دور الحديث الشريف في تفسير القرآن
الشيخ محمد هادي معرفت(*)
هل يمكن لنا أن نستفيد من الروايات في تفسير القرآن الكريم؟
يقال: إن الرواية إذا لم تبلغ حدّ التواتر، أو لم تقترن بالقرائن القطعية، لا يمكن الاستفادة منها في التفسير؛ وذلك للشك في صحّة سندها، وتسمّى بحسب المصطلح بـ «خبر الواحد» الذي لا يورث اليقين. نعم، إذا بلغت حدّ التواتر (إخبار جماعة لا يتصوّر في حقهم التواطؤ على الكذب)، أو كانت محفوفة بالقرائن والشواهد الداخلية والخارجية، فعندها سيكون الخبر مورثاً لليقين، ويمكن الاستناد والركون إليه.
وهذا الكلام يقوم على اعتبار خبر الواحد من باب التعبُّد الشرعي فقط، وهو إنما يصح في المسائل الفقهية فقط؛ إذ يمكن التعبّد في المسائل العملية، دون المسائل النظرية. وبعبارة أخرى: قد يمكنك أن تحمل شخصاً أن يأتيك بشربة ماء من خلال إصدار الأمر إليه، ولكنك لا تستطيع أن تحمله على الاعتقاد بمسألة من خلال إصدار الأمر إليه بذلك. ومن هنا لا يصح توظيف خبر الواحد في التفسير والمسائل الاعتقادية.
ثم إن التعبُّد إنما يكون ممكناً إذا ترتَّب عليه أثر شرعي، وهذا لا يمكن تصوُّره إلا في دائرة عمل المكلفين.
ومن هنا قال الشيخ المفيد في كتابه (شرح اعتقادات الصدوق): «خبر الواحد في هذا الباب لا يوجب علماً، ولا عملاً»، بمعنى أن خبر الواحد في مجال المعارف والعقائد لا يوجب علماً حتى يمكن توظيفه، ولا يترتب عليه عمل حتى يصحّ فيه التعبّد.
وقد ذهب الشيخ الطوسي ـ في (تفسير التبيان) ـ إلى الاعتقاد بانتفاء إمكانية الاستفادة من خبر الواحد في التفسير؛ إذ يقول: «ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة؛ إما العقلية، أو الشرعية، من إجماعٍ عليه، أو نقلٍ متواتر به عمَّن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد، وخاصة إذا كان مما طريقه العلم. ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد إلا ما كان معلوماً بين أهل اللغة، شائعاً بينهم. وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة والألفاظ النادرة فإنه لا يقطع بذلك، ولا يجعل شاهداً على كتاب الله، وينبغي أن يتوقف فيه، ويذكر ما يحتمله»([1]).
وقد ذهب المحقق النائيني بدوره إلى الاعتقاد بأن حجية خبر الواحد إنما تصح في المسائل الفقهية ذات الأثر الشرعي فقط، وقال بشأن حجية الخبر: «إن الخبر إنما يكون مشمولاً لدليل الحجية إذا كان ذا أثر شرعي»([2]).
يضاف إلى ذلك أن الذين فسّروا الحجية بـ «المنجزيّة» و«المعذريّة» ـ مثل: المحقق الخراساني ـ خصَّصوها بموارد العمل التي يمكن فيها تصوّر الفعل والترك، ويختص ذلك بالأحكام العملية الإلزامية فقط.
وقال العلامة الطباطبائي: «أما الأحاديث غير قطعية الصدور (المسمّاة بأخبار الآحاد، والتي اختلف المسلمون في حجيتها وعدم حجيتها) فأمرها يرجع إلى المفسِّر نفسه… وأما الشيعة فالذي ثبت ـ تقريباً ـ عندهم في علم أصول الفقه حجية الخبر الواحد موثوق الصدور في الأحكام الشرعية [فقط]، ولايعتبر في غيرها»([3]).
وقد أكد العلامة الطباطبائي على هذا الرأي في أكثر من موضع من تفسير الميزان، وأصرّ على عدم اعتبار حجية خبر الواحد في التفسير، ولم يستسِغْ استخدامه في بيان وتفسير معاني القرآن الكريم.
وقال في بيان قصة لوط من سورة هود: «الذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة أن الخبر إنْ كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فلا رَيْبَ في حجّيتها، وأما غير ذلك فلا حجية فيه، إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإنّ لها حجية؛ وذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية، فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعي، والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجّية فيها؛ لعدم أثر شرعي، ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علماً، وتعبيد الناس بذلك…»([4]).
وقال في موضعٍ آخر: «لا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات ـ والمقام هذا المقام ـ إلى فهم الصحابة وتلامذتهم من التابعين حتّى إلى بيان النبي‘؛ فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدي إليه اللفظ ولو بعد التدبُّر والتأمُّل والبحث؛ وإما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر، ولا الكلام يؤدّي إليه، فهو مما لا يلائم التحدّي، ولا تتم به الحجة…»([5]).
ثم استطرد العلامة بعد ذلك قائلاً: «على أن الأخبار المتواترة عنه‘ المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن، والأخذ به، وعرض الروايات المنقولة عنه‘ على كتاب الله، لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي‘ مما يمكن استفادته من الكتاب. ولو توقَّف ذلك على بيان النبي‘ كان من الدَّوْر الباطل، وهو ظاهرٌ»([6]).
ليختم بعد ذلك قائلاً: «فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود، وأن البيان الإلهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، أي إنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى، وأنه نور، وأنه تبيان لكلّ شيء، مفتقراً إلى هادٍ غيره، ومستنيراً بنور غيره، ومبيناً بأمر غيره؟»([7]).
وقد سبق له أن قال قبل ذلك بصفحات: «المحصَّل أن المنهيّ عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره. ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه. وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب؛ أو السنّة. وكونه هو السنّة ينافي القرآن، ونفس السنّة الآمرة بالرجوع إليه، وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستعداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن»([8]).
وعلى هامش آية الولاية من سورة المائدة قال بشأن نزول آية من سورة المعارج: «وبعد هذا كله فالرواية من الآحاد، وليست من المتواترات، ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية. وقد عرفْتَ من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعوِّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعية، على طبق الميزان العامّ العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته»([9]).
وفي الأساس فإن العلامة ـ بناء على ما تقدَّم ـ لا يرى خبر الواحد طريقاً لإحراز الواقع، ولذلك لا يكون معتبراً.
وقال ضمن تفسيره الآية 44 من سورة النحل: «في الآية دلالة على حجّية قول النبي‘ في بيان الآيات القرآنية. وأما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النصّ والظاهر من المتشابهات، أو في ما يرجع إلى أسرار كلام الله وما فيه من التأويل، فمما لا ينبغي أن يُصغى إليه. هذا في نفس بيانه‘، ويلحق به بيان أهل بيته؛ لحديث الثقلين المتواتر وغيره. وأما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجّية لبيانهم؛ لعدم شمول الآية، وعدم نصٍّ معتمد عليه يعطي حجّية بيانهم على الإطلاق»([10]).
ثم أضاف قائلاً: «هذا كله في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة. وأما الخبر الحاكي له فما كان منه بياناً متواتراً، أو محفوفاً بقرينة قطعية وما يلحق به، فهو حجّة؛ لكونه بيانهم؛ وأما ما كان مخالفاً للكتاب، أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواترٍ ولا محفوفاً بالقرينة، فلا حجِّية فيه؛ لعدم كونه بياناً في الأول، وعدم إحراز البيانية في الثاني. وللتفصيل محلٌّ آخر»([11]).
والخلاصة هي أن استدلال العلاّمة على عدم اعتبار خبر الواحد في الكشف عن معاني القرآن يقوم على دعامتين رئيستين، وهما:
1ـ إن لاعتبار وحجية خبر الواحد صبغة تعبُّدية، بمعنى أنها من التواضع والتعاقد الشرعي، وليست حجية ذاتية، وهذا إنما يمكن في الموارد التي يترتب عليها أثر شرعي. ومن هنا فإنه لا يكون متصوّراً إلا في مورد عمل المكلفين، وهذا لا يتوفر إلاّ في مجال الفقه.
2ـ إن خبر الواحد لا ينطوي على كاشفية قطعية عن الواقع؛ ولذلك لا يكون كاشفاً عن بيان المعصوم، ولا كاشفاً عن المراد الواقعي للآية.
يضاف إلى ذلك أن المستفاد من روايات العرض [على الكتاب] أننا إذا أردنا التأكد من صحّة مفاد خبر الواحد وجب علينا الاستعانة بالقرآن، فإذا توقفت الاستعانة بالقرآن على الرجوع إلى خبر الواحد لزم الدَّوْر!
بَيْدَ أن هذا الاستدلال لا يبدو تامّاً؛ وذلك للأمور التالية:
إن اعتبار خبر الواحد الثقة ليست له صبغة تعبّدية، وإنما هو من وجهة نظر العقلاء ينطوي على كاشفية ذاتية، وإن الشارع أمضى هذه السيرة العقلائية.
إن الناس يقومون في حياتهم على ترتيب الآثار على إخبار مَنْ يثقون به، ويتعاملون معه معاملة الواقع المعلوم. وهذا ليس من التعاقد أو التواضع أو التعبُّد المحض، بل يأتي من ناحية ما يتمتع به هذا الإخبار من الكاشفية.
وإن الشارع المقدّس ـ الذي هو سيد العقلاء ـ قد أمضى هذه السيرة، ولم يشكل عليها، إلاّ في الموارد التي يفتقر فيها الناقل إلى الصفات الموجبة للوثوق والاطمئنان. ولا يخفى أنه لا يصح ترتيب الأثر على كلام هذا الشخص إلا بعد التحقيق والتبيّن. ومن هنا يأتي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6). ومن هنا لا يقتصر اعتبار خبر الواحد الثقة على خصوص الفقه والأحكام الشرعية، وليس هو من باب الحجّية التعبدية، بل هو اعتبارٌ عامّ سار عليه العقلاء في جميع الموارد، ومن بينهم الشارع المقدَّس.
ومن هنا فإن إخبار العدل الثقة عن المعصوم× يتصف بالاعتبار العقلائي الممضى من قبل الشارع ـ سواء في الأحكام الفقهية أو في تفسير القرآن ـ، فهو يعتبر على كلّ حالٍ بياناً كاشفاً عن بيان المعصوم، ويكون حجةً كما لو أن الشخص سمعه من المعصوم مباشرة.
بل إننا إذا قلنا بعدم اعتبار إخبار العدل الثقة في باب التفسير سوف نحرم أنفسنا من جميع كلمات المعصومين وكبار الصحابة والتابعين، وسوف تنحصر فائدة كلماتهم بعصر حضورهم. ولا يخفى أن مثل هذا الكلام يضاهي الحرمان المؤبَّد!
وقد قال أستاذنا المعظَّم السيد الخوئي في هذا الشأن: «وقد يُشكل في حجّية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين^. ووجه الإشكال في ذلك أن معنى الحجية التي تثبت لخبر الواحد أو لغيره من الأدلة الظنية هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملاً في حال الجهل بالواقع، كما تترتَّب على الواقع لو قطع به، وهذا المعنى لا يتحقَّق إلا إذا كان مؤدى الخبر حكماً شرعياً أو موضوعاً قد رتب الشارع عليه حكماً شرعياً، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسير.
وهذا الإشكال خلاف التحقيق؛ فإنا قد أوضحنا في مباحث (علم الأصول) أن معنى الحجّية في الأمارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علماً تعبُّدياً في حكم الشارع، فيكون الطريق المعتبر فرداً من أفراد العلم، ولكنه فردٌ تعبّدي، لا وجداني، فيترتَّب عليه كل ما يترتَّب على القطع من الآثار، فيصحّ الإخبار على طبقه كما يصحّ أن يخبر على طبق العلم الوجداني، ولا يكون من القول بغير علمٍ.
ويدلّنا على ذلك سيرة العقلاء، فإنهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني، من غير فرقٍ بين الآثار. فإن اليد مثلاً أمارةٌ عند العقلاء على مالكية صاحب اليد لما في يده، فهم يرتِّبون له آثار المالكية، وهم يخبرون عن كونه مالكاً للشيء بلا نكير، ولم يثبت من الشارع ردعٌ لهذه السيرة العقلائية المستمرة»([12]).
ومناقشتنا الوحيدة لكلام السيد الأستاذ تكمن في اعتباره الحجية لخبر الواحد من باب العلم التعبّدي، في مقابل العلم الوجداني، مع وحدة الأثر بطبيعة الحال! في حين أن المبنى في اعتبار خبر الواحد الثقة ليس شيئاً آخر غير بناء العقلاء، وليس للشارع في هذا البناء والاعتبار من دورٍ سوى الإمضاء، ويعود هذا الإمضاء لما في قول خبر الواحد من الكاشفية التامّة التي لا يوجد للتعبُّد طريق إليها على الإطلاق.
وعلى أيّ حال فإن كبار علماء الإسلام كانوا منذ اليوم الأول وإلى هذه اللحظة ينظرون إلى خبر الواحد الثقة بنظرة الاعتبار في جميع الموارد والمجالات.
الهوامش
(*) أحد أبرز علماء القرآنيّات في القرن العشرين، فقيهٌ معروف، وصاحبُ مؤلَّفات كثيرة في الدفاع عن القرآن وصيانته من التحريف. توفّي عام 1427هـ.
([1]) أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 1: 7، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 2010م.
([2]) الفياض، أجود التقريرات 2: 106.
([3]) العلامة محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 77، تعريب: السيد أحمد الحسيني، مكتبة فدك، ط1، قم، 2004م.
([4]) العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 10: 182.
([6]) المصدر السابق 3: 88 ـ 87.
([12]) السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 398 ـ 399، منشورات أنوار الهدى، ط8، 1981م.