكبر بكثير من حجم الفساد الذي يجرّه السوط على جسد المجرم.
وبحسب الهيدونية فإنّ عدالة القانون يجب أن تتحوّل إلى أمر ممتع. وبالتالي فإنّ الذي يجعل المذنب مستحقاً للعقاب هو أنّه بارتكابه للجريمة اقترف أمراً «غير ممتع»، من شأنه أنْ يقوّض به السعادة الفردية والاجتماعية، الأمر الذي سيجعل من عقابه تكريساً للسعادة الاجتماعية؛ إذ إنّ العقوبة ستشكل رادعاً لكل مَنْ تسوّل نفسه ارتكاب الجريمة لاحقاً. وبالتالي لا بدّ أن ننطلق في تقييمنا للعدالة من حجم السعادة التي تحققها للمجتمع.
وعلى الرغم من بعض المظاهر الإيجابية التي تتمتّع بها الهيدونية، فإن هناك عيوباً كثيرة تشوبها. فهي مثلاً تعتمد مبدأً أخلاقياً معيناً، وتتجاهل باقي المبادئ الأخرى، فتصب اهتمامها على المبادئ التي تترتب عليها آثار مستقبلية، وتتجاهل المبادئ التي لها آثار ماضوية، كالوفاء بالعهد، أو المبادئ التي لا علاقة لها بالزمن، كالصدق.
يدّعي أتباع مذهب اللذة أن المبدأ الأساسي للسعادة يستوعب كافة القوانين الأخلاقية العامّة، أمّا القوانين الأخلاقية الجزئية ـ وانطلاقاً من مبادئها الحميدة ـ فإنها تعتبر وسيلة للوصول إلى هدف محدَّد، وهو تحقيق السعادة العامّة.
وهنا قد يتبادر لدى البعض السؤال التالي: ما هو موقف الهيدونية عند تعارض أحد المبادئ الأخلاقية مع مبدأ أخلاقي آخر؟
والجواب ـ بحسب الهدونية نفسها ـ: لا بدّ في هذه الحالة من العودة إلى المبدأ الأساسي للذّة، الذي يستوعب كافة القوانين الأخرى. وبتعبير آخر: المهم هو أن يدركوا أن السلوك الناتج عن اللذة هو أبرز عامل من بين جميع العوامل الأخرى التي تساهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة للناس، وهذا المبدأ هو مبدأ أساسي يمكن عدّه معياراً قيمياً، والرجوع إليه للفصل في الكثير من النزاعات.
ووفقاً لأتباع هذا المذهب فإنّ السلوك الصائب هو السلوك الذي يحقق أعلى مستوى من السعادة لأكبر عدد من الناس. ولهذا المعيار القيمي عنصران: الأوّل: إنه باعث على تحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة؛ والثاني: إنه يدفع نحو بثّها إلى أوسع نطاق ممكن. يقول رافائيل: «إنّ مبدأ اللذة الشهير، أو مبدأ تحقيق أكبر قدر من اللذة، يتألّف في واقعه من مبدأ اللذة مضافاً إليه مبدأ العدالة، فهو عبارة عن مبدأ اجتماعي إلى جانب كونه مبدأ توزيع».
وهنا قد يتساءل القارئ: ما هو موقف الهيدونية (أتباع مذهب اللذة) فيما لو تعارض مبدأ اللذة ومبدأ العدالة؟
لا شك أنّ أبرز أوجه التعارض بين القيم الأخلاقية يعكسه التعارض بين اللذة والعدالة، لكن بحسب الهدونيين فإن مبدأ اللذة يضم إلى دائرته مبدأ العدالة، ويهيمن عليه.
كما أنّ الهيدونية ترى أن السلوك والأداء الممدوح، والذي يستوجب تثمينه، ودفع الأجر مقابله، هو السلوك الذي يعتبره المجتمع نافعاً. إذن فإن معيار التثمين، هو الفائدة المترتبة على الأداء. ولا يخفى ما للثمن أو الأجر من دورٍ بارزٍ في تحفيز الناس ودفعهم نحو أداءٍ مفيدٍ ومثمرٍ.
وفي مقابل ذلك هناك السلوك المذموم، وهو ما يترتب عليه ضررٌ أو مفسدةٌ بحسب التقييم الاجتماعي أيضاً. ومثل هذا السلوك لابدّ من التصدّي له بالعقاب. ولا بدّ من الإلفات إلى أنّ الغاية الوحيدة من العقاب والمؤاخذة هو ما يترتّب عليهما من أثر إيجابي، يتمثّل في ردع المسيء وزجره (أولاً)، وجعله أمثولة لسواه ممَّنْ أراد أنْ يسلك سلوكاً مماثلاً، يعدّ بحسب المجتمع سلوكاً ضارّاً و مفسداً (ثانياً).
وهنا قد يرِدُ على هذا الاتّجاه أنّه قد يعرّض عدداً كبيراً من الأبرياء للقصاص. فعلى سبيل المثال: افترضوا أنه طلب من أحد أتباع النزعة الهيدونية، ولنفرض أنّ اسمه «سام»، أن يعذِّب أو يقتل فرداً بريئاً، وهو يعلم أنه لو فعل ذلك فإنه سيدرأ الضرر عن عدد كبير من الناس، أو ينقذهم من موت محقَّق. في هذه الحالة سيحصل تعارض بين مبدأ اللذّة وبين مبدأ العدالة. فبالنسبة لسام يمكنه، ومن خلال موافقته على تعذيب وقتل شخص واحد، إنقاذ عشرة أشخاص، ومن ناحية أخرى فإن سام يعلم بأن الشخص المراد قتله لم يقترف ذنباً يستحق معه مثل هذا العقاب، وبحسب النزعة الهيدونية فإنّ العقاب لا يكون مجدياً إلاّ في حال شكّل عنصراً رادعاً. والحال أنّ الشخص في المثال المذكور لم يرتكب عملاً يستحق معه العقاب، ليكون العقاب بالنسبة له عنصراً رادعاً. هنا يقف سام متحيِّراً إزاء قرارين، ولكنه سرعان ما يتذكَّر بأن مبدأ اللذة لدى النزعة الهيدونية مُقدَّم على مبدأ العدالة. ونتيجة لذلك؛ وانطلاقاً من رجحان مسألة سلامة الأفراد العشرة على مسألة عقوبة أو قتل الشخص البريء يتخذ سام قراره بتعذيب الشخص البريء؛ لضمان سلامة عدد أكبر من الناس. وهو يفعل ذلك لأن عقيدته تسمح له بإلحاق الأذى بشخص بريء؛ لقاء دفع الضرر والمعاناة عن عدد أكبر من الأشخاص.
يقول سمارت: «لا أجد ثمّة إشكال في أنْ تتمخّض عن النزعة الهيدونية بعض النتائج الرهيبة، وذلك في ظلّ بعض الظروف الاستثنائية».
وفي حديث صريح وشفاف يقول كلوسكي: إنّ بإمكان الحاكم المحلي لمدينة صغيرة أن يلجأ الى إعدام شخص بريء إذا كان إعدامه يمنع من حدوث فوضى يذهب ضحيتها المئات. وعلى هذا الأساس سيكون بمقدور الشخص الذي يتبع النزعة الهيدونية أن يتخذ نفس الموقف إزاء كثير من الحوادث المشابهة، وبشكل طبيعي.
وهنا قد يَرِدُ على سام، وعلى المعتدلين من الهيدونيين، أنّ التعرّض للشخص البريء سيؤدي إلى تضاؤل تأثير العقوبة في الحدّ من الجرائم؛ إذ إنّ المجرم الحقيقي سيُحدّث نفسه في هذه الحالة، ويقول: إنّ الحكم صادر لا محالة، سواء ارتكبت الجريمة أم لم ارتكبها، وبالتالي قد يفضل في نهاية المطاف ارتكاب الجريمة؛ طمعاً بالفوائد التي قد تعود عليه منها.
وقد يجيب الهيدونيون بأنّ ذلك غير وارد؛ لأنّ احتمال عقوبة شخص لم يقترف ذنباً هو أقلّ بكثير من احتمال عقوبة مَنْ ارتكب ذنباً.
والسؤال الآخر الذي قد يَرِد على النزعة الهيدونية في هذا الإطار هو: هل من العدل معاقبة شخصٍ مع علمنا بأنه لم يقترف ذنباً؟
والإجابة المحتملة للهيدونيين (أتباع مذهب اللذة): إنّ مخالفة العدالة بتعذيب أو إعدام شخص بريء قد تبدو أمراً بسيطاً وراجحاً جدّاً إذا ما قورنت بمقدار السعادة واللذة التي تحقِّقها للأغلبية الساحقة من الناس.
إنّ السلوك أو الفعل الصائب ـ في رأيهم ـ هو الفعل الذي يحقِّق السعادة واللذة من أجل أهداف نبيلة. ومن هذا المنطلق يصبح من المبرَّر التضحية بأشخاص لا ذنب لهم؛ لضمان سلامة عدد أكبر من الناس.
ومن ناحية أخرى، وبحسب رافائيل، فإنّ الهيدونيين يقرّون بأهميّة القانون العام الذي يمنع القتل والإبادة، ويعدّونه إيجابياً ومفيداً بشكل مطلق، ولذلك فهم يعدّون مثل هذا السلوك ـ الذي يقضي بقتل البريء، حتى مع ثبوت براءته؛ لغرض ضمان سعادة عدد أكبر من الناس ـ سلوكاً استثنائياً غير صحيح؛ نظراً لعدم توافقه مع مبدأ اللذة. وبالتالي فهو لا يعدّ مسوغاً للتجاوز على القانون، الذي لا تخفى عواقبه الوخيمة على أحد.
وبحسب الهيدونية، فالسبب الذي يدعونا أحياناً لنقض هذا القانون ـ الذي بموجبه يمنع كل أنواع القتل والاعتداء على الأبرياء ـ هو حجم الفائدة المترتِّبة على ذلك.
لذا لو اعتقد شخص ما بأنّ نقض القانون سيعود عليه أو على الآخرين بمنفعة أكبر، أو سيحقق غاية أسمى، ففي هذه الحالة «الاستثنائية» وأمثالها، وانطلاقاً من مبدأ اللذة، سيكون هذا الشخص ملزماً بخرق القانون.
وبعبارة أخرى: إن المبدأ الأخلاقي الذي يرفض معاقبة أو قتل الشخص البريء هو مبدأ مفيد بشكل عام، لكنه غير مجدٍ في جميع الحالات؛ وذلك أنّ هناك بعض الحالات الاستثنائية لا تخضع للأعراف القانونية؛ لأنها استثنائية، وتختلف عن الحالات العادية.
وعلى الرغم من أنّ الحالات الاستثنائية التي يُخرق فيها القانون قد تعود بالنفع الكثير، إلاّ أنّ نقض القانون يبقى سلوكاً غير أخلاقيٍّ بكل المقاييس، مهما بلغت الفائدة المرجوّة منه. ونستنتج من ذلك أنّ مبدأ اللذّة والمتعة لا يمكن أنْ يكون معياراً أخلاقياً في حد ذاته.
وهنا لا بأس بالخوض في ما يثيره البعض حول «فرص البقاء» (إحياء شخص عن طريق موت شخص آخر).
يفترض «هري سان» أن هناك مريضين (أ) و(ب) مشرفين على الموت، وأن (أ) بحاجة إلى قلب جديد و(ب) بحاجة إلى رئة، وأن حياتهما تتوقف على إجراء عملية زرع العضو المطلوب (القلب أو الرئة). ويفترض أن الجراحين يمتلكون هذه الأعضاء، ولا يوجد مريض ثالث إلى جانب هذين المريضين، وإنْ لم يبادر الجراحون لمساعدة المريضين المذكورين حتى يموتا ففي هذه الحالة يمكن القول: إن المريضين قد فارقا الحياة بسبب إهمال الجراحين لهما. لكن إنْ لم يمتلك الاطباء أعضاءً لزرعها فإنه ليس بإمكانهم إنقاذ المريضين، ولا أحد يلومهم على ذلك؛ لأن فرصة إنقاذ المريضين لم تكن متوفرة، ولهذا تركا المريضين (أ) و(ب) يموتان. ومن البديهي أن كلاًّ من (أ) و(ب) لا يريدان أن يُتركا حتى يموتا، ويسعيان لإقناع الأطباء بالعمل على إنقاذهما، ويطرحان فكرة قتل شخص والاستفادة من أعضائه، التي يمكن للأطباء زرعها، وإنقاذهما، ويصرّان على الأطباء للقيام بهذا العمل؛ إذ لو لم يقدم الأطباء على قتل شخص سليم، والاستفادة من أعضائه؛ لإنقاذهما، فإنهم سيقترفون ذنباً بحقهما؛ لعدم المبادرة إلى إنقاذهما.
يقول «هريس»: إنّ من الفلاسفة مَنْ يعتقد بأن قتل شخص بريء من أجل إنقاذ عدد أكبر من الناس هو أمرٌ مرفوضٌ أخلاقياً؛ وذلك أنّ هناك فرقاً بين قتل شخص بريء وترك الشخص حتى يفارق الحياة ـ كما في المثال السابق ـ، ولا شكّ أن الواجب الأخلاقي يحتم علينا أن لا نفرِّط بأحد على حساب إنقاذ حياة غيره.
وفي هذا السياق قد تبرز مشكلة، وهي أنّه قد يقرّ (أ) و(ب) بحرمة القضاء على شخص بريء، ويسلّموا بخطأ هذا السلوك، لكنْ ما لا يقرّانه أبداً هو أنّ ذلك الشخص أفضل منهما، فمَنْ قال بأنّهما أسوأ من ذلك الشخص؟!
فصحيحٌ أنّهما يعترفان بحرمة قتل البريء، حتى مع إمكانية أن يؤدي إلى إحياء غيره، ولكنهما لا يجدون من العدل أن تُقدَّم سلامة هذا الشخص على إنقاذهما من الموت.
وإذا كان الشخص السالم يستحق البقاء على قيد الحياة؛ لكونه بريئاً، ولأنه لم يقترف خطأً يستوجب القتل، فكذلك الحال بالنسبة إليهما.
إذن هل يكون السبب في موت (أ) و(ب) مجرَّد تلف أحد أعضاء جسم كلٍّ منهما؟ وبعبارة أخرى: لماذا يكون الموت والحياة بالنسبة لـ (أ) و(ب) مجرّد صدفة، بينما يكون الحفاظ على حياة «غالبية الناس» من الواجبات؟
ولمواجهة ذلك يقترح «هريس» توزيع بطاقات يانصيب على كافة الناس، ومتى ما احتاج الأطباء إلى أعضاء؛ لانقاذ حياة اثنين أو أكثر من المرضى، ولم يكن بحوزتهم ما يزرعونه من الأعضاء، أمكنهم إجراء قرعة بين الناس عبر حاسوب مركزي، ومن ثمّ الرجوع إلى المعلومات التي يوفرها؛ للحصول على أحد المتبرِّعين الذين يمكنهم تلبية حاجة المريض، وعندئذٍ يمكن اختيار المتبرِّع المناسب، ومن ثم قتله؛ لكي يتمّ إنقاذ حياة الآخرين. وهذه فكرة يمكن اعتمادها في إنقاذ حياة عدد من الذين يتعرَّضون لخطر الموت.
لكنْ يَرِدُ على هذه الفكرة أنّ لها آثاراً جانبية وخيمة جدّاً، كالإرهاب والخوف والقلق الذي قد يساور الضحايا، بل وأفراد المجتمع كافّة. وإننا في هذه الحالة سنتوقع الموت في أيّ لحظة، ونحسب أن كلّ طرقة باب، أو صوت يطرق أسماعنا في الليل، أو أيّ رسالة، هي ناقوس خطر وتهديد بالموت.
وربما يردّ (أ) و(ب) على ذلك، ويقولون: إن تطبيق هذه الفكرة قد يحقِّق للناس قدراً أكبر من الأمان؛ وذلك أنّه سيمنحهم نصيباً أوفر بالبقاء أحياء حتى مراحل متقدّمة من العمر.
لكنّ مشكلة هذه الفكرة أنّها تصطدم بدور الخالق تعالى في تقدير مصير الإنسان؛ إذ لا يصح التلاعب بالآجال الثابتة التي قدَّرها الله. وبالتالي فلو فارق (أ) و(ب) الحياة؛ نتيجة المرض، فإن ذلك سيكون أمراً طبيعياً، ولا يمكن إلقاء تبعات ذلك على أحد. لكن لو آل الأمر إلى أن يقدّم شخص بريء قرباناً من أجل إنقاذ غيره فإن ذلك سيكون أمراً غير طبيعيٍّ.
يرى «هريس» أنّ الاعتراض الأكثر عقلانية على أيّ فكرة تستهدف قتل شخص بريء من أجل إنقاذ حياة (أ) و(ب) هو تناقضها مع مبدأ (الدفاع عن النفس بالوسائل المشروعة)؛ إذ لو أعطيت نفسي الحق في قتل شخص بريء؛ من أجل إنقاذ حياة (أ) و(ب)، فإن معنى ذلك أن للآخرين الحق في قتلي لإنقاذ شخص آخر.
وإلى جانب الإشكالات الجدّيّة التي تواجه هذه النظرية فإنّها تصطدم بمعضلات نظرية ورؤيوية كبيرة، تتجلّى في الواقع التطبيقي لها. فتبنّي هذه الفكرة يجعل المرء في مأزق حقيقي، فهل يجب عليه أن يجلب الشر لنفسه بيده أم لا؟! وهل سيجعل الناس أرواحهم رهينة القدر؛ للحفاظ عليها من الخطر؟!
وهذه الفكرة هي أشبه بسلاح بيد مجموعة من الناس تسعى لتحقيق مآربها بأي شكل من الأشكال، على الرغم من أن مذهب اللذة (الهيدونية) يميل بهذا الاتجاه.
إذن فأوّل ما يَرِدُ على الهيدونيين، في ما يتعلَّق بتبريرهم اللجوء إلى العنف؛ بغية إنقاذ عدد أكبر من الناس، هو أنّهم لا يمتلكون الحقّ في الاعتداء على «حقّ» الغير.
(*) أستاذٌ جامعي متخصِّص في الحقوق والأخلاق المعاصرة، من إيران.