قراءة تفسيرية تجزيئية لآيات الحجاب في القرآن الكريم
ـ القسم الأول ـ
السيد مهدي الأمين(*)
مقدمة
هل هناك حكم في مسألة الحجاب في القرآن الكريم؟
للإجابة عن هذا السؤال سعينا إلى استحضار الآيات التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمسألة، وهو ما سيساعدنا لاحقاً على تشكل رؤية قرآنية عامة وشاملة، أو مفهوم قرآني عام لمسألة الحجاب، وهو الأمر الذي سوف يساعدنا كثيراً في الرد على الشبهات التي أثيرت وما تزال حول وجود مرجعية قرآنية لوجوب الحجاب على نساء المسلمين.
1ـ آية الاستئذان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 58)، وقال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 59).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}،أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول.
وظاهر {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} العبيد، دون الإماء، وإن كان اللفظ لا يأبى عن العموم؛ بعناية التغليب، وبه وردت الرواية([1]).
وذهب الفخر الرازي إلى دخول النساء بشكل جلي وواضح، وأضاف: إنه يدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} البالغون والصغار([2]).
ومن الملاحظ أن الآية بعيداً عن الروايات المخصِّصة والمفسِّرة ظاهرة في العبد البالغ، كما في العبد الصغير، كما في الأمة الصغيرة والكبيرة.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ …}، أو قل الأطفال الذين يمكن إفهامهم هذه التصرفات، وتعليمهم إياها، أي المميزين منكم، وهم الأطفال الأحرار الذين يعيشون معكم، سواء كانوا أولادكم أم لا. وقوله: «منكم» إشارة إلى عدم استثناء الأحرار من هذا الحكم، فالحكم غير مرتبط بالعبيد فقط.
{ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء}. إن هذه الأوقات الثلاثة: أي قبل صلاة الفجر، وهو الوقت الذي يستيقظ فيه أهل الدار، وبُعَيْد صلاة الظهر عندما يضع الرجل أو المرأة ثيابه للاستراحة، وبعد صلاة العشاء، وهو وقت الخلود إلى النوم أو الخلوة الزوجية، تشترك في أن المرء عادة يكون منكشفاً فيها، دون غيرها من الأوقات.
{ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}: لقوله تعالى: «ثلاث» قراءتان: الأولى بالرفع؛ والثانية بالنصب.
وفي مجمع البيان: «ثلاث» خبر لمبتدأ محذوف على تقدير رفعه، والتقدير: هذه ثلاث عورات لكم، وبدل من ثلاث مرات على تقدير نصبه بتقدير أوقات ثلاث عورات لكم حذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه([3]).
وبما أن القراءة الأشهر هي الرفع فيكون المعنى: هذه الأوقات المذكورة ثلاث عورات لكم، وبالتالي يكون المراد أن المذكورين في الآية لا ينبغي أن يطّلعوا على عوراتكم في هذه الأوقات، وخصّ هذه الأوقات بالذكر لأنها أكثر الأوقات التي يمكن أن تنكشف فيها عورة المرء كما تقدم، أي خصها باعتبارها الفرد الأبرز، وهذا لا يعني أن المذكورين يمكن لهم أن يروا العورات في غير هذه الأوقات كما هو واضح.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، أي إن ترك الاستئذان في غير هذه الاوقات لا يوجب الإثم ولا الحرج. قال الزمخشري: «ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبيّن وجه العذر في قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم}، يعني إن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم في الخدمة وتطوفون عليهم في الاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدى ذلك إلى الحرج»([4]). الأمر الذي يشعر بأن الذين ملكت أيمانهنّ حكمهم حكم من يعيش في البيت من أطفال ونساء ومحارم، وهذا الحكم ـ كما سيأتي بحثه بشكل مفصَّل ـ مختلف فيه بين الفقهاء، وكذلك بين المفسرين أيضاً.
{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
الحُلُم على وزن (الكُتُب) كناية عن البلوغ بالاحتلام، الذي يترافق غالباً مع نضوج عقلي وفكري ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.
ولمّا عدّ في الآية السابقة الأطفال والعبيد كان لا بد من إلحاق الابن البالغ بهم؛ تأكيداً على ما قد يفهم من الآية السابقة بشكل أولى، وذلك أنه إذا كان الطفل ممن يجب إلزامه بالاستئذان فالبالغ ملزَمٌ بشكل أولى.
قد يسأل سائل: ما هي علاقة هذه الآية بمسألة الحجاب؟
والجواب: إن لهذه الآية علاقة وطيدة بما نحن في صدده من مسألة الحجاب؛ وذلك من خلال مسألتين طرحتهما الآية الكريمة:
الأولى: موضوع الاستئذان، حيث إن الآية أوجبت الاستئذان على كل من يسكن في البيت، دون الزوج، قبل الدخول على المرأة صاحبة البيت، ولا نجد حكمة من هذا الاستئذان سوى التستر، بغضّ النظر عن مقدار هذا التستر.
الثانية: إن في الآية شيئاً من الدلالة على حكم تستر المرأة أمام عبدها ومملوكها، وهذا ما سوف نستعرضه في ما يأتي من هذه الدراسة.
في الآية تشريع لوجوب الاستئذان في داخل البيت، وهذا التشريع يطال الأهل أولاً، ثم الأفراد المكلفين الأخر الذين يعيشون في البيت.
أما الأهل فإنه يطالهم من ناحية تعلق وجوب تعليم الأطفال أو أمرهم بأن يستأذنوا قبل الدخول عليهم في الأوقات التي حدَّدتها الآية؛ وذلك أن التكليف لا يطال غير المكلفين؛ وأما بقية الأفراد في المنزل من إماء وعبيد فإن التكليف يمكن أن يطالهم بشكل مباشر.
ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن مسألة الاستئذان لها ارتباطٌ ما بمسألة الستر، فلولا الخوف من أن يرى الأطفال وغيرهم ما يجب ستره عنهم لما كان شرِّع الاستئذان أساساً، مما يشعر بحرص القرآن الكريم على إضفاء حالة من الحشمة والعفاف حتى في داخل البيت الذي يُعَدّ نواة للمجتمع.
ومن ناحية أخرى فإن الآية الكريمة تتعرض لمسألة العبيد وحكمهم بالنسبة إلى من يملكهم من النساء. وهنا إشعار قد يصل إلى حد الدلالة على أن العبد يعتبر من المستثنين من وجوب التستر أمامهم، أي إن حكمه حكم المحارم في مسألة الستر والنظر وخاصة بعد تأييد آيات أخرى لهذا القول.
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: وقبل الدخول في البحث حول تفسير هذه الآية الكريمة لابد لنا أن نستعرض أولاً ما قاله المفسرون حول الآية التي سبقت هذه الآية، وهي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور: 30)؛ وذلك للارتباط الوثيق بين هاتين الآيتين، وعدم انفكاك إحداهما عن الاخرى تفسيراً، حيث إن جميع المفسرين أحالوا تفسير مطلع الآية الثانية إلى ما ورد في تفسير الآية الأولى.
فنبدأ بقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}: من الواضح أنه تعالى خصّ المؤمنين بهذا الخطاب لأن غيرهم لا يرتدع إذا ردع، بناءً على تكليفه بالفروع. أو أنه أصلاً غير مكلف بالفروع، و«من» هنا بحسب أكثر المفسرين هي للتبعيض([5])، فيكون المراد هنا غض البصر عما يحرم، والاقتصار على ما يحل؛ وجوّز الأخفش أن تكون «من» هنا زائدة، نظير قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59)، وخالفه سيبويه([6])؛ ومنهم من ذهب إلى أن «من» لابتداء الغاية، فلا هي مزيدة، ولا هي للتبعيض، ولا هي للجنس أيضاً، فيكون المعنى هنا أن يأتوا بالغض آخذاً من أبصارهم([7]). والأقرب في تفسير هذه الآية أنها للتبعيض، فكلمة «يغضوا» مشتقة من (غضَّ) من باب (ردَّ)، وهي تعني في الأصل (التنقيص)، وتطلق غالباً على تخفيض الصوت وتقليل النظر، لهذا لم تأمر الآية بإغماض النظر، بل أمرت أن يقللوا من النظر.
وأما متعلَّق الغض هنا فإنه غير محدَّد، أي إنّ الله تعالى لم يحدِّد ما يجب غض النظر عنه، فيبقى عاماً يشمل جميع ما حرَّم الله تعالى النظر إليه، ولا يخرج عن هذا العموم إلا ما أخرجه الله تعالى عنه.
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}: ذهب أكثر المفسرين إلى أن المقصود من حفظ الفرج في هذه الآية هو حفظه من النظر؛ إما بناءً على رواية عن الإمام الصادق×؛ أو بناءً على السياق الموجود في الآية. وقد ذهب الفخر الرازي إلى المروي، ونقله أيضاً عن أبي العلياء([8]).
واستقرب صاحب مجمع البيان قول أبي العليا، مشيراً إلى أنه مروي عن أبي عبدالله×. وكذلك في كنز العرفان([9])، وفي مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام([10]).
وقال في «الميزان»: المقابلة بين قوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} و{يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} «يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر، لا حفظها عن الزنا واللواط كما قيل»([11]).
ولو أننا بقينا والآية، بعيداً عما روي عن الصادق× في تفسيرها، لا نجد مناصاً من القول بأن تخصيص حفظ الفرج هنا بالنظر بعيد، ولا دليل قاطعاً عليه، وبذلك يبقى المعنى عاماً يدل على النظر وغيره. وأما ما أورده صاحب «الميزان» من قرينة المقابلة فلا يصح دليلاً، بل يبقى مجرد استئناس بالتخصيص. وهو غير كافٍ لصحة المدَّعى.
ولو سلمنا بأن هذا الاستئناس وصل إلى حد الظهور فسوف يبقى حفظ الفرج عن الزنا واللواط واللمس وغيره مشمولاً؛ وذلك أن حفظ الفرج من النظر، الذي هو أضعف المحرمات التي يقتضيها حفظ الفرج، يدل بالأولوية على وجوب حفظ الفرج مما هو أغلظ من ذلك، كالزنا واللواط وغيره، تماماً كما في قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، حيث إنه من الواضح المنع مما هو فوق ذلك من سبٍّ وضربٍ وغيرهما.
ومن الواضح أن هذا الأمر ـ أي غض البصر عمّا حرم الله ـ يستحق التزكية. ولعله من هنا خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين دون سواهم، لما أراده من تزكيتهم، وهذا لا يليق بغير المؤمنين.
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}: القول هنا هو عين القول في الآية السابقة؛ ويمكن أن يكون تخصيص الإناث بالخطاب هنا من باب التأكيد، بعد أن شملهن خطاب: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ}؛ ويمكن أن يكون مما يقتضيه المقام، حيث إن الأحكام الباقية من الآية كلها متعلقة بالمرأة، فاقتضى إعادة إفراد الإناث في خطاب جديد متضمن في خطاب سابق. ولا بد من الإضافة هنا أن السيد الحكيم في «المستمسك» اعتبر أن «غض البصر أعم من ترك النظر»([12]).
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: الإبداء هو الإظهار. والزينة ما يتزين به، وهي ـ أي الزينة ـ اسمٌ جامع لكل شيء يتزين به([13]).
وقد ذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن المقصود من الزينة هنا مواضعها، قال في الكشاف: وذكر الزينة دون مواضعها للمبالغة في الأمر بالتصوُّن والتستر؛ لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها، فنهى عن إبداء الزينة نفسها([14]). وكذلك في الميزان([15]). وأما الفخر الرازي فقد قال: إن الزينة هنا أعم ممّا يتزين به ومن الخلقة([16]).
وذهب صاحب «كنز العرفان» إلى أن المقصود من الزينة هنا هو نفس الزينة؛ لأن جواز النظر إليها وسيلة إلى جواز النظر إلى مواضعها، والمراد بالزينة الظاهرة هو الثياب([17]).
ويترتب على هذا الخلاف في تفسير معنى الزينة الخلاف في تفسير معنى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.
فالاستثناء في هذه الآية هو مما يجب عدم إبدائه، أو فقل: مما يجب إخفاؤه عند المرأة، والمستثنى هنا لا يمكن أن يتضح إذا لم يتضح معنى المستثنى منه، أي (الزينة)، لذلك سوف نحاول هنا أن نعرض الأقوال بحسب اختلافها في معنى الزينة.
فأما من ذهب إلى أن المعنى هو مواضع الزينة فقد التزم أن المستثنى لا بد أن يكون من مواضع الزينة، التي هي في الوجه والكفين؛ لأنه من المتعسر إخفاؤها([18]).
وأما من قال بأنها أعم من الخلقة ومما يتزين به، كالفخر الرازي كما تقدم، فحمل الاستثناء على ما يظهر في العادة الجارية بين الناس، وهو الوجه والكفان من البدن([19]).
وأما من حمل معنى الزينة على أنه نفس ما يتزين به فقد ذهب إلى أن المستثنى هو الثياب، وهي الزينة الظاهرة([20]).
ولا شك أن الاختلاف القائم حول معنى الزينة، وما يترتب عليها من حكم، قد يؤدي بالباحث إلى التوقف في الأمر، كما حصل مع صاحب كتاب «مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام»، حيث قال: «والحق أن الآية لا تخلو من إجمال…»([21]).
إلا أننا إذا تعاملنا مع الآية الكريمة بحسب الظاهر ومناسبات الحكم والموضوع لا نجد مناصاً من القبول بأحد قولين في معنى الزينة؛ وذلك:
أولاً: إنه لو كانت الثياب هي الزينة فهي لا محالة ظاهرة لكل الناس، فمهما تسترت المرأة سوف يبقى الظاهر منها هو الثياب؛ لأنها هي ما تستر به زينتها خاصة، وإن الثياب اسم جامع لكل ما يلبس، فالثوب واحد ثياب في اللغة، وهو اللباس([22]).
ثانياً: إن هذا القول مبني على أن المقصود هو نفس الزينة. وهو أمر مستبعد في هذه الآية؛ حيث إن الزينة بما هي لا يشك أحد في جواز إبدائها.
وأما القول بأنها أعمّ من الزينة والبدن، أو القول بأن المقصود من الزينة هو مواضعها من البدن، وكلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة كما لاحظنا، أي إلى وجوب ستر جميع البدن باستثناء الوجه والكفين. وهو ما سوف نفرد له بحثاً مفصلاً في ما يأتي.
وأما من حاول الخروج بنتيجة من خلال تقسيم الزينة إلى ظاهرة وباطنة أو خفية([23]) فلا يمكن إدراجه في عرض هذه الأقوال الثلاثة المتقدمة؛ وذلك لأنها يمكن أن تتقاطع معها جميعاً، فالجميع يقرّ بأن الزينة هي ظاهرة وباطنة، ويعود الكلام هنا إلى أوله في تحديد معنى الزينة، لكي نحدد ما هو الظاهر وما هو الباطن، فمن يرى بأن الزينة هي ما يتزين به، ومنهم أيضاً: صاحب «التبيان»؛ وصاحب «مجمع البيان»، يرى أيضاً بأن الظاهر منها هو الثياب، والخفي هو الخلخال والسوار والقرطان([24]). وعلى هذا يمكن قياس بقية الأقوال. وسوف يأتي أيضاً تفصيله.
ومن المهم هنا لتوضيح ما توصلنا إليه في هذا المقطع من الآية أن نعرض لما ذهب إليه السيد الحكيم في مستمسكه عندما تعرض لهذا المقطع من الآية، حيث قال: «فإن استثناء ما ظهر من الزينة يدل على أن من الزينة ما هو ظاهر، ولا يكون إلا بظهور موضعها، فيدل على أن بعض جسد المرأة مما يجوز إظهاره ولا يحرم كشفه»([25]).
ثم يعود ليقول: إن ما يحدد الذي يجوز إظهاره من خلال استفادته من المقطع التالي {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} حيث قال: «فإن تخصيص الجيوب بوجوب الستر يدل على عدم وجوب ستر الوجه، وإلا كان أولى بالذكر من الجيب؛ لأن الخمار يستر الجيب غالباً، ولا يستر الوجه»([26]).
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: الخمار لغة هو ما يغطي الرأس دون الوجه، ولذلك يطلق على العمامة خمار([27]).
والجيوب لغة جمع جيب، يقال: جيب القميص، ودرع فلان ناصح الجيب، يعني بذلك أن صدره وقلبه واسعان، أي إنه أمين([28]).
وفي حديث الإمام علي×: أخذت إهاباً معطوناً فجوَّبت وسطه، وأدخلته في عنقي([29]).
والإهاب هو الجلد في البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ([30]). والعطن: ان يجعل في الدباغ، ومعطون أي مدبوغ([31]).
وبهذا يتضح أن الجيب هو فتحة تكون في القميص، ومنها يدخل الرأس، وهي ما عبر عنه بـ (ياقة القميص).
ومن هنا ذهب بعض المفسِّرين إلى أنه قد يراد من الجيب الصدر؛ تسمية بما يليه أو يلابسه([32]). وعلى كلا التفسيرين يبقى المعنى واحداً، وهو ضرب الخمار أو إسداله على الجيب أو الصدر؛ لغرض ستره عن الناظر. ومن هنا يتضح أنه لم يكن من عادات نساء العرب إسدال الخمار من الأمام، بل كنّ يسدلنه من وراء ظهورهنّ، كما صرحت بذلك جملة من الأخبار([33]). فبعد أن كانت سعة الجيوب عند النساء أمراً رائجاً ومنتشراً، بحيث يظهر من خلالها موضع القلادة من الصدر والرقبة، بل شيء من الصدر أيضاً، وبعد أن كنّ يسدلن الخمار من وراء ظهورهن، أنزل الله تعالى هذه الآية التي تأمرهن بوجوب تغطية جيوبهن وما يمكن أن يظهر من خلالها.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا…}: لما أوردت الآية الكلام حول الزينة المطلقة، واستثنت الزينة الظاهرة كما تقدم، كان لا بد من استثناء آخر، حتى لا تبقى الآية على إطلاقها، فيكون على المرأة ان تلتزم بمضمونها أمام كل الناس دون استثناء، مما يوقعها ويوقع المجتمع في حرج شديد قد لا يُطاق. لذلك كان على الآية أن تذكر هذه المرة استثناءً آخر من ناحية المبدى له ـ وهو الناظر ـ، وليس من ناحية المبدى ـ وهو الزينة ـ كما في الاستثناء الأول. فبناءً على ما استقربناه من القول بأن المقصود من الزينة هو مواضع الزينة سوف يكون الاستثناء هنا أيضاً مختصاً بمواضع الزينة التي حظر إبداؤها في صدر الآية.
ولكي يتّضح الأمر بشكل أفضل لا بد من إعادة استعراض الأقوال التي تقدمت في تفسير الزينة؛ لكي نتمكن من مقارنتها بما استقربناه هنا:
ـ فمن قال بأن معنى الزينة هو مواضعها لا بد أن يلتزم هنا بذلك أيضاً، فيصبح المعنى هنا أنه يجوز إبداء مواضع الزينة للمذكورين بعد الاستثناء، وهم المحارم.
ـ وأما من ذهب إلى أن معنى الزينة هو نفس الزينة أو ما يتزين به فلا بد أن يلتزم هنا بأن ما يجوز إبداؤه للمحارم هو نفس الزينة الخفية، دون مواضعها، كالقلادة والأقراط وما شابهها.
ـ وأما من قال بأن معنى الزينة أعم من الخلقة وما يتزين به فعليه أن يلتزم هنا بأن ما يجوز إبداؤه هنا هو كامل البدن من دون استثناء. وهذا مما لم يلتزم به أحد، حتى صاحب هذا القول. بل هو مخالف لعمومات القرآن التي حضّت على التصوُّن والتستر، كقوله تعالى في صدر الآية التي نحن بصددها: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}. ومن هنا يظهر أن القول الذي اخترناه هو القول الأكثر انسجاماً مع سياق الآية وموضعها، وهو لا يتعارض مع أي إطار أو قاعدة قرآنية عامة، كما في القولين الآخرين.
{لِبُعُولَتِهِنَّ}: البعل لغةً: رب الشيء ومالكه وصاحبه، ويطلق على الزوج([34]). وقال الراغب في مفرداته: البعل هو الذكر من الزوجين، نحو قوله تعالى: {وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً} (هود: 72). وجمعه بعولة، وأضاف: إن فيها شيئاً من الاستعلاء على المرأة، وأن العرب كانوا يسمون معبودهم الذي يتقربون به إلى الله بعلاً([35]).
فالبعل هنا هو الزوج، وهو أول المستثنين في الآية من النهي عن إبداء الزينة لهم.
{أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ}: ويدخل هنا ـ بالإضافة إلى الأب وأب الزوج ـ الآباء وإن علوا من جهة الأب والأم، أي الأجداد للأب والأم. وهو أمر اتّفق عليه في اللغة، واستعمله القرآن الكريم في العديد من المواضع، فقال: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} (البقرة: 133)، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (يوسف: 38). كما يدخل أيضاً آباء البعولة وإن عَلَوْا من الأب والأم([36]). وهذا ما ذهب إليه أكثر أرباب التفاسير التي اطلعت عليها.
{أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ}: والكلام الذي تقدم في الآباء يأتي هنا أيضاً في الأبناء، فيدخل هنا الأبناء، وأبناء البعولة، وإن نزلوا.
{أَوْ إِخْوَانِهِنَّ}: بإطلاق الإخوان هنا يدخل الإخوة من الأب والإخوة من الأم، بالإضافة إلى الإخوة منهما معاً، كما هو واضح.
{أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}: كذلك أيضاً يدخل هنا أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، وإن نزلوا.
أ ـ النساء
{أَوْ نِسَائِهِنَّ}: وقع الاختلاف في المراد من قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ}، فهل المقصود من الضمير نساء المسلمات؛ بقرينة الإضافة؛ وبقرينة ورود بعض الروايات التي فسرت الآية بهذا المعنى، كما عن الإمام الصادق× قوله: «لا ينبغي للمرأة أن تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية؛ فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن»([37])؟ وعليه فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف زينتها أمام غير المسلمة من النساء أيضاً، فيجب عليها أن تتستر أمامهنّ كما تتستر أمام الرجال، من دون فرق.
أم أن المقصود هنا هو جميع النساء، فتكون الإضافة هنا بلحاظ الانسجام
مع طريقة التعبير في ما قبلها، أو أنه تعالى عنى بالإضافة النساء اللاتي في صحبتهن([38])؟
ذهب أكثر المفسِّرين إلى القول الأول([39])؛ أما القول الثاني فلم أعثر على قائل به سوى الفخر الرازي في تفسيره الكبير([40]).
والأقرب ـ كما نراه ـ حسب سياق الآية الكريمة؛ وبقرينة الإضافة، أن يكون المراد بـ{أَوْ نِسَائِهِنَّ} النساء المختصات بهنّ، بالصحبة والخدمة والمعرفة وغيرها من علاقاتٍ تتناسب مع الإضافة والنسبة، مع الإشارة إلى إمكان توسيع نطاق هذه النسبة إلى جميع نساء المسلمين في مقابل بقية النساء.
ب ـ ملك اليمين
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: إن شمول الآية للمملوك الذكر هو محل خلاف بين المفسرين؛ فمنهم من أجرى الآية على ظاهرها، وقال بشمولها للعبد الذكر، كما ذهب إليه الفخر الرازي في تفسيره الكبير([41]). وقد نقل أيضاً صاحب «مجمع البيان» هذا القول، وقال: إنه مروي عن أبي عبدالله×([42])؛ ومنهم من قال: إنها لا تشمل العبد الذكر، وهو مذهب أكثر المفسِّرين. ولا يخفى أن منشأ الخلاف هنا لم يكن الالتباس في نفس الآية ودلالتها؛ حيث إنها ظاهرة بشمول العبد الذكر، وإنما موقع الخلاف من جهة وجود مخصِّص لهذه الآية من الأخبار. ومن هنا فلو بقينا نحن والآية لم يكن هناك أي إشكال في القول بشمولها للعبد الذكر البالغ. وعليه لا بدّ من الالتزام بشمول الآية للمملوك الذكر.
ج ـ التابعون
{أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}: الإربة هي الحاجة. واختلف في المقصود من قوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ}؛ وقد نقل الشيخ الطوسي في «التبيان» الأقوال في المسألة بشكل واضح ومختصر، فقال: «قال ابن عباس: هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك، ولا حاجة له في النساء، وهو الأبله، وبه قال قتادة وسعيد بن جبير وعطاء؛ وقال مجاهد: هو الطفل الذي لا أرب له في النساء؛ لصغره؛ وقيل: هو العنين، ذكره عكرمة والشعبي؛ وقيل: هو الشيخ الهرم؛ وقيل: هو المجبوب»([43]).
وقال الفخر: «قال بعضهم: هم الفقراء الذين بهم فاقة؛ وقال بعضهم: المعتوه والأبله والصبي؛ وقال بعضهم: الشيخ وسائر من لا شهوة له. ولا يمتنع دخول الكل في ذلك»([44]).
وهو القول الأقرب إلى ظهور الآية وسياقها، فهي تشمل كل من كان تابعاً، ولا حاجة له بالنساء، أي من لا شهوة له، سواءٌ لعنس أو كبر أو صغر أو غير ذلك من الأسباب.
د ـ الأطفال
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء}: الألف واللام في الطفل للاستغراق، كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} (غافر: 67)، أي جماعة الأطفال الذين إذا اطّلعوا على العورة لم يعرفوها أو يميزوها، كما أنهم لا يميزون بينها وبين غيرها من أعضاء البدن. وظهر على الشيء إذا اطلع عليه، وظهر على فلان قوي عليه، وظهر على القرآن أخذه وأطاقه([45]).
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن اسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم([46])، مما يعني أنه لا فرق عندهم بين المميِّز من الأطفال وغيره. وهذا الرأي يتناسب مع القول بأن الظهور هو القدرة والطاقة؛ حيث إن ذلك لا يكون إلا للبالغ.
إلا أنه قد يكون الأقرب إلى سياق الآية كون المقصود من الطفل هنا هو الصبي قبل قدرته على التمييز، لا قبل بلوغه، بناءً على القول بأن معنى {لَمْ يَظْهَرُوا} إنما هو عدم القدرة على تمييز العورة، وهو أحد المعنيين اللذين أشار إليهما الزمخشري في «الكشاف» ـ كما تقدم ـ دون أن يرجِّح أحدهما.
وبالعودة إلى القول الذي ذهب إلى أن {لَمْ يَظْهَرُوا} كناية عن عدم الطاقة على النكاح فإن تعبيرَ بعض المفسِّرين الذين تبنوا هذا الرأي بأن المعنى هنا كناية عن البلوغ([47]) غيرُ دقيق؛ وذلك أن البلوغ قد يتحقق قبل تحقق القدرة على النكاح، حيث إن علامات البلوغ تتعدى الاحتلام عرفاً وشرعاً. ومن هنا نرى أنه كان من الأصح التعبير ببلوغ الحلم، أو بغيرها من العبائر التي تفيد هذا المعنى. ولعله من هذا الباب أورد صاحب «مسالك الأفهام في تفسير آيات الأحكام»([48]) احتمال كون المقصود من البلوغ هنا ما يشمل المراهقة، حيث قال: «لعل المراد بأوان القدرة البلوغ إلى حد المراهقة، فلو كان مراهقاً لم يجُزْ له النظر إلى محل الزينة، كغيره؛ إذ هو في حكم البالغ»([49]).
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}: قال في الكشاف: «كانت المرأة تضرب برجلها؛ ليقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل: كانت تضرب إحدى رجليها بالأخرى؛ ليعلم أنها ذات خلخالين»([50]). وجاء النهي عن هذه الحالة واضحاً لا يحتمل الشك، مما لم يترك أي مجال للاختلاف بين المفسرين. إنما هناك من رتَّب على هذا الحكم أحكاماً أخرى، كما في التفسير الكبير للفخر الرازي، حيث قال: «وفي الآية فوائد: الفائدة الأولى: لما نهى عن إسماع الصوت الدال على وجود الزينة، فإنه يدل على أن المنع من الإظهار أولى.
الفائدة الثانية: إن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام حيث يسمع ذلك الأجانب؛ إذ إن صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كرهوا أذان النساء؛ لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عن ذلك.
الفائدة الثالثة: تدل الآية على حظر النظر إلى وجهها بشهوة؛ إذ إن ذلك أقرب إلى الفتنة»([51]).
وذهب الشيخ الطوسي إلى أنه لا يجوز إظهار الخلخال([52]).
أما صاحب «الميزان» فقد عدّى الحكم ليشمل بقية أنواع الزينة، كالعقد والقرط والسوار، ولم يقصره على الخلخال([53]).
ومن الواضح أن رفع خصوصية الزينة التي توضع في رجل المرأة هو ما ذهب إليه أكثر المفسرين، لتشمل موارد أخرى تلفت الرجل وتثيره. ولا يمكن حصرها بما ذكر، بل يجب تعميمها إلى كل ما يلفت الرجل في المرأة، والأصح أن يقال: كل ما تلفت به المرأة الرجل دون تخصيص.
{وَتُوبُوا إلى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: في «كنز العرفان»: «قوله: توبوا، أي عن إبداء الزينة»([54]).
وفي «الميزان»: «المراد بالتوبة ـ على ما يعطيه السياق ـ الرجوع إلى الله تعالى، بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، وبالجملة اتباع سبيله»([55]).
وهو الأقرب إلى سياق الآية، كما أشار؛ حيث إنه من الغريب الذهاب إلى حصر التوبة فقط عن إبداء الزينة؛ لأنها: أولاً: تخصيص بدون مخصِّص يساعد عليه، لا في المعنى، ولا في السياق.
وثانياً: إننا لو ذهبنا إلى هذا المعنى كان يجب أن تقول الآية: أيتها المؤمنات، لا أن تقول: أيها المؤمنون؛ حيث إن المخاطب في عدم إبداء الزينة النساء دون الرجال في هذه الآية، مما لا يدع مجالاً أصلاً للقول بالتخصيص بالتوبة عن إبداء الزينة.
لقد أخذتُ على عاتقي في هذه الدراسة الوصول إلى مفهوم قرآني لمسألة الحجاب، ولذلك سوف يكون العمدة فيها الالتزام بما يقدِّمه القرآن حول المسألة، دون تناول الأحاديث والروايات التي أشارت إلى أحكام أو إلى تفسير بعض الآيات التي نحن بصددها في هذه الدراسة، إلا أن هذا لا يمنع استعراض بعض هذه الروايات في طيات البحث؛ كونها تساعد في بعض الأحيان على إبراز الآراء التي ذهب إليها بعض المفسرين والفقهاء استناداً إليها.
إن الآية التي نحن بصددها الآن ـ آية الزينة ـ تعد عند معظم الفقهاء والمفسرين عمدة الأدلة التي يمكن الاستناد إليها في مسألة وجوب الستر أو الحجاب. فقد تعرضت الآية في مطلعها إلى وجوب غض البصر على النساء ـ وسبقتها الآية 30 إلى وجوب غض البصر على الرجال ـ كمقدمة للكلام حول وجوب الستر؛ وذلك للارتباط الوثيق بين الأمرين، وللعلاقة التكاملية بين موضوع النظر وموضوع الستر؛ فإن غض النظر هو أحد الغايات المنشودة والمقاصد المرجوة لأصل تشريع الحجاب.
ومن هنا نرى أن الوسيلة الأكمل للدخول إلى تشريع وجوب الستر إنما كانت عبر تقديمها بوجوب غض النظر بالنحو الذي بيّنّاه عند استعراض الآية. وبالنسبة إلى التعقيب بحفظ الفرج فالكلام هو الكلام أيضاً. وبعد هذا التميهد تدخل الآية لبيان تفاصيل مسألة الستر عبر الأمر بإخفاء الزينة عن الناظر، باستثناء ما ظهر منها، وقد ظهر لدينا أن المستثنى من الزينة هو الوجه والكفين؛ بناءً على أن معنى الزينة أعم من الزينة والبدن؛ ولما ذهب اليه السيد الحكيم في المستمسك.
أما كيفية ستر الزينة فقد اعتمدت الآية الكريمة على ما كان متعارفاً عند العرب في ذلك الزمان من لباس وزي عند النساء، واقتصر على إدخال تعديل عليه، وذلك بقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}. فكان في الآية تأكيد على إبقاء الخمار على الرأس، ولكن مع تعديل بسيط، وهو إسداله من الأمام، بدل ما كان متعارفاً عندهم من إسداله إلى الوراء؛ وذلك لغرض ستر الصدر والرقبة وما يمكن أن يظهر من خلال الجيب، والذي هو ـ كما أشرنا ـ ياقة القميص أو الثوب.
بقي هنا مسألة ظاهر القدمين، فهل يشملها حكم الستر أم لا؟ الأقرب دخولهما في عموم {إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، من دون أي تساهل في ما فوق ذلك؛ لأننا تيقنّا من وجوب ستر مواضع الزينة من القدمين، وما يقارب الكعبين، من خلال قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، حيث اعتبر إخفاء زينة القدمين أمراً مسلماً، وزاد عليه حرمة الضرب بالرجلين حتى لا يسمع صوت الزينة، التي غالباً ما تكون الخلخال الذي يكون عادة في أسفل الساق.
وبعد بيان كيفية الستر، التي شملت إلى هنا كل ناظر كائناً من كان، بدا جلياً ضرورة بيان من لا يشملهم هذا الحكم، فجاءت الآية لكي تستثني مجموعة من الاشخاص المحارم وغيرهم. وقد تقدم الكلام بشكل مفصّل حول هؤلاء المستثنين في معرض شرح الآية. وقد لاحظنا أن الآية الكريمة قد خلت من ذكر ثلاثة من المحارم الذين أطبق المسلمون كافة على أنهم من المحارم، وأنهم مستثنون من هذا الحكم، وهم: العم والخال والصهر. وقد أفردنا هذه المسألة ببحث خاص يأتي في ما بعد. ويبقى أن نشير هنا إلى أنّ من المستثنين من هذا الحكم {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ}. وطبقاً لما التزمنا به أولاً من البقاء في حدود النص القرآني ودلالاته فإن الآية تُدخل العبد الذكر البالغ في الاستثناءات المذكورة. وسوف نعرض للموضوع في آيات أخرى تؤيد ما دلت عليه هذه الآية في عمومها.
وأما قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} فقد جاء ليحدِّد ضابطة عامة تفيد حرمة كل ما يمكن أن تلفت به المرأة الرجل من لبس مثير، وإن كان ساتراً لكل البدن، أو كان زينة مثيرةً، كالمساحيق التي تستعملها النساء للتجميل «الماكياج»، أو حتى العطور المثيرة، الأمر الذي يسدّ الذريعة أمام أية ثغرة يمكن أن تكون سبباً في خدش صورة الحجاب في مفهومه القرآني.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59).
قال الزمخشري: الجلباب ثوب واسع، أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل([56]). وفي مجمع البيان: هي الملاءة التي تشتمل بها المرأة([57]).
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}: أولاً: الخطاب موجَّه إلى جميع نساء المسلمين، بما في ذلك زوجات وبنات النبي. وثانياً: الجلباب كما تقدم مختلف في تحديده بشكل دقيق، إلا أنه ـ كما هو الملاحظ في الأقوال المنقولة ـ ليس هناك اختلاف جذري وأساسي في معنى الجلباب، ويمكننا أن نتوصل إلى معنى مشترك بين هذه المعاني، وهو أنه رداء أوسع من الخمار، وأدنى من الرداء، تغطي به المرأة صدرها ورأسها، كما عن الزمخشري والفراهيدي في ترتيب كتاب العين([58]).
ولعل الاختلاف في معنى الجلباب لن يكون عائقاً في إدراك المقصود من قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}، فـ «من» للتبعيض، والتبعيض يحتمل هنا معنيين: الأول: هو بعض جلابيبهن، كما لو كان لها جلبابان أو أكثر؛ والثاني، وهو الأصح: أن تُرخي بعض جلبابها الذي تضعه على رأسها، بحيث يسمح لها أن تتقنع به، وبالتالي تعرف بأنها حرة وليست بأمة([59]).
وأما كيفية إدناء الجلباب فقد اختُلف في تفسيرها؛ فذهب صاحب مجمع البيان إلى أن معناه أن تستر موضع الجيب بالجلباب([60])، ومثله في الميزان([61]).
وذهب في الكشاف إلى القول: إن معنى ذلك هو أن يرخين الجلابيب ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، ولذلك يُقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك([62]). والأقرب أن يقال هنا: إن المقصود من إدناء الثوب هو المبالغة في التستر، بحيث تقرب الجلباب إلى وجهها؛ لتستر جزءاً منه، وتلفّ نفسها به([63]).
{ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}: إن هذه الطريقة في التجلبب هي الطريقة الأسلم والأوضح لكي يعرف الناظر أن المرأة حرة وليست أمة مثلاً، أو أنها عفيفة وليست مبتذلة. وبالتالي لا يمكن للناظر أن يؤذيها؛ لأنه لا يمكن له أن يدّعي أنه ظنها أمة، فالإماء لا يتجلببن. وهذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين([64]). إلا أن صاحب «الميزان» ضعَّفه بقوله: «قيل»، وقوّى احتمال أن ستر جميع البدن أقرب إلى أن يعرفن أنهن من أهل الستر والصلاح فلا يؤذين، أي لا يؤذيهنّ أهل الفسق بالتعرض لهن([65]).
{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه المغفرة والرحمة مع التوبة والعمل الصالح.
نلاحظ ان الآية الكريمة التي نحن بصددها هنا قد أوردت حكماً مشروطاً بحالة خاصة، وهي حالة الخوف من الأذية؛ لأن الآية الكريمة علقت حكم إدناء الجلباب ـ وهو إحكام الستر ليغطي شيئاً من الوجه وبقية البدن ـ على أن يعرفن، والمعرفة هنا أيضاً متعلِّقة بالأذية، أي المعرفة التي تبعد الأذية للمرأة، لا مطلق المعرفة.
إن هذا التعليق في الآية الكريمة يؤدي إلى الالتزام بمضمون الحكم في حالة خاصة، لا في جميع الحالات، وهي الحالة التي يمكن أن تؤدي إلى أذية المرأة، وأما إذا كانت معرفة المرأة وعدم معرفتها سيّان من ناحية عدم الأذية يكون موضوع الحكم منتفياً، ولا يعود هناك من مبرّر لإحكام الستر بتغطية الوجه أو شيء منه.
ومن الواضح أن مسألة الأذية في هذا الموضوع تختلف من مجتمع إلى آخر. فقد نجد بعض المجتمعات الضيقة ترى سفور الوجه مثلاً أمراً مشيناً للمرأة، مما يجعلها عرضة للسخرية والأذية، كما هو الحال في بعض مناطق الجزيرة العربية، وفي المقابل نرى أن هذا الأمر نفسه ـ أي تغطية الوجه ـ هو أمر محل استهزاء واستغراب في بعض المناطق والمجتمعات الأخرى.
ومن هنا نرى بأن الحكم المتضمن في الآية مختص بالقسم الأول من المجتمعات، دون القسم الثاني. وهو أمرٌ منطقيٌّ جداً، وينسجم تماماً مع الحكمة التي من أجلها شرع الحجاب، وهي الحفاظ على المرأة في المجتمع، المرتبط تماماً بالحفاظ على نفس المجتمع، أو بمعنى آخر الذي يؤدي إلى الحفاظ على كامل المجتمع.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور: 60).
القواعد جمع قاعد، كالحائض والطالق.
والقاعد من النساء هي التي قعدت عن الحيض والولد؛ لكبر سنها. واللاتي لا يرجون نكاحاً أي اللاتي لا يطمعن فيه([66]). وفي «التبيان» و«مجمع البيان»: اللاتي لا يطمع في تزويجهن ولا في جماعهنّ؛ لكبرهن([67]). والرأي الأول أقرب؛ حيث نسبت الآية عدم رجاء النكاح إلى نفس النساء، لا إلى من ينظر إليهن، مما يعني أن المقصود أن نفس هؤلاء النساء لا يطمعن في النكاح. والمراد من الثياب هنا هو الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار([68]).
وقوله: {أَن يَضَعْنَ} أي أن يضعنها جانباً، بمعنى أن لا يلبسنها. ولكن هذا الوضع لم يأتِ مطلقاً، بل جاء بشرط أن يكنّ {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ}، أي غير قاصدات بوضعهن ثيابهن إظهار الزينة التي أمر الله بإخفائها، بل مجرد التخفيف عن أنفسهن. فإظهار الزينة في القواعد وغيرهن محظورٌ([69]).
هذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين من معنى الثياب ووضعها، إلا أننا نرى أنه لا شك في أنه ليس المقصود من قوله تعالى: {يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} جميع الثياب، وإن كان هو الظاهر من اللفظ؛ لأن القيد الذي أوردته الآية، وهو {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ}، صرف اللفظ عن ظاهره، فما المقصود إذاً بالثياب؟
إن تقييد أكثر المفسرين الثياب بالجلباب الذي فوق الخمار لا دليل عليه من نفس الآية. وهو لا يصح إلا بناءً على ورود روايات يمكن الاعتماد عليها في الموضوع. أما لو بقينا نحن والآية الكريمة فإنه من الأقرب والأنسب حمل الثياب على تلك التي تلبسها النساء عند الخروج من المنزل، فهي التي يمكن لها أن تضعها، وأن تضع منها ما لا يوصلها إلى حد التبرُّج، من دون تحديد أو تقييد. فالضابطة الأساسية في هذه الآية هي عدم الوصول إلى حدّ التبرج. وما ذكره المفسِّرون من وضع الجلباب هو محل كلام؛ لأنه لم يثبت في الأصل وجوب ارتداء الجلباب حتى نقول: إن القاعدة من النساء معذورة في وضعه.
وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارج، أي لا غطاء عليها. والتبرُّج أيضاً سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء. إلا أنه تعالى خصّه بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال([70]). وقال الشيخ في «التبيان»: التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره([71]).
{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، أي وأن يستعففن عن وضع الثياب يكون خيراً لهن من وضعه؛ لأنه أبعد للتهمة؛ لما فيه من زيادة في التعفف والستر. وفي «الكشاف»: لما ذكر الجايز ـ وهو وضع الثياب ـ عقَّبه بالمستحب ـ وهو التعفف عن الوضع ـ؛ بعثاً منه على اختيار أفضل الطاعات وأحسنها، كقوله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}([72]).
وبمقتضى ما تقدم نخلص إلى أن القواعد من النساء يباح لهن وضع ثيابهن الظاهرة، دون إظهار مواضع الزينة المحرمة بشكل متبرج، مما يعني أن الله تعالى خصّ هذه الفئة من النساء بالتخفيف عليهن من أصل الحكم بوجوب الستر وكيفيته.
والرخصة التي أعطيت هنا للقواعد تفرض حدوداً أوسع مما عند بقية النساء. فمَنْ قال: إن أدلة الستر في الآية السابقة تدل على وجوب تغطية الوجه والكفين فإنه يكفيه هنا أن يقول بأنَّ الرخصة للقواعد إنما هي كشف الوجه والكفين، وأما من التزم هناك ـ وهو مذهبنا ـ بأنه لا يجب ستر الوجه والكفين فلا بد من الالتزام هنا بأن الرخصة تتعدى الوجه والكفين عند القواعد، لتشمل شيئاً من مواضع الزينة، كالأساور والأقراط وغيرها، ولكن بشرط عدم التبرج.
بعد بيان حكم الحجاب لعموم النساء في الآية السابقة ـ آية الزينة ـ جاءت الآية الكريمة لتخفيف الحكم على قسم من النساء، وهنّ القواعد من النساء، أي من جاوزت منهن سنّ الحيض والزواج، وهن النساء اللاتي بلغن من الكبر حداً لا يُطمع بهنّ من جهة الزواج، ولا هن يطمعن أيضاً بالزواج.
والحكم الذي استنتجناه من الآية هو أن هؤلاء النساء بإمكانهن التسامح في مسألة الستر ضمن ضوابط وحدود، وذلك بأن يضعن ثيابهن أمام الأجنبي دون قصد التبرج. وقد ذهبنا في معنى الثياب الذي ورد في الآية إلى خلاف ما ذهب اليه أكثر الفقهاء والمفسِّرين، وهو أن المقصود منها هو ما تلبسه المرأة عادةً عند خروجها من المنزل. وأما بالنسبة إلى وضع الثياب فقد جعلت الآية ضابطة له، وهو كل ما دون التبرج، وبالتالي يمكن أن نقول: إن الآية تبيح للمرأة الكبيرة أن تضع من ثيابها ما لا يتعدى حد التبرج. إلا أن ذيل الآية يعود ويؤكِّد أن عدم وضع الثياب أفضل وأقرب إلى العفة من وضعها.
وأما ما ذهب إليه معظم المفسِّرين فهو إما أنه ينضوي تحت هذه الضابطة؛ وإما أنه اعتمد على روايات تحدد معنى الثياب في الآية. وهنا يجب أن ننبه مرة أخرى إلى أننا في هذه الدراسة بصدد استظهار ما جاء في القرآن الكريم من حكم، بعيداً عن أي شيء خارج عن هذا الإطار من روايات وغيرها، وإن كنا نرى أن هذه الأحكام يمكن تخصيصها ضمن ضوابط جاءت في كتب الأصول والفقه وغيرها. وبالتالي فإن الأحكام التي نتوصل إليها تبقى خاضعة لهذه الموازين، ولا تعبر عن رأي نهائي في هذا الموضوع ما لم تتمَّم ببحث فقهيٍّ يدرسها من جميع جوانبها.
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 32 ـ 33).
إن انتساب زوجات النبي إليه ووجودهن في منزل الوحي والرسالة قد منحهن موقعاً خاصاً، بحيث تقدرن على أن تكنّ نموذجاً وقدوة لكل النساء، سواء كان ذلك من جهة التقوى أم من جهة المعصية والضلال. ومن هنا ينبغي عليهن إدراك موقعهنّ، وتفهم مسؤولياتهن الملقاة على عاتقهن. هذه هي الأمور التي جعلت نساء النبي مختلفات عن بقية النساء.
لكن السؤال المطروح هنا هو: هل يمكن تعميم الأحكام الموجَّهة إلى نساء النبي إلى بقية النساء؟
للإجابة عن هذا السؤال، الذي ذهب بعض المفسرين السلفيين إلى الإجابة عنه بالإيجاب([73])، لابد لنا من عرض تفسير الآية، ثم إيراد عدد من النقاط التي تسلط الضوء على الإجابة الوافية.
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}: الخطاب في الآية موجَّه إلى زوجات النبي؛ ذلك أنهن لسن كغيرهنّ من النساء. أما مضمون هذا الخطاب والتمييز: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}، أي إن أردتنّ التقوى وإن كنتن متقيات {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}. قال في «الكشاف»: لا تجبن بقولكنّ خاضعاً، أي ليناً خنثاً مثل كلام المريبات والمومسات([74])، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، أي ريبة وفجور، وليس هناك أبلغ من وصف هذه الريبة بالمرض.
{وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}: فبعد أن أشار تعالى إلى طريقة التحدث بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} جاء هنا ليبين مضمون الحديث بأن يكون قولاً معروفاً، أي حسناً، بعيداً عن الريبة والطمع.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: قرن بفتح القاف، وأصلها اقرَرْن حذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، أي الزمنَ بيوتكنّ.
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}: التبرُّج يعني الظهور أمام الناس بشكل ملفت، وهو مأخوذ من مادة برج، أي الذي يبدو ويظهر. لكن ما هو المقصود بالجاهلية الأولى؟ قال البعض: إنها الجاهلية التي كانت زمن إبراهيم ×، والجاهلية الثانية هي جاهلية الإسلام([75])؛ وقيل: إنها الجاهلية التي كانت عند العرب قبل الإسلام، عندما كانت النساء فيها غير محجبات ومتسترات، بحيث تبين صدورهن ونحورهن([76]).
والظاهر انها أعم مما ذكر، فتشمل كل زمان لم يكن فيه حشمة وتستُّر. وأما قوله: الأولى فإنه إشارة إلى أن جاهلية أخرى سوف تأتي. ونحن نرى آثارها في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين.
بعد توضيح الآية نأتي للإجابة عن السؤال الذي طرحناه في أول البحث حول اختصاص هذه الآية بنساء النبي، وهنا نقاط:
الأولى: لو كان الخطاب في الآية موجَّهاً لجميع نساء المسلمين فلماذا صدّر الآية بخطابه لنساء النبي دون سواهنّ من النساء، مع العلم أن غيرها من الآيات لم يقتصر عليهن، كما في قوله تعالى: {قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}، وهو مورد يشبه كثيراً المورد الذي نحن فيه؟
الثانية: إن قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} هو نصٌّ في استبعاد غيرهن عن الخطاب، فكيف يمكن الجمع بينها وبين شمول بقية النساء؟ فهو خطاب يميِّزهن عن غيرهن من النساء باعتبار أنهن زوجات النبي، وأمهات المؤمنين، ومحرَّمات على جميع المسلمين بعد النبي، إلى ما هنالك من مميِّزات لهن، مما يجعل الآية آبية عن شمول غيرهن من النساء.
الثالثة: إن الالتزام بعموم الخطاب في الآية سوف يؤدي بنا إلى عسر وحرج شديدين في المجتمع الإسلامي؛ وذلك عبر إيجاب ملازمة البيوت على جميع نساء المسلمين من دون استثناء. وبتعبير آخر: حجب نصف المسلمين عن مجتمعهم وإغلاق الأبواب عليه. وهو أمرٌ غيرُ معقولٍ، ومنافٍ لحكم التشريع الذي جاء لينصف المرأة في مجتمعها، لا ليحجبها عنه.
الرابعة: مما يساعد على كون الخطاب خاصاً بنساء النبي دون غيرهن علمنا بأن الله تعالى شرع لنساء النبي أحكاماً خاصة تجعلهن مميَّزات عن باقي النساء. ومن هذه التشريعات ما هو امتيازات، كجعلهن أمهات المسلمين، ومنها ما هو تكاليف زائدة ألزمن بها لمجرَّد كونهن زوجات النبي، كالتقشف في العيش، وترك زينة الدنيا التي يمكن أن يكون بعضها مباحاً لبقية النساء، قال تعالى: {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}([77]). بل حتى أنهن تميزن عن بقية النساء بالثواب والعقاب، قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ}. ثم قال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} (الأحزاب: 30 ـ 31).
إن حمل الآية على غير نساء النبي، أي على بقية نساء المسلمين، لا مؤيِّد له على الإطلاق، إلا أن يقال: إن بقية نساء المسلمين لهنّ كامل الحرية في الالتزام بما ألزمت به زوجات النبي، فإن هذا أمر معقول، بل هو محبَّب في بعض الأحيان؛ لأن الآية تخاطب زوجات النبي على أنهن يجب أن يكنّ قدوة لبقية نساء المسلمين، واقتداء بقية النساء بهن لا على نحو الإلزام، إنما على نحو الإباحة.
حجاب نساء النبي، خلاصة واستنتاج
كان لابد لنا من بحث الآيات التي تعرضت لنساء النبي من جهة الحجاب والستر؛ وذلك للبحث حول إمكانية تعميم الخطاب في تلك الآيات ليشمل النساء جميعاً، أو عدم إمكانية ذلك فيبقى الخطاب خاصاً بنساء النبي دون غيرهنّ من النساء.
ومن هنا قمنا باستعراض الآيات التي خاطبت نساء النبي، وبيان اختصاص هذه الآيات بهن دون غيرهن، مما يجعل الأحكام المتضمنة فيها قاصرة عن أن تطال بقية النساء. إلا أننا أوضحنا أيضاً أن هذا الاختصاص لا يمنع أية امرأة أخرى من أن تلزم نفسها بهذه الأحكام من باب الاستحباب والسعي نحو التشبه بما رسمه القرآن الكريم من سلوك وسيرة لنساء النبي.
وأما الأحكام الخاصة بزوجات النبي فهي:
أولاً: الاحتجاب عن الرجال، وذلك بوضع حجاب بينهن وبين أيّ رجل يخاطبهن إذا كان أجنبياً، حيث استثنت الآية التي تلتها المحارم والنساء والعبيد، وهذا الحكم معطوف في الآية نفسها بحرمة زواجهن بعد النبي، مما يؤكد اختصاصها بهنّ.
ثانياً: عدم الخضوع بالقول، أي يجب عليهن إذا تكلَّمن مع الرجال أن يتكلَّمن بصوت خشن أو ميّال إلى الخشونة. كما يجب أن لا يتعدّى قولهن المعروف.
ثالثاً: ملازمة بيوتهن، فلا يخرجن منها لأي أمر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً * إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (الأحزاب: 53 ـ 55).
جاء في «مجمع البيان»: نزلت آية الحجاب لما بنى رسول الله بزينب بنت جحش وأولم عليها، قال أنس: … فأمرني رسول الله أن أدعو أصحابه إلى طعام، فدعوتهم، فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثم يجيء القوم فيأكلون ويخرجون، قلت: يا نبي الله، قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقال: «ارفعوا طعامكم»، فرفعوا طعامهم، وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام، وقمت معه؛ لكي يخرجوا، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة، ثم ظنّ أنهم قد خرجوا، فرجع، ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فنزلت الآية.
وروى مثل ذلك سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقيل: كان رسول الله‘ يطعم، ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، وكانت معهم، فكره‘ ذلك، فنزلت الآية([78]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}: غير ناظرين إناه أي غير منتظرين إدراك الطعام أو نضجه([79]).
وفي الآية نهي للمؤمنين عن دخول بيوت النبي بغير إذن، فلا يجوز دخول المؤمن بيت النبي، والجلوس بانتظار الطعام الذي قد يطول نضوجه، إلا بإذن من صاحب البيت.
وقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ} منصوب على الحال، والعامل فيه ـ على ما ذكره الزمخشري ـ {لا تَدْخُلُوا}. قال: وتقديره: لا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين([80]).
وأضاف الزمخشري: ومعناه: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحيِّنون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي‘ إلا أن يؤذن له بإذن خاص، وهو الإذن إلى الطعام فحسب([81]).
{وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}: تنص الآية هنا على آداب التعاطي مع بيت النبي في حالة الإذن بالدخول. فإذا دخل المؤمن عليه أن لا يطيل جلوسه، سواءٌ دعي إلى طعام أم لم يُدْعَ، فإذا دعي إلى طعام عليه أن لا يمكث بعده، فبمجرد أن يُطعم ينبغي عليه الخروج، لا أن يبقى جالساً مستأنساً بالحديث والسمر.
وقوله تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ}: قال بعضهم: إنها عطف على {غَيْرَ نَاظِرِينَ}؛ وقيل: إنها منصوبة على {فَلا تَدْخُلُوهَا … مُسْتَأْنِسِينَ}. فعلى الأول يكون المعنى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم غير ناظرين ولا مستأنسين، وأما على الثاني فيكون المعنى: لا تدخلوها إلا أن يؤذن لكم، ولا تدخلوها مستأنسين أي بدون إذن([82]).
وذهب العلامة إلى الأول([83])، وأما الطوسي في التبيان([84]) والطبرسي في مجمع البيان([85]) فقد ذهبا إلى أن المقصود من قوله تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} هو جلوسهم بعد الطعام مستأنسين بالحديث.
وعلى أي معنى من المعاني المذكورة ـ والتي هي على جميع الأحوال وصف لحالات متشابهة كانت تحدث مع النبي‘، وكان يتأذى منها، دون أن يعترض عليها لحيائه‘ ـ أراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل الآية لتنبيه المؤمنين على أن هذا العمل فيه أذية للنبي‘. ولعل بإمكاننا تعدية هذه الحالة إلى بقية البيوت؛ باعتبار أن ما يؤذي النبي قد يؤذي أي شخص آخر، والأذية قد نهي عنها بالنسبة إلى جميع الناس، وليس النبي فقط.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.
المتاع هو الحاجة من الأشياء. والمخاطب في هذه الآية لا يقتصر على من هم في البيت من ضيوف أو زوّار، وإنما يتعدى ليشمل كل من كان له حاجة من بيت النبي، سواء كان داخل البيت أو قادماً من الخارج، وخصوصاً أنه كان متعارفاً بين العرب وغيرهم أنهم إذا احتاجوا شيئاً من لوازم الحياة ووسائلها فإنهم يستعيرونها من جيرانهم بشكل مؤقَّت، ولم يكن بيت النبي مستثنى من هذه العادات، بل كان الجيران يأتون إليه في أوقات مختلفة، ويستعيرون من نسائه أشياء يحتاجونها.
ومن الواضح أن هذا المقطع من الآية هو الذي يرتبط ببحثنا؛ ذلك أن الحكم في الآية صريح بعدم جواز التكلم مع نساء النبي إلا من وراء حجاب، والحجاب هنا في الآية هو ستار عازل، وليس اللباس.
إلا أن السؤال الذي يطرح هنا هو: هل أن الحكم الوارد في الآية مختص بنساء النبي دون غيرهن من النساء، أم أنه يشمل جميع النساء، وذُكرت نساء النبي من باب المثال؟
الإجابة عن هذا السؤال تستدعي بحث الموضوع من عدة جوانب. لذلك سوف نفرد له بحثاً خاصاً في ما يأتي.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً * إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}: ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال: «ننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوَّجنَّ عائشة، فأعلم الله أن ذلك حرام»([86]).
وفي تفسير الميزان قال: في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمّنا ويتزوَّج نساءنا من بعدنا، لئن حدث به حدث لنتزوَّجن نساءه من بعده، فنزلت الآية([87]).
ومن الواضح أن هذا الحكم المتضمن في الآية الكريمة مختص بزوجات النبي دون غيرهن من النساء؛ وذلك تعظيماً لنفس النبي، حيث اعتبر الله نكاح زوجات النبي بعده أمراً عظيماً عنده سبحانه وتعالى، وهو من تعظيم الله سبحانه لرسوله‘، وإيجاب حرمته حياً وميتاً.
ولعل ما ظهر لنا مما تقدم من أسباب نزول الآية الكريمة من نية بعض الأشخاص النيل من النبي بعد وفاته بنكاح زوجاته يوضح لنا ما جاء في قوله تعالى: {إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}: بعد أن فرض الله الحجاب على نساء النبي‘كان لا بد من أن يستثني المحارم من هذا الحكم، حتى لا يبقى على إطلاقه، مما يوجب عليهنّ العسر الشديد. وسياق هذه الآية ومضمونها يتشابه مع ما تقدم من آية الزينة. لذلك ليس هناك أي داع لإعادة ما تقدَّم في آية النور.
ويبقى أن نشير هنا إلى أن ورود الاستثناء هنا بعد أن كان قد ورد في آية الزينة يؤكِّد أن الأحكام هنا خاصة بنساء النبي‘، دون غيرهن من النساء، وخصوصاً أننا نلاحظ أن الآية الكريمة هنا لم تذكر بعض الذين ذكرتهم تلك الآية، كالتابعين غير أولي الإربة من الرجال مثلاً، الأمر الذي يجعل نساء النبي غير مشمولات لذلك الحكم بإطلاقه، ويقتصرن في الاستثناءات على من ورد في هذه الآية.
في هذا القسم استعرضنا الآيات التي تناولت حكم الحجاب من زوايا متعددة: من زاوية أصل الحكم؛ ومن زاوية الاستثناءات لهذا الحكم ومقدماته وبعض تفاصيله. وقد اعتمدنا في قراءتنا لهذه الآيات وتفسيرها على ما التزمنا به من منهج يقتصر على اللغة والقرآن. ويمكن لنا أن نلخص ما توصلنا إليه في هذا القسم ضمن النقاط التالية:
1ـ إن آية الزينة تتضمن حكماً واضحاً حول وجوب الحجاب وكيفيته.
2ـ آية الزينة تتضمنت أيضاً تحديد دائرة الأفراد الذين أعفيت المرأة من الستر أمامهم.
3ـ هناك بعض الآيات، كآية (الاستئذان)، نصّت على إضفاء حالة من الحشمة والعفاف حتى في داخل البيت الواحد.
4ـ في آية الحجاب توصلنا إلى أن حالة الحجاب التي وردت في الآية، وهي وضع حاجز يحجب المتكلم، خاصة بنساء النبي‘، ولا يمكن تعميمها إلى بقية نساء المسلمين.
5ـ في آية الجلباب تعرضنا لكيفية إرخاء وإدناء الحجاب، وظروف هذا الإدناء.
6ـ استعرضنا آية القواعد من النساء التي توضَّح من خلالها تخفيف حكم الحجاب على النساء اللواتي أصبحن في سنٍّ متقدِّمة.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أستاذ وباحث في الحوزة العلمية، من لبنان.
([10]) مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 3 ـ 4: 266.
([12]) مستمسك العروة الوثقى 14: 29.
([16]) التفسير الكبير 23: 203.
([19]) التفسير الكبير 23: 205 ـ 206.
([21]) مسالك الأفهام 3 ـ 4: 270.
([23]) التبيان 7: 429؛ مجمع البيان 7: 191.
([24]) التبيان 7: 429؛ مجمع البيان 7: 191.
([33]) الكشاف 4: 291؛ الميزان 15: 115؛ التفسير الكبير 23: 206.
([34]) موسوعة الألفاظ القرآنية: 157.
([35]) مفردات الراغب الإصفهاني: 135.
([36]) التفسير الكبير 23: 206؛ مجمع البيان 7: 193.
([37]) ذكره العلامة الحويزي في تفسير نور الثقلين نقلاً عن من لا يحضره الفقيه 8: 593.
([38]) التفسير الكبير 27: 208.
([39]) مجمع البيان 7: 193؛ التبيان 7: 429؛ الميزان 15: 112.
([40]) التفسير الكبير 27: 208.
([41]) التفسير الكبير 23: 209.
([44]) التفسير الكبير 23: 208.
([46]) التفسير الكبير 23: 209؛ الميزان 15: 112؛ مجمع البيان 7: 193 وغيرها.
([51]) التفسير الكبير 23: 209 ـ 210.
([58]) ترتيب كتاب العين للفراهيدي 1: 303.
([63]) مجمع البيان 8: 139؛ الكشاف 5: 98؛ التبيان 8: 361، وغيرها.
([64]) مجمع البيان 8: 139؛ الكشاف 5: 98، وغيرها.
([67]) مجمع البيان 7: 215؛ التبيان 7: 461.
([68]) الكشاف 4: 322؛ مجمع البيان 7: 215.
([73]) أوضاع المرأة في القرآن الكريم: 387.