لموقع الحوار المتمدن-العدد: 3926 – 2012م، بتاريخ: 29 ـ 11 ـ 2012م.
س1: سيدي الكريم هل يمكننا الدخول في ثورة معرفية وثقافية بعد ثورتنا السياسية لتحقيق حداثة دينية؟
حب الله: يؤسفني أن أبدوَ في المرحلة الراهنة متشائماً على هذا الصعيد؛ لأنّ مسيرة الفكر الديني تتّجه نحو مزيد من الانغلاق والتقوقع، وهناك عدّة أسباب، منها دخولنا في نفق الأزمة الطائفيّة في المنطقة، وهو نفق من شأنه أن يخلق أزمة هويّة، وأزمات الهويّة عادةً ـ في ظلّ واقع داخلي متشنّج مثل هذا ـ تسعى لتحييد عملية النقد الداخلي أو البناء الجديد؛ لأنّها تعتبر ذلك حرجاً في هذه المرحلة. ولعلّ الأمر الأخطر الذي تقع بينه وبين أزمة الهويّة علاقة جدليّة هو ظهور التيارات السلفية وإمساكها بمفاصل الأمور، وهي تيارات تصوّب سلاحها القاتل عادةً إلى العقل وحريّته التي تراها معاداةً للنصّ الديني، كما تصوّب سلاحها إلى النقد والتجديد؛ لأنّهما يمثلان عندها ابتداعاً في الدين لا إبداعاً فيه.
وثمّة شيء آخر مهم أيضاً، وهو إمساك المزيد من الحركات الإسلاميّة بالسلطة، هذا الأمر هو سيف ذو حدّين، فمن جهة يمكن أن يعبّر عن فرصة تاريخية لعودة الإسلام إلى الحياة بثوب جديد وصقل النظرية الإسلامية بالتجربة لإنتاج صياغة حضارية جديدة للإسلام ومضمونه السامي، لكنّه من جهة ثانية قد يضعنا أمام مشاكل خطيرة؛ لأنّ العلاقة بين الحركة الإسلامية والسلطة لم تتضح حتى الآن في النظرية الاجتهادية عند الإسلاميين أنفسهم، أو فلنقل بأنّها ما تزال ملتبسة، فهناك تيار يرجّح السلطة على الدعوة، وهو يشبه تيارات في الداخل الشيعي سبق أن تبلورت وفقاً لمنطق براغماتي صار يُتهم اليوم بأنّه ضيّع العقيدة والدين في سبيل السياسة ومصالحها، وهناك تيار لا يعيش هذه النزعة لكنّه لا يملك تصوّراً عن مشروع سلطوي منظّر له. إنّ أخطر شيء في إمساك الإسلاميين بالسلطة هو الصورة التي يحملونها عن الإسلام، فإذا لم تكن هذه الصورة صحيحة أو قابلة للصقل بالتجربة أو وفق دينامية داخليّة نشطة باستمرار، دون تخطٍّ للمعايير الدينية العليا، فهذا معناه في نهاية المطاف تصادماً بين الدين والحياة. إنّ إمساك الفقه الإسلامي بالسلطة ليس مسألة بسيطة، إنّها مسألة بالغة التعقيد، فكثيرون كانوا ـ وبعضهم ما يزال ـ يتصوّرون أنّ أسلمة الحياة إنّما تتمّ بإلقاء الحجاب الإلزامي على النساء، ومنع الخمور، وحظر الفنون الماجنة، وإقامة الشعائر والطقوس العامّة كصلاة الجمعة وغيرها.. إنّ مسألة تطبيق الشريعة قضيّة معقّدة للغاية، فأمام هذا المشروع تحدّيات كبيرة من نوع سنّ آلاف القوانين الجزائيّة والجنائيّة والمدنية وغيرها في قضايا الناس، وعندما يتحوّل الفقه إلى واقع تتمّ ممارسته على صعيد دولة ومجتمع، فإنّ نتائجه سوف تلاحقه بالتأكيد، وستتلاشى تلك الصورة المثاليّة لفكرة تطبيق الشريعة، فحتى اليوم هناك دول طبّقت الشريعة الإسلاميّة حتى أبعد مدى وهي تعتمد في قوانينها على منجزات القوانين الغربية. لست أريد أن أقول بأنّ ذلك خطأ، بل أريد أنّ أقول بأنّ فيه شرخاً منهجيّاً وفقاً لعقيدة الكثير من أنصار تطبيق الشريعة أنفسهم، فالإسلام الشامل لكلّ مرافق الحياة ـ كما تقول نظريّة تطبيق الشريعة ـ يفترض أن تكون لديه تصوّرات واضحة عن مختلف تحدّيات العصر، وها هي قضيّة المصارف والبنوك والنظم المالية ما تزال شبحاً مخيفاً أمام المشروع الاقتصادي الإسلامي الذي لا يجد أمامه ـ في الغالب ـ سوى منهج الحيل الشرعيّة للفرار من أزمة المواجهة بين النصّ والواقع.
أنا لست ضدّ تطبيق الشريعة، بل أذهب إلى ضرورة العمل لهذا التطبيق، لكنّني أعتقد بأنّ تطبيق الشريعة يجب حسم خيارات ضرورية مسبقة فيه، ويجب أن يكون الاجتهاد الإسلامي قد بلغ من النضج والتنظير بحيث يصبح بمستوى تطبيق الشريعة في العصر الحاضر، وتفسير معنى هذا التطبيق، فأيّ شريعة نريد أن نطبّق؟ هل الشريعة التاريخية المستنسخة حرفيّاً كما تريده بعض التيارات السلفيّة، أم الشريعة المقاصديّة، أم شريعة أخرى؟… فهذا شيء يجب أن تكون فيه اجتهادات أكثر نضجاً من الذي رأيناه حتى الآن عند الكثير من المنظّرين.
لكن، ومن باب آخر أجد أنّ استيعاب الجماهير وكثير من النخب الدينية لتحدّيات مسألة تطبيق الشريعة يمكن أن يحتاج بنفسه أحياناً إلى التجربة؛ لأنّ التجربة قد تكون الوسيلة الإقناعية الأقوى للعبور إلى مرحلة جديدة، وكشف ثغرات الاجتهادات السابقة ذات الطابع المثالي، من هنا فإنّني أفترض أنّ مآلات الأمور في العالم العربي ستجرّ إلى تجاذب من نوع آخر داخل التيارات الدينية الفكريّة، وهناك آمل أن تنفتح كوّة في جدار العبور نحو حداثة دينية من نوع خاصّ.
كما أنّني وإن اختلفت مع العقل العرفاني والصوفي في بعض مدياته، لكنّني أعتقد بأنّ التصوّف يمكنه أن يلعب دوراً كبيراً اليوم في تقديم قراءة مختلفة للإسلام تُلقى على الجماهير، قراءة ترى في الإسلام ـ أولاً ـ روحاً ومضموناً ومعنى، ثم شرائع ونظم وقوانين وفقه ثانياً، وليس العكس، ولو تصدّت الكفاءات في التيارات الصوفية والعرفانية ومثقفو العقل الروحي في الإسلام لتقديم إسلام للشعوب العربية من نوع مختلف، يتحرّر من الجمود على الفقهيّات (الفقه والحديث) بالطريقة السائدة، وفي الوقت عينه لا يتخطّى الشريعة ولا يستغرق في الخرافة واللامعقول، فقد نعبر نحو مكان ما، شرط الجمع بين العقلين الفلسفي والروحي، كما فعل ذلك غير واحد من عمالقة الإسلام. إنّ جمع هذين العقلين وخروج العارف والفيلسوف من صومعته ونخبويّته وتحرّره من عقدة الإقصاء والتكفير والنبذ في الاجتماع الإسلامي والتي لاحقته تاريخيّاً، للتحرّك على المستوى العام، يمكن أن يدخلنا في مرحلة جديدة في ظلّ الظروف الراهنة، لكنّ هذا الموضوع ليس بسيطاً أبداً، وهو مسؤولية كبيرة خطرة المنزلقات.
س2: ما هي خارطة الاتجاهات الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر؟
حبّ الله: أعتقد بأنّ رسم خارطة الاتجاهات الإصلاحية يمكن أن يتمّ وفقاً لعدّة معايير، سأختار أحدها، وعليه يمكن تقسيم الاتجاهات الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر إلى اثنين أساسيّين:
الاتجاه الأوّل: وهو اتجاه الإصلاح الخارج ـ ديني، بمعنى أنّ هذا الاتجاه يذهب إلى أنّ حلّ مشكلات الفكر الإسلامي لا يكون بالغوص داخل الموضوعات الدينية، ومحاولة إيجاد زحزحة لها، وإنّما بالخروج منها والنظر إليها من الخارج، وهذا معناه أنّ القراءة الإصلاحية للفكر الديني ستكون قراءة للمنهج وللبنيات التحتيّة، ولشبكة العلاقات المعرفيّة، وللمجمل الديني العام، وفي هذا السياق يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى دراسة قضايا من نوع شبكة العلاقات بين العلوم الدينية والعلوم غير الدينية، وكذلك يتحدّثون عن ايبستمولوجيا الفهم الديني عموماً، وكذلك عن أهداف الدين في حياة الإنسان، وعن المساحة التي يشغرها الدين ويتولّى العناية بها وتلك التي لا علاقة له بها، وعن التمييز بين الدين وفهم الدين، وكذلك عن مناهج فهم الظاهرة الدينية، مثل مناهج العلوم الاجتماعية والنفسية والانثروبولوجية وغيرها، وعن منهج فهم الدين هل هو العقل أم النقل أم القلب أم غير ذلك؟
إنّ أنصار هذا الاتجاه يعتقدون أنّه ما لم نحسم القضايا الخارج ـ دينيّة من نوع المنهج والمصادر المعرفيّة ونحو ذلك فإنّنا سوف ندخل الموضوعات الدينية بذهنيّة غير صحيّة، وسيفضي ذلك إلى تورّطنا في أخطاء منهجيّة فادحة، وكلّ إصلاح داخل ـ ديني لا يسبقه إصلاح خارج ـ ديني فسوف يكون عقيماً، فالدراسات الخارج ـ دينية تمثل منطق العلوم الدينية، فكما هناك منطق للتفكير عامّة مثل المنطق العقلي الأرسطي أو المنطق الاستقرائي أو المنطق التجريبي أو المنطق الوضعي أو غيره، وكما هنا منطقٌ للفقه وهو أصول الفقه، كذلك هناك منطقٌ للعلوم الدينية عامّة، وهو الدراسات الخارج ـ دينية ذات البعد المعرفي والمنهجي، من نوع ما أشرنا إليه قبل قليل. وكما سيقع الباحثون في اضطراب وارتباك إن لم يحملوا معهم منطقاً للتفكير، كذلك سوف يتعثرون عندما يدخلون مجال البحث الديني دون منطق التفكير الديني السليم.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي لم يعتنِ كثيراً بالإصلاح الخارج ـ ديني، وكأنّه افترض أنّ البنيات التحتيّة العامّة صحيحة، وانطلق منها لإجراء تعديلات في المنظومة الدينية بطبقاتها العليا لا السفلى، وهذا الفريق يمكنني أن أراه على مستويّين اثنين:
المستوى الأوّل: وهو المستوى الفلسفي والكلامي، حيث ينطلق هؤلاء من داخل منظومات فلسفية وكلامية قائمة في التراث، وقد يجرون عليها بعض التعديلات الطفيفة أو الإضافات، ويرون أنّ المنظومة الفلسفية في التراث قادرة على النفوذ في سائر مناشط الفكر الديني لإصلاحه، فمثلاً نحن نجد أنّ حركة الإصلاح الديني في إيران منذ الخمسينيات وإلى التسعينيات، قامت بهذا الخطوة، حيث انطلقت من الموروث الفلسفي والعرفاني لمدرستي: محيى الدين ابن عربي (638هـ) وصدر المتألهين الشيرازي (1050هـ) في مدرسة الحكمة المتعالية، لتقرأ الدين من خلالهما بطريقة جديدة، ممّا ترك أثراً كبيراً على فهم النصوص القرآنية والحديثية، وكذلك على فهم قضايا الوجود والحياة. فالمستوى الأوّل ينطلق من الفلسفة والكلام لإصلاح التفسير والحديث والفقه والعلوم الشرعيّة وأمثالها.
المستوى الثاني: وهو المستوى الفقهي والأصولي، حيث يرى هذا الفريق أنّ مرجعية التراث الفقهي والأصولي (أصول الفقه) تصلح ـ بعد إجراء إصلاحات جزئيّة عليها ـ لأنّ تقوم بإصلاح فهمنا للدين ولنصوص الكتاب والسنّة، فمناهج الأصوليّين والفقهاء (أو بعضهم) هي مناهج عقلانيّة، وهي قادرة لو فعّلناها على إعادة رسم تصوّراتنا عن الدين عامّة، وعن واقعه في الحياة، وإعادة بلورة مسلكيّاتنا وأدائنا السياسي والاجتماعي، وفي هذا الإطار نجد مشروع المقاصديّين الجدد، وكذلك ما قدّمه أمثال الشيخ محمد الغزالي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم، على تفاوت بين أطياف هذا المستوى الإصلاحي. إنّ قيمة هذا النوع من عمليات إصلاح الفكر الديني أنّه يشتغل على طرائق فهم النصّ؛ لأنّ اجتهادات الاصوليين والفقهاء متمرّسة في مجال فهم النصوص وقواعد هذا الفهم وطرائقه، وهذا ما يعطي هذا المستوى من إصلاح الفكر الديني بُعده المنهجي أيضاً، وسيكون مجال تفسير القرآن الكريم وفقه الحديث الشريف ودرايته مجرّدَ تطبيق لهذا الإصلاح المنهجي.
ولو أنّنا أردنا رسم المشهد بطريقة موجزة لرأينا أنّ الفقهاء والأصوليين قدّموا أنموذجاً إصلاحيّاً في مقابل التيارات السلفيّة واتجاه المحدّثين المسلمين، فيما وجدنا الفلاسفة والمتكلّمين والعرفاء الجدد يرون منطلق الإصلاح هو الفلسفة والعرفان ليشمل سائر العلوم والقضايا الدينية، فيما يرى الإصلاح الخارج ـ ديني (وهو إصلاح من النوع الفلسفي الايبستمولوجي) أنّ المنطلق هو في معرفيّات البنيات التحتية لفهم الدين، لتشمل كلّ منظومة الفهم الديني الفلسفيّة والصوفيّة والكلامية والفقهية والأصولية والحديّثية والتفسيرية وغيرها.
إنّني أؤمن بكلّ دوائر الإصلاح؛ لكنّني أجد الحقّ مع الفريق الأوّل، فكثير من الأمور حلولها لابد أن تنطلق من منطقيّات الفهم الديني، لا من أحشاء هذا الفهم وثناياه، وهو أمر لا يلغي حاجتنا للإصلاح في الدوائر الأخرى للفكر الديني، فالخطوة الأولى هي خطوة معرفيّة، ثم تأتي بعدها خطوتنا الفلسفية الانطولوجّية، ثم نتّجه نحو قواعد فهم النص، ثم نطبّقها في مجال النصوص الدينية، ثم نتحرّك بعقليّة جديدة لرصد تطبيق النص على أرض الواقع.
س3: كيف سيساهم الفكر الإصلاحي في إنجاح ثورات الربيع الديمقراطي؟
حب الله: أعتقد بأنّ الفكر الإصلاحي يستطيع أن يقدّم خدمات عديدة للدخول في مرحلة جديدة:
أولاً: العمل على ترشيد الخطاب الديني باستمرار، بحيث نخرج هذا الخطاب من حالته المنغلقة إلى حالة أرحب، يتمكّن خلالها من التواصل مع الآخر والتلاقي معه. إنّ الإصلاح الديني مطالب بالاستمرار وعدم اليأس في ممارسة النقد الداخلي للخطاب الديني، وتقديم قراءة جديدة للدين تكون حريصة عليه لا ناقمة ولا مستهترة، ومن الضروري استمرار الاشتغال على ظواهر التكفير الآخذة بالاتساع يوماً بعد آخر. وعقيدتي أنّ الإصلاح الداخلي للفكر الديني يظلّ ـ على مستوى تأثيراته الميدانية المباشرة اليوم ـ ضرورة أكبر من أيّ نقد خارجي؛ نظراً لكون مجتمعاتنا في الغالب مجتمعات دينية محافظة، قد يكون الإصلاح الداخلي بلغة دينية أقرب إلى تفكيرها ووجدانها، ومن ثمّ أفعل في التأثير من غيره.
ثانياً: أعتقد بأنّ الفكر الإصلاحي الديني يظلّ في هذه المرحلة القادمة ـ رغم تعثراته ـ أفضل من غيره على المشاركة في صياغة فقه الدولة والعمل السياسي من منظور ديني، وذلك عبر تقديمه صيغاً متلائمة مع روح الشريعة وغير جامدة على الظواهر الحرفيّة أو على المقاربة التقليدية للأحداث والمواقف، وفي نفس الوقت غير متجاهلة للدين أو معارضة له. لقد طرحت صيغ كثيرة للسلطة والعمل السياسي من منظور ديني، وهنا يمكن للخطّ الإصلاحي الفكري أن يعمل على التلاقي بين أفراده ومجموعاته لوضع بنود لصيغ عمل جديدة، يلقى عليها ثوب ديني وتكون ذات مرجعيّة مقبولة دينيّاً. وهنا من الضروري أيضاً أن يخرج الفكر الإصلاحي من حالة الالتباس في المفاهيم والمصطلحات، ويكون لديه وضوح أكبر فيها، مثل الموقف من الديمقراطية والليبرالية والتسامح والعنف والمجتمع الديني والمدني والتعددية والمشاركة السياسية والمعارضة وغير ذلك، فضلاً عن مواقف واضحة من ملفات سياسية شائكة اليوم مثل العلاقة مع الغرب، والموقف الحقيقي ـ وليس القولي ـ من خطّ الممانعة والقضيّة الفلسطينية، ومن التجاذب الطائفي في المنطقة. إنّ قدراً كبيراً من الالتباس يلفّ هذه المفاهيم في وسط الفكر الإصلاحي الديني، وهناك بعض الاضطراب في فهمها وتداولها، وهذا أمر يحتاج لتخطّيه إلى جهود جديدة. والأهم أيضاً هو رسم الأولويات؛ حيث لا يبدو هناك اتفاق أو مواضعة على تعيين الأولويات في اللحظة الراهنة.
ثالثاً: هناك نقطة مهمّة على هذا الصعيد، وهي أنّ مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة توّاقة لتحصيل هويّتها؛ لأنّها خائفة وقلقة على الدوام، وتحصيل الهويّة يمكن لأيّ تيار ماضوي أن يكسب جولته في مناخ متأزّم نفسيّاً نتيجة الجروح النرجسيّة التي ألمّت بالأمّة المسلمة وما تزال. والقاعدة العريضة تقف أمام خيارين يمكن أن تجد فيهما الهوية الضائعة وهما: الإسلام والعروبة، وحيث تراجعت الحالة القومية والعروبية في العالم العربي بعد إخفاقات وهزائم، فإنّ (الإسلام) يمكن أن يسدّ مساحة فراغ كبيرة، وكلّما كان الخطاب موغلاً في الهويّة والتاريخ كان جذاباً ومؤثراً؛ لأنّه يسكّن الآلام الكامنة في جسم الأمّة، وأعتقد أنّ هذا الأمر ساعد على تنامي التيارات السلفية عند المذاهب الإسلاميّة. من هنا يبدو لي أنّ تيار الإصلاح الديني لديه قدرة أكثر من غيره على لعب دور فاعل هنا، فهذا التيار قدّم نفسه في بعض الأحيان ناقداً فقط، والنقد الداخلي لا يتناسب مع الرغبة النفسيّة العامّة في تسكين الألم؛ لأنّ النقد يشعرك بالأوجاع ويكشف عن عينيك غطاء التخدير الذي تعيشه، ولهذا من الأفضل أن يقدّم الإصلاح الديني نفسه على أساس منطق الحرص والدفاع، ويصوّر التيارات التقليديّة على أنّها في ضرر الدين، ويبدي مواقفه الحريصة على قضايا الأمّة، ولا يضع نفسه في إطار جلد الأمّة وتحميل الدين فقط مسؤوليّة ما جرى. عندما يكون الإصلاح الديني تياراً دينيّاً حريصاً فمن الممكن أن تشعر الأمّة معه بالأمان ويكتسب ثقتها، أمّا عندما يتمحّض بالنقد فإنّ الأمّة ستخاف منه، أو لن تشعر بالأمن معه، وهنا قد يتمكّن عبر هذا التعديل من أخذ موقع التيارات التقليدية بدرجة معينة، للفتح على وضع مختلف. إنّ هذا كلّه يكشف لنا عن المهمّات المتعدّدة للإصلاح الديني في هذا المجال.
س4: ما هي المجالات الفكرية والدينية التي تحتاج إلى اجتهاد وتحقيق تراكم معرفي حتى نواكب التحولات السياسية التي عرفها العالم العربي؟
حب الله: أهمّ المجالات في تقديري هو الاشتغال على قضايا الحريات وحقوق الإنسان من منظور قراءة دينية جديدة، وما يدخل تحتها من ملفات شائكة كحقوق المرأة والطفل والشعب والمعارضة والحريّات الفكرية وقضايا الردّة، والحريّات الإعلامية وقضايا الضلال، والتعدّدية في العمل السياسي والاجتماعي وغير ذلك من المفاهيم والمقولات، فهناك حاجة كبيرة للاستمرار في تناول هذه الموضوعات وتقديم أمور جديدة وقراءات أكثر نضجاً فيها، فليس المهم أن يقول لنا مفكّر إسلامي بأنّني مع سلطة الشعب مثلاً، بل المهم هو أن يقدّم لي المقاربة الدينية للموضوع، وكيف استطاع ـ من منظور ديني ـ أن يتوصّل إلى هذا الأمر؟ بالنسبة لي شخصيّاً أحترم ذلك الذي يرفض النصّ الديني من الأساس، ثم يقول لي بأنّني اقتنعت بقضايا الإنسان اليوم، لأنّني أجده منسجماً مع نفسه. أمّا الذي يؤمن بالنصّ الديني مرجعاً في الممارسة والسلوك والمفاهيم والقيم فلا أكتفي منه بأن يقول بأنّني مع الديمقراطية، بل إنني أطالبه بتكييف قناعاته هذه مع النصّ، وإلا دخلنا في تلاعب وتزوير وإنتاج فهم زائف للدين، سريعاً ما سيعرّيه على السواء كلّ من التيارات الماضوية الحرفيّة التقليدية والتيارات الإلحادية اللادينية.
هذا الأمر يجرّ إلى ملفّ آخر ما زالت الضرورة قائمة في مجاله، وهو مناهج فهم النصّ وإثباته، فنحن من جهة نعاني مشكلة مع النصّ الثاني (السنّة الشريفة) حيث لم تتضح وجهات النظر الإصلاحيّة في نهج إثبات هذا النص وبناء مرجعيّته الاجتهادية، حتى أنّنا في بعض الأحيان نجد استنسابات غير مسؤولة في كيفية قبول النص أو رفضه، وهذا ما يضعنا أمام مشكلة منهج في الإثبات التاريخي لنصّ مرجعي كبير بمستوى النص الثاني. كما هناك أزمة الفهم، من الفهم التقليدي إلى الفهم التاريخي، إلى غيرهما من المناهج، فاليوم نحن نعاني وسط حركات الفكر الإصلاحي الديني من فوضوية في استخدام المنهج التاريخي في فهم نصوص القرآن والسنّة، حتى ليمكنني القول بأنّ هناك تخبّطاً في أكثر من مكان، فإذا تصادمنا مع وضع معيّن صرفنا نظرنا تلقاء النصّ وقلنا هو تاريخي؛ بغية فضّ الاشتباك وحلّ المشكلة، وإذا لم نجد تصادماً لم نلجأ لهذه الوسيلة. هذا يعني أنّ مرجع التفسير التاريخي هو ضغط اللحظة الحاضرة على المفكّر الديني، وليس وجود منهج واضح ومحايد يمكنه أن يميّز لي تاريخيّة نصّ من عدم تاريخيّته، وأن يسمح لي بحذف القشور الزمنية عن هذا النص والحفر للوصول إلى لبّه الباقي والمستمرّ إلى يومنا هذا. إنّ أغلب الناقدين الدينيين لم يضعوا منهجاً واضحاً في هذا الموضوع، ولهذا يبدو جهدهم بالنسبة للتيارات التقليدية الدينية أشبه بالاجتهاد في مقابل النصّ، والرأي لا معنى له مع وجود النصوص، من الضروري التوصّل إلى صيغ ضابطة لكيفية التعامل مع النصّ الديني بعد تجاوز مرحلة إثبات مرجعيّته، تمهيداً لتحقيق التكييف المعقول.
وهناك ملف ثالث من الضروري الاشتغال عليه أيضاً، وهو الموقف من العلوم الإنسانيّة، فالفكر الديني ظلّ مضطرباً في موقفه من العلوم الحديثة، لاسيما الإنسانيّة، فمن جهة يقبل بها، ومن جهة أخرى نجده يرى فيها منافساً فيما تقدّمه من نظريات حول الإنسان والنفس والحياة والاجتماع والتربية، ممّا يمسّ المربّع نفسه الذي تشتغل عليه النصوص الدينية وتُعنى به؛ لهذا وجدنا حديثاً عن أسلمة العلوم الإنسانيّة، وإلى اليوم هناك من يعمل على هذه الأسلمة، حتى أنّ إحدى الدول الإسلاميّة شرعت قبل سنوات قليلة بإنتاج علوم إنسانيّة إسلاميّة لتبنّيها بعد فترة مقرّرات دراسيّة في الجامعات؛ لهذا أظنّ أنّ علوماً مثل علم النفس والاجتماع والتاريخ واللغة باتت تشكّل خصوماً للفكر الديني، ومنافساً قويّاً في تقديم البدائل للصيغ التي كان الدين قد قدّمها لحلّ قضايا الإنسان. أعتقد أنّ هذا الملف مهم جدّاً من الزاوية المنهجيّة، ويجب الاشتغال عليه مرّة أخرى؛ لأنّ جزءاً كبيراً من خلافاتنا الفكرية يرجع إلى أزمة المرجعيّات المعرفيّة التي نؤول إليها، وهذا واحد منها كما يبدو لي.