الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم. الثورة التي أنجبها جيل المعاناة من الشباب وجيل الرفض للظلم والاستبداد، فتحت لهم الأبواب للإمساك بالقرارات أو المساهمة فيها. أسئلة كثيرة جديدة تطرح لفهم مسارات الإسلام السياسي ونقدها، بعد إرهاصات مثيرة للقلق والخوف.. قلق على الديموقراطية وخوف على الحريات وحقوق المرأة، وتساؤل حول علاقات ينسجونها مع الغرب ونأي بالنفس عن فلسطين… نشرت «السفير» مساهمتي كل من الشيخ شفيق جرادي والمفكر سعيد ناشيد والدكتور طلال عتريسي والدكتور قاسم عز الدين والدكتور مشير باسيل عون والأستاذ محمد السماك، ونائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية سجعان القزي والأستاذ هاني المصري، والدكتور أحمد بعلبكي والدكتور فؤاد خليل، والدكتور جورج قرم (الجزء الأول) والدكتورة ريتا فرج، والدكتور فؤاد إبراهيم والدكتور جورج قرم (الجزء الثاني) وتنشر اليوم مساهمتي الدكتور عبد الحليم فضل الله والدكتور عبد الإله بلقزيز… على أن نتابع النشر قريباً.يجري الإسلاميون مراجعة سياسية أخرى وهذه المرة على وقع أحداث متدحرجة وقاهرة. قبل ذلك كانت المراجعة مجرد مادة في سجال خارج أي زمن سياسي بين قوى همشها الاستبداد، وكان بوسع إسلاميي التيار الأساسي حينها أن يكتفوا بتسويات جزئية، كالتراجع إلى منتصف الطريق بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، أو أن يتبنوا فقها تقليديا تارة؛ مثل استثناء النساء والأقباط من تولي المناصب القيادية العليا (كما ينسب إلى برنامج الإخوان المسلمين العام 2007)، وفقهاً مقاصدياً (من مقاصد الشريعة) تارة أخرى، كاعتراف البرنامج نفسه بان منظومة الحريات والحقوق الحديثة تتطابق مع غايات الدين ومبادئه العامة. كان بوسعهم فعل ذلك دون ان يضطروا إلى التعامل مع المكوّن الثوري من المهمة وهو التخلص من ثنائية الاستبداد والاستتباع. حصل هذا الجدل على أرضية نص معزول عن الواقع، وفي ظل دول سلطوية جردت هذا الواقع من زخمه، ووضعته كما النص خارج التاريخ. عملت أحداث مصر وتونس في اتجاه معاكس، فنجحت في أن تعيد النقاش الداخلي إلى مكانه الصحيح، من دنيا الأفكار والرؤى والسجالات المعزولة، إلى عالم الحقائق العارية المتحولة، عالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة الفعلي، حيث تتشابك التحديات والأزمات، وترجو المجتمعات الثائرة أن تعوض في مدة قصيرة ما فاتها خلال عقود طويلة من الجمود. وفي هذا العالم الصاخب المتجدد، يعيد هؤلاء الإسلاميون اكتشاف أنفسهم وبناء هويتهم في ظروف متطلبة وسريعة وتفصيلية، وهو ما لا يناسب إيقاعهم الحذر وأسلوبهم الانتقائي ونزوعهم إلى القضايا الكبيرة والتعميمات القاطعة، ولذلك تراهم يعودون تكراراً إلى أدبياتهم السابقة مع حذف وإضافة يقلان عما هو مطلوب. لقد اعترفوا بالوقائع الجديدة وتكيّفوا معها، لكنهم ما زالوا يفضلون الأساليب السياسية العادية في التعامل مع أوضاع ثورية وجديدة. وهذا عطل في مصر مثلاً التكامل المرجو بين المسارين الثوري والديموقراطي، وأبطأ التفاعلات الجذرية التي كان منتظراً من الثورة أن تفضي إليها. وبدلاً من التركيز على قضايا بناء الدولة والتغيير الشامل انصب الاهتمام على تشكيل السلطة مع ما يستنزفه ذلك من طاقات وجهود في الأماكن الخاطئة. ولم يؤخذ بعين الاعتبار كذلك ان العقد الاجتماعي الذي سيبني الدولة الجديدة، يحتاج إلى تسويات عميقة بين قوى تتمايز رؤاها الإستراتيجية وخياراتها السياسية والاجتماعية، وليس بين قوى مختلفة فكرياً وثقافياً ومتقاربة سياسياً واجتماعياً. وهذا يعني ان السؤال المركزي المطروح على الإسلاميين بعد ما جرى ويجري من أحداث، لم يعد عن علاقة الدين بالسياسة، ولا عن طبيعة الدولة الجديدة: إسلامية، علمانية، مدنية، بل عن السياسات العامة والتوجهات الأساسية التي يمكن من خلالها إتمام الفعل الثوري، والتخلص من ثم من منظومة الاستبداد والاستتباع والفساد والقهر، وبناء دولة قادرة على تبادل التأثر والتأثير مع العالم. لقد تمكن الإسلاميون بدفع من حركة التاريخ والوقائع، لا بدفع من تطور مناهج التفكير والاجتهاد، من حسم خياراتهم العقائدية لا السياسية، وهذا ما نجده مثلاً في برنامج حزب «الحرية والعدالة» الأخير (المنشور هذا العام والمتقاطع حرفياً في بعض نقاطه مع وثيقة الأخوان المسلمين للعام 2007) الذي تضمن ثلاثة تحولات واضحة: من حاكميه الإسلام إلى مرجعية الإسلام، ومن فقه الأحكام الجازمة إلى فقه القيم والمبادئ العامة، ومن الشريعة أساسا للمشروعية السياسية، إلى الشريعة مصدراً للتشريع. قد يمهد ذلك لمراجعة متدحرجة لكن قد نشهد بالمقابل مراجعة مضادة على وقع الصعود السلفي وزيادة التوترات داخل المجتمعات العربية والإسلامية وفيما بينها. وما لم توضع التحولات المذكورة في سياق رؤية سياسية محددة لقضايا الداخل وتحديات الخارج لن تتمكن تيارات الإسلام السياسي الرئيسية من تخطي المرحلة الانتقالية الراهنة وتحقيق استقرارها الإيديولوجي الجديد. ويواجه الإسلاميون من الآن تساؤلات معقدة: عن معنى الدولة المدنية «التي لا يحكمها رجال الدين أو العسكر» في إذا تولت أحزاب دينية زمام السلطة، وعما إذا كان التخلي عن المشروع الإسلامي الشامل سيجعل الحركات الدينية أحزاب هويّة وانتماء أكثر منها أحزاب سياسة وعقيدة، لكن السؤال الأهم هو عن جدوى مراعاة مقاصد الشريعة في التشريع إذا لم تراع هذه المقاصد عند رسم السياسات وتحديد الخيارات الأساسية. والأمر الأخير يكتسب أهمية خاصة، إذ أنّ نقل بؤرة التفكير الإيديولوجي من سؤال أي دولة نريد؟ إلى أي سياسات سنعتمد؟ يلزم الجميع بإعطاء الردود المطلوبة عن الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية والإستراتيجية الصعبة، التي يعلق عليها لا على عقيدة الدولة، مصير البلدان والمجتمعات ويرسم مسارها المستقبلي على المدى البعيد. لكن الإسلاميين الذين نجحوا في تقديم إجابات واضحة على الأسئلة المتعلقة بشكل النظام السياسي، كانت إجاباتهم أقل وضوحاً وإقناعاً بل أقل تناسباً مع الطابع الثوري للحدث على الصعد الأخرى. المسألة الاقتصادية هي مثال بارز على ما تقدم. هنا لم تتخطّ تيارات الإسلام السياسي الرئيسية بعد عتبة الأفكار القيمية العامة، ويتردد خطابها باضطراب بين اليسار واليمين. وقد انكشف ان العديد من هذه التيارات يفتقر أصلاً إلى منظور اقتصادي ناجز، لا لقلة ما كتب ويكتب عن «الاقتصاد الإسلامي»، بل لعدم بروز نظرية عامة تربط بين الأخلاق الاقتصادية والمفاهيم العقائدية من جهة، وبين السياسات العامة والأحكام التنفيذية من جهة ثانية. وسنلاحظ في هذا المجال وجود منهج مزدوج؛ ففي السياسة صار الإسلاميون اقرب إلى مذهب الاجتهاد حيث الأهمية للقواعد والمبادئ، بينما ما زالوا يبنون عمارة أفكارهم الاقتصادية الأساسية على قاعدة نصوص مبرمة لكنها متناثرة. وبالنسبة إلى كثير من هؤلاء فإن الجدل بشأن مسائل الاقتصاد يقع على هامش نظرتهم للدولة وخارج نطاق الايديولوجيا التي تحدد هويتهم السياسية. فإذا كانت علاقة الدين بالدولة مثلاً هي محل اهتمام واسع بين التيارات الإسلامية وتحظى بتوافق نظري مقبول، فإن الإجماع على مبدأ العدالة الاجتماعية لم يولد إجماعاً موازياً بشأن وظائف الدولة ودورها الذي قد لا يتعدى عند بعضهم سد الرمق (على ما يقول أبو حامد الغزالي) أو تلبية الضروريات (على حد تعبير الشاطبي)، لكنه قد يصل عند آخرين إلى حد أن تهيمن على النشاط الاقتصادي برمّته. تفتقر التيارات الإسلامية أيضاً إلى تحليل تاريخي واجتماعي للمشكلة الاقتصادية، وهذا يضعف قدرتها على التعامل بعمق مع المسائل الرئيسية التي تتمايز بناء عليها المدارس الاقتصادية: كيف يتقاسم القطاعان الخاص والعام عملية توزيع الموارد؟ ما علاقة سوء توزيع المداخيل على المستوى الوطني بالظلم الاقتصادي على المستوى العالمي؟ أو ما الذي يربط بين التخلف والتبعية؟ وكيف نجمع بين العدالة والفعالية الاقتصادية والتوزيع الأمثل للثروات؟ أو كيف نقيم نظاماً اقتصادياً يضمن حداً أدنى من التوزيع العادل؟ لقد استبدل الإسلاميون كل ذلك ببضعة مبادئ وتعاليم مستقاة من الفكر الاقتصادي المعاصر وتتقاطع أيضاً مع المبادئ العامة للأديان، كإشارة برنامج حزب الحرية والعدالة (2012) بأنّ الإنسان هو محور العملية الاقتصادية (استعارة من فكر التنمية البشرية)، وأن القيم والأخلاق جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الاقتصادية (الليبرالية المجتمعية)، وأن الحرية الاقتصادية لا تكون إلا في إطار المنافسة الشريفة والعادلة حيث الموارد ملك الجميع (الاشتراكية المثالية والرأسمالية الاجتماعية). لكن هذه المبادئ والمقولات الواسعة، ستمر في قنوات تزداد ضموراً كلما اقتربنا من دائرة السياسات، لتحاصرها هناك مفاهيم تطبيقية ضيقة وردت في البرنامج نفسه، مثل مفهوم «الكفاية» الذي يحول مبدأ العدالة الإسلامية الرحب إلى عدالة الحد الأدنى التي تقع مسؤولية تحقيقها على المجتمع أولاً وعلى الدولة ثانياً. وكالنظر إلى الملكية الخاصة على أنها جوهر «موضوع الملكية في الإسلام»، وإلى السوق الإسلامية على أنها الأساس في «إنتاج الطيبات»، والقول بأن الاستخدام الكفء للموارد «يقع على عاتق القطاع الخاص». وتعريف الأجر العادل بأنه ذاك الذي يتناسب مع المجهود الذي يبذله العامل بغض النظر عن قيمة ما أنتجه. ولم يقل لنا البرنامج المذكور نفسه كيف تنسجم التنمية المستقلة مع استمرار الاعتماد على المعونات، وما هي الطريقة الناجعة لتحويل التمويل الخارجي من أداة ارتهان للاقتصاد العالمي إلى دافع للتصنيع (كما فعلت الصين). لقد فات واضعي البرنامج ان الغايات الاقتصادية العليا المنبثقة من الدين، لا تنسجم مع الإيمان المطلق بأن السوق الليبرالية هي نظام اجتماعي راسخ، فالأسواق التي نعرفها اليوم نشأت في ظروف تاريخية محددة، وهي تعمل بطرق وآليات يستحيل معها تحقيق المنافسة التامة والعادلة. فضلاً عن ذلك فإن عوامل الإنتاج الأساسية ليست سلعاً يمكن إخضاعها تماماً لقوانين العرض والطلب، بل هي سلع زائفة (كما يعبر كارل بولانيي)، اما لأنها تشكل محيطنا الحياتي والحيوي أي الطبيعة مقسمة إلى أجزاء (الأرض والموارد غير المتجددة)، أو لأنها تتصل بالإنسان (العمل) أو لأنها خاضعة لسياسات الدولة وقراراتها أكثر من تأثرها بقوانين السوق (مثل رؤوس الأموال النقدية التي تتغير قيمتها مع تعديل السياسات النقدية). هناك فجوة إذاً، تفصل بين المبادئ المستقاة من المرجعية الإسلامية والتي تؤسس لاقتصاد اجتماعي تنموي يحقق هدفي العدالة والتقدم، وبين السياسات والأحكام والمعايير التفصيلية التي تلائم اقتصاداً له وجه نيوليبرالي ويتبنى عقيدة نمو مرتبطة بالخارج. هذه الفجوة تعود إلى ان العديد من الإسلاميين الذين يملكون أفكاراً اقتصادية متناثرة لا يملكون نظرية اقتصادية متكاملة من شأنها ان تطابق بين الأحكام والسياسات؛ وبين الغايات الاقتصادية الثلاث التي يشجع عليها الإسلام: التنعم والإنصاف والعمران (عمارة الأرض). إنّ إنقاذ المجتمعات الثائرة من تبعات الإهمال والفقر والفشل، يتطلب قبل أي شيء آخر موقفاً من النظام الاقتصادي الدولي وقضايا التبعية وعدم المساواة، ونقداً لأدوار المؤسسات الدولية التي تدير اقتصاديات المعونة على نحو غير بناء، وهذا ما لم نعثر له على أثر في البرامج الجديدة للإسلاميين. قبل الثورات وضع الأخوان المسلمين في مصر برنامجهم على أساس مناهضة السياسات الاقتصادية العالمية القائمة على التمييز، ووردت عبارة الهيمنة بوضوح لا لبس فيه في أكثر من فقرة في وثيقة 2007، التي دعت إلى «رفض كل صور الهيمنة الأجنبية وإدانة كل أشكال التدخل في الشؤون الداخلية للمنطقة العربية والإسلامية». كما وجهت نقداً شديداً للنظام الدولي وسياسات «فرض الليبرالية الجديدة باسم حرية السوق والديموقراطية وحماية حقوق الإنسان»، وهي التي تعبر «عن الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية». وفي الوثيقة أيضاً اتهام صريح للقوى الدولية بأنها وظفت منظمة الأمم المتحدة بطريقة «لا تحقق الأهداف التي أنشئت من اجلها»، بل لتبرر «التدخل في شؤون الدول والشعوب بالقوة العسكرية». لكن برنامج ما بعد الثورة فضّل اعتماد مقاربة ودية للنظام الدولي، فغابت تماماً كلمتا هيمنة وتبعية، ولم تذكر الليبرالية الجديدة لا في سياق نقد فساد النظام البائد وسياسات الإفقار التي اتبعها، ولا في تحديد الطرق المثلى لتحقيق ما أسماه التنمية المستقلة. وفي المقارنة بين الوثيقتين سنلمس أيضاً تغيراً ما في النظر إلى دور مصر وهويتها. كان الهدف في السابق جعل مصر محوراً لمشروع «نهضة عربي ـ إسلامي»، وتعزيز الأمن القومي على أساس الهوية الحضارية الإسلامية، بل إن الدولة التي كان يُطمح إليها «هي الدولة التي تحقق وحدة الأمة على أساس من العقيدة والآمال والآلام والطموحات في ظل التكتلات الكبيرة»،.. فالأمة الإسلامية «امة واحدة.. والخلاف في الفروع لا يضير ولا يوجب بغضاً أو خصومة». اما الآن فقد صارت الهوية الحضارية الإسلامية جزءاً من دوائر انتماء متعددة، واختفت من البرنامج الجديد تلك النظرة التي ترى في الإسلام خياراً جيو- استراتيجياً يرجى ان يكون له تأثير على مجرى الأحداث في العالم وعلى تركيبة النظام الدولي نفسه، لا مجرد نص شرعي داخلي التأثير ومعطى حضاري عام يمكن إيجاد تأويلات سياسية متضاربة له. ثم ان التأكيد على مبدأ العدالة الاجتماعية، كما يفعل الإسلاميون دائماً، غير كاف للحكم على برامجهم وتوجهاتهم الاقتصادية، ما لم يتحدد موقع هذا المبدأ في الهيكلية العامة لفكرهم السياسي. فمنذ سبعينيات القرن الماضي صار ممكناً العثور على ليبراليين يولون عائلة الحقوق المرتبطة بالعدالة وتلك المرتبطة بالحرية الأهمية نفسها، وهذا بعد المراجعة التي بدأها جون رولز في كتابه المعروف «نظرية في العدالة». لكن الفارق بين الليبراليين وغيرهم، هو أنهم رفضوا ربط الحقوق بأي تصور مسبق للخير كالذي تفعله المذاهب الأخلاقية والفلسفية والدينية. فمن واجب المجتمع حسب أخلاق الواجب الليبرالية أن يدافع عن الحقوق بمعزل عن مضمونها الأخلاقي، إما لأنها ذات منشأ فطري وطبيعي (راولز)، أو لأنها تحقق منفعة عامة (جون ستيوارت مل). يرى الليبراليون أن قيمة الحقوق الجماعية موازية للحقوق الفردية (مثلاً العدالة والحرية) فيما يذهب أصحاب النزعة الاجتماعية إلى أن الحقوق المرتبطة بمبدأ العدالة هي أعلى من الحقوق الأخرى. وبقدر ما يبدو إسلاميو التيار الأساسي اقرب إلى النزعة الجماعية في السياسة، لأن منظومة الحقوق السياسية عندهم تصدر عن مثل عليا دينية وأخلاقية وإنسانية لا نقاش فيها (لاحظ عبارات «ثنائية الروح والمادة»، «الحياة وحدة لا تتجزأ جوانبها»، «الكرامة الإنسانية» الواردة في برنامج الحرية والعدالة)، فإنهم اقرب إلى النزعة الليبرالية في الشأن الاقتصادي، حيث لا تكتسب العدالة أسبقية على غيرها من المبادئ والحقوق. فالمنهج المقاصدي المعتمد من قبلهم، لم يتعامل مع العدالة الاجتماعية على أنها قيمة قائمة بحد ذاتها بل ربطها بحق الحياة والبقاء. هذا ما يظهر مثلاً في حصر دور الدولة والمجتمع بتأمين «الضروريات»، اما «التحسينات» و«حاجات النعيم» فتترك للسوق ولا تخضع لمعايير العدالة. إن رؤية اقتصادية إسلامية منصفة، تلبي طموحات المجتمعات الثائرة لا ينبغي أن تقف عند حدود التمسك بالقيم المرجعية للدين وأحكام الشريعة الثابتة، بل عليها أيضاً ان تحلل بعمق الجذور الاجتماعية والسياسية والتاريخية للمشكلة الاقتصادية، حتى تتمكن من ربط عالم القيم والمبادئ العليا بعالم السياسات. كما أن قدر الإسلاميين، وما ينبغي ان يصير خيارهم المعلن، هو معارضة منطق النظام الاقتصادي الدولي وتبني الرفض القاطع لآليات الهيمنة والتبعية والتجزئة والنمو غير المتكافئ. ثم إن تطور الإسلام السياسي وتفاعله مع الأحداث لا يجب ان يقتصر على احترام التنوع المجتمعي وتعديل رؤيته لعلاقة الدين بالدولة، بل عليه بموازاة ذلك ان يتبنى مقاربة ثورية لدور الدول التي ينشط فيها على الصعيد العالمي وفي مواجهة المشاريع الدولية. وقد أظهرت التجارب الناجحة ان الحق بالتقدم والتنمية ينتزع انتزاعاً، وان أي دولة تحتل موطئ قدم على خريطة الاقتصاد العالمي مرت أولا بمخاض طويل من التجاذب والصراع مع المركزية الغربية، وامتلكت منظوراً واضحاً لكيفية مناوأة لتبعية والهيمنة (تجربة أميركا اللاتينية مثلاً). لا يناور الإسلاميون، كما يُعتقد، بل يجربون أفكارهم التي لن تأخذ شكلها الأخير إلاّ بعد مخاض من التجارب والصراعات والمنافسات. هم قرروا المراجعة وحسنا فعلوا، لكن التنازلات يجب ان تقدم في المكان المناسب ولمصلحة الشركاء في وضع العقد الاجتماعي الجديد، ومن أجل تحقيق التنمية المستقلة والسيادة الاقتصادية (والسياسية). فالدولة القوية لا الدولة الرخوة هي البيئة المناسبة للتقدم، اما منطق التنمية التابعة فسيجر الدول المنتفضة إلى فخ المعونات، حيث عليهم تقديم التنازل تلو الآخر للأقوياء والأثرياء على حساب الشركاء الطبيعيين في المحيط العربي والإسلامي القريب وفي العالم اجمع.
__________________________________________
رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق