ونحن مجبرون هنا أن نفتح قوسين لنؤكّد على أنّ الكُفر في حدّ ذاته ليس موضوعاً للحرب والجهاد في الإسلام، بل الأساس هو العدوان والحرابة، التي يجد فيها المُسلمون أنفسهم معتدىً عليهم، قتلاً وظلماً واضطهاداً، فيدافعون عن أنفسهم بجهاد العدوّ وقتاله، كما يحصل في أيّ موقعٍ فيه معتدٍ ومعتدىً عليه، وهذا توجّهٌ إنسانيّ عامّ. وهذا ما حصل في أفغانستان، ولاحقاً في العراق ضدّ الاحتلال الأمريكي، وهو ما يحصل وما يزال في فلسطين، مروراً بمقاومة العدوّ في جنوب لبنان.
هنا ندخل إلى صُلب الموضوع لنتساءل: هل يُمكن أن يكون الإسلاميّون، ولاسيّما التكفيريّون، المنفّذون غير المباشرين لمشاريع استكباريّة يقودها "كُفّار" موصوفون، من أجل أن تأخذ موقعها على امتداد العالم الإسلاميّ؟.
المحفّز لهذا التساؤل هو الملاحظة البسيطة للأماكن التي تحرّكت فيها العمليّات والتفجيرات التي تُنسبُ لجهات تكفيريّة معنونة إسلاميّاً، وما يجري الكلام حوله عن عمليّات تصدير للجماعات التكفيريّة من أجل الدخول على خطّ الصراعات الإقليمية أو الدوليّة في هذا البلد أو ذاك؛ جرى الحديث عن ذلك في العراق سابقاً ولا يزال، والآن على خطّ الأزمة في سوريا وصولاً إلى لبنان، وهو ما يتحرّك في شكلٍ متفرّقٍ في من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، كما شهدنا في أحداث 11 أيلول الشهيرة…
ومع أنّ كثيرين لا يزالون يشكّكون في صحّة النسبة إلى بعض الجهات الإسلاميّة، إلا أنّ من اللافت أن لا يرافق ذلك أيّ نفي أو استنكار من العلماء أو القادة الإسلاميّين، بل كان الأمر يُشبه المسلّمات، فضلاً عن البيانات الواضحة الصادرة عن إسلاميّين، والتي تتبنّى عمليّة هنا أو هناك، أو تدعو للدخول في ساحة جهاد هنا أو هناك، مما نشهد له تداعيات هي أشبه بعمليّات التآكل الداخلي منها إلى جهاد أعداء في منطقة تتعرّض لهجوم غربيّ استكباريّ سافر وواضح، وتتلقّى فيها الغدّة السرطانيّة إسرائيل الرعاية والعناية في شكلٍ غير موصوفٍ.
في هذه المقالة، لن ندخل في جدل التأكد من صحة النسبة، بل سنفترض المسألة في شيءٍ من التسليم؛ لأنّ غرضنا الأساس ليس هو تكريس التهمة، وإنّما هو التنبّه إلى ما يشكّله بعض المنطق المصنّف إسلاميّاً جهاديّاً تكفيريّاً من فتحٍ لثغرات كثيرة يُمكن أن تنفذ منها مشاريع استكباريّة كُبرى لا هدفَ لها إلا ضرب الإسلام والمُسلمين دون تمييز، وبعضُنا يمثّل حطباً لنارها، وأدواتٍ تتحرّك ـ ربّما ـ من موقع النيّة الصادقة والإخلاص لله ورسوله!.
شئنا أم أبينا، لقد مهّدت تفجيرات 11 أيلول لاحتلال أفغانستان، وكشفت الواقع الإسلامي كلّه أمام أجهزة المخابرات والدعاية التسويقيّة لحقّ الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائها الغرب، في محاربة ما سمّته الإرهاب في أيّ موقعٍ إسلاميّ، فكان احتلال العراق لاحقاً، وتلاحقت العمليّات ضدّ الواقع الإسلاميّ، سواء على شكل تخريب، أو احتلال، أو ضغوط، أو تغطية لعدوان ـ كالذي شهدناه في عام 2006 ضدّ لبنان وفي 2008 ضدّ غزّة فلسطين ـ وما إلى ذلك، في عمليّة صوغٍ لشرق أوسطٍ جديد كما أطلقوا عليه…
وبالملاحظة العينية، لا يحتاج المرء كثيراً ليخلص إلى أنّ الطريقة التي تتحرّك فيها الجماعات الجهاديّة التكفيريّة عندما دخلت على مسرح العمليّات العسكرية والأمنية في أكثر من بلدٍ، كانت تخدم مشاريع الاحتلال والاستكبار العالمي في شكلٍ وآخر؛ لأنّ التصويب في اتّجاه المدنيّين يخلط الأوراق السياسيّة في هذا البلد أو ذاك، ويُربك حركات المقاومة التي كانت متنوّعة المذاهب، ويُفقد الواقع الإسلاميّ عناصر الوحدة التي من أحد أهمّها هو الاتّحاد ضدّ عدوّ مشترك يمثّله الاحتلال. بالعكس؛ رأينا أنّ تلك الطريقة غذّت الشعور الفتنوي الطائفي والمذهبي، بما بات يخدم مشاريع التقسيم، القانوني أو الواقعي، التي جرى الحديث عنها مطوّلاً في الفترات الماضية؛ بل أصبح الكثيرون لا يستبعدون ما سُوِّق له من حديثٍ عن أنّ الواقع العربي والإسلامي سيدخل في حرب المائة عام بين السنّة والشيعة!
لم يعد المرء يدري، في حركة اللعبة المخابراتية، أنّ ضرب تنظيم القاعدة كان جزءاً من حالة شرذمة، تُصبح فيها الجماعات الجهادية بلا قيادة، وتتحوّل إلى قطع متناثرة يسهل نقلها وتصديرها أو استيرادها لتخدم مسرح عمليّات يهيّئ الأرض لتنفيذ خطط جهنّمية، تُشبه ـ مع الأسف ـ ما نشاهده من سيناريوهات الأفلام الهوليودية، ولكن نحن ممثّلوها، لا بالمجّان فحسب، وإنّما بدماء أطفالنا ونسائنا وشبابنا، وبضرب كلّ مواقع القوّة لدينا.
نعود إلى السؤال الذي طرحناه آنفاً لنقول: إنّ ما يقوّي طرحه ـ أيضاً ـ أنّ بعض الحكومات الجائرة الداخلة في عمليّة الاستثمار تلك ـ إذا صحّت ـ هي جهات كافرة في نظر الحركات التكفيريّة، ونحن نعلمُ أنّ الحركات التكفيريّة كانت تقوم بعمليّات تفجير تجاه تلك الدول، لا ندري ـ طبعاً ـ إذا ما كانت مُستثمرة من جهات أخرى في حركة الصراع السياسي الإقليمي أو الدولي… في كلّ الأحوال، فإنّنا نفترض هنا أنّ ثمّة تلاعباً في الأولويّات التكفيريّة لدى تلك الحركات، بما يؤدّي إلى الدخول في هدنة غير معلنة تجاه طرفٍ، وإشعال فتيل التفجيرات تجاه طرفٍ أو أطرافٍ أخرى.
إنّ فرضيّة الاستثمار لا تتحرّك ـ بالضرورة ـ وفق ذهنيّة المؤامرة الخارجيّة التي تريد أن تصوّر الحركات التكفيريّة على أنّها أدواتٍ مباشرة في ذلك، بما يُعفي الواقع الداخلي من كثير من نقاط الضعف الذاتية التي تهيّئ الأرضيّة لاستثماره، وإن كان لا يُمكن نفيُ المؤامرة بالمطلق؛ على الأقلّ لمستويات قياديّة أو مؤثّرة يُمكن أن تُصنّع مخابراتيّاً للدخول على خطّ الاستثمار العاطفي ذي المنسوب العالي لدى الجماعات المحدودة ثقافيّاً وفكريّاً، ولاسيّما أنّ نوعاً من السرّية التامّة قد يلفّ المستويات التنظيمية، بما قد يُفقد العُنصر الجهاديّ المُخلص المعرفة الحقيقيّة بمن يوجّه إليه الأوامر ومن يقوده فعلاً.
في كلّ الأحوال، تقودنا الظاهرة التكفيريّة إذا صحّ التحليل السابق إلى ضرورة التنبّه لتداعياتها، والعمل على معالجتها، ونفترض لذلك ثلاثة اتّجاهات:
أوّلاً: المعالجة الثقافية
واضحٌ أنّ التكفيريين يستندون إلى نصوص قرآنيّة أو نبويّة، أو غيرها، يرونها قاعدةً لتكفير من يختلف معهم في رأي معيّن أو في فهمٍ معيّن أو في عقيدةٍ معيّنة أو في سلوكٍ معيّن. وعليه، فجزءٌ أساسيّ من المعالجة ينبغي أن يتوجّه إلى تقديم القراءة الأخرى لهذه النصوص، حيث يرى الكثيرون من المفكّرين الإسلاميّين أنّ استنتاج تأسيسيّة بعض النصوص للتكفير ينتج عن قراءة مجتزأة لها، في الوقت الذي يؤكّدون فيه أنّ من غير المنهجيّ أن يتمّ بناء أي نظريّة إسلاميّة حول أيّ قضيّة من خلال انتقائيّة في النصوص، سواء كانت هذه الانتقائيّة عفويّة أو متعمّدة.
والذي يبدو هنا أنّ مشكلة التكفير هي في الذهنيّة التي تقدّس عمليّة شلّ التفكير عبر التنظير للجمود عند نتاج الماضين، سواء سميّناه بالسلف الصالح أو المشهور أو بالإجماع أو ما إلى ذلك؛ لأنّ هذه العناوين تشير إلى توافق علماء أو فقهاء على أراء معيّنة في حقبة زمنيّة ما، قد تطول أو تقصر، ولكنّها تبقى ـ في حقيقة الأمر ـ تعبيراً عن خصوصيّات المُنتجين لهذه الآراء، أو عن خصوصيّة تلك الحقبة الزمنيّة التي تفرض تأثيرها على من فيها من حيث الاهتمامات أو الذهنيّة أو المنهجيّة.
وهنا نرى بأنّ على أصحاب الفكر التوحيدي أن يشكّلوا قوّة ضاغطة حقيقيّة، تتحرّك من المنطلق الثقافي تحديداً، لتقارب الواقع السياسي وتداعيات حركة الإسلاميّين على أساس كتاب الله وسنّة رسوله، من دون أن تنزلق إلى الخطاب السياسي المجرّد الذي يدخلها في لعبة الأطراف، فتُصبح طرفاً بدلاً من أن تكون فوق ذلك.
إنّ كثيراً من المتغيّرات قد لحقت بالفكر البشري عموماً، وليس الفكر الإسلاميّ بدعاً من ذلك؛ إذ رأينا تطوّراً على صعيد علم الكلام أو الفقه أو غير ذلك ممّا لا يحسن معه الجمود عند التصنيفات القديمة، كأشاعرة ومعتزلة وغيرهما من الفرق، أو حتّى كشيعة وسنّة بالمعنى الثقافي العلميّ لحركة إنتاج العلم والمعرفة، كما لا يصحّ معه الجمود عند نتاجات سلفٍ صالحٍ؛ لأنّ صلاحه في السيرة والسلوك والنيّة لا يعني أنّ نتاجه ينبغي أن يكون موافقاً لما هو الحقُّ؛ وأعتقد أنّ هذه الفكرة هي أشبه بالبديهيّات في منطق العلم وإنتاج المعرفة.
فعندما يُكفَّر المسلمون الشيعة في فتاوى عالمٍ سنّيّ معيّن، أو عندما تكفّرُ جماعةٌ من أهل السنّة في فتاوى عالمٍ شيعيّ معيّن، ينتميان إلى قرونٍ خلت، فإنّ من غير المنطقي الجمود عند ذينك الحكمين من دون النظر إلى المتغيّرات التي لحقت بالفكر عموماً، فضلاً عن مرتكزات كلٍّ منهما في إنتاج فتواه ممّا قد يكون ظرفيّاً أو متأثّراً بكثير من العناصر الاجتهاديّة غير التامّة، أو من دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ الاحتكاك المستجدّ بالواقع بين الجماعات المذهبيّة قد أزال كثيراً من الغشاوة، أو من الدعاية السلبيّة، أو من التصوّرات الخاطئة عن الآخر، وكذلك في تغيّر المنهجيّة التي يتعامل فيها الفكر مع النصوص وفهمها واستخلاص النظريّة الإسلاميّة منها.
طبعاً، لا نستطيع هنا أن نتغاضى عن دور السلطة السياسية التي قد تستثمر أيّ رأيٍ تكفيريّ في حرفه عن مغزاه، أو في تجاوزها لشروط يتمّ وضعها في الفتوى نفسها، أو في تناسي التصوّر الذي على أساسه صدرت فتوى التكفير؛ لأنّ الفتاوى في جُلّها عبارة عن فرضيّات مشروطة بتوفّر المبدأ على أرض الواقع، بحيث إنّ الإنسان العاديّ لو اطّلع على أنّ الواقع خلاف الفرضيّة، لم يكن له السير مع الفتوى لأنّ النظريّة على المجتهد، وتشخيص واقعها هو على المكلّف بطبيعة الحال…
وأيّاً كان، فإنّ تبنّي السلطة السياسية لتوجّه معيّن، وتكريسه عبر تطبيق عمليّ واقعيّ، يُمكن أن يؤدّي إلى تحويل التكفير من حالة ثقافيّة فكريّة مجرّدة، إلى حالةٍ سياسيّة تدخل في إعطاء السلطة السياسية لنفسها شرعيّة ما، لتصفية حسابات أخرى مع جماعات المعارضة للحكم، أو خدمةً لمشاريع خارجيّة، مستغلّة وجود ظرفٍ مؤاتٍ لذلك، وهو الواقع المذهبي المحموم الذي يمنع العلماء الموافقون مذهبيّاً لمُتنّى السلطة، أو لمُصدر الفتاوى والآراء التكفيريّة، من بيان الحقّ حذراً من سخط العامّة من الناس. وهو ما نشهده في واقعنا الحاضر، حيث نرى كثيراً من حالات السكوت عمّا يجري على أرض الواقع من تأزيم مذهبيّ، وتكفيرٍ إلى حدّ لا يقبله منطق، وحملات سبّ وشتمٍ ولعنٍ وفقدانٍ لأيّ أدبٍ في التعبير عن الاختلاف وما إلى ذلك؛ لأنّ المعتدلين باتوا يشعرون بأنّهم سيُنبذون من ناسهم إذا ما تفوّهوا بخلاف المزاج العامّ المأزوم.
ولعلّه لا بأس هنا باستدعاء كلمةٍ للإمام عليّ(ع) الذي واجه أبرز حالة تكفيرٍ في الأمّة، وهي حالة الخوارج، فهو لم يقاتلهم لمجرّد تكفيرهم إيّاه، بل حاول إقناعهم بالحوار بشتّى الطرق والأساليب، وإنّما حاربهم بعد أن قطعوا طريق المسلمين، وقتلوا الخبّاب وزوجته، أيّ بسبب تحوّلهم إلى حالة عدوانٍ على المجتمع، وإلى حالة فسادٍ قابلة للتطوّر في منحى خطير، متغذّين من حالة نفسيّة إلغائيّة للجميع، تستند إلى فهمٍ منغلق للإسلام ونصوصه.
واللافت أنّ عليّاً (ع) قال بعد وضع الحرب معهم أوزارها: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه" ، ليُعلن المنهج الإسلامي المائز بين تبنّي الباطل من موقع سلامة النيّة وبين تبنّيه من موقع سوء النيّة، حيث يكون الكُفر هو أن يعلم الإنسان بالباطل فيعتقد به، لا من يعتقد بشيء على أن أنّه الحقّ في قناعته واجتهاده أو تقليده؛ فإنّ الثاني لا يُمكن تكفيره وإن كان الواقع في علمِ الله أنّ اعتقاده باطلٌ، فضلاً عن أن نكفِّره بناءً على اعتقاد آخر لفكرةٍ على أنّها تمثّل الحقّ في الواقع، ممّا يُحتمل فيه الخطأ، شأنُه شأنَ الأوّل.
ولعلّ من المهمّ في إدارة الحوار مع التكفيريّين عدم الاستغراق في التحليل المعمّق لقضايا التكفير وما يرتبط بها في عالم الفكر والاجتهاد؛ لأنّ التكفيري ـ في الغالب ـ ذو ثقافة معلّبة، غير قابلة للتفكير الناقد، وبالتالي لتغيير القناعة، ولذلك نجد نهي الإمام عليّ(ع) لابن عبّاس عن محاججة الخوارج بالقرآن؛ قائلاً: "لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّه حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون"، ما يجعل ذا الفكر المغلق يتمسّك بالوجه الذي يؤكد وجهة نظره دون التعمّق لتحديد الوجه المقصود حقيقةً، "ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً".
ثانياً: فرض الانفتاح
ممّا لا شكّ فيه أنّ الانغلاق الفكري المُنتج للذهنيّة التكفير ينمو ويزداد في بيئة مغلقة، مُظلمة، بحيث يدخل الفكر في عمليّة تكرار يؤمّنها أشخاصٌ ذوو فكرٍ متشابه. أمّا عندما يخرج هذا الفكر إلى الهواء الطلق، فإنّنا نشعر بأنّه ـ ولو على مستوى التعبير فحسب ـ يقلُّ حدَّةً، ويبدأ معه انتقاء الكلمات الفضفاضة، التي تميّع الأسئلة حول الذهنيّة التكفيرية الإلغائيّة، أو التي تُستنكر معها الأعمال الدمويّة المنسوبة إليهم، أو بعضَها على الأقلّ. وهذا الأمر في حدّ ذاته مطلوبٌ، والمؤهّل للعب هذا الدور هو الإعلام الموضوعي الناقد، الذي لا يعمل على تكريس الفتنة في المجتمع والأمّة.
ولذلك، ينبغي أن يقتحم الإعلامُ هذه الظواهر التكفيريّة، ويسلّط عليها الضوء بكلّ موضوعيّة، وأن يجابه أفرادها بالأسئلة التي يسألها الناسُ، وتدور في أذهانهم، لا بهدف تسجيل النقاط، وإنّما بهدف إظهار الخطاب المتوازن، ووضعهم أمام التداعيات الحقيقيّة للفكر التكفيري في ذهنيّة العامّة من الناس، بما قد يُساهم في التخفيف من حدّة اللهجة، أو حتّى من الذهنيّة التكفيريّة.
ثالثاً: توصيف الأفعال بعيداً عن النوايا
لا بدّ من التفريق بين التكفير الثقافي وبين التكفير الذي يأخذ منحىً عمليّاً؛ فإنّ الأوّل لا يكاد ينتهي من حياة الناس طالما هناك اختلاف في الذهنيّات والأوضاع المؤثّرة عموماً على الفكر. أمّا الثاني فيترك تداعيات سلبيّة وسريعة ومباشرة في واقع حياة الناس. وإنّ المدخل الطبيعي لمقاربة ظاهرة التكفير ونتائجها، هو التفكيك بين النيّة الصادقة وبين الإجرام الموصوف والمتّفق عليه عند الأعمّ الأغلب، أو ضمن المعايير العامّة التي يتّفق عليها جميع المُسلمين. وفي رأيي أنّه ما لم يتمّ التفكيك بين هذين الأمرين، فستبقى أيّ معالجة متعثّرة وناقصة، وربّما تصبُّ في تعزيز الحركة في الدوائر المغلقة التي تعيد إنتاج الظاهرة من حيث لا نشعر؛ لأنّ الناس يتعاطفون ـ عادةً ـ مع أبناء جلدتهم ودينهم ومذهبهم، عندما يظهرون لهم صادقين، على وجوههم ثفنات السجود، وبذلك يجد هؤلاء التكفيريّون البيئات الاجتماعيّة الحاضنة بمجرّد النظر إلى إخلاصهم المفترض، والتبرّع لهم بالغالي والنفيس… وهنا نبدأ ندور في حلقة مُفرغةٍ، كما أشرنا سابقاً.
وعلى هذا نقول: إنّنا لا نمانع أن يكون الأفراد المنتمون إلى الحركات التكفيريّة مخلصين للإسلام والمُسلمين، وهم يحاولون أن "يتقرّبوا إلى الله" عندما يفجّرون أنفسهم بمجلس عرسٍ أو عزاء، أو بمسجدٍ أو حسينيّة أو سوق شعبيّ… ولكنّ المسألة ليست قضيّة إيمانٍ نعتقد أنّه خاطئ جملة وتفصيلاً، ويحتاج إلى علاجٍ ربّما يأخذ مراحل عديدة وطويلة زمنيّاً، بل هي قضيّة معالجة لأثر فعليّ يأخذ تطبيقه على أرض الواقع سفكاً للدم، وهتكاً للعرض، ونهباً للثروات، وخدمة للاستكبار من حيثُ يُدرى أو لا يُدرى؛ وهذا واقعٌ موصوفٌ متحقّق فعلاً، ولا يحتاج إلى اجتهادٍ أو بحثٍ أو تحقيقٍ، كما لا يجوز السكوت عنه من أحدٍ.
ولذلك، ربّما يحسُن التفكير في نوعٍ من الهزّة الوجدانيّة للأمّة لكي تشعر بالحاجة إلى التفكيك بين الإخلاص والإجرام، ونحن هنا لا نجرّم الصفة الإسلاميّة للأشخاص، وإنّما نجرّمهم باعتبار السلوك الصادر عنهم، والذي يندرج في إطار الفساد، وإهلاك الحرث والنسل، وكشف الأمّة أمام مخطّطات الأعداء، ونحن نعتقد أنّ السواد الأعظم من الناس في منطقتنا العربية والإسلاميّة لا يُمكن أن يقبل أو يتقبَّل أو حتّى يتفهّم ما يجري من ذبحٍ بدمٍ باردٍ للأبرياء والمستضعفين من الناس.
وأخيراً: إنّنا لا نطرح الموضوع من حالة مذهبيّة؛ لأنّ كلّ المذاهب باتت تعاني من التكفير في داخلها، ومن الممكن أن يتحوّل إلى سلوكٍ عند توفّر ظروفٍ مؤاتية. فقد حصل على امتداد المذاهب أن شهدنا أفراداً من السطحيّين على مستوى الثقافة والتربية الدينية، ممّن كانوا ربّما في المقدّمة في المناسبات الدينية، أصبحوا من أخطر العملاء للعدوّ الصهيوني.. وليس ضروريّاً أن يعوزهم الإخلاص الساذج، لتصبح العمالة لديهم للعدوّ جزءاً من التديّن! ولا ننسى هنا أنّ الحالة العامّة المأزومة مذهبيّاً قد تبرّر ذلك لهؤلاء وأولئك، باعتبار "إسرائيل" أهون من أتباع المذهب الفلاني، على طريقة ما يزيّن به الشيطان للناس أهواءهم وخط تفكيرهم المتوتّر، وهو قوله تعالى في حكاية مقولة أهل الكتاب عن المشركين: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾(النساء:50)، مع أنّ المشترك بين أهل الكتاب والمُسلمين لا يُقارن بما عليه الأمر مع المُشركين.
وإذا كنا فتحنا هنا مسألة العمالة، فلا لخصوصيّة فيها نقتصر عليها، بل لنشير إلى أنّ علينا أن نرصد تداعيات الذهنيّة التسطيحيّة التي تجعل التكفير أقرب إلى النفس في صوغ علاقاتها مع الآخر، وذلك بهدف محافظة الذات على ما لديها، ممّا قد لا تملك أفكارها المتانة العلمية الكافية لمواجهة أفكار الآخر أو نقده؛ فقد نفهم الانغلاق كحالةٍ من حالات النقص التي تعانيها البنية الثقافية والفكريّة، فيتمّ التعويض عنها باستبعاد الآخر كليّاً عن ساحة الاحتكاك، على طريقة أولئك الذين كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم لكي لا يستمعوا إلى الحقّ لكي لا يتأثّروا بفعل ضعف بنية الشرك لديهم، حتّى أصبح الشرك في لحظةٍ من اللحظات شيئاً يستدعي الصبر، بسبب قوّة دليل الخصم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾(الفرقان:42).
وانطلاقاً من ذلك، نحن نحذّر أن يعتمد الإسلاميّون سياسة التثقيف المعلَّب، الذي يلتقي بتسطيح الفكر عبر تلقين الإنسان مجموعة من المعارف على طريقة الوجبات الجاهزة، لينغلق الإنسان عليها على أساس أنّها تمثّل الحقيقة التامّة، من دون أن يمتلك المنهج الذي على أساسه ينقد الأفكار ويُنتجها؛ لأنّ عدم وجود ذلك المنهج من شأنه أن يؤسّس للغة خشبيّة يكرّر معها الإنسان هذه المقولات الجاهزة… إنّ هذا هو منهج خاطئ في بناء الثقافة، وهو البيئة الخصبة لإنتاج "الفكر" التكفيري والتفسيقي والتضليلي الذي يلعب على وتر العاطفة المذهبية، أو الطائفيّة، أو غيرهما، ليمرّر كثيراً من الأوضاع السلبيّة، وهو البيئة الحاضنة لكثير من المشاريع التي يُسارع هؤلاء التكفيريّون إلى تحمّلها وحمل لوائها باسم نُصرة الدين أو المذهب أو الطائفة أو ما إلى ذلك.
ولهذا رأينا أنّ أسلوب الأنبياء رفع مستوى الناس بما يجعلهم يستمرّون من بعدهم، وذلك عبر تثقيفهم بالمنهج الذي يميّزون به بين الأفكار والاتّجاهات. أمّا السلطات الجائرة فأسلوبها هو إبقاء الناس في حالة الخفّة الفكرية والثقافيّة التي تجعلهم مشدودين إلى السلطة أو الإمرة أو ما إلى ذلك، فيسهل انقيادهم، وهو ما نلمحه في حديث الله عن أسلوب فرعون: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾(الزخرف: من الآية 54).
ونحن نطرح كلّ ما سبق لأجل أن تتحوّل قوّة الإسلاميّين الجهاديين عن التدمير الذاتي لواقع المُسلمين، إلى أن تكون قوّة إسلاميّة ضدّ أعداء الإسلام الحقيقيّين، أعني السياسات الاستكباريّة والعدوّ الصهيوني.
وفي نهاية المطاف نقول: إنّ هذا يستدعي أن نعيد النظر في طريقة الدعوة والإرشاد، المتّبعة في المساجد والحسينيات والمعاهد والنوادي الدينية وما إلى ذلك، لدى أتباع كلّ المذاهب؛ لأنّنا نعتقد بأنّه ليست المشكلة عندما تكفّر من منطلق أنّك تفكّر بمنهج منفتح؛ لأنّ الأساس عندك في تكفيرك هو الدليل والبرهان اللذان ساقاك إلى تبنّي التكفير، ومن الممكن أن تنفتح على دليل يقنعك بعدم ذلك… ولكن المشكلة عندما تكفّر من منطلق سطحية فكريّة، ومن موقع استدعاء ما أنتجه السلف والمشهور وما إلى ذلك؛ فإنّ هذا يعني انعدام الذات أمام أيّ تفاعل مع الواقع، وانغلاقها أمام أيّ حوارٍ سوى حوار من يعيشون الصمم ويصرخون في متاهات الصحراء، أجارنا الله من حرّها وهجيرها!