ما الجنة؟ أهي مكانٌ ماديّ مرصوفٌ بالذهب، أم هي تجلٍّ للسكينة المطلقة، للطمأنينة التي تفيض من ذات الإله على الأرواح التي عرفت كيف تحبّ، كيف تَعدل، وكيف تعبر هذا الوجود بثقلٍ من المعنى؟ وإن كانت الجنة رحمة، أفليست الرحمة أوسع من أن تُضيقها طائفة أو يحتكرها مذهب؟ أيمكن لمطلق الرحمة أن يُقزَّم ليُحشر في قالب هويّة دينية ضيقة؟

الجنة في جوهرها ليست شهادة تُمنح بناءً على انتماء عَقَديّ، بل هي انعكاسٌ للصدق الوجودي، للنية التي لم تخن إنسانيتها، للسعي الذي لم يتاجر بالبِرّ، وللقلب الذي لم يُقصِ الآخر لأنه وُلِد على ضفاف عقيدةٍ مغايرة.

ليس الله وكيلًا حَصريًا لدين، ولا الجنة ناديًا مغلقًا بحراسة فقهاء التكفير.

أن تترحم على من خالفك في الدين، هو أن تنتصر لإنسانك قبل أن تنتصر لدينك. هو أن تقول: “أنا أؤمن أن الرحمة ليست امتيازًا طائفيًا، بل سلوك كوني، لا تُفهم إلَّا حين نُخرج الدين من قاموس الامتلاك إلى فضاء الشراكة الوجودية”.

التراحم فعلٌ إنسانيّ قبل أن يكون دينيًّا.

هو بقايا نورٍ في الكائن، صدى من المحبة الإلهية التي لا تسأل عن بطاقة الهويّة الدينية، بل تنظر إلى القلب: هل أحب؟ هل عطف؟ هل سامح؟ هل عرف أن الله في الآخر كما هو في الذات؟

في الترحم على المختلف دينيًا، تمرّدٌ نبيل على هندسة الفرز الديني التي صمّمها الفقه السلطوي ليصنع من الآخر خصمًا أبديًا، وعدوًا وجوديًا.

كأنما الدين الذي جاء رحمة للعالمين، تحوّل بفعل التوظيف الأيديولوجي إلى معولٍ لنبش المقابر ورفض الترحم على موتى لم يرتدوا زيّ العقيدة الرسمية.

ومَن يملك مفاتيح الرحمة حتى يمنعها؟ هل هي بيد عالمٍ فقيه، أم بيد قلبٍ يعرف أنَّ الإنسان أكبر من صيغة معتقد؟ الرحمة، في جوهرها، لغةٌ لا تُكتب بل تُحسّ، وهي الصراط الذي يجتازه من رأى الله في وجه فقير، وابتسامة طفل، ودمعةِ أمٍ ثكلت ابنها، لا في سرديات النجاة الحصرية.

الذين يعارضون الترحم على المختلف دينيًا، لا يخشون على الدين بل يخشون من ضياع امتيازاتهم الهوياتية. يخافون أن تتحول الأخوة الإنسانية إلى بديلٍ عن الجماعة المغلقة التي بنت عظمتها على نفي الآخر.

أليس من المفارقة أن نطلب من الله أن يرحمنا، ونحن نضنّ بالرحمة على مَن خالفنا في الإيمان؟ ألسنا بذلك نُطالب الإله أن يفعل ما لا نرضاه نحن لأنفسنا؟

الجنة لا تُدرك بالحرف، بل بالحب. لا تُنال بالانتماء، بل بالانفتاح. فكما أنَّ الله ليس محصورًا في مسجد أو معبد أو كنيسة، كذلك رحمته ليست سِجلًا تُحرّره مؤسسات الكهنوت. إنما هي كالمطر، يسقي من آمن ومن لم يؤمن، من صلّى ومن لم يعرف القبلة.

ومن لم يرَ في الآخر إنسانًا، فكيف يزعم أنه يعرف الله، وهو الذي سمّى نفسه: “الرحمن الرحيم”؟

هو امتحانُ الروح إذ تتجرد من قوالبها، حين تختبرُ أن تكونَ رحيمًا لا لأنَّ النصَّ أمرك، بل لأنَّ جوهرك يهمس بذلك. أن تقولَ “رحمه الله” على المختلف دينيًا، هو إعلانُ انتصارٍ على غرائز الانغلاق، هو إصرارٌ على أنَّ الإنسانَ ليس مجردَ بطاقةِ هويةٍ دينية، بل هو سؤالٌ معقَّدٌ عن الخير والشر، عن الكرامة والسقوط، عن ذلك الخيطِ الرفيع الذي يفصل بين أن تكونَ صورة الله أو ظلَّ الطين.

كم يبدو مؤلمًا أن تتحولَ العقيدة إلى جدارٍ عازلٍ بين الأرواح، إلى آليةٍ قاسية تُحاكم الإنسان في مصيره الأبدي لا على ضوءِ أفعاله، بل على خانةِ الديانة في سجلات المواليد. وكأنَّ الحساب صار وظيفةَ بيروقراطيةٍ لا تسبر عمق الروح بل تفتّش عن توقيعٍ على وثيقةِ الانتماء.

إنَّ الإيمان الحقيقي لا يُختبَر في لحظاتِ الإجماع، بل في لحظاتِ النزاع مع الذات والآخر. الترحم على المختلف دينيًا هو ذروةُ هذا الاختبار: أن تؤمن بأنَّ الرحمة أوسع من نصٍ محكومٍ بفهمٍ تاريخيٍّ أو سلطةٍ فقهية.

أن تُدرك أن الله، الذي وسعت رحمته كلَّ شيء، لا يضيقُ صدرُه بمن خالفك، ولا يحجبُ رحمته عن روحٍ صدقت في سيرها نحو النور، ولو عبرَ طريقٍ لم يخترْه جمهورُ أهلِ مذهبك.

الفرقُ الجوهري بين الدين الذي يتحوّل إلى أداةِ تفرقة، والدين الذي يبني جسورًا من الرحمة، هو هذا الفعل البسيط: أن تقولَ “رحمه الله” وأنت تدركُ أنَّ تلك الكلمة ترفعك إنسانيًا قبل أن ترفعك دينيًا. الرحمةُ ليست إقرارًا بصحة العقيدة بل اعترافٌ بأن الروح الإنسانية جديرةٌ بالدعاء مهما اختلفت طُرقُها إلى المعنى.

ليس أصعبَ على الإنسان من أن يكسرَ الأصنام التي بناها في داخله، وأخطرُ الأصنام هو صنمُ “نحن” مقابل “هم”، ذلك الذي يجعل من المختلف خصمًا وجوديًا حتى بعد موته. الترحم على الآخر هو تمرينٌ مستمر على تحطيمِ هذا الصنم، على الاعتراف بأن الله ليس حكرًا على قومٍ دون قوم، وأننا جميعًا ـ في هشاشتنا وضعفنا ـ شركاءُ في هذا الوجود الزائل، ساعون نحو قبسٍ من الطمأنينة، نحو خلاصٍ لا يدركه أحدُنا منفردًا.

في النهاية، لعلَّ أعظمَ درسٍ يُمكن للدين أن يمنحه هو هذا: حين نقولُ “اللهم ارحمه”، فنحن لا نمنحُ الميتَ شيئًا، بل نمنح أنفسنا فرصةً لنُشفى من عنصريتنا المقدسة. لأننا، في العمق، جميعًا عابرون على هذا الصراط، متساوون في لحظة النهاية، وكلُّ ما يبقى هو: هل أحببنا كفاية؟

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email