الشيخ حسن بن موسى الصفار(*)
مقدّمة
تتأثّر ثقافة أيّ جماعة بشرية بواقع علاقتها مع المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه؛ فإذا كانت علاقتها مع محيطها سويَّة، قائمة على أساس النديَّة والاحترام المتبادل، فإنها ستعبر عن ذاتها بجلاء ووضوح، وستكون ثقافتها أكثر واقعية واعتدالاً؛ نتيجة شعور الجماعة بالأمن والاحترام.
أما إذا كانت الجماعة تشعر بالخطر على وجودها أو هويتها ومصالحها من القوى المحيطة بها، وتعاني من حالة تهميش، أو يُمارس ضدها تمييز، فإن ذلك قد يدفعها إلى الانكماش والانطواء على الذات، ويجعل ثقافتها ذات منحى سلبيّ، نتيجة الشعور بالغبن والاضطهاد.
وهذا هو ما تعانيه أغلب الجماعات الشيعية منذ زمن طويل، حيث واجهت ظروف تمييز وجفاء، دفعتها إلى الانكفاء والانغلاق، وأصابَتْ ثقافتها ببعض النتوءات والأورام.
بَيْد أن تحسُّن أوضاع الشيعة أخيراً في عدد من بلدانهم شجَّع حالة الانفتاح لدى نخبهم الواعية، وخلق الأجواء المناسبة للتبشير بثقافة جديدة، تدعو إلى التوازن والاعتدال، وتضع حدّاً لتوجهات الانغلاق، وسيطرة مشاعر الظلامة والغبن.
ومن الطبيعي أن لا تستجيب كلّ الساحات الشيعية فوراً لدعوات التطوير والإصلاح؛ لوجود رأي محافظ متجذِّر في عمق المجتمع؛ ولوجود مراكز قوى تستفيد من الواقع السائد؛ ولأن الناس ـ عادةً ـ لا يتخلّون بسرعة عما ورثوه من أسلافهم، وألفوه زمناً طويلاً.
لكنّ المراهنة قائمة على ارتفاع مستوى الوعي عند جمهور الناس، وعلى المزيد من التقدم في الأوضاع الاجتماعية الوطنية، المتجاوزة لسياسات التمييز والإقصاء، فإن ذلك كفيل بتشجيع توجهات الانفتاح والاعتدال لمختلف شرائح المجتمع.
ومن القضايا الدينية الاجتماعية التي تأثّرت لدى معظم المجتمعات الشيعية بواقع العلاقة غير الإيجابية مع محيطهم قضية (صلاة الجمعة)، حيث حُرِم منها الشيعة في الكثير من أزمنتهم وأوطانهم.
ويبدو لي أن السبب الرئيس لذلك هو شعورهم بالاستضعاف والتهميش، بينما صلاة الجمعة مظهر لقوّة الجماعة، ومنبر لإعلان خطابها الديني الاجتماعي.
لذا نرى الآن إحياء صلاة الجمعة في الأوساط الشيعية التي تجاوزت تلك المشاعر السلبية، وقرَّرت التعبير عن ذاتها بجلاءٍ ووضوح.
إن إقامة صلاة الجمعة، إضافةً إلى قيمتها الذاتية كفريضةٍ وشعيرة إسلامية، هي مؤشِّر إلى تطوّر إيجابي داخل المجتمع، وفي علاقته بمحيطه.
أما القول بأن عزوف الشيعة عن صلاة الجمعة ينطلق من موقف فقهي لا يرى مشروعيتها في غياب الإمام المعصوم فإنّه قول غير دقيق؛ لأن القائلين بهذا الرأي من فقهاء الشيعة عددٌ قليل، بينما يرى أكثريّة فقهائهم مشروعيتها في كلّ زمان ومكان؛ على أساس الوجوب التعييني عند قسمٍ منهم، بمعنى أن صلاة الجمعة هي المتعيِّنة دون صلاة الظهر يوم الجمعة؛ أو على أساس الوجوب التخييري عند قسم آخر، بمعنى أن الواجب أداء إحدى الصلاتين، إما الجمعة أو الظهر، حسب اختيار المكلَّف.
ويضيف بعض الفقهاء أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة فعلاً أصبحت هي المتعيِّنة على المكلَّفين في ذلك البلد، ووجب عليهم الحضور لها.
والفقهاء الذين يرَوْن التخيير بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر يرى معظمهم أفضليّة صلاة الجمعة ورجحانها على صلاة الظهر.
إن ذلك يعني أن العزوف عن إقامة صلاة الجمعة له منشأٌ آخر، وليس المانع الفقهي الشرعي.
ولعلّنا نلمح في اشتراط عدد من فقهاء الشيعة لوجوب أو صحة إقامة صلاة الجمعة وجود السلطان العادل ما يشير إلى أخذ الواقع السياسي للمجتمع بعين الاعتبار.
قال الشهيد الصدر: «ويُراد بالسلطان العادل: الشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فعلاً بصورة مشروعة، ويقيمون العَدْل بين الرعية»([1]).
كما أن تصريح بعض الفقهاء، كالشيخ الطوسي، باشتراط الأمن من الضرر في إقامة صلاة الجمعة بخطبتَيْها شاهدٌ واضحٌ على ما ذهبنا إليه.
قال الشيخ الطوسي ـ في ما نقله عنه صاحب الجواهر ـ: «لا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان الغيبة، بحيث لا ضرر عليهم، فيصلّون بخطبتين، فإنْ لم يتمكَّنوا من الخطبة صلّوا جماعة ظهراً أربع ركعات»([2]).
وقال في مورد آخر: «ويجوز لفقهاء الحقّ أن يجمعوا بالناس الصلوات كلّها، وصلاة الجمعة والعيدَيْن، ويخطبون الخطبتين، ويصلّون بهم صلاة الكسوف، ما لم يخافوا في ذلك ضرراً، فإنْ خافوا في ذلك الضرر لم يجُزْ لهم التعرُّض لذلك على أيّ حال»([3]).
فالكلام صريح هنا في أن المسالة ترتبط بشعور الجماعة بالأمن، المترتِّب على العلاقة السوّية ضمن المحيط السياسي الاجتماعي.
وحيث وفَّقني الله تعالى للمبادرة إلى إقامة صلاة الجمعة في مدينة القطيف منذ يوم الجمعة (4 ربيع الأول 1428هـ، الموافق23 مارس 2007م)، فإنّي وجدتُ الحاجة ماسّةً لنشر ثقافة صلاة الجمعة، ولتبيين أحكامها وآدابها، ولتحفيز الناس للمشاركة فيها، والاستفادة من عطائها.
وحين راجعت أبواب صلاة الجمعة في مصادر الحديث والفقه الإسلامي هالني ذلك العدد الضخم، والكمّ الهائل، من النصوص والتعاليم التي ترتبط بصلاة الجمعة وأحكامها وآدابها.
إن إحدى الموسوعات الحديثية، وهي «وسائل الشيعة»، للحُرّ العاملي(1104هـ)، بلغت فيها أبواب صلاة الجمعة (60) باباً، اشتملت على (356) حديثاً ورواية.
أما موسوعة «جامع أحاديث الشيعة» فقد احتوَتْ أبواب صلاة الجمعة فيها على (614) حديثاً ورواية.
ومن خلال التأمُّل في تلك النصوص الواردة يمكنني القول بكلّ ثقةٍ وتأكيد: إن الجمعة ترسم وتحدِّد معالم شخصية المجتمع الإسلامي.
إن بعض علماء الاجتماع قد عرَّفوا مفهوم الشخصية على المستوى الفردي بأنه (تنظيم يقوم على أساس من عادات الشخص وسماته، وهي ـ الشخصية ـ تنبثق من خلال العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية). فلو أخذنا بهذا التعريف للشخصية على المستوى الاجتماعي لوجدنا أنّ صلاة الجمعة والآداب المرتبطة بها تشكِّل تنظيماً وتكريساً للعادات والسِّمات التي يجب أن يتقوَّم بها مجتمع المسلمين. فهي ترسم وجه المجتمع الإسلامي، وتحدِّد ملامح صورته.
يوم الجمعة سيّد الأيام
أدرك الإنسان منذ القِدَم حاجته إلى نظام يقيس به الزمن، عبر تقسيم الوقت إلى وحدات، حتّى يتسنّى للإنسان تنظيم أدائه لمهماته، وتعاطيه مع حركة الطبيعة والحياة، وضبط ارتباط بني البشر ببعضهم في القيام بالمهامّ وأداء الأعمال.
وحين رأى الإنسان انتظام حركة الكواكب، وما تحدثه من تغيُّرات نظامية واضحة في الحياة، كتعاقب الليل والنهار تبعاً لغروب الشمس وشروقها، وكذلك دورة تغيُّر الشكل المرئي للقمر، هداه ذلك التأمُّل إلى إمكانية وضع نظامٍ لقياس الزمن، يرتبط بتلك التغيُّرات النظامية الفلكية.
فبملاحظة غروب الشمس وشروقها حصل اعتماد أوضح وحدة زمنية هي اليوم، وبمراقبة تغيُّر موقع القمر وتغيُّر أشكاله أمكن اعتبار الزمن بين بدرَيْن متتاليين وحدة زمنية، أُطلق عليها الشهر، كما أظهر تعاقب الفصول وحدة زمنية أوسع هي السنة الشمسيّة.
ثمّ تراكمت خبرات الإنسان وتجاربه، ليطوِّر ـ بدافع الحاجة ـ أنظمة قياسه للزمن بشكلٍ أدقّ وأكثر تفصيلاً.
فقد قسّم البابليون القدماء اليوم إلى 24 ساعة، والساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية، حيث قسَّموا المسار الدائري الظاهري للشمس إلى 12 قسماً متساوياً، ومن ثم قسَّموا فترات ضوء النهار والظلام إلى 12 قسماً لكلٍّ منهما، بحيث نتج عن ذلك 24 ساعة في اليوم([4]).
الأسبوع وحدة زمنية
وإذا كانت هذه الوحدات الأساسية في قياس الزمن، اليوم والشهر والسنة، تستند إلى ظواهر فَلَكية طبيعية، فإن هناك وحدة زمنية تحتلّ موقعاً أساسياً في تنظيم حياة الإنسان، لكنّها لا ترتبط بأيّ ظاهرة فَلَكية أو طبيعية، بل إنها مجرد مفهوم وضعي عرفه الإنسان منذ القدم، وهي الأسبوع، فليس هناك سببٌ واضح لاعتماد هذه الوحدة الزمنية بأيام سبعة، ولماذا لم تكن خمسة أو عشرة مثلاً؟
وقد كان التقويم اليوناني مبنياً على أساس العقود، أي على وحدات يتألَّف كل منها من عشرة أيام، لكنّ الشعوب القديمة كلّها تقريباً قد تعارفت على نظام الأسبوع، كالكِلْدانيين والبابليين والفرس، ولعلّ الكِلْدانيين هم أوّل مَنْ اتَّخذ من الأسبوع مقياساً للزمن (الوقت)([5]).
ويُلحَظ أنّ القرآن الكريم لم يذكر مصطلح الأسبوع، بينما ذكر أسماء وحدات زمنية أخرى، كالساعة واليوم والشهر والسنة.
وأطلقت الشعوب المختلفة على أيام الأسبوع أسماء مختلفة، فالعرب قديماً أطلقوا عليها أسماء غير التي نعرفها حالياً، فقد سمّوا السبت (شيار)، والأحد (الأول)، والاثنين (الأهون)، والثلاثاء (جُبار)، والأربعاء (دبار)، والخميس (مؤنس)، والجمعة (العَرُوبة)، ومعناه اليوم البيِّن، من قولهم: أعرب، أي أبان، وقد جمعها النابغة الذبياني في قوله:
أؤمِّل أن أعيش وأنّ يومي | لأوّل أو لأهون أو جبار | |
أو التالي دبار فإنْ أفته | فمؤنس أو عروبة أو شيار([6]) |
وأطلقت شعوب كثيرة على أيام الأسبوع أسماء اشتقّتها من أسماء الآلهة، أو أسماء الأبراج السماوية السبعة، التي عُرفت آنذاك بأنها تدور حول الأرض، وهي: زحل، والشمس، والقمر، والمريخ، وعطارد، والمشتري، والزهرة([7]).
كما تعارفت الشعوب، وخاصّة أصحاب الديانات، أنْ تعطي اعتباراً لأحد تلك الأيام السبعة، بأن تكون له قداسة دينية، تؤدّى فيه الطقوس العبادية، ويكون فرصة للتلاقي الاجتماعي، والراحة الشخصية، والترفيه العائلي.
وقد اعتمدت كلّ واحدة من الديانات السماوية (الإسلام والمسيحية واليهودية) يوماً خاصّاً كعيد أسبوعي، أضفَتْ عليه قداسة دينية، ودعَتْ أتباعها إلى احترامه وتعظيمه، وأداء بعض الشعائر والطقوس فيه، وهو يوم الجمعة عند المسلمين، ويوم السبت عند اليهود، ويوم الأحد عند المسيحيين.
ويبدو أنّ بعض الأمم والحضارات السابقة كانت تقدِّس يوماً أسبوعياً، لكنّ ذلك قد اندثر باندثار حضاراتهم، فالإغريق كانوا يقدِّسون يوم الاثنين، كما قدّّس الفرس يوم الثلاثاء، وقدَّس الآشوريون يوم الأربعاء، أما الخميس فقد قدَّسه قدماء المصريين والهنود([8]).
تعظيم السبت عند اليهود
يقدِّس اليهود يوم السبت، ويعظِّمون شعائره تعظيماً شديداً، وهو يوم راحة لديهم، ويوجد في أحكامهم المأثورة 39 نوعاً من الأعمال التي تحرم مزاولتها في يوم السبت، كالزراعة والنسيج والحياكة وذبح الحيوان والبناء وحمل البضائع وإشعال النار، وفي التلمود جزءٌ كامل عن الأفعال التي يحرم على اليهودي القيام بها يوم السبت.
ولم يكن عند اليهود خطيئة تفوق عدم المحافظة على شعائر السبت، إلاّ عبادة الأوثان. ولهذا فإنّ العقوبة التي يستحقّها مَنْ يخرق شعائر السبت في الفتوى الدينية هي الإعدام رَجْماً.
ولا يزال كثيرٌ من اليهود يلتزمون التزاماً صارماً بنظم السبت.
ويشير الدكتور محمد الهواري إلى «أن شعوب العالم لم تعرف يوماً للعطلة الأسبوعية إلاّ بعد أن عرف بنو إسرائيل السبت، واتَّخذوه يوماً لراحتهم»([9]).
ويعتقدون أن الله تعالى قد خلق الكون في الأيام الستّة، واستراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت. جاء في الوصية الرابعة من الوصايا العشـر المعتمدة عندهم: «اذكر يوم السبت لتقدِّسه، ستّة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للربّ إلهك، لا تصنع عملاً ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأنّ في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكلّ ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الربّ يوم السبت وقدّسه»([10]).
وقد تكرَّر ذكر يوم السبت مائة وستّ مرات في الكتاب المقدَّس. وهو يشكل ـ حسب فقرات العهد القديم ـ قيمة روحية عالية عند بني إسرائيل، فهو رمزٌ للعلاقة وللعهد بين الشعب والربّ، تقول إحدى تلك الفقرات: «فيحفظ بنو إسرائيل السبت؛ ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبديّاً، هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد»([11]).
من هذا المنطلق تعيش الأسرة اليهودية في جوّ خاصّ من الاستعدادات عشية السبت؛ لإظهار مدى حبّهم للسبت؛ ولإشاعة جوّ من البهجة والسرور في هذا اليوم، باعتباره يوم احتفال أسبوعي، له طابع ديني اجتماعي، حيث يرتدون فيه ملابس جميلة نظيفة، وتشعل الشموع في البيت قبيل الدخول في السبت، أي قبل غروب شمس يوم الجمعة، أما بعد دخول السبت فمحظور إشعال أيّ نار.
وفي يوم السبت يكثر اليهودي المتديِّن من قراءة نصوص خاصّة مستمدة من الكتب المقدَّسة وتفاسيرها، كما يقصدون المعابد، ويباركون أبناءهم مساء السبت، بأنْ يضع الأب يده على رأس ابنه وابنته داعياً بالبركة.
كما أن للسبت مائدته الخاصّة التي يتمّ إعدادها قبل دخول السبت، وهناك نوع من الخبز تتميَّز به هذه المائدة، يطلق عليه خبز السبت المضفَّر، يكون منه رغيفان اثنان على المائدة، كما يودِّعون يوم السبت بفقرات دعاء للبركة([12]).
ويسعى الآن اليهود العلمانيون لتجاوز قيود يوم السبت التي يتمسَّك بها المتدينون اليهود، حيث يعيش العلمانيون حياتهم الطبيعية في عطلة السبت، ويشاهدون التلفاز، ويشعلون الكهرباء، ويخرجون من بيوتهم.
إلاّ أن كافة الإسرائيليّين لا يذهبون إلى أماكن عملهم يوم السبت، وتتعطَّل المواصلات العامّة، وتغلق المحلات التجارية، وتتوقَّف أغلب القنوات التلفزيونية الرسمية عن البثّ حتّى منتصف يوم السبت. وأجاز عددٌ من الحاخامات لمسؤولي الدولة العمل يوم السبت عند الحالات الطارئة الضروريّة .
وقد تحدَّث القرآن الكريم في خمسة موارد عن يوم السبت، وانتهاك بعض المجتمعات اليهوديّة لحرمته في أزمان سالفة، وتحايلهم على منع الصيد فيه بحبس الأسماك في جداول وشباك يضعونها قبل السبت، فلا تخرج منها الأسماك، ثم يأخذونها منها يوم الأحد، فاستحقّوا بهذا الانتهاك والمخالفة لأمر الله تعالى عذاباً شديداً، جاء ذلك في سورة البقرة آية 65، وسورة النساء آية 47 و154، وسورة الأعراف آية 163، وسورة النحل آية 124، يقول تعالى: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾(النساء: 154)، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (البقرة: 65).
§يوم الأحد عند المسيحيين
ارتبط يوم الأحد عند المسيحيين بيوم بعث السيد المسيح× وقيامته من بين الأموات، حَسْب ما جاء في الكتاب المقدَّس لديهم؛ ولذلك جعلوه لعبادة الربّ. وخلال القرن الرابع الميلادي أقرَّتْ الحكومة والكنيسة رسميّاً يوم الأحد يوماً للراحة في أوروبا([13]).
ويعتبر المسيحيون أنّ الأحد هو اليوم الأوّل من الأسبوع، ومعنى اسمه باللغة الإنجليزية (Sunday) هو يوم الشمس، وكان مقدَّساً عند الوثنيين.
وهو يوم العطلة الأسبوعية في أمريكا ودول أوروبا والمجتمعات المسيحية في مختلف أنحاء العالم، حيث يقصد المسيحيون المتديِّنون الكنائس لإقامة صلواتهم، والاستماع إلى عِظَة الأحد، واستذكار سيرة السيد المسيح.
وتشير دراسة أجريت عام 1998 إلى أن هناك 40% من الأمريكيين يقولون: إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعياً([14]).
الجمعة في الإسلام
حدَّد الإسلام يوم الجمعة كعيد أسبوعيّ للمسلمين، يمّيز كيانهم الاجتماعي على هذا الصعيد عن اليهود والنصارى باحتفائهما بيومَيْ السبت والأحد، وليكون اليوم الذي يتَّجهون فيه أكثر إلى عبادة ربّهم، وتذاكر تعاليم دينهم، وتعزيز تماسكهم، بحضور صلاة الجمعة، والتزاور والتلاقي، والعطاء وصلة الرحم.
واسم الجُمُعة، بضمّ الميم على المشهور، وقد تُسَكَّن، وقرأ بها الأعمش([15])، مأخوذٌ من الجمع والاجتماع، وكان يسمّى في الجاهلية (العَرُوبة)، بفتح العين وضمّ الراء.
وذكر بعض العلماء أن الجمعة تسميةٌ إسلامية لم تطلق على هذا اليوم قبل الإسلام.
لكنّ ذلك محل نظر ومناقشة، حيث إن اسم (العَرُوبة) اسمٌ قديم، كأسماء بقية الأيام: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار. وقد استبدلت بأسماء جديدة عند العرب قبل الإسلام، هي الأسماء المتداولة الآن، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر في «فتح الباري»، مستعرضاً بعض الشواهد([16]).
ولأهمّية هذا اليوم في الحياة الإسلامية يطلق في بعض الحالات كعنوان للأسبوع كلّه، فيقال: أزوركم بعد جمعة، أي بعد أسبوع.
ومن بين أيام الأسبوع اختصّ يوم الجمعة كعنوان واسم لسورةٍ كاملة من القرآن الكريم، هي سورة الجمعة، والتي تضمَّنت الحثّ على حضور صلاة الجمعة، وترك الانشغال بما عداها في وقتها، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الجمعة: 9).
كما لم يرِدْ في القرآن الكريم ذكرٌ لأيام الأسبوع، إلاّ يومان، هما: يوم الجمعة ضمن هذه السورة الكريمة؛ ويوم السبت في سياق ذمّ بني إسرائيل؛ لانتهاكهم حرمته المقرَّرة في شريعتهم.
أفضل الأيام
وفي السنّة النبوية والنصوص الإسلامية ورَدَتْ أحاديث وروايات كثيرة حول فضل يوم الجمعة، والبرامج التي ينبغي الاهتمام بها فيه، حتّى خصَّصَتْ الموسوعات الحديثية والصحاح والمسانيد فصولاً وأبواباً تجمع تلك الأحاديث والروايات.
وقد صنَّف عدد من علماء المسلمين كتباً خاصّة بيوم الجمعة، تتناول فضله وآدابه. كما أفرد عدد من الفقهاء كتباً حول صلاة الجمعة، أحصى منها الشيخ آقا بزرگ الطهراني(1389هـ) ما يقرب من مائتي كتاب ضمن فقه المذهب الشيعي فقط([17]).
ومن الأحاديث والروايات الواردة حول فضل يوم الجمعة ننقل النماذج التالية:
جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبيّ| قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس، يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ في يوم الجمعة»([18]).
وجاء في صحيح سنن ابن ماجة، للألباني، عن النبيّ| أنّه قال: «إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلاّ أعطاه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرَّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلاّ وهُنَّ يُشفِقْن من يوم الجمعة»([19]).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق×: «الجمعة عيد للمسلمين، وهو أفضل من الفطر والأضحى»([20]).
وجاء في «الكافي»، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا جعفر ـ الإمام محمد الباقر× ـ يقول: «ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة»([21]).
وفيه، عن الإمام جعفر الصادق× قال: «إن الله اختار من كلّ شيء شيئاً، فاختار من الأيام الجمعة»([22]).
وفيه، عن الإمام عليّ الرضا× قال: قال رسول الله|: «إن يوم الجمعة سيّد الأيام، يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات، ويستجيب فيه الدعوات، ويكشف فيه الكُرُبات، ويقضي فيه الحوائج العظام»([23]).
وفيه، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله ـ جعفر الصادق× ـ: «فضَّل الله الجمعة على غيرها من الأيّام، وإن الجنان لتزخرف وتُزَيَّن يوم الجمعة لمَنْ أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإنّ أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد»([24]).
وخطب أمير المؤمنين عليّ× في الجمعة، فكان مما قال: «ألا إن هذا اليوم يوم جعله الله لكم عيداً، وهو سيّد أيامكم، وأفضل أعيادكم. وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه إلى ذكره، فلتعظُم رغبتكم فيه، ولتخلُص نيّتكم فيه، وأكثروا فيه التضرُّع والدعاء، ومسألة الرحمة والغفران؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يستجيب لكلّ مَنْ دعاه، ويورد النار مَنْ عصاه، وكلّ مستكبر عن عبادته، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60). وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً إلاّ أعطاه»([25]).
وتشير أحاديث وروايات كثيرة إلى أن في يوم الجمعة ساعةٌ يستجيب الله تعالى فيها دعاء الداعين، ويلبي طلباتهم. ولأنّها ساعة لم تحدِّدها النصوص فإن على الإنسان أن يشتغل بالدعاء في مختلف ساعات الجمعة؛ عسى أن يحظى بموافقة تلك الساعة.
ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبيّ| أنه قال: «إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلمٌ يسأل الله فيها خيراً إلاّ أعطاه إياه»([26]).
ورُوي عن أبي جعفر× أنه قال: «في يوم الجمعة ساعةٌ لا يسأل الله عبد مؤمن فيها إلاّ أعطاه»([27]).
الجمعة ملامح الصورة الاجتماعية
يمكن القول بلا مبالغة: إن الجمعة ـ كيومٍ مبارك ـ له آدابه وبرامجه. وإن صلاة الجمعة ـ كشعيرةٍ عظيمة بوظائفها وأبعادها ـ ترسم الهويّة الخاصة والشخصية المميزة للمجتمع الإسلامي، ذلك المجتمع الذي يستجيب لنداء الله، ويجتمع لأداء فريضته، وتنتظم صفوفه خلف إمام صلاته، ويستمع لتوجيه قيادته الدينية من خلال خطبتَيْ الجمعة، ويتلقّى منها الرؤية والتحليل عن قضايا الأمّة وأوضاع الحياة، وينفتح أبناؤه على بعضهم في مشهدٍ اجتماعي رهيب، لا يتميَّز فيه أحدٌ على أحد، ممّا يؤكِّد روح المساواة والتعاون، وأواصر المحبّة والمودة.
الجمعة حركةٌ ونشاط
حين تتحدَّث النصوص الدينية عن خصوصية يوم الجمعة، وتميُّزه عن سائر الأزمنة، وأنه «خير يوم طلعت عليه الشمس»([28])، وأنه «سيّد الأيام وأعظمها عند الله»([29])، كما ورد عن النبيّ|، فهذا يعني أن يتعامل المسلم مع هذا اليوم تعاملاً خاصّاً مميَّزاً، يحرص فيه على استثمار ساعاته في أفضل البرامج والأعمال.
لكنّ المؤسف حقّاً أن يتعامل الكثيرون مع هذا اليوم العظيم المبارك كوقتٍ فائض وزمن إضافي، يتفنَّنون في إضاعته وصَرْفه دون تخطيط وبرنامج مفيد.
فيتعاملون معه كيوم عطلةٍ وفراغ، خارج أيام العمل والإنتاج. فهو فرصةٌ للاستغراق في النوم، حيث يواصلون نومهم أكثر ساعات الصباح؛ وهو وقتٌ للراحة، بمعنى الكسل والفراغ، والتسمُّر أمام شاشات التلفاز، أو ممارسة اللهو واللعب.
لم يرِدْ نصٌّ شرعي يوجب تعطيل العمل يوم الجمعة، كما هو الحال عند اليهود في يوم السبت، ولم يُفْتِ بذلك أحدٌ من فقهاء المسلمين، وإنّما يحرم فيه العمل المانع من أداء صلاة الجمعة لمَنْ تجب عليه. وذلك التحريم هو بمقدار أداء الفريضة؛ التزاماً بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾(الجمعة: 9). والمراد به ـ على ما يفيده السياق ـ النهي عن الاشتغال بكلّ عمل يشغل عن صلاة الجمعة، سواء كان بيعاً أو غيره، وإنّما علَّق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة([30])، حيث أوجب سبحانه السعي إلى الجمعة، وأمر بترك المعاملة. ونحن نعلم أنّه لا خصوصية لترك البيع، وتخصيصه بالذِّكْر، إنّما هو لكونه أهمّ الأمور، وأكثر ابتلاءً للناس، ولا سيّما أهل السوق.
فالمطلوب أوّلاً هو دَرْك مصالح الجمعة. فكلُّ أمر يوجب تفويت تلك المصلحة، أو التأخير عنها، أو بعضها، فهو منهيٌّ عنه. ومَنْ اشتغل بشيء أوجب التفويت أو التأخير فهو آثمٌ([31]).
أما بعد انتهاء صلاة الجمعة فالمجال مفتوحٌ لممارسة مختلف أعمال الحياة، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ (الجمعة: 10).
والمراد بقضاء الصلاة إقامة الجمعة؛ والانتشار في الأرض التفرُّق فيها؛ وابتغاء فضل الله طلب الرزق؛ نظراً إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة، لكنْ تقدم أن المراد ترك كلّ ما يشغل عن صلاة الجمعة. وعلى هذا فابتغاء فضل الله مطلق عطيته؛ في التفرُّق لطلب رزقه، بالبيع والشراء؛ وطلب ثوابه، بعيادة مريض، والسعي في حاجة مسلم، وزيارة أخ في الله، وحضور مجلس علم، ونحو ذلك([32]).
جاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «يكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بكرةً؛ من أجل الصلاة، فأما بعد الصلاة فجائزٌ يتبرَّك به»([33]).
ولم يكن متداولاً بين المسلمين في الماضي تعطيل أعمالهم يوم الجمعة. يقول الدكتور سليمان بن علي الضحيان: لم يذكر في تاريخ المسلمين تخصيص يوم الجمعة أو سواه لترك العمل فيه والراحة. ومن أوائل مَنْ ترك التدريس يوم الجمعة السبكي الشافعي، من علماء القرن الثامن الهجري. وقد أنكر عليه بعض علماء مذهبه، ورأَوْا أن فيه تشبُّهاً باليهود، بتركهم العمل يوم السبت([34]).
لكنّ المتعارف عليه الآن في جميع المجتمعات البشريّة تخصيص يومٍ أو يومين كعطلة أسبوعية، يرتاح فيها الإنسان من عناء برنامجه اليومي الدائم في الدراسة والعمل، لتكون فرصة لتجديد النشاط الذهني والنفسي، ولإتاحة المجال لأداء سائر المهام والاهتمامات المختلفة للإنسان.
ومن الطبيعي أن تختار المجتمعات الإسلامية لعطلتها الأسبوعية يوم الجمعة، كما اختار اليهود يوم السبت، واختار المسيحيون يوم الأحد؛ انطلاقاً من النظرة الدينية المختلفة بين هذه الديانات حول تحديد اليوم المقدَّس في الأسبوع.
لقد أوْلَتْ التوجيهات الإسلامية يوم الجمعة اهتماماً عظيماً، وجاءت النصوص الكثيرة التي تؤكِّد على استثمار ساعات يوم الجمعة في صالح الأعمال، وتضع أمام المسلم مختلف البرامج التي تخدم تكامله الروحي، وجماله المادّي، وتواصله الاجتماعي، وسعادته الأُسَرية، وتقدّمه المعرفي.
وتوحي هذه النصوص والبرامج بأن يوم الجمعة يجب أن يكون يوم نشاطٍ مكثَّف، وجهد مضاعَف؛ لخدمة الأبعاد المختلفة في شخصية الإنسان وحياته، وأن الذين يتّخذونه يوم كسلٍ وتقاعس يحرمون فيه أنفسهم من خيرٍ كثير، ويخسرون أغلى وأثمن الأوقات.
إن أجر وثواب الأعمال الصالحة يكون مضاعفاً عند الله تعالى يوم الجمعة، كما أن أعمال السوء والشرّ فيه توجب مضاعفة غضب الله وعذابه، حسب ما ورد في نصوص كثيرة؛ وذلك بهدف دفع الإنسان المسلم وتشويقه لأداء المزيد من أعمال الخير والصلاح في هذا اليوم المبارك، وتحذيره من الاقتراب من أيّ ذنبٍ أو معصية.
روى أبو هريرة عن النبيّ| أنه قال: «تضاعف الحسنات يوم الجمعة»([35]).
وجاء عن الإمام محمد الباقر× أنه قال: «الخير والشرّ يضاعف في يوم الجمعة»([36]).
وعنه أيضاً×: «إن الأعمال تضاعف يوم الجمعة، فأَكْثِروا فيه من الصلاة والصدقة»([37]).
وعن الإمام عليّ الرضا×: «اعلَمْ، يرحمك الله، أن الله تبارك وتعالى فضَّل يوم الجمعة وليلته على سائر الأيام، فضاعف فيه الحسنات لعاملها، والسيئات على مقترفها»([38]).
وعن أبان، عن أبي عبد الله جعفر الصادق×، أنّه قال: «إن للجمعة حقّاً وحرمة، فإيّاك أن تضيِّع أو تقصِّر في شيء من عبادة الله، والتقرُّب إليه بالعمل الصالح، وترك المحارم كلِّها؛ فإن الله يضاعف فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات»([39]).
وقد تنوَّعت البرامج التي حثَّت النصوص الدينية على أدائها يوم الجمعة، بين برامج روحية، ومعرفية، واجتماعية، وجمالية تُعْنى بأناقة الإنسان وحُسْن مظهره.
صلاة الجمعة
صلاة الجمعة هي البرنامج الأهمّ للإنسان المسلم في يوم الجمعة، وهو العمل المحوري، والمهمّة الأساسية التي ينبغي أداؤها في ذلك اليوم. وعلى المسلم أن يكيِّف سائر برامجه وأعماله لصالح هذه الفريضة العظيمة.
فلا ينبغي له أن يسافر صباح الجمعة، فيخسر فرصة أدائها، فذلك مكروهٌ شَرْعاً، كما جاء في رواية عن الإمام عليّ الهادي×: «يُكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بكرةً من أجل الصلاة، فأما بعد الصلاة فجائزٌ يتبرَّك به»([40]).
وجاء في «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين عليّ× في كتابه إلى الحارث الهمداني، قال: «ولا تسافِرْ في يوم الجمعة حتّى تشهد الصلاة، إلاّ ناصلاً في سبيل الله، أو في أمرٍ تعذر به»([41]).
وعن الإمام عليّ الرضا× أنه قال: «ما يؤمن مَنْ سافر يوم الجمعة قبل الصلاة أن لا يحفظه الله تعالى في سفره، ولا يخلفه في أهله، ولا يرزقه من فضله»([42]).
ونقل الشهيد الثاني في «رسالة الجمعة» عن النبيّ| أنه قال: «مَنْ سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره، ولا تقضى له حاجة»([43]).
هذا التحذير والكراهة هو عن السفر بعد الفجر، وقبل وقت الصلاة من يوم الجمعة، أما إذا حان الزوال فإنّ السفر يكون حراماً على مَنْ تجب عليه الجمعة، بإجماع الفقهاء.
ولا يجوز للمسلم عند وجوب صلاة الجمعة أن يشتغل بأيّ عمل آخر يصرفه عنها؛ لصريح النهي الوارد في قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
ويجب قصد صلاة الجمعة عند وجوبها، ولو كان بين الإنسان وبينها مسافة في حدود فرسخين، أي بمقدار 11 كيلو متراً تقريباً.
كما ورد عن الإمام الباقر×: «تجب الجمعة على كلّ مَنْ كان منها على فرسخين»([44]).
وهي مسافةٌ كانت تستلزم وقتاً وجهداً في الزمن الماضي. ففي عهد رسول الله| كان بعض قاصدي الجمعة لا يصلون إلى منازلهم عند عودتهم إلاّ بعد ساعات، كما يشير إلى ذلك ما ورد عن الإمام محمد الباقر×، قال: «الجمعة واجبة على مَنْ إن صلّى الغداة (صلاة الصبح) في أهله أدرك الجمعة، وكان رسول الله| إنّما يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام؛ كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله| رجعوا إلى رحالهم قبل الليل»([45]).
التبكير للجمعة
ولأن صلاة الجمعة ليست مجرّد صلاة، وإنّما هي ملتقى وحراك اجتماعي، بالإضافة إلى بُعْدها العبادي، وهي حضورٌ في ساحة قضايا الدين والأمّة، لذلك ينبغي أن يخصِّص لها الإنسان المسلم أكبر وقتٍ ممكن من يوم الجمعة، حيث ورد الحثّ والتشجيع على التبكير في السعي والذهاب إلى موقع الصلاة؛ ليؤدي الإنسان ما شاء من نوافل، وليتلو ما تيسَّر له من القرآن الكريم؛ وليبتهل ويتضرَّع إلى الله تعالى بالدعاء في هذا اليوم المبارك العظيم؛ ولتكون فرصته أوسع في اللقاء مع أبناء مجتمعه.
فقد ورد أن الإمام محمد الباقر× كان يبكِّر إلى المسجد يوم الجمعة حين تكون الشمس قيد رمح، فإذا كان شهر رمضان يكون قبل ذلك، وكان يقول: «إن لجُمَع شهر رمضان على جُمَع سائر الشهور فضلاً، كفضل رمضان على سائر الشهور»([46]).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق×: «فضَّل الله يوم الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتزيَّن يوم الجمعة لمَنْ أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنّة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد»([47]).
وعن الإمام الباقر×: «يكون يوم الجمعة شاهداً وحافظاً لمَنْ سارع إلى الجمعة، ثم يدخل المؤمنون إلى الجنّة على قَدْر سَبْقهم إلى الجمعة»([48]).
أهمّية صلاة الجمعة
إن كثرة الأحاديث والروايات الواردة حول صلاة الجمعة ترقى بها إلى ذروة الفرائض والواجبات. وكما ذكر السيد الخوئي& فإن ما تناوله الفقهاء من الأخبار في مقام الاستدلال على وجوب صلاة الجمعة يصل إلى مائتي حديث([49]).
وفي كتاب «وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة»، للفقيه المحدِّث الحُرّ العاملي&، اشتملت أبواب صلاة الجمعة وآدابها على (356) حديثاً ورواية. أما في كتاب «جامع أحاديث الشيعة» فقد بلغت (614) حديثاً ورواية.
وتؤكِّد أكثر هذه النصوص على أهمّية هذه الفريضة ووجوبها، وعلى عظيم ثواب الله وفضله لمَنْ واظب عليها، كما تحذِّر من التفريط فيها، والتهاون في حضورها وأدائها.
ومنها ما رُوي عن رسول الله| أنه قال: «إن الله كتب عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة»([50]).
وورد أنّ علياً× كان يقول: «لأن أدَعَ شهود حضور الأضحى عشر مرّات أحبُّ إليّ من أنْ أدَعَ شهود حضور الجمعة مرّة واحدة من غير علّة»([51]).
وورد عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «الجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلاّ خمسة: المرأة، والمملوك، والمسافر، والمريض، والصبيّ»([52]).
هذه النصوص وكثيرٌ أمثالها يجب أن تلفت أنظارنا إلى مدى الخسارة والحرمان الذي نُصاب به في التهاون بصلاة الجمعة. وإذا ما كانت الأجواء في الماضي غير مهيّأة في بعض مجتمعاتنا لإقامة هذه الفريضة المقدَّسة، والشعيرة العظيمة، فما عُذْرنا الآن في التساهل والتهاون بها وقد أصبحت تُقام ـ بحمد الله ـ في مناطقنا؟
الحرمان من إقامة صلاة الجمعة
كانت تسود أجواء المجتمعات الشيعية آراءٌ فقهية غير مساعدة على إقامة صلاة الجمعة، كالرأي القائل بعدم مشروعية إقامة الجمعة في عصر غَيْبة الإمام؛ انطلاقاً من بعض الروايات التي يُستفاد منها كون إمامة الجمعة من المناصب التي تختصّ بالمعصوم، ولا يجوز لغيره التصدّي لها إلاّ بإذنه. فإذا لم يحصل الإذن يكون المتصدّي لإقامتها متجاوِزاً على مقامٍ شرعيّ لا يستحقّه، وهو أمرٌ محرَّم.
لكنّ هذا الرأي، الذي تبنَّاه عددٌ محدود من الفقهاء، يقابله رأيٌ معارِض لعدد واسع من الفقهاء، الذين يرَوْن أن تلك الروايات ليست في مقام حصر إمامة الجمعة في المعصوم، وإنّما غايتها إثبات إمامة الجمعة للمعصوم، والحَصْر والإثبات متفاوتان من حيث القابليّة وعدمها للنيابة([53]).
ثم إن هناك عدداً من الروايات واضحٌ منها عدم تقييد الجمعة بالإمام المعصوم. كما أن الفقيه الجامع للشرائط له موقعية النيابة العامة عن الإمام في عصر الغيبة، مما يخوِّله إقامتها، أو الإذن بها بناءً على استلزامها لذلك.
وكان هناك رأيٌ لبعض الفقهاء باشتراط أن يكون إمامها فقيهاً جامعاً للشرائط، كما جاء في «سداد العباد»، للفقيه المحدِّث الشيخ حسين العصفور، حيث قال ضمن شرائط الوجوب: «والإمام العادل أو نائبه الخاصّ، وفي الغَيْبة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، ولو متجزِّياً تجزِّياً قريباً من الفقيه الجامع»، وقال ضمن شرائط الصحّة: «ويعتبر في إمامها الكمال، والإيمان، والعدالة، والذكورة، وطهارة المولد، والفقاهة، وكونه أهلاً للنيابة»([54]).
واشترط بعضهم لوجوبها أن يكون الفقيه مبسوطَ اليد، بمعنى صاحب حكم وسلطة. لكنّ الرأي السائد عند أكثر الفقهاء المعاصِرين كفاية شروط إمامة الجماعة لإمامة الجمعة؛ فمَنْ صحَّت جماعته كإمامٍ في سائر الفرائض اليومية صحَّت إمامته في صلاة الجمعة.
ولم يخلُ عصرٌ من عصور الشيعة من إقامة صلاة الجمعة من قِبَل بعض علمائهم، وإنْ لم تكن تمثِّل حالةً عامّة لديهم؛ لعدم ملاءمة الظروف السياسية والاجتماعية؛ ولتأثير تلك الآراء الفقهيّة.
لذلك حين تغيَّرت الأوضاع السياسية في إيران؛ بقيام نظام الجمهورية الإسلامية، بادرت القيادات الدينية لإقامة صلاة الجمعة. وحينما وجد الشهيد السيد محمد الصدر الفرصة مناسبةً في العراق أقام الجمعة في الكوفة، ونصب لها أئمّة في سائر مناطق العراق، في ظلّ الحكم الزائل لصدام. كما أنّها أصبحت تُقام في لبنان وسوريا وغيرها.
بركات صلاة الجمعة
لا شكّ أن لإقامة صلاة الجمعة بركاتٌ عظيمة على المجتمع. ولا ينبغي أن نحرم أنفسنا وأبناءنا منها. وإذا كانت هناك مبرِّرات وأسباب في بعض المجتمعات لعدم إقامتها في الماضي فلا يصحّ السير على نهج الاستصحاب والاسترسال، وإغفال التطوُّرات الإيجابية على الصعيد الفقهي والسياسي والاجتماعي.
لقد تحدَّث السيد الخامنئي مرّةً عن بركات إقامة الجمعة في أوساط الشعب الإيراني، فكان ممّا قاله: «إن خدمة صلاة الجمعة خدمة للدين والتقوى؛ لأنّ الهدف من صلاة الجمعة نشر التقوى والروح الدينية بين الشعب، كما أن خدمة صلاة الجمعة خدمة للوعي العام لدى الشعب الإيراني؛ لأن صلاة الجمعة ليست فرضاً عباديّاً مَحْضاً، بل هي عمل يَهَبُ الوعي بمحتواه وطبيعة تركيبه من اجتماع عظيم للمسلمين في كلّ أسبوع، يشاهده الصديق والعدو، وتفصيل وبيان للأوضاع والظروف السياسية لهم من قِبَل خطيب الجمعة. فصلاة الجمعة في الإسلام تركيبٌ عجيب حقّاً؛ فمن ناحية تأتي الوصية للناس بالتقوى والطهارة والإعراض عن الأهواء النفسية؛ وفيها من ناحية أخرى توعية الأمّة بالأحداث السياسيّة، ومؤامرات الأعداء، ومتطلّبات الأصدقاء، وأوضاع العالم الإسلامي، فلا بُدَّ من عرفان قَدْر هذه الفريضة العظيمة.
لقد تبدَّلت صلاة الجمعة اليوم، وبفضل الثورة الإسلامية، وحِنْكة إمامنا العظيم إلى سنّة وطيدة في البلاد. فلم يألَفْ شعبنا صلاة الجمعة بمعناها وحقيقتها قبل النظام الإسلامي، فكان لطف الله على شعبنا، وواحدة من بركات الثورة الإسلامية، أن استطعنا فتح هذه النافذة الواسعة نحو المعنويات والمعرفة أمامنا.
وعلى الشعب أن يعرف قَدْر صلاة الجمعة، وحَرِيٌّ بأئمة الجمعة، وسائر القائمين عليها العمل على مضاعفة دواعي الاستقطاب في صلاة الجمعة. فجيل الشباب لدينا متعطِّش للحقيقة والإدراك والتوعية، ويجب أن تنجح صلوات الجمعة في إرواء هذا العَطَش، وتلبية الحوائج العامّة لجيل الشباب»([55]).
ولإكمال بحث إقامة هذه الشعيرة العظيمة لا بُدَّ من الإشارة إلى بعض المعوِّقات الاجتماعية التي تعاني منها بعض الأوساط الدينيّة؛ ذلك أن صلاة الجمعة لا يصحّ أن تتعدَّد في المنطقة الواحدة، ولا بُدَّ أن يكون الفاصل بين جمعتين فرسخاً، أي بحدود خمسة كيلومترات ونصف الكيلومتر، مع أنّ كلّ منطقة فيها جماعات متعدِّدة، وأئمّة يقيمون صلاة الجماعة، فإذا أُقيمت صلاة الجمعة من قِبَل أحدهم فلا مجال للآخرين، وعليهم أن يحضروا معه الجمعة، ويعطِّلوا صلاتهم بالجماعة، ممّا يثير عنصر التنافس والشعور بالمزاحمة. لذلك تفضّل هذه الأوساط الدينية إبقاء ما كان على ما كان، والاكتفاء بأداء صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة، وعدم الحثّ والتشجيع على إقامة الجمعة؛ مراعاة لهذه المشاعر والأحاسيس؛ وحفظاً للتوازنات الشخصية والفئوية.
وقد أشار إلى هذه المشكلة وبحثها السيد الخوئي، عند استعراضه لأدلّة عدم مشروعيّة الجمعة في عصر الغيبة. ونقتطف من كلامه ما يلي: «إن الجمعة لا بُدَّ وأن يقيمها شخصٌ واحد في كلّ مكان، ولا يشرع فيها التعدُّد في محلٍّ واحد. وكيف يحمل الشارع مَنْ في ذلك المحلّ ـ كافّة ـ على الائتمام بواحدٍ غير معين، ويوكل تعيينه إلى إرادتهم؛ فإنّه لا تكاد تتَّفق آراؤهم على شخص واحد؟ على أن جلّ الناس يأبى عن الاقتداء بمَنْ يراه مثله أو دونه في الأهليّة للإمامة. وأضِفْ إلى ذلك أن كلّ شخص أو الأغلب ـ على الأقلّ ـ يريد أن يكون هو المتصدّي لهذا الأمر المهمّ، أو يقيمها مَنْ اتّصل به من الأقارب والأولاد؛ فإن حبّ الرئاسة جِبِلِّي للبشر. أو إذا فرضنا أنه لا يريد ذلك بنفسه فقد يريده أهل محلّته وأعوانه، بل هذا هو الأغلب في العوامّ، فإنّه من المحسوس أن أهل كلّ محلّة يريدون أن يكون الإمام لجماعتهم هو المقيم لصلاة الجمعة في البلد. وبهذا تتحقَّق الفتنة، وينشأ النزاع والخلاف».
ثم يدفع هذا الإشكال بالقول بأنّ صلاة الجمعة واجبٌ تخييري، مضيفاً لذلك قوله: «بل يمكن أن يُقال: إن الأمر بصلاة الجمعة لا يكون مثاراً للفتنة أبداً، حتّى على القول بالوجوب التعييني في المسألة؛ والوجه في ذلك أنّ مَنْ تصدّى لإقامة الجمعة وإمامتها إمّا أن يكون ممَّنْ توفَّرت فيه شروط الإقامة، وتحقَّقت فيه أهليّتها لدى المكلَّف بصلاة الجمعة؛ وإما أن لا يكون كذلك عنده. فعلى الأوّل لا مناص لغيره من أن يأتمّ به في صلاة الجمعة، ولا نرى أيَّ مانع من أن يكون هو المتصدّي لإمامتها حينئذٍ، وإنْ رأى المأموم نفسه أرقى من الإمام وأصلح منه للتصدّي بالإمامة؛ لأنّه ليس في هذا الائتمام سوى مجاهَدة النفس والتخاضع، وإطلاق النفس عن الأنانية والكبرياء، وهو أمرٌ محبوب للشارع، وقد حثَّنا على التجنُّب عن الكِبْر، واختيار التواضع، والمقام من مصاديقه وموارده. وقد كنا نشاهد أنّ الزاهد الفقيد الشيخ عليّ القمي(طاب رمسه) يأتمّ به مَنْ هو أقدم وأرقى منه في الفضل والكمال، فما هو المانع من أن يتصدّى مثله للإمامة على غيره، ويصلّي الناس خلفه؟!»([56]).
إن مثل هذا العائق إذا وُجد فلن يصعب على الواعين من أبناء المجتمع تجاوزه. وقد تحصل بعض الإشكاليات في البداية، وهو أمرٌ طبيعي أمام أيّ توجُّه جديد، وأيّ تطوير وتغيير. ويمكن التعاون بين العلماء وأئمّة الجماعة في كلّ منطقة؛ ليتَّفقوا على نظامٍ بينهم للتناوب على إمامة الجمعة.
كما يجب أن نراهن على وعي المجتمع لأهمّية صلاة الجمعة، وإدراكه لمنافعها وبركاتها. ومن تلك المنافع دفع الإشكالات التي تُثار على أتباع أهل البيت^؛ لعدم إقامتهم صلاة الجمعة.
صلاة الجمعة
صوت الأذان للصلاة هو نداء دعوة من الله تعالى لعبده المؤمن، ليقبل على ربّه، وليجدِّد عهد الطاعة والعبودية له. ووظيفة المؤمن تلبية هذه الدعوة، والاستجابة لهذا النداء عند وقت كلّ فريضة، وفي كلّ يوم، حين يرتفع صوت المؤذِّن مُجَلْجِلاً في آفاق السماء.
إن هذه الدعوة الإلهيّة للعبادة والصلاة تتكرَّر خمس مرات كلّ يوم؛ لتفعيل التواصل الدائم بين العبد وربّه، ويبلغ تعدادها أسبوعيّاً خمساً وثلاثين صلاة.
لكنّ صلاةً واحدة من هذه الصلوات الخمس والثلاثين خلال الأسبوع أحاطها الإسلام باهتمامٍ خاصّ، وجعل لها موقعيّة مميَّزة بين سائر الفرائض، وشرَّع أداءها بكيفية خاصّة، وأفردها بأحكامٍ معينة، وهي صلاة الجمعة، التي أصبحت عنواناً لسورة كاملة من القرآن الكريم هي (سورة الجمعة).
ويمكننا أن ندرك الأهمّية الكبيرة لصلاة الجمعة في الإسلام من خلال الأبعاد التالية:
البعد الاجتماعي
إذا كان أداء سائر الصلوات جماعة أمراً مستحبّاً، وسنّة مؤكَّدة، حَسْب رأي أكثر المذاهب الإسلامية، فإنّ أداء صلاة الجمعة لا يكون إلاّ جماعةً، باتّفاق فقهاء المسلمين. فهي لا تؤدَّى فرادى، وإنّما تؤدَّى جماعة، وهذا يعني إلزام المسلم بأداء الصلاة جماعة مرّة واحدة في الأسبوع، في صلاة الجمعة، ضمن شرائط الوجوب.
البعد التوعوي
تمتاز صلاة الجمعة باشتمالها على جانب التوعية والإرشاد؛ حيث تجب فيها خطبتان يلقيهما الإمام قبل الصلاة، ويجب الإصغاء لهما من قبل المأمومين، بينما تصبح الصلاة ركعتين، لا أربع ركعات، كما هو الواجب في صلاة الظهر.
وتشير النصوص الدينية إلى أنّ الخطبتين بمثابة الركعتين اللتين أُنقصتا من الصلاة، فهي كالجُزْء من الصلاة.
ويفترض في خطبَتَيْ الجمعة أن تُقدِّما زاداً أسبوعيّاً من الموعظة والتوعية والإرشاد في ما يحتاجه المجتمع المسلم.
البعد الوحدوي
يمكن أن تقام صلاة الجماعة لسائر الفرائض اليومية في كلّ المساجد، بل في كلّ مكان يجتمع فيه اثنان فأكثر، لكنّ صلاة الجمعة لا يصحّ أن تتعدَّد في المدينة الواحدة، حيث يشترط أن تكون هناك مسافة لا تقلّ عن فرسخ، تعادل خمس كيلومترات ونصفاً، بين كلّ صلاة جمعة والأخرى، وِفْقاً لرأي المذهب الجعفري. وعندما تقام صلاة الجمعة فإنه يجب الحضور لها، عند توفُّر شرائط الوجوب، على المقيمين في محيطها، ضمن مسافة فرسخين، أي أحد عشر كيلومتراً.
حكم صلاة الجمعة
اتَّفق المسلمون على أصل وجوب صلاة الجمعة. واختلفت مذاهبهم وفقهاؤهم في شرائط وجوبها، وشرائط صحتها.
حيث اشترط الحنفية لوجوبها وصحّتها أن يكون المكان الذي تُقام فيه (مِصْراً)، والمقصود بالمِصْر كلّ بلدة نُصب فيها قاضٍ تُرْفَع إليه الدعاوى والخصومات.
وعلى هذا فمَنْ كانوا يقيمون في قرية نائية لا يكلَّفون بإقامة الجمعة، وإذا أقاموها لم تصحّ منهم. قال صاحب «البدائع»: المِصْر الجامع شرط وجوب الجمعة، وشرط صحة أدائها، عند أصحابنا، حتّى لا تجب الجمعة إلاّ على أهل المِصْر، ومَنْ كان ساكناً في توابعه. وكذا لا يصح أداء الجمعة إلاّ في المِصْر وتوابعه، فلا تجب على أهل القرى التي ليست من توابع المِصْر، ولا يصحّ أداء الجمعة فيها([57]).
كما اشترط الحنفية إذن السلطان بذلك، أو حضوره، أو حضور نائب رسميّ عنه؛ إذ هكذا كان شأنها في عهد رسول الله|، وفي عهود الخلفاء الراشدين([58]).
وعند الزيديّة يشترط لصلاة الجمعة وجود إمامٍ عادل، ولا يكفي وجود الإمام، بل لا بُدَّ مع وجوده من توليته، أي أخذ الولاية منه على إقامة الجمعة([59]).
ويرى الأباضيّة أن وجود الإمام أو نائبه شرطٌ لوجوب صلاة الجمعة، فإنْ لم يكن واحدٌ منهما لم تجب. لكنّها تجوز خلف متولٍّ من المذهب، عند بعض فقهائهم؛ ولم تجز عند بعض آخر. قال الشيخ محمد بن يوسف أطفيش في «شرح كتاب النيل»: ومذهبنا أنه لا تصحّ إلاّ بإمام، أو نائبه، أو مأمور أحدهما([60]).
المذهب الجعفري
اختلفت آراء فقهاء المذهب الجعفري حول شرائط وجوب وصحّة صلاة الجمعة؛ حيث اعتبر أكثرهم أن وجود الإمام المعصوم شرطٌ لوجوبها، فلا تجب إلاّ بحضوره، أو بمنصوبٍ من قبله، أو بوجود سلطانٍ عادل؛ لكنّ عدداً لا يستهانُ به من فقهاء الشيعة رأَوْا وجوبها حتّى في عصر غيبة الإمام، مع توفُّر سائر الشرائط.
وعدا قلّةٍ من الفقهاء يرَوْن عدم صحتها في غياب الإمام، فإنّ أغلب فقهاء الشيعة يرَوْن صحّة إقامتها في زمن الغيبة، مع توفّر سائر الشرائط، وأن المكلَّف مخيَّر بينها وبين صلاة الظهر يوم الجمعة.
ويرى بعض الفقهاء أنها إذا أقيمت بشرائطها تصبح واجبة، ويجب الحضور لها. فالناس مخيَّرون بين إقامة صلاة الجمعة أو أداء صلاة الظهر، لكنّه إذا تصدّى عددٌ تنعقد بهم صلاة الجمعة، سبعة أو خمسة أشخاص، وتقدَّمهم مَنْ تتوفَّر فيه شرائط إمام الجماعة المعروفة، ينتهي التخيير، ويتعيَّن على المكلَّفين ضمن الشروط المقرَّرة حضور صلاة الجمعة، وهو رأي السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر والسيد فضل الله وآخرين.
بينما يرى فقهاء آخرون استمرار التخيير بين الجمعة والظهر حتّى مع إقامتها، لكنّ صلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر.
قال السيد السيستاني: «صلاة الجمعة واجبة تخييراً على الأظهر. ومعنى ذلك أن المكلَّف يوم الجمعة مخيَّر بين الإتيان بصلاة الجمعة على النحو الذي تتوفَّر فيه شرائطها وبين الإتيان بصلاة الظهر، ولكنّ إقامة الجمعة أفضل، فإذا أتى بها مع الشرائط أجزأت عن الظهر»([61]).
وقال الشيخ الفيّاض: «إذا أقيمت صلاة الجمعة في يومها بتمام شروطها فالمكلَّف مخيَّر بين أن يحضر فيها أو يصلّي صلاة الظهر، وإنْ كان الأوّل «صلاة الجمعة» أفضل وأجدر»([62]).
الحثّ على صلاة الجمعة
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الجمعة: 9).
﴿نودي﴾ من مادة (نداء)، وهي بمعنى الأذان؛ إذ لا نداء للصلاة غير الأذان. فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة، وهي أهمّ ذكر الله.
وعبارة ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ إشارةٌ إلى أن إقامة صلاة الجمعة، وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت، خيرٌ وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذّها الزائلة.
ومن الواضح أنّ للأمر بترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعُون، واْتُوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة».
وقد عبَّرت الآية في ما يتعلَّق بصلاة الجمعة بقولها: ﴿فَاسَعَوْا﴾ لتعطي أهمّية بالغة لصلاة الجمعة([63]).
ولأنّ السعي بمعنى السَّيْر السريع والإسراع في المشي، كالعَدْو والرَّكْض، فالآية تدلنا على وجوب السرعة عند الأذان والنداء للصلاة يوم الجمعة([64]).
أما الأحاديث والروايات الواردة حول صلاة الجمعة فهي كثيرةٌ جداً. يقول السيد الخوئي: هي من الكثرة بمكان، ومتجاوزة حدّ الاستفاضة بلا ريب، وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي (200) حديث، فقال: فالذي يدلّ على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان والموثّقات وغيرها أربعون حديثاً. والذي يدلّ بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً. والذي يدلّ على المشروعيّة في الجملة، أعمّ من أن يكون عينياً أو تخييرياً، تسعون حديثاً. والذي يدلّ بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً([65]).
وننقل بعض تلك النصوص كنماذج وأمثلة:
1ـ عن رسول الله|: «مَنْ أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل»([66])، أي إن ذنوبه قد غُفرت له.
2ـ عن رسول الله|، «أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين، فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلاّ خفَّف الله عليه أهوال يوم القيامة، ثم يُؤمَر به إلى الجنّة»([67]).
3ـ جاء أعرابيٌّ إلى النبي| يقال له: قليب، فقال له: يا رسول الله، إنّي تهيّأتُ إلى الحجّ كذا وكذا مرّة، فما قُدِّر لي؟ فقال |: يا قليب، عليك بالجمعة؛ فإنّها حجُّ المساكين»([68]).
4ـ وقال النبيّ | في خطبةٍ طويلة: «إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة؛ فمَنْ تركها في حياتي، أو بعد موتي؛ استخفافاً بها، أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتّى يتوب»([69]).
5ـ جاء في روايةٍ صحيحة عن زرارة بن أعين، عن الإمام محمد بن عليّ الباقر×، أنه قال: «فرض الله عزَّ وجلَّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عزَّ وجلَّ في جماعة، وهي الجمعة»([70]).
6ـ صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم، قالا: سمعنا أبا جعفر محمد بن عليّ الباقر× يقول: «مَنْ ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علّة طَبَع الله على قلبه»([71]).
وقال السيد الخوئي، تعليقاً على الرواية: طبع الله على قلبه هو من أوصاف المنافقين، وكناية عن كون ذلك موجِباً للعصيان. وسندها صحيحٌ([72]).
7ـ عن الإمام الصادق×: «ما من قَدَمٍ سعَتْ إلى الجمعة إلاّ حرَّم الله جسدها على النار»([73]).
رأي الشهيد الصدر
خصّ الشهيد السيد محمد باقر الصدر في رسالته العملية «الفتاوى الواضحة» صلاة الجمعة بحديثٍ رائع مركَّز، نقتطف منه الفقرة التالية؛ لأهمّيتها: «صلاة الجمعة وهي من أهمّ شعائر الإسلام، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الجمعة: 9).
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق×: «ما من قَدَمٍ سعَتْ إلى الجمعة إلاّ حرَّم الله جسدها على النار».
وتحتلّ صلاة الجمعة موضع صلاة الظهر ضمن تفصيلات تأتي. وقد ميَّز الله سبحانه وتعالى صلاة الجمعة عن سائر الصلوات اليوميّة على ما يأتي بأنْ أوجب أداءها ضمن صلاة جماعة، وأمر بتوحيدها في كلّ منطقة، ولم يسمح بالتأخُّر عن حضورها إذا أقيمَتْ، إلاّ لأعذارٍ خاصّة. وبذلك كانت صلاة الجمعة تعبِّر عن اجتماع أسبوعي موسَّع لعامّة المصلّين والمؤمنين، يبدأ بالموعظة والتثقيف ضمن خطبتَيْ صلاة الجمعة، وينتهي بالعبادة والتوجُّه إلى الله ضمن الصلاة نفسها.
وتجب إقامة صلاة الجمعة وجوباً حَتْمياً في حالة وجود سلطانٍ عادل، متمثِّلاً في الإمام، أو في مَنْ يمثِّله. ويراد بالسلطان العادل الشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فِعْلاً بصورة مشروعة، ويقيمون العَدْل بين الرعية. وهذا الحكم الأوّل لصلاة الجمعة يعبَّر عنه بـ (الوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة).
وأما في حالة عدم توفُّر السلطان العادل فصلاة الجمعة واجبةٌ أيضاً، ولكنّها تجب على وجه التخيير ابتداءً، وتجب على وجه الحَتْم انتهاءً؛ وذلك لأنّ المكلَّفين في هذه الحالة يجب عليهم أن يؤدّوا الفريضة في ظهر يوم الجمعة؛ إمّا بإقامة صلاة الجمعة جماعةً على نحو تتوفَّر فيها الشروط السابقة؛ وإمّا بالإتيان بصلاة الظهر، وأيُّهما أتى به المكلَّف أجزأه وكفاه، غير أنّ إقامة صلاة الجمعة أفضل وأكثر ثواباً. وهذا هو الحكم الثاني لصلاة الجمعة، ويعبر عنه بـ (الوجوب التخييري لإقامة صلاة الجمعة).
فإنْ اختار خمسةٌ من المكلَّفين إقامة صلاة الجمعة؛ امتثالاً للحكم الثاني، وكان فيهم شخصٌ عادل يصلح أن يكون إمام جماعة، فقدَّموه ليخطب بهم ويصلّي صلاة الجمعة، وأقاموها على هذا النحو، وجب على سبيل الحَتْم والتعيين على المكلَّفين عموماً الحضور والاشتراك في صلاة الجمعة؛ لأنّ إقامتها نداءٌ لصلاة الجمعة، وإذا نُودي لصلاة الجمعة وجب السعي إلى ذكر الله. وهذا هو الحكم الثالث لصلاة الجمعة، ويعبَّر عنه بـ (الوجوب التعييني لحضور صلاة الجمعة)([74]).
عنوان المسلمين وشعارهم
ألَّف الشيخ محمد الخالصي(1306هـ ـ 1383هـ)، وهو فقيهٌ أصولي، كتاباً هامّاً بعنوان «الجمعة»، يقع في 230 صفحة، بحث فيه أدلة وجوب الجمعة تعييناً على كلّ مكلَّف في جميع العصور. وردّ فيه على الآراء الأخرى، مناقشاً أدلّتها. كما تحدَّث في كتابه عن فلسفة صلاة الجمعة وآدابها. وقد طُبع الكتاب في بغداد سنة 1369هـ. والشيخ الخالصي هو من روّاد إقامة صلاة الجمعة، والمكافحين من أجل إقامتها. وكان يقيمها في المسجد المجاوِر لمرقد الإمامين الكاظمين| في الكاظمية.
ومما جاء في كتابه حول أهمّية الجمعة ننقل الفقرة التالية: «ويظهر في مجموع الأحاديث وسيرة النبي والأئمة^ أن الشارع جعل الجمعة شعار المسلمين، وشعيرة الإسلام، وأنه أمر المسلمين فيها بأنواع الزينة في أبدانهم وملابسهم، والصالحات في أعمالهم وأقوالهم، والفكرة في ما يحتاجون إليه من أمور دنياهم وآخرتهم. وأمر أئمة الجمعة بذكر ما يهمّ المسلمين في جميع أقطار الأرض، والأمر بدَرْء ما طرأ للمسلمين من بوائق الشرّ في الأسبوع، والحثّ على الازدياد من الخير، في خطبهم الواجبة قبل صلاتهم. وقد قسَّم الشارع في ذلك جميع المسلمين إلى جماعاتٍ صغيرة، فأمر باجتماع أهل كلّ أربعة فراسخ كلّ جمعة في محلٍّ واحد؛ ليعرفوا ما يهمّهم ممّا يجب عليهم، ويهمّهم في جميع أمورهم، ممّا يجب بيانه في خطب الأئمّة.
وإذا كان لكلّ أمّة عنوان وشعار فإنّ الجمعة عنوان المسلمين وشعارهم. ومساجدهم هي المجامع العامّة التي يجب على كلّ مسلم دخولها، والاجتماع فيها في كلّ أسبوع مرّة على الأقلّ، وجوباً تعيينيّاً، لا يسَعُ أحداً من المسلمين تركه»([75]).
أحكام صلاة الجمعة
تمثِّل صلاة الجمعة لقاءً أسبوعياً إيمانياً بين أبناء كلّ منطقة، تجمعهم فيه أجواء العبادة لله تعالى، ودافع الطاعة له، والاستجابة لأمره.
كما يتلقَّوْن فيه الإرشاد والتوجيه الديني الذي يذكِّرهم كلّ أسبوع بقِيَم الإسلام ومبادئه الكبرى، ويسلِّط الأضواء على أهمّ قضاياهم الاجتماعية، عبر خطبتَيْ الجمعة.
إضافةً إلى المعطيات الاجتماعية لهذا اللقاء العبادي المبارك، حيث يلتقي الناس ببعضهم، ويتفقَّد بعضهم بعضاً، ويتبادلون مشاعر المودّة والاحترام، وينتظمون في صفوف متَّسقة كالبنيان المرصوص، تؤكِّد في نفوسهم روح المساواة والوحدة والتضامن.
وقد أحاط الإسلام هذا اللقاء بمجموعةٍ من الأحكام والتشـريعات، التي تعطي لصلاة الجمعة طابعاً مميِّزاً بين سائر فروض العبادة والصلاة.
وفي ما يلي عرضٌ لأهمّ الأحكام المتعلِّقة بصلاة الجمعة:
الخطبتان
تبدأ مراسم صلاة الجمعة بإلقاء خطبتين من قِبَل الإمام نفسه؛ حيث لا يصحّ أن يلقي الخطبتين غير الإمام، على المشهور بين الفقهاء. لكنّ هناك مَنْ أجاز أن يكون الخطيب غير الإمام، ومنهم: الشهيد السيد محمد الصدر([76]).
ويُستحبّ أن يقعد الإمام على المنبر حتّى يفرغ المؤذِّن من الأذان. ورد عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، قال: «كان رسول الله| إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتّى يفرغ المؤذِّنون»([77]).
ومثله في «سنن أبي داوود»، عن ابن عمر([78]).
ويقوم الإمام لإلقاء الخطبة؛ حيث لا تصحّ من جلوسٍ، فقد سأل أبو بصير الإمام جعفر الصادق× عن الجمعة: كيف يخطب الإمام؟ فقال×: يخطب قائماً، إن الله تعالى يقول: ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِماً﴾([79]).
ومثله في «صحيح البخاري»، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «كان النبيّ يخطب قائماً، ثمّ يقعد، ثمّ يقوم، كما تفعلون الآن»([80]).
ويستحبّ للإمام أن يكون حال الخطبتين متعمِّماً، وأن يسلِّم قبل الشـروع في الخطبة على الحاضرين، ويجب على الحاضرين وجوباً كفائيّاً أن يردّوا جواب سلامه([81]).
جاء عن عليّ× أنه قال: «من السنّة إذا صعد الإمام المنبر أن يسلِّم إذا استقبل الناس»([82]).
ومثله في «سنن البيهقي»، عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله| إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلَّم على مَنْ عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه، ثم سلَّم»([83]).
كما يستحب أن يتَّكئ الإمام على نحو عصا أو سيفٍ أو قوس. جاء عن الإمام جعفر الصادق×: «إذا كانوا سبعةً يوم الجمعة فليصلّوا في جماعةٍ، وليلبس البرد والعمامة، ويتوكّأ على قوسٍ أو عصا»([84]).
وقال الدكتور الزحيلي: اعتماد الخطيب بيساره أثناء قيامه على نحو عصا أو سيفٍ أو قوس سنّةٌ عند الجمهور، مندوبٌ عند المالكية. كما روى الحكم بن حزن قال: «وفَدْتُ على النبيّ|، فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكِّئاً على سيفٍ أو قوس أو عصا»([85]).
ويبدأ الإمام الخطبة بحمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبيّ وآله، ثم الوصيّة بالتقوى، ووعظ الناس وإرشادهم في أمور دينهم ودنياهم، ويختمها بسورةٍ قصيرة من القرآن الكريم.
ثم يجلس قليلاً بمقدار ما يقرأ سورة التوحيد، ويقوم للخطبة الثانية، وفيها يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلّي على النبيّ وآله، وعلى أئمّة المسلمين^، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ويوصي الناس بالإحسان والعدل، مستشهداً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)، ويقرأ سورةً قصيرة من القرآن .
وقد تحدَّثت نصوصٌ وروايات كثيرة عمّا ينبغي أن تشتمل عليه الخطبتان. كما نقلت المصادر الإسلامية صِيَغاً من خطب رسول الله|، وخطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وخطب سائر الأئمّة والخلفاء في التاريخ الإسلامي.
ومن أهمّ ما احتوته تلك الروايات النقاط التالية:
1ـ الحمد والثناء على الله تعالى، والاستغفار والاستهداء والاستعاذة بالله.
2ـ الشهادة والإقرار بالوحدانية لله سبحانه، وبالنبوّة والرسالة للنبيّ محمد|.
3ـ الصلاة على محمد وآله وعلى أئمّة المسلمين.
4ـ الوعظ والإرشاد والوصيّة بالتقوى، بما يعالج قضايا الناس ومشاكلهم الحاضرة.
5ـ قراءة سورة قصيرة من القرآن الكريم، وكذلك آية العَدْل والإحسان.
6ـ الدعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات.
وجاء في «المبسوط»، للشيخ الطوسي: «أقلّ ما يكون الخطبة أربعة أصناف: حمد الله تعالى، والصلاة على النبيّ وآله، والوعظ، وقراءة سورة خفيفة من القرآن. وما زاد عليه مستحبّ»([86]).
وفي «مسالك الأفهام»، للشهيد الثاني: «يجب الترتيب بين الأجزاء، فيقدِّم الحمد، ثم الصلاة، ثم الوعظ، ثم القراءة»([87]).
ولا تختلف صفة خطبتَيْ الجمعة وأركانها بين السنّة والشيعة. فهما خطبتان مقدَّمتان على الصلاة. قال ابن قدامة في «المغني» ما ملخَّصه: «وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام على المنبر، فإذا استقبل الناس سلَّم عليهم، وردّوا عليه، وجلس، فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ|، وجلس، وقام فأتى أيضاً بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبيّ|، وقرأ ووعظ…. والسنّة أن يتولّى الصلاة مَنْ يتولّى الخطبة…. ويستحبّ أن يعتمد على قوسٍ، أو سيف، أو عصا…. ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولنفسه والحاضرين، وإنْ دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحَسَنٌ»([88]).
ويرى السيد سابق في كتابه «فقه السنّة» أن المقصود في خطبة الجمعة هو ترغيب الناس في الخير، وترهيبهم من الشرّ. أما الحمد والثناء على الله والصلاة على رسوله وقراءة شيء من القرآن فكلُّه مستحسنٌ، لكنّه ليس شَرْطاً في الخطبة. قال ناقلاً عن «الروضة النديّة» ما نصه: «ثمّ اعلَمْ أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده| من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شُرِّعت. وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسوله أو قراءة شيءٍ من القرآن فجميعه خارجٌ عن معظم المقصود من شرعية الخطبة. واتّفاق مثل ذلك في خطبته| لا يدلّ على أنه مقصودٌ متحتِّم وشرطٌ لازم. ولا يشكّ منصفٌ أن معظم المقصود هو الوعظ، دون ما يقع قبله من الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وقد كان عُرْف العرب المستمرّ أنّ أحدَهم إذا أراد أن يقوم مقاماً، ويقول مقالاً، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله|. وما أحسن هذا، وأولاه! ولكنْ ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعد. ولو قال: إنّ مَنْ قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك إلاّ أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كلّ طَبْعٍ سليم يمجّه ويردّه. إذا تقرَّر هذا عرفْتَ أنّ الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يُساق إليه الحديث. فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع. إلاّ أنّه إذا قدَّم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمَّ وأحسن»([89]).
الإصغاء للخطبة
ويلزم على المأمومين أن يستمعوا لخطبة الإمام، وأن لا يتحدَّثوا بما يمنع استماعهم، وأن لا يشتغلوا حتّى بصلاة النافلة. وعليهم على الأحوط استحباباً أن يجلسوا باتّجاه الخطيب على هيئة الصلاة، فلا ينظروا يميناً وشمالاً، ولا يتقلَّبوا في مجلسهم([90]).
جاء عن عليّ× أنه كان يكره ردَّ السلام والإمام يخطب. وهذا محمولٌ على كون غيره قد ردَّ السلام([91]).
وعن الإمام جعفر الصادق×: «إنّما جُعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة، فهي صلاةٌ حتّى ينزل الإمام»([92]).
وعنه أيضاً: «إذا خطب الإمام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحدٍ أن يتكلَّم حتّى يفرغ الإمام من خطبته»([93]).
كيفية صلاة الجمعة
بعد انتهاء الخطبتين يتّجه الإمام لإقامة الصلاة، دون الحاجة لأذانٍ جديد، بل يكتفي بالأذان الأوّل قبل الخطبة. ورد عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، أنّه قال: «الأذان الثالث يوم الجمعة بِدْعةٌ». قال المحقِّق في «المعتبر»: «الأذان الثاني بِدْعة. وبعض أصحابنا يسمّيه الثالث؛ لأنّ النبيّ| شرع للصلاة أذاناً وإقامة، فالزيادة ثالثٌ. وسمَّيْناه ثانياً لأنّه يقع عقيب الأذان الأوّل»([94]).
ولا يرى فقهاء السنّة مانعاً من تكرار الأذان، بناءً على فعل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان. ولم يكن ذلك في عهد رسول الله|، ولا عهد الشيخين أبي بكر وعمر. جاء في «صحيح البخاري» عن السائب بن يزيد قال: «إنّ الأذان يوم الجمعة كان أوّله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر، في عهد رسول الله| وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذّن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك»([95]).
وصلاة الجمعة ركعتان، كصلاة الصبح، بنيّة صلاة الجمعة. ويستحب أن يقرأ الإمام في الركعة الأولى بعد سورة الفاتحة سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة المنافقون. كما يستحب فيها قنوتان على المشهور: أحدهما: في الركعة الأولى قبل الركوع؛ والآخر: بعد ركوع الركعة الثانية، وأن يجهر الإمام بالقراءة في الركعتين على الأحوط وجوباً عند بعض الفقهاء([96])، واستحباباً عند فقهاء آخرين([97]).
وكما تصحّ من المأموم صلاة الجمعة لو فاتته الخطبتان، فإنّها تصحّ منه أيضاً لو فاتته الركعة الأولى، فأدرك الإمام في قيام الركعة الثانية قبل ركوعه، فيلتحق به، ويأتي بالركعة مع الإمام، وبعد فراغ الإمام يأتي بالركعة الثانية بمفرده، وتحتسب له صلاة الجمعة([98]). ويرى بعض الفقهاء صحّة صلاته حتّى لو أدرك الإمام في ركوع الركعة الثانية([99]). وإذا فاتته الجمعة كانت وظيفته أداء صلاة الظهر.
ولا تختلف صفة صلاة الجمعة عند السنّة عنها عند الشيعة، إلاّ في مسألة القنوت المستحبّ عند الشيعة في الركعتين. قال ابن قدامة الحنبلي: «صلاة الجمعة ركعتان، يقرأ في كلّ ركعة الحمد وسورة، يجهر بالقراءة فيهما…. ويستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية بسورة المنافقون…. ومَنْ أدرك مع الإمام منها ركعةً بسجدتَيْها أضاف إليها أخرى، وكانت له جمعةً…»([100]).
العدد المشترط لإقامتها
اتَّفق فقهاء المسلمين بمختلف مذاهبهم على أنّ صلاة الجمعة لا تُقام إلاّ جماعة، واختلفوا في العدد المشتَرَط لإقامتها.
والمشهور الراجح عند فقهاء الشيعة أن صلاة الجمعة لا تنعقد إلاّ بخمسة أشخاص، أحدهم الإمام. كما ورد عن الإمام جعفر الصادق× أنّه قال: «لا تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة»([101]).
وعن أبيه الإمام محمد الباقر×: «لا جمعة لأقلّ من خمسةٍ من المسلمين، أحدهم الإمام»([102]).
واشترط الشافعية والحنابلة أن لا يقلّ العدد عن أربعين رجلاً، تجب في حقّهم الجمعة. قال ابن قدامة في «المغني»: «فأمّا الأربعون فالمشهور في المذهب أنّه شرطٌ لوجوب الجمعة وصحّتها»([103]).
وقال المالكية: يشترط حضور اثني عشر من أهل الجمعة.
وفي المذهب الحنفي قولان: أولهما: حضور واحد، سوى الإمام؛ والثاني: لزوم حضور ثلاثة، سوى الإمام([104]). وهو رأي الزيدية أيضاً([105]).
وقت صلاة الجمعة
انفرد الحنابلة بالقول بجواز إقامة صلاة الجمعة قبل الزوال، وأن أوّل وقتها هو أوّل وقت صلاة العيد؛ لأحاديث رأَوْا صحّتها، كحديث عبد الله بن سيدان: «شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار»([106]).
لكنّ «المستحبّ إقامة الجمعة بعد الزوال؛ لأنّ النبيّ| كان يفعل ذلك؛ ولأنّ في ذلك خروجاً من الخلاف؛ فإن علماء الأمة اتَّفقوا على أنّ ما بعد الزوال وقتٌ للجمعة، وإنما الخلاف في ما قبله»([107]).
أما جمهور المسلمين من الحنفية والمالكية والشافعية فيرَوْن أنّ «من شروط صحة الجمعة ووجوبها معاً دخول الوقت، وهو وقت الظهر. ولا يصحّ أداؤها إلاّ بدخوله. ويستمرّ وقتها إلى دخول وقت العصـر، فإذا خرج وقت الظهر سقطَتْ الجمعة، واستبدل بها الظهر؛ لأنّ الجمعة صلاةٌ لا تُقضـى بالتفويت. ويشترط دخول وقت الظهر من ابتداء الخطبة، فلو ابتدأ الخطيب الخطبة قبلَه لم تصحّ الجمعة، وإنْ وقعَتْ الصلاة داخل الوقت»([108]).
ويرى فقهاء الشيعة شرط دخول الوقت ـ الزوال ـ لإقامة صلاة الجمعة، فلا تصحّ قبله. وأجاز بعض فقهائهم، كالشهيد الصدر والشيخ الفيّاض من المعاصرين، تقديم الخطبتين على الزوال، لكنْ لا يجوز الابتداء بالصلاة نفسها إلاّ بعد الزوال.
ويرى السيد السيستاني لزوم أن تكون الخطبتان بعد الزوال، وهو رأي السيد الخوئي، والسيد الشيرازي.
المسافة بين الجمعتين
اتَّفق فقهاء الشيعة على أنّه «تعتبر في صحّة الجمعة في بلدٍ أن لا تكون المسافة بينها وبين جمعةٍ أخرى أقلّ من فرسخ (خمسة كيلومترات ونصف تقريباً)»([109]). فلو أقيمت جمعةٌ أخرى في ما دون فرسخ بطلتا جميعاً، إنْ كانتا مقترنتين زماناً، وإلاّ صحَّتْ السابقة، وبطلت اللاحقة.
والميزان في الصحّة تقدّم الصلاة، لا الخطبة. فلو تقدَّمت إحدى الجمعتين في الخطبة، والأخرى في الصلاة، بطلت المتأخِّرة في الشروع في الصلاة([110]).
وذهب جمهور أهل السنّة إلى منع تعدُّد صلاة الجمعة في البلدة الواحدة، قالوا: «لأنّ الحكمة من مـشروعيتها هي الاجتماع والتلاقي، وينافيه التفرُّق بدون حاجةٍ في عدّة مساجد؛ ولأنه لم يحفظ عن صحابيّ ولا تابعيّ تجويز تعدُّدها»([111]). «وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزةٌ. فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة، وإنْ حصل الغِنى باثنتين لم تجُزْ الثالثة، وكذلك ما زاد»([112]).
الجمعة والتواصل الاجتماعي
هناك صلةٌ وثيقة بين مستوى ارتباط الإنسان بمحيطه الاجتماعي وبين استقامة السلوك، ودرجة الفاعليّة والإنتاج.
فكلّما كانت علاقة الإنسان بمجتمعه وثيقة دافئة كان أقرب إلى الاستقامة والصلاح في سلوكه وسيرته، وأكثر اندفاعاً للفاعليّة والإنتاج.
بينما يساعد الفتور والبرود في العلاقات الاجتماعية على ظهور ونموّ السلوكيّات المنحرفة الخاطئة.
وقد تحدَّث بعض المفكِّرين والباحثين الغربيين عن تأثير ضعف العلاقة في مجتمعاتهم بين الفرد ومحيطه الاجتماعي في بروز الظواهر السلبيّة والإجراميّة، كمَرَض الاكتئاب، والشعور بالإحباط، وشدّة القلق، وسائر الأمراض النفسيّة، وكذلك ظاهرة الانتحار، التي يتَّسع مداها في المجتمعات الغربية المعاصرة، مع كلّ ما يتوفَّر للإنسان هناك من وسائل الراحة والرفاه المادّي.
إن بلداً مثل سويسرا، التي تحظى بمركزٍ متقدِّم في الاقتصاد والتقنية ومستوى المعيشة والتعليم، هي من أكثر الدول التي تنتشر فيها حالات الانتحار، ولا سيّما بين الشباب.
وطبقاً لبيانات المكتب الفيدرالي السويسري للإحصاء يُقْدِم نحو 1300 شخص سنوياً على الانتحار، 900 منهم رجال، والبقية نساء، أي بمعدَّل 4 حالات في اليوم، وهو معدَّل يُثير القلق في بلد ينعم بالرفاه والاستقرار السياسي، ويصل عدد سكّانه إلى نحو 7،5 مليون نسمة.
وقد وضع عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دور كايم 1858 ـ 1917م) تفسيرين لمشكلة الانتحار، يؤولان إلى ذات الجَذْر، وهو تأثير المحيط الاجتماعي.
يتحدَّث التفسير الأوّل منهما عن علاقةٍ وثيقة بين الانتحار وعدم القدرة على التكيُّف الاجتماعي، وذلك عندما تفقد المجتمعات المعايير والقِيَم التي تدعو إلى الترابط والتماسك. فكلما ضعفت تلك القِيَم ازداد الشعور بالانفراد والعزلة وحبّ الذات، فترتفع احتمالات إقدام الفرد على الانتحار عند تعرُّضه لأيّ أزمةٍ؛ إذ يعتقد الفرد في هذه الحالة أنّه صاحب القرار.
أما التفسير الثاني فيربط بين الانتحار والمتغيِّرات السريعة التي تمرّ بها المجتمعات، وعدم قدرة الشخص على التكيُّف معها، مثل: الفشل في العثور على عملٍ، أو عدم تحقيق الأحلام والأمنيات المتعلِّقة بمستقبلٍ أفضل.
وقد درس (دور كايم) آلاف حالات الانتحار؛ ليثبت مصداقيّة نظريّته التي شرحها في كتابه «الانتحار».
ويؤكِّد باحثون غربيّون على عدم قدرة المجتمعات الأوروبية على إيجاد روابط بين الناس تتماشى مع سرعة التحوُّلات التي تمرّ بها، ليس من الناحية الاقتصادية فحَسْب، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأُسَرية والشخصية، فيحدث نوعٌ من الانفصال بين الشخص والمجتمع، ولا يعود يجد رابطاً بينه وبين الآخرين، ثم يشعر وكأنَّه غريبٌ ومعزول([113]).
إن مجتمعاتنا الإسلامية، والتي كانت تتمتَّع بدرجة عالية من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وكانت تحتضن أبناءها بدفءٍ واهتمام، أصبحت هي الأخرى مهدَّدة بفقد هذه الميزة العظيمة؛ بسبب التحوُّلات الاقتصادية والثقافية التي لم يواكِبْها تأهيلٌ قِيَمي، وتطويرٌ في أساليب وبرامج الترابط الأُسَري والاجتماعي.
وبدأنا نعاني ممّا تعاني منه المجتمعات الغربية، من تفكُّك أُسَري، وأمراض نفسيّة، وحالات إجرام، وحوادث انتحار.
إن ما يجري الآن في مجتمعاتنا يجب أن يثير القلق البالغ في نفوسنا على مستقبل المجتمع، وخاصّة أجياله الشابّة الصاعدة؛ وأن يدفعنا للتفكير والعمل لمواجهة هذا المشكل الاجتماعي الخطير، وذلك بدراسة وبحث واقع الترابط الاجتماعي، ووضع البرامج والمعالجات لتطويره ورفع مستواه بما يتناسب مع قِيَم ديننا الحنيف، والأوضاع الاقتصاديّة والثقافيّة المستجدّة.
مستوى العلاقات الاجتماعية
إن طبيعة حياة الإنسان البشرية تفرض عليه التواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه.
أولاً: لأنّ الإنسان يأنس بأبناء جنسه، ولا يستطيع أن يعيش من دونهم، أو بعيداً عنهم. وقد ذكر بعض اللّغويين أن كلمة إنسان مشتقّة من الأُنْس، على اعتبار أن الإنسان يأنس بمثله. ولو أنك وفّرت لإنسان كل ما يحتاجه في حياته المادية، وعزلته عن الناس، فإن ذلك بالتأكيد لن يريحه. ولهذا فإن السجن الانفرادي هو من أقسى أنواع العقوبات.
فالإنسان بطبيعته يميل إلى أبناء جنسه، ويأنس بهم، ولديه دافعٌ طبيعي فطري للتواصل مع الناس.
ثانياً: حاجات الإنسان الحياتية تفرض عليه أن يتواصل مع الآخرين. فهو لا يستطيع أن يوفِّر كلّ حاجاته بنفسه. فقد يمرض فيحتاج إلى الطبيب، وهو بحاجةٍ إلى العامل في البناء وغيره، وهو يشتري من السوق، ويبيع إنتاجه، وقد يعمل لدى أحدٍ، أو يعمل لديه أحدٌ. وبالتالي فإن طبيعة الحياة تجعل المصالح مشتركة، والحاجات متداخلة بين الناس. وهذا يفرض على الإنسان حالة التواصل مع محيطه الاجتماعي.
لكنّ هذا التواصل يبقى في مستواه الأدنى، وفي حالته البسيطة الساذجة؛ إذ إنّ المجتمع يحتاج إلى نوعٍ من التواصل بشكلٍ أرقى. وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر.
وقد كنّا نعيش تواصلاً مكثَّفاً في مجتمعنا حين كانت الحياة على بساطتها، وكان الناس يعيشون في مناطق جغرافيّة محدودة، وضمن اهتمامات بسيطة. لكننا الآن، ومع التطور الذي حصل على واقع حياتنا، لم نعُدْ نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة؛ ولعلّ من أبرز الأسباب:
1 ـ انتشار الناس جغرافياً، فما عاد الإنسان مقيماً في نفس الحيّ الذي نشأ فيه.
2 ـ تشعُّب انشغالات الناس واهتماماتهم في هذا العصر، بعكس ما كانت عليه حياتهم في الماضي؛ إذ إنّهم كانوا بمجرد أن يحلّ الظلام تنتهي جميع أعمالهم، ويُصبح الوقت متاحاً للتواصل، وحتّى في النهار فإنّ دائرة الاهتمامات عندهم كانت محدودةً. أما في زمننا المعاصر فقد انشغل الإنسان باهتماماتٍ مختلفة، معرفية وعملية، ما قلَّل من حصّة العلاقات الاجتماعية.
3 ـ انخفاض الروح الاجتماعية عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي، حيث أصبح كل واحدٍ مشغولاً بنفسه، وحتّى عن عائلته وأُسْرته في بعض الأحيان.
وبعض هذه الاهتمامات صحيحٌ؛ وبعضها غير صحيح. لكنّها أصبحَتْ على حساب التوجُّه الاجتماعي، وإنْ كنا لا زلنا نحتفظ بدرجةٍ من التواصل فهو في الغالب تواصل مناسباتيّ شكليّ، كمناسبة الزواج، ومناسبة العزاء. وما نحتاج إليه هو التفكير في التواصل ذي المضمون.
مضامين التواصل الاجتماعي
وأشير هنا إلى أبرز مضامين التواصل الاجتماعي المطلوب:
1ـ التقارب النفسي الروحي
الحياة بطبيعتها فيها ضغوط ومشاكل، وخصوصاً في هذا العصر. فيحتاج الإنسان إلى مَنْ يتضامن معه نفسيّاً، وإلى مَنْ يقترب منه روحيّاً؛ ليخفِّف عنه الآلام، ويرفع من معنويّاته؛ ويحتاج الإنسان إلى مَنْ يستشيره؛ ليستفيد من رأيه.
وتُشير النصوص إلى هذا المضمون، وتُعبِّر عنه بإدخال السرور إلى قلب الأخ المؤمن.
ورد عن رسول الله| أنه قال: «مَنْ لقي أخاه بما يسرّه سرّه الله يوم القيامة»([114]).
وعنه|: «من أحبِّ الأعمال إلى الله إدخال السرور على المسلم، أو أن تفرِّج عنه غمّاً، أو تقضي عنه دَيْناً، أو تطعمه من جوع»([115]).
وعن الإمام جعفر الصادق^ أنّه قال: «مَنْ سرَّ مسلماً سرّه الله يوم القيامة»([116]).
وعنه× قال: «لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً أنّه عليه أدخله فقط، بل واللهِ علينا، بل واللهِ على رسول الله|»([117]) .
2ـ التعاون في تيسير شؤون الحياة
كلّ مجتمع يواجه مشاكل، ولكلّ قوم في منطقتهم احتياجات. ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحلّها ويعالجها، إنما يحتاج أن يتعاون مع الآخرين. وكمثال تقريبي: تربية الأبناء في العصر الحاضر عمليةٌ شاقّة، إذا أراد الأب أو الأم وحدهما القيام بهذا الدور، ولكنْ عندما تكون هناك برامج ولجان تخلق الأجواء الصالحة، وتسعى من أجل بناء الجيل الجديد بناءً سليماً، فهذا يقدِّم أكبر عَوْن للأسرة على تربية أبنائها.
ويؤكِّد القرآن الكريم على هذا المضمون في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: 2).
3ـ خدمة الأهداف المشتركة
للمجتمع تطلُّعات وأهداف مشتركة، دينية أو سياسية أو اجتماعية. وهذه الأهداف المشتركة تحتاج إلى تعاون وتواصل يساعد على تحقيقها.
وقد أوصى الإمام عليّ× بهذا المضمون في آخر وصيةٍ له، فقال×: «وعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ والتَّبَاذُلِ، وإِيَّاكُمْ والتَّدَابُرَ والتَّقَاطُعَ»([118]). والتباذل هنا بمعنى البَذْل والعطاء.
التأكيد الديني على التواصل
التواصل بين الناس محورٌ أساس في التعاليم والتوجيهات الإسلاميّة؛ حيث يذمّ الإسلام الرَّهْبَنة والعُزْلة، ويدعو إلى أن يتعرَّف الناس على بعضهم بعضاً، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، ويجعل خدمة الناس ونفعهم من أفضل وسائل التقرُّب إلى الله تعالى، كما ورد عنه|: «خير الناس أنفعهم للناس»([119]).
وإذا كان التواصل الاجتماعي محبوباً عند الله تعالى، ومطلوباً في كلّ وقت وآن، فإنّ هناك ما يدلّ على خصوصيّة ليوم الجمعة في هذا المجال؛ فهو يومٌ يفرغ فيه الإنسان لما انشغل عنه أيام الاسبوع.
إن ساعات يوم الجمعة غاليةٌ ثمينة. وحين يأتي التوجيه الديني بصرف بعضها في التواصل الاجتماعي فهذا دليلٌ على أهمّية هذا الجانب، وأنه يستحقّ أن تصرف فيه أغلى الأوقات.
وحسب تأكيدات النصوص الدينية فإن أبواب قبول الأعمال عند الله مشرعةٌ يوم الجمعة أكثر من أيّ يوم آخر، وثواب الأعمال فيه مضاعَفٌ، لذلك فإنّ أجرَ التواصل الاجتماعي فيه عظيمٌ كبير.
الجمعة برنامج اجتماعي
إن أهمّ برنامج اجتماعي ليوم الجمعة هو حضور صلاة الجمعة. فهي عبادة اجتماعية بامتياز، حيث يجتمع فيها أهل كلّ منطقة في مكانٍ واحد، يؤدّون صلاتهم خلف إمامٍ واحد، ويصغون إلى خطبتين تتناول شؤونهم العامّة، وتُوجِّههم لأهدافهم السامية المشتركة، وتُذكِّرهم بالقِيَم الدينية التي يؤمنون بها. فيلتقون مع بعضهم في أجواء طيّبة مباركة، يسودها النظام وحُسْن الأدب.
ويمكننا أن نفهم من استحباب السَّبْق إلى المسجد، والمباكَرة إليه يوم الجمعة، الحِرْص على تواجد الناس مع بعضهم لوقتٍ أطول، إضافةً إلى فرصة التعبُّد في المسجد.
رُوي عن رسول الله| أنه قال: «إذا كان يوم الجمعة كان على كلّ بابٍ من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأوّل فالأوّل»([120]).
وعن الإمام الباقر×: «يدخل المؤمنون إلى الجنّة على قدر سَبْقهم إلى الجمعة»([121]).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق×: «وأنَّكم تتسابقون إلى الجنّة على قدر سَبْقكم إلى الجمعة»([122]).
وعن ابن مسعود أنّه بكَّر فرأى ثلاثة نفرٍ قد سبقوه، فاغتمَّ، وجعل يعاتب نفسه، ويقول لها: أراكِ رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد([123]).
كما تؤكِّد النصوص الدينية على سيادة أجواء الاحترام في اجتماع صلاة الجمعة، حيث يجب أن يصغي الجميع للخطبة. ولو أخطأ أحدٌ فتكلَّم أثناء الخطبة فلا يصحّ أن يطلب أحدٌ منه الإنصات، بل يلفت نظره بإشارةٍ مؤدَّبة. روى أبو هريرة عن النبيّ| أنه قال: «إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنْصِتْ، والإمام يخطب، فقد لغَوْتَ»([124]). وقال أهل العلم: إنْ تكلَّم غيره فلا ينكِرْ عليه، إلا بالإشارة.
كما يكره للإنسان حين يأتي للصلاة، وقد بدأ الإمام خطبته، أن يتخطّى رقاب الناس. روى معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله|: «مَنْ تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتّخذ جسراً إلى جهنم»([125]).
وروى عبد الله بن عمرو، عن رسول الله|، أنه قال: «ورجلٌ حضرها ـ الجمعة ـ بإنصاتٍ وسكوت، ولم يتخطَّ رقبة مسلمٍ، ولم يؤذِ أحداً، فهي كفّارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾»([126]).
وقد تحدَّثت النصوص عن بعض تفاصيل مراعاة المشاعر وحفظ الاحترام بين المجتمعين لأداء صلاة الجمعة، مثل: كراهة أن يفرق الإنسان بين اثنين، فيجلس بينهما؛ أو يأخذ مكان أحدٍ آخر. جاء في «صحيح البخاري» عن ابن عمر، قال: «نهى رسول الله| أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه، الجمعة وغيرها»([127]).
تواصل المحبوسين اجتماعياً
تشير بعض النصوص الدينيّة إلى أنّ السجناء ينبغي أن تُتاح لهم فرصة التواصل مع الناس يوم الجمعة ويوم العيد، بأنْ تخرجهم السلطة وقت الصلاة مع مرافقين ليحضروا اجتماع الناس للصلاة، ثم يعادون إلى سجنهم.
ورد عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «إنّ على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد، ويرسِل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السجن»([128]).
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه|: «إن عليّاً كان يخرج أهل السجون، مَنْ حُبس في دين أو تُهْمة، إلى الجمعة، فيَشْهدونها، ويضمِّنهم الأولياء حتّى يردُّونهم»([129])، أي بكفالة أوليائهم.
وفي نصٍّ آخر عنه×: «إنّ عليّاً× كان يخرج الفُسّاق إلى الجمعة»([130]).
وقال العلامة الحلّي: «لأنّهم ـ أي المحبوسون ـ مكلَّفون بهذه الصلاة، فلا يجوز للحاكم حَبْسهم عنها، ويبعثهم مع رقيبٍ يحفظهم إلى أن يؤدُّوا الفرض الذي عليهم»([131]).
وعلَّق الشيخ حسين علي المنتظري على هذه الروايات بقوله: «والظاهر أنه لا خصوصية للدَّيْن والتُّهمة، بل الظاهر عموم الحكم لكلّ مسجون مسلم. نعم، ربما يظهر من هاتين الروايتين أن الحَبْس في تلك الأعصار لم يكن غالباً إلاّ في الديون والتُّهم، ولم يكن الأمر مثل ما في أعصارنا، بحيث يحكم بالحَبْس لكلّ كبيرةٍ وصغيرة، بل لكل أمرٍ تافه موهوم أيضاً، بل لم يُعهَد في عصر أمير المؤمنين عليّ× وما قَبْله وجود السجون السياسيّة الرائجة في عصرنا، حيث إنّ الناس كانوا أحراراً في عَرْض آرائهم السياسيّة ما لم يترتَّب عليها البغيُ والطغيان والقتل والإغارة»([132]).
ويرى بعض الفقهاء أنّ صلاة الجمعة تسقط عن المحبوسين؛ لأنهم من ذوي الأعذار، فلا يجب على الحاكم إخراجُهم لها. لكنّه مع توفُّر الضمانات بإعادتهم أمرٌ راجح؛ لما فيه من الآثار الإيجابيّة على السجناء نفسيّاً ودينياً.
الترفيه عن الأهل
يجب أن تكون لعلاقة الإنسان بعائلته الأولوية في قائمة اهتماماته الاجتماعية. ولا يصح أبداً أن يتساهل الإنسان في الاهتمام بعائلته على أساس ضمانه لارتباطهم به على كلّ حال؛ لأنّ عليه أن يجعل ذلك الارتباط مدعوماً بالحيوية العاطفيّة والقرب النفسيّ، وليس بالحاجة فقط.
ورد عن أمير المؤمنين عليّ× أنه قال: «ولا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ»([133]).
ويوم الجمعة ينبغي أن يكون فرصة لضخّ زخمٍ جديد من الارتياح في الوسط العائلي، وأنْ يضيف نكهةً جديدة من السرور، عبر أيّ وسيلةٍ للترفيه العائلي.
وهذا ما نفهمه من الحديث المرويّ عن رسول الله| أنه قال: «أَطْرِفوا أهاليكم كلّ يوم جمعةٍ بشيءٍ من الفاكهة واللحم؛ حتّى يفرحوا بالجمعة»([134]). فإنّ الفقرة الأخيرة من الحديث «حتّى يفرحوا بالجمعة» تبيِّن المقصد والمناط، وهو ترفيه العائلة وتفريحهم يوم الجمعة. أما الوسائل فقد تكون بتنويع الطعام، وقد تكون بوسائل أخرى.
إعانة الفقراء
لا يخلو مجتمعٌ من حالات الفقر والحاجة. لكنّ مساحتها تختلف من مجتمع لآخر، ومن وقت لآخر. والواعون من أبناء المجتمع يُدْركون خطورة وجود تلك الحالات، وما تمثِّله من ثغرات في جدار أمن المجتمع واستقراره. لذلك يشعرون بالمسؤولية تجاهها، ويسعون لمعالجتها معالجة جذريّة؛ بالحدّ من منابع الفقر؛ وتوفير الفرص لوصول كلّ مواطن إلى مستوى تلبية احتياجات حياته، عبر التعليم والعمل وأنظمة الضمان الاجتماعي، ثم تفقّد موارد العوز والحاجة، ومدّ يد العون والعطاء لها تحت عنوان (الصدقة)، التي اشتقّها الشارع الحنيف من مادة الصدق. يقول القليوبي: سُمِّيَتْ ـ الصدقة ـ بذلك لإشعارها بصدق نيّة باذلها([135]).
ويوم الجمعة المبارك، الذي يزداد فيه إقبال العبد على ربّه، واتّصاله بمجتمعه، ينبغي أن يتحقَّق فيه أكبر قدر من الاهتمام بالفقراء والمساكين؛ لتعمّ بركة هذا اليوم عليهم، وليشعروا بتعاطف المجتمع معهم، وأنَّهم جزءٌ غير مهمل من مجتمعهم.
لذلك وردت النصوص الدينية التي تشجِّع على بَذْل الصدقة يوم الجمعة، وتنقل حِرْص أئمّة الهدى على تفقُّد أحوال الفقراء، وخاصّة في هذا اليوم المبارك.
وقد رُوي عن رسول الله| أنّه قال: «الليلة الغرّاء ليلة الجمعة، واليوم الأزهر يوم الجمعة. فيهما لله طلقاء وعتقاء. وهو يوم العيد لأمّتي. أكثِروا الصدقة فيها»([136]).
وعن الثمالي، قال: «صلَّيْتُ مع عليّ بن الحسين× الفجر بالمدينة في يوم جمعة، فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله، وأنا معه، فدعا مولاةً له تُسمّى سكينة، فقال لها: لا يعبر على بابي سائلٌ إلاّ أطعمتموه؛ فإنّ اليوم يوم الجمعة»([137]).
وعن الإمام الباقر×: «إن الأعمال تضاعف يوم الجمعة، فأكثِروا فيه من الصلاة والصدقة»([138]).
وعن الإمام جعفر الصادق×، قال: «كان أبي أقلّ أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة، قال: وكان يتصدَّق كل يوم جمعة بدينارٍ. وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعَف؛ لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام»([139]).
وعن الإمام جعفر الصادق×، قال: «الصدقة ليلة الجمعة ويومها بألف»([140]).
وعن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله ـ الصادق× ـ: «في الرجل يريد أن يعمل شيئاً من الخير، مثل: الصدقة والصوم ونحو هذا؟ قال×: يستحبّ أن يكون ذلك يوم الجمعة؛ فإن العمل يوم الجمعة يضاعف»([141]).
وينبغي الاستفادة من حضور الناس لصلاة الجمعة وتذكيرهم بالمبادرة إلى العطاء والصدقة، ليكون كلّ اجتماعٍ لصلاة الجمعة رافداً من روافد الخير، والاهتمام بحاجات الضعفاء والفقراء.
إن برنامج صدقة الجمعة يمكن أن يكون جزءاً من مراسم هذا الاجتماع الديني الاجتماعي، تحت إشراف المؤسَّسات والجهات الخيريّة المعتمدة.
زيارة القبور
لا تنحصر برامج التواصل الاجتماعي يوم الجمعة بالأحياء، بل ورد في بعض النصوص استحباب زيارة قبور الأموات في يوم الجمعة؛ وذلك من أجل أن يتذكَّر الإنسان مصيره النهائي، ويأخذ مستقبله الأخروي بعين الاعتبار. إضافة إلى ما فيه من التواصل مع السابقين من أبناء المجتمع، حتّى لا ينسى الإنسان أسلافَه من الأرحام والأقرباء والأصدقاء والزملاء، فيدعو لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان.
رُوي عن رسول الله| أنّه قال: «مَنْ زار قبر والدَيْه أو أحدهما في كلّ يوم جمعة فقرأ عنده «يس» غفر الله له بعدد كلّ حرفٍ منها»([142]).
وجاء عن عبد الله بن سليمان، عن الإمام الباقر×، أنّه قال: «سألتُه عن زيارة القبور؟ قال×: إذا كان يوم الجمعة فزُرْهم»([143]).
وورد عن الإمام الصادق× أنّه قال: «مَنْ دعا لعشرةٍ من إخوانه الموتى ليلة الجمعة أوجب الله له الجنّة»([144]).
النظافة والجمال قيمة دينيّة
«إنّ الله جميلٌ يحب الجمال» شعارٌ أطلقه رسول الله|، وأكَّد عليه أئمة الإسلام^؛ ليكون عنواناً لحياة المسلم في ظلّ بيئةٍ نظيفة، بمظهرٍ أنيق، وذوقٍ جمالي رفيع.
ويمثِّل هذا الشعار قاعدة تشريعية ينبثق منها الترحيب بكلّ مظاهر الجمال والأناقة، ضمن الضوابط الشرعية. كما تدلّ على رفض أيّ مظهَر للقذارة والبؤس.
ويشير الشعار ذاته إلى فلسفة الاهتمام بالنظافة والجمال، من خلال وصف الله تعالى بالجمال، وأنّه يحبّ الجمال.
لقد جاء هذا الشعار في حديث رسول الله|، حَسْب رواية مختلف المصادر الإسلامية، حيث أخرجه مسلم في صحيحه([145])، وأورده الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ|، أنه قال: «لا يدخل الجنّة مَنْ كان في قلبه حبّة من كِبْر»، فقال رجلٌ: يا رسول الله، إنّه ليعجبني أن يكون ثوبي جديداً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، قال: وذكر أشياء حتّى ذكر علاقة سوطه، فقال|: «ذاك جمالٌ، والله جميل يحبّ الجمال، ولكنّ الكِبْر مَنْ بطر الحقّ، وازدرى الناس»([146]).
وفيه: عن عبد الله بن عمرو، قال: «قلتُ: يا رسول الله، أمِنَ الكِبْر أن ألبس الحُلّة الحَسَنة؟ قال |: إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال»([147]).
ومثله جاء في «بحار الأنوار»، للمجلسي([148]).
وكان أئمّة أهل البيت^ يذكِّرون الأمّة بهذا الشعار، ويؤكِّدون على مصاديقه وتجلّياته.
فعن أمير المؤمنين عليّ×، قال: «إن الله جميلٌ يحبّ الجمال، ويحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده»([149]).
وعن الإمام جعفر الصادق×، قال: «إذا انعم الله على عبده بنعمةٍ أحبَّ أن يراها عليه؛ لأنّه جميلٌ يحبّ الجمال»([150]).
وعنه×: «إن الله عزَّ وجلَّ يحبّ الجمال والتجمُّل، ويبغض البؤس والتباؤس»([151]).
وكان الإمام الحسن بن عليّ إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه، فقيل له: يا بن رسول الله، لِمَ تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، فأتجمَّل لربّي([152]).
إن الله تعالى قد خلق الإنسان في أحسن قوام وهيئة، وأبدع تكوينه في أجمل صورةٍ وشكل، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)، ويقول تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ (غافر: 64).
ومن جهةٍ أخرى أضفى الإسلام على النظافة صبغةً دينية، فأوجب بعض مظاهرها، وندب إلى كلّ ما يرتبط بها، وعدَّها جزءاً لا يتجزّأ من حالة الإيمان والتديُّن.
رُوي عن رسول الله| أنه قال: «النظافة من الإيمان، والإيمان وصاحبه في الجنّة»([153]).
وجاء في «سنن الترمذي» عنه|: «إنّ الله طيِّبٌ يحبّ الطيِّب، نظيفٌ يحبّ النظافة»([154]).
وفي «كنز العمال» عنه|: «تنظَّفوا بكلّ ما استطعتم؛ فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلاّ كلّ نظيف»([155]).
وقد تحدَّثت النصوص الدينية عن التزام النظافة في جزئيّات مواردها، وتفاصيل ممارساتها. كما أنها شغلت مساحة واسعة من مسائل الفقه الإسلامي، ضمن عددٍ من أبواب الفقه، وبخاصّة كتاب الطهارة. والطهارة ـ كمصطلحٍ إسلامي ـ تعني النظافة والنزاهة.
والأحكام الشرعية الكثيرة في كتاب الطهارة تُعنى كلُّها بنظافة الإنسان من القذارة والدَّنَس في البُعدَيْن المادّي والمعنوي.
وقد انبرى أحد الفقهاء المعاصرين ـ السيد محمد الشيرازي ـ فلَمْلَمَ شتات ما يرتبط بالنظافة المادّية والمعنوية من مسائل الفقه في مجلَّد كبير، تحت عنوان «الفقه/ كتاب النظافة»، وطبع في أكثر من 550 صفحة([156]).
نظافة الجسم
تقف النظافة حائلاً دون نموّ البكتيريا والجراثيم المسبِّبة للأمراض عند الإنسان. وإضافة إلى ضرورة النظافة لصحّة الجسم، فإنّها تنعكس على الجانب النفسيّ للإنسان، فيشعر بالراحة والارتياح. كما تساعده على النجاح في علاقته مع الآخرين، وارتباطه بهم، حيث يرتاحون إلى مجالسته والاقتراب منه، بينما ينفرون ويتقزَّزون من الشخص الذي تنبعث منه روائح كريهة، أو يرَوْنه في منظرٍ كريه.
ويأتي في طليعة وسائل نظافة الجسم غَسْله بالماء؛ لإزالة البكتيريا والجلد الميت والأوساخ والنسالة والمواد الزيتية من الجسم. وغسل الجسم بالماء يبعث على الحيوية والنشاط.
وقد أوجب الإسلام على الإنسان غَسْل جميع جسمه في عددٍ من الموارد، في ما يطلق عليه فقهيّاً «الأغسال الواجبة»، كغسل الجنابة، وغسل مسّ الميت، وغسل الحيض والاستحاضة والنفاس في ما يختصّ بالمرأة. وهناك موارد كثيرة ندب الإسلام فيها لغسل الجسم ضمن «الأغسال المستحبّة».
ويرى السيد الشيرازي أنه «يستحبّ الغسل في كلّ يوم، وليس ذلك من دخول الحمام المكروه كلّ يوم؛ فإنّ الغسل مثل الوضوء. فكما يستحبّ دوام التطهير بالوضوء كذلك يستحبّ الغسل كلّ يوم، على ما يفهم عن خبر حنان بن سدير، قال: دخل رجل من أهل الكوفة على أبي جعفر× فقال× له: «أتغتسل من فراتكم في كلّ يوم مرّة؟»([157]).
كما يستحبّ الغسل طَلَباً للنشاط. فعن ابن طاووس، قال: «رأيتُ في بعض الأحاديث أنّ مولانا عليّاً× كان يغتسل الليالي الباردة طَلَباً للنشاط في صلاة الليل»([158]).
وإلى جانب الغسل شرع الله تعالى الوضوء. وهو غسلٌ ومسح لأربعة أجزاء ظاهرة من الجسم: الوجه، واليدان، والرأس، والقدمان، إضافة إلى بعض المستحبّات فيه، كالمضمضة والاستنشاق.
وموارده الواجبة تفرض القيام به أكثر من مرّة في اليوم لأداء فرائض الصلاة اليومية. كما يجب ويستحب لجميع الأعمال العباديّة والحياتية، بل هو مستحبٌّ في حدّ ذاته.
ولمزيدٍ من الاهتمام بنظافة جميع أجزاء جسم الإنسان تحدَّثت النصوص الدينية بالتفصيل عن العناية بنظافة كلّ عضوٍ من أعضائه، بدءاً من غسل شعر الرأس، وحلاقته، واستحباب تسريحه وتمشيطه وتدهنه، وكذلك شعر اللحية والشارب، مروراً بنظافة العين وكحلها، وتنظيف الأنف، والتشديد على نظافة الفم وتعاهد الأسنان بالسواك، والذي كاد رسول الله| أن يجعله فريضةً واجبة عند كلّ صلاة؛ لولا خوف المشقّة على الناس، حيث ورد عنه| أنّه قال: «لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة»([159])، وانتهاءً بتقليم الأظافر.
إن ورود هذا العدد الكبير من الأحاديث والروايات حول نظافة الجسم تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بموضوع النظافة والطهارة. وحتّى عند النوم ينبغي للإنسان أن ينام نظيف الجسم. جاء عن رسول الله|: «طهِّروا هذه الأجساد طهَّركم الله؛ فإنّه ليس عبدٌ يبيت طاهراً إلاّ بات معه مَلَك في شعاره، ولا يتقلَّب ساعة من الليل إلاّ قال: اللهمَّ اغفِرْ لعبدك؛ فإنّه بات طاهراً»([160]).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «مَنْ تطهَّر ثمّ أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده»([161]).
يوم النظافة والأناقة
التزام النظافة وإظهار الأناقة يجب أن يكون خلقاً دائماً للإنسان المسلم، وليس حالاً موسميّاً يرتبط بزمانٍ أو مكان خاصّ. فالأحكام الشرعية المتعلِّقة بالطهارة والنظافة تغطي كلّ أوقات وحالات الإنسان، كصفةٍ دائمة مستمرة.
وحتى عند الوفاة أوجب الله تعالى تغسيل الميت ثلاث مرّات: بماء السدر؛ ثم بماء الكافور؛ ثم بالماء القراح([162])، بعد إزالة كلّ نجاسة وقذارة عن جسده. ولو خرجت من الميت نجاسة، أو أصابته نجاسة، أثناء تغسيله، أو بعد تكفينه، وجب إزالتها. وإذا تنجس الكفن وجب إزالة النجاسة، ولو بعد وضع الميت في قبره، بغسل مكانها، أو قرضها من الكفن، أو بتبديل الكَفَن مع الإمكان([163]).
هذه الأحكام الشرعية وأمثالها تؤكِّد التزام النظافة في جميع الحالات والأوقات.
وتتأكَّد أهمية النظافة والأناقة في الأزمنة المباركة، والأماكن المقدَّسة، وعند مباشرة الأعمال المهمّة.
إن الله تعالى يأمر عباده أن يتَّخذوا مظاهر الأناقة والزينة عند ذهابهم إلى المساجد، وتوجُّههم لأداء العبادة؛ لكي ينفي أيّ تضادٍّ بين الاستمتاع بمباهج الحياة والتطلُّع إلى رضوان الله وسعادة الآخرة؛ ولتكون صورة الاجتماع الإسلاميّ زاهيةً؛ ببهاء العبادة والخشوع؛ وجمال المنظر والمظهر، يقول تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف: 31).
ويوم الجمعة هو سيّد الأيام، وفيه تقام أعظم فريضة صلاة، وهي صلاة الجمعة، وهو موعد تلاقي المسلمين واجتماعهم، لذلك تتأكَّد فيه مراعاة النظافة وإظهار الأناقة والزينة والجمال؛ من أجل أن يتمتَّع المسلم فيه بأعلى درجات الحيوية والنشاط، وتكون نفسه في غاية السرور والانشراح، وليحقِّق الامتثال لأمر ربِّه بإظهار نعمه عليه، فينال محبّة الله ورضاه، وهو يحب المتطهِّرين ويحبّ الجمال، وليكون المسلم عند حضوره صلاة الجمعة، والتقائه إخوانه المسلمين، في كامل أناقته وزينته؛ ليشترك معهم في تكوين صورة المجتمع الحضاري الجميل.
وفي ما يلي بعض برامج النظافة والأناقة ليوم الجمعة، حَسْب ما ورد في النصوص الدينية.
غسل الجمعة
تؤكِّد أحاديث كثيرة على أهمّية غسل الجمعة وفضله. وبعضُها ظاهرٌ في وجوبه، وهو ما أفتى به بعض قدامى الفقهاء، لولا وجود قرائن أخرى تصرف ظاهر تلك الأحاديث إلى قصد التأكيد على نَدْبه واستحبابه، وهو الرأي السائد عند الفقهاء، سنّةً وشيعة.
جاء في «صحيح البخاري» و«وسائل الشيعة»، عن عبد الله بن عمر، أنّ رسول الله| قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»([164]).
وفيه، عن أبي سعيد الخدري، أنّ رسول الله| قال: «غسل الجمعة واجبٌ على كلّ محتلمٍ»([165]).
وعن عبد الله بن المغيرة قال: «سألتُ الإمام الرضا× عن الغسل يوم الجمعة؟ فقال×: واجبٌ على كلّ ذكرٍ وأنثى، عبدٍ أو حُرّ»([166]) .
وعن الإمام الباقر× قال: «لا تدَعْ الغسل يوم الجمعة؛ فإنّه سنّة»([167]).
وعن عليّ بن يقطين قال: «سألتُ أبا الحسن ـ الإمام موسى الكاظم× ـ عن النساء أعليهنَّ غسل الجمعة؟ قال: نعم»([168]).
وعن الأصبغ، قال: «كان أمير المؤمنين× إذا أراد أن يوبِّخ الرجل يقول: واللهِ، لأنتَ أعجز من التارك الغسل يوم الجمعة، فإنّه لا يزال في طُهْر إلى الجمعة الأخرى»([169]).
ورُوي عن الإمام الصادق×، في علّة غسل يوم الجمعة، قال: «إنّ الأنصار كانت تعمل في نواضحها وأموالها، فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد، فتأذَّى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول الله| بالغُسْل، فجَرَتْ بذلك السنّة»([170]). وورد في «صحيح مسلم» عن عائشة قريبٌ من مضمونه([171]).
وكيفية غسل الجمعة كغسل الجنابة، بنيّة التقرُّب إلى الله تعالى. ووقته من طلوع الفجر إلى الزوال من يوم الجمعة. ولو اغتسل بعد الزوال إلى الغروب نواه قربةً مطلقة، دون قصد الأداء والقضاء. وإذا فاته الاغتسال يوم الجمعة قضاه يوم السبت إلى الغروب. ويجوز تقديمه يوم الخميس رجاءً إنْ خاف فقدان الماء يوم الجمعة، وإذا توفَّر له الماء يوم الجمعة أعاده فيه.
ويصحّ غسل الجمعة من الجُنُب، ويجزئ عن غسل الجنابة. وكذا يصحّ من الحائض إذا كان بعد النقاء، ويجزئ حينئذٍ عن غسل الحيض.
ويكفي غسل الجمعة عن الوضوء، عند فقهاء السنّة، وأكثر فقهاء الشيعة، كالسيد السيستاني، والسيد الخوئي. ومنهم مَنْ لا يرى كفايته عن الوضوء، كالإمام الخميني، والسيد الشيرازي.
وقصر معظم فقهاء السنّة استحباب غسل الجمعة على مَنْ يحضر صلاة الجمعة، وقوفاً عند نصّ الحديث: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»([172]). بينما يرى فقهاء الشيعة شموله لجميع المكلَّفين؛ تبعًا لإطلاق الروايات الواردة.
الهوامش:
(*) كاتبٌ وباحث. من أبرز الشخصيات العلمائية الإسلامية في المملكة العربية السعودية، ومن الشخصيات الناشطة على صعيد التقريب بين المذاهب الإسلامية.
([1]) السيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 286، ط2، مطبعة الآداب، النجف الأشرف.
([2]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 4: 313، ط1، 1992م، دار المؤرِّخ العربي/مؤسسة المرتضى العالمية، بيروت.
([4]) الموسوعة العربية العالمية 27: 122، ط2، 1419هـ، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض.
([9]) الدكتور محمد الهواري، السبت والجمعة في اليهودية والإسلام: (ط)، ط1، 1988، دار الهاني، القاهرة.
([12]) المصدر السابق: 100 ـ 138.
([13]) الموسوعة العربية العالمية 1: 243.
([14]) الوطن (جريدة يومية سعودية)، الجمعة 19شعبان 1426هـ، الموافق 23 سبتمبر 2005م، العدد 1820.
([15]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، كتاب الجمعة 2: 455، ط1، 1418هـ، مكتبة دار السلام، الرياض.
([17]) آقا بزرگ الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 5: 139، ط3، 1403هـ، دار الأضواء، بيروت.
([18]) صحيح مسلم، كتاب الجمعة: 425، ح18، ط3، 1998، دار المغني، الرياض.
([19]) ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجة 1: 321، باب في فضل الجمعة، ح895، ط1، 1417هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
([20]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ح9635، ط1، 1993، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، بيروت.
([21]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 3: 413، دار الأضواء، 1405هـ، بيروت.
([25]) الشيخ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه، ج1، باب وجوب الجمعة وفضلها، ح45، ط1، 1427هـ، دار المرتضى، بيروت.
([26]) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، ح15.
([27]) السيد حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ح10309، ط1، 1417، قم المقدسة.
([28]) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، ح18.
([29]) الألباني، صحيح سنن ابن ماجة 1: 321، باب في فضل الجمعة، ح895.
([30]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 19: 285، ط1، 1411هـ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
([31]) الشيخ عبد النبي النمازي، رسالة في وجوب صلاة الجمعة: 125، ط1، 1413هـ، مؤسسة إسماعليان، قم.
([32]) الميزان في تفسير القرآن 19: 285.
([33]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 56: 33، ط3، 1403هـ، دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت.
([34]) سليمان بن محمد الضحيان، جريدة المدينة/ملحق الرسالة، الجمعة 22/5/1428هـ ـ 8/6/2007م.
([35]) علي المتقي الهندي، كنـز العمال 712:7، ح21057، ط5، 1405، مؤسسة الرسالة، بيروت.
([36]) وسائل الشيعة 7: 380، ح9632.
([37]) القاضي أبي حنيفة النعمان المغربي: دعائم الإسلام 1: 169، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 2005م.
([38]) الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل 6: 65، ح6439، ط3، 1991، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، بيروت.
([39]) وسائل الشيعة 7: 375، ح9620.
([43]) مستدرك الوسائل 4: 101، ح6533.
([44]) وسائل الشيعة 7: 308، ح9428.
([49]) السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 21، ط4، 1417هـ، مؤسّسة أنصاريان، قم المقدسة.
([50]) وسائل الشيعة 7: 301، ح9403.
([51]) المصدر السابق 7: 300، ح9399.
([52]) وسائل الشيعة 7: 300، ح9397.
([53]) رسالة في وجوب صلاة الجمعة: 125.
([54]) الشيخ حسين العصفور، سداد العباد: 114 ـ 116، مجمع البحوث العلمية، قم، 1421هـ.
([55]) خطاب السيد الخامنئي، بتاريخ 16 جمادى الأولى 1423هـ.
([56]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 44 ـ 45.
([57]) الموسوعة الفقهية 27: 196، ط1، 1992م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.
([59]) أحمد بن قاسم العنسي الصنعائي، التاج المذهَّب لأحكام المذهب 1: 136، مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء.
([60]) محمد بن يوسف أطفيش: شرح كتاب النيل 2: 324، ط3، 1985م، مكتبة الإرشاد، جدّة.
([61]) السيد علي الحسيني السيستاني، منهاج الصالحين 1: صلاة الجمعة، ط1، 1423هـ، مدين، قم المقدسة.
([62]) الشيخ محمد إسحاق الفياض، منهاج الصالحين، صلاة الجمعة 1: 282، ط1، مكتب الشيخ محمد إسحاق الفياض، قم.
([63]) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 18: 307، ط1، 1413هـ، مؤسسة البعثة، بيروت.
([64]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 17.
([72]) التنقيح في شرح العروة الوثقى: 25.
([74]) الفتاوى الواضحة: 283 ـ 286.
([75]) محمد الخالصي، الجمعة: 55 ـ 56، مطبعة المعارف، بغداد.
([76]) السيد محمد الصدر، منهج الصالحين 1: 187، مسألة 1013، ط1، 1422هـ، دار الأضواء، بيروت.
([78]) سنن أبي داوود، باب الجلوس إذا صعد المنبر، ح1092، ط1، 1409هــ، دار الجنان/مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
([79]) وسائل الشيعة، ح9512، باب وجوب قيام الخطيب.
([80]) صحيح البخاري، باب الخطبة قائماً، ح920، دار الكتب العلمية، 1999، بيروت.
([81]) السيد صادق الحسيني الشيرازي، المسائل الإسلامية، مسألة رقم 1620، ط3، 1423هـ، دار العلوم للتحقيق والطباعة، بيروت.
([83]) البيهقي، السنن الكبرى 3: 204، باب الإمام يسلِّم على الناس، ط1، 1344هـ، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد.
([85]) الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 2: 293، ط3، 1409، دار الفكر، دمشق.
([86]) محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط 1: 147.
([87]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 1: 237، ط3، 1425هـ، مؤسّسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة.
([88]) ابن قدامة الحنبلي، المغني 3: 159 ـ 181، ط2، 1412هـ، هجر للطباعة والنشر، القاهرة.
([89]) سيد سابق، فقه السنة: 310، ط3، 1977م، دار الكتاب العربي، بيروت.
([90]) الشيرازي، المسائل الإسلامية، مسألة رقم 1621.
([95]) صحيح البخاري، ح916، باب التأذين عند الخطبة.
([96]) السيد علي الحسيني السيستاني، المسائل المنتخبة، مسألة رقم 284، ط2، 1425هـ، مؤسّسة المحبين، قم المقدسة.
([97]) الشيرازي، المسائل الإسلامية، مسألة رقم 1612.
([98]) السيستاني، منهاج الصالحين 1: 308.
([99]) الشيرازي، المسائل الإسلامية، مسألة رقم 1627.
([101]) جامع أحاديث الشيعة 6: 439، ح9976.
([102]) المصدر السابق 440، ح9980.
([104]) الموسوعة الفقهية 27: 202.
([105]) التاج المذهَّب لأحكام المذهب 1: 137.
([106]) الموسوعة الفقهية 27: 197.
([108]) الموسوعة الفقهية 27: 197.
([109]) السيستاني، المسائل المنتخبة، مسألة رقم 284.
([110]) روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة 1: 209، دار التعارف، 2003م، بيروت.
([111]) الموسوعة الفقهية 27: 204.
([113]) تامر أبو العينين، الوحدة تقتل السويسريين، جريدة الحياة، 21 أبريل 2008م.
([115]) كنـز العمّال 432:6، ح16414.
([116]) مستدرك الوسائل 2: 415.
([118]) نهج البلاغة: 361، تحقيق مؤسّسة نهج البلاغة، ط3، 1416هـ، دمشق.
([119]) كنـز العمال 15: 777، ح43064.
([120]) صحيح مسلم: 426، باب فضل التهجير يوم الجمعة، ح850؛ وأيضاً في مستدرك الوسائل، ح6368.
([121]) جامع أحاديث الشيعة، ح9868، ط1، 1416، قم المقدسة.
([123]) جامع أحاديث الشيعة، ح9872.
([129]) مستدرك الوسائل 4: 27، ح6353.
([130]) جامع أحاديث الشيعة 6: 437، ح9969.
([131]) نجم الدين الطبسي، موارد السجن في النصوص والفتاوى: 495، ط1، 1411هـ، مكتب الإعلام الإسلامي.
([132]) الشيخ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 473، ط2، 1988م، الدار الإسلامية، بيروت.
([133]) نهج البلاغة، كتاب رقم 31، من وصية له× للحسن بن عليّ.
([135]) الموسوعة الفقهية 26: 323.
([136]) جامع أحاديث الشيعة 7: 38، ح10272.
([138]) جامع أحاديث الشيعة 7: 32، ح10246.
([142]) كنـز العمال 16: 479، ح45543.
([144]) جامع أحاديث الشيعة 8: 48، ح10304.
([146]) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ح69، ط1، 1411هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
([154]) سنن الترمذي 3: 537، ح2799، ط1، 1421هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
([155]) كنـز العمال 9: 277، ح26002.
([156]) السيد محمد الشيرازي، الفقه: كتاب النظافة، ط1، 1421هـ، هيئة محمد الأمين.
([162]) العروة الوثقى، في كيفية غسل الميت: 271.
([163]) المصدر السابق، فصل في شرائط الغسل.