محاولة نقدية في نظرية قتل المرتد
فقدان الدليل القرآني على قتل المرتدّ
كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد ايمانهم و شهدوا ان الرسول حق و جاءهم البينت و اللّه لا يهدى القوم الظالمين*اولئك جزاءهم ان عليهم لعنة اللّه و الملائكه و الناس اجمعين*خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون*الا الذين تابوا من بعد ذلك و اصلحوا فان اللّه غفور رحيم*ان الذين كفروا بعد ايمنهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و اولئك هم الضالون*ان الذين كفروا و ماتوا و هم كفار فلن يقبل من احدهم ملء الارض ذهبا و لو افتدى به اولئك لهم عذاب اليم و ما لهم من ناصرين (آل عمران: 86 ـ 91).
يُطلق الارتداد([1]) في اصطلاح القرآن والفقه على الرجوع عن دين الإسلام إلى المعتقد السابق أو إلى دينٍ آخر، وهو من المواضيع التي صُنّفت له مسائل عديدة في كتب الفقه (باب الحدود)، خالفت هي الاُخرى القرآن الكريم وصريح سنة النبي الأكرم‘.
ونحاول عرض الموضوع وكشف النقاب عن زواياه الخفيّة، على أمل أن يكون محط أنظار العلماء وروّاد الفقه الإسلامي، سعياً لإعلاء راية الإسلام وتنقيته من الخرافات.
قال الزمخشري تعقيباً على قوله تعالى: {كيف يهدي الله ….}: «كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف؟! لما علم الله من تصميمهم على كفرهم، ودلّ على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا بأنّ الرسول حق، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت النبوّة، وهم اليهود كفروا بالنبي‘ بعد أن كانوا مؤمنين به، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات. وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة. منهم: طعمة بن أُبيرق، ووحوح بن الأسلت، والحارث بن سويد بن الصامت … »([2]).
وقال معقباً على قوله تعالى: الا الذين تابوا من بعد ذلك؛ من بعد ذلك الكفر العظيم والارتداد، (وأصلحوا) ما أفسدوا، أو ودخلوا في الإصلاح. قيل: نزلت في الحارث بن سويد حين ندم على ردّته وأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاّس بالآية، فأقبل إلى المدينة فتاب، وقبل رسول الله‘ توبته»([3]).
ثم قال في بيان قوله تعالى ثم ازدادوا كفرا؛ «هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن، أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل …»([4]).
ويظهر ذلك أيضاً من تفسير مجمع البيان والصافي وتفسير الرازي.
ثم راح الزمخشري يكمل حديثه في بيان الآيات المذكورة بقوله: «وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وازديادهم الكفر أن قالوا: فأن نقيم بمكة نتربص بمحمدٍ ريب المنون، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة. فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفراً فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى لن تقبل توبتهم؟ قلت: جُعلت عبارة الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إنّ اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون من جملة من لا تقبل توبتهم»([5]).
ونقل في مجمع البيان وتفسير الصافي عن الصادق عليه السلام أنه قال: «نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له: حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المخدّر بن زياد البلوي غدراً وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله‘: هل من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا… } فحملها إليه رجل من قومه،فقال: إني لأعلم أنك لصدوق ورسول الله أصدق منك، وأن الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه….»([6]).
فلم نجد أي كتاب من كتب مفسري السنّة أو الشيعة،ولم نعثر كذلك على حديث واحدٍ أو كلامٍ من فقيه أو محدّث ذهب إلى قتل المرتد عند تعليقه على الآيات المذكورة.
قال الزمخشري في ذيل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (النساء: 137): «والمراد بذفيهما (المغفرة والهداية) نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص،والمعنى: إنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعُهِدَ منهم ازدياد الإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت برضا الله، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرةً بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب؛ وأنه أمر لا يكاد يكون،وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على شر حال وأسمج صورة »([7]).
ومن هنا، نرى أنّ الفتوى بقتل المرتد لا تقوم على دليل من الكتاب،وهو أعلى مراتب الأدلة وأقواها من حيث الأهمية والمنزلة،فلو سألنا الفقهاء: من أي آية استنبطتم قتل المرتد؟ كيف سيجيبون؟! هل لديكم علم بذلك؟ فأكبر ما نخشاه عليكم هو أن يؤدي اتّساع رقعة هذا القول بينكم إلى أن تكونوا فريسةً لمن لا يقلّد ولا يرعوي في تفسير الحقائق، فيقع قولكم في شباكه فيبدل صورة الرحمة والرأفة والحرية التي يتجلّى بها الدين إلى دين الخشونة والإرهاب والقسوة.
فقدان دليل السنّة الشريفة على مقولة قتل المرتدّ
والتحقيق أنّ الأخبار الضعيفة الواردة في قتل المرتد لا توجب العلم ولا الظن ولا الشك، بل يتّضح عند التدبر فيها أنها أخبار مجعولة وموضوعة؛ مخالفة للكتاب العزيز، لأنه لو كان هذا التكليف واجباً وملزماً لذُكِرَ في القرآن، في حين لم يرد لا في القرآن ولا في السنّة العملية أو الفعلية للنبي‘ إزاء المرتدين في زمانه، وبذلك يحصل لدينا العلم بفساد مثل هذه الأخبار،فلابد من التدبر والتأمل في الآيات وتفاسيرها، والروايات وطرقها، ليُعلم الحق والصواب،ويتسنى لنا الإيمان والاعتقاد.
آيات الارتداد في القرآن الكريم
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة: 54)، يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ(البقرة: 217)، ان الذين كفروا بعد ايمنهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم(آل عمران: 90)، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (محمد: 25).
فكما ذكرنا في المبحث السابق، لو كان حكم المرتد هو القتل لورد ذكره في القرآن الكريم حتماً، ولكن لم تكن هناك إشارة لذلك في كتاب الله، لاسيما وأن القرآن فيه تبيان لكل شيء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: 89)، ومن المعلوم حكم القتل من أعظم الأحكام وأهمها، وليست وظيفة النبي‘ سوى تبليغ القرآن والعمل به وعليه فيجب على المرتد الخارج عن الإسلام التوبة والرجوع، ويجب كذلك رفع كل الشبهات التي أدّت إلى ارتداده، حتى لو طال أمد ذلك.
كما أن قوله تعالى لا اکراه فى الدّین(البقرة:256)، ونحوه من الآيات الأُخرى تجري بحق المرتد أيضاً، فكما لا يجوز إجباره وإرغامه على قبول الدين، كذلك لا يجوز إجباره على الرجوع بعد ارتداده، فلو تاب قُبلت توبته إلى ثلاث مرات، وإذا تجاوزت ذلك فلن تُقبل توبته عندئذٍ؛ لأنه لم يتب واقعاً؛ وإلاّ فلا يتكرر ارتداده وقبول توبته في المرّة الثانية والثالثة لطف به وإحسان، وغلق لجميع نوافذ الحجج والأعذار بوجهه.
ويتحد المعنى في آيتي النساء وآل عمران، فقد ورد ازدياد الكفر في كليهما، والذي يتحقق بمحاربة الكفار لله ولرسوله، والسعي لنشر الفساد في الأرض من خلال حمل السلاح والتعدّي على الآخرين، فلو بلغ كفره هذا الحد، فسيكون من المحاربين وسيعامل معاملتهم.
من جهة أُخرى ،لم يأمر النبي صلى الله عليه واله وسلم بقتل المنافق أو المرتد،في حين قد ارتد بعض المسلمين، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اقتلوا فلاناً؛ لأنه صار مرتداً.
نظرية قتل المرتدّ، وقفة نقدية مع الأدلة والحجج
الرواية الأولى: عن الإمام الباقر× أنه قال: «ومن جحد نبياً مرسلاً نبوته وكّذبه، فدمه مباح، قال: فقلت له: أرأيت من جحد الإمام منكم، ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الله فبرأ من دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام»([8])، هكذا نقلها في الوسائل، لكنه ختمها بعبارة «فهو كافر»، وفي الوافي أكمل الرواية هكذا: «ودمه مباح في تلك الحال إلا أن يرجع ويتوب إلى الله مما قال، ومن فتك بمؤمن يريد ماله ونفسه، فدمه مباح للمؤمنين في تلك الحال»([9]) .
ونقول هنا: أولاً: إنّ الخبر ضعيف سنداً.
ثانياً: إنه لم يتعرض للارتداد، بل جاءت في سياق إنكار النبي المرسل، سواء كان الشخص المنكر كافراً أصلاً أم مسلماً ثم كفر.
ثالثاً: إنّ الخبر يحكم بارتداد وكفر من ينكر الإمام، وهو مخالف لإجماع الشيعة واتفاق جميع المسلمين، الذين يذهبون إلى إسلام كل من يُقرّ بالشهادتين ويعترف بضروريات الإسلام،كعدم إنكار نبّوة النبي صلى الله عليه واله وسلم ؛ وبالتالي تسري في حقه جميع أحكام الإسلام، وهذا الخبر مخالف لما ثبت في دين الإسلام ضرورة.
رابعاً: يلزم من العمل بهذا الخبر جواز قتل كل من لم يعتقد بعقائد الإمامية المتعلقة بالإمام، في حين لم يقل أحد منهم بذلك.
خامساً: في ضوء الحديث المتقدم، تُقبل التوبة من الكافر مطلقاً، سواء كان كفره ناشئاً أم لا، وهو يخالف الأخبار التي ترى قبول توبة المرتد الفطري فقط.
الرواية الثانية: «سألت أبا جعفرعليه السلام عن المرتد فقال: من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه واله وسلم بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ويُقسّم ما ترك على ولده»([10]) .
الرواية الثالثة: قال عمّار الساباطي: سمعت أبا عبد الله× يقول: «كل مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد نبوته وكذبه، فإن دمه مباح لمن([11]) سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتد ولا تقربه([12])، ويقسم([13])،ماله على ورثته، وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه»([14]) .
الرواية الرابعة: عن الفضل بن يسار عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «أنّ رجلاً من المسلمين تنصّر، فأُتي به أمير المؤمنين عليه السلام فاستتابه فأبى عليه، فقبض على شعره ، ثم قال: طئوا أبا عبد الله! فوطِئ([15]) حتى مات»([16]) .
ونقول تعقيباً على هذه الروايات ما يلي:
أولاً: إنّ سند هذه الأحاديث ـ وكما سيأتي تفصيله ـ ضعيف.
ثانياً: يستفاد من الرواية الأخيرة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمهل الرجل النصراني ليتوب مرّة واحدة فقط، ولم يمهله ثلاث مرات، فيها الخبر الذي يدل على استتابة المرتد يشير صراحة إلى استتابته ثلاث مرّات، فيكون عمل علي عليه السلام معارضاً لهذا الخبر.
فإن قلت: يمكن أن يكون المرتد فطرياً، وهو موافق لبعض الأخبار التي تدل على استتابته فنقول: إنّ الخبر يدل على أنه استتيب مرّة واحدة،وهو يخالف الأخبار القائلة بعدم استتابته أصلاً.
ثالثاً: إنّ الطريقة التي قُتِلَ بها المرتد تخالف النصوص الناهية عن القتل المرافق للتعذيب.
رابعاً: إنّ الاستناد إلى خبر الساباطي فاسد أيضاً، إذ لو جاز قيام كل من يسمع كلام الكفر بقتل صاحبه، لعمّ الهرج والمرج، وتعطّلت الأحكام القانونية والنظم الجزائية، ولاختل النظام الاجتماعي بأسره، حيث لا يشترط هذا الخبر الرجوع إلى القاضي.
خامساً: يستفاد من هذا الخبر (خبر الساباطي) وجوب قتل المرتد من قبل الإمام، وعدم قبول توبته، وهو مخالف للقرآن.
الرواية الخامسة: عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: «في المرتد يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتِل، والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت ورجعت، وإلا خلدت في السجن وضُيّق في حبسها»([17]).
والإشكال في هذه الرواية قائم أيضاً، حيث لا تفرّق بين المرتد الفطري والملّي، الأمر الذي يخالف باقي الأخبار، مضافاً إلى الخدش في سندها بسبب جهالة معظم رجاله،ولوجود سرّاد فيه أيضاً.
قراءة نقدية في أسانيد أخبار قتل المرتدّ
لم تخل كتب الرجال من الجرح في سرّاد الذي يقرأ زرّاد أيضاً، وكان قد وُثّق في بعضها.
قال في منتهى المقال: وأصحابنا ينهون ابن محبوب،وهو السرّاد،فلا يعد حديثه صحيحاً ولا حسناً. سهل بن زياد من أصحاب أبي الحسن الثالث (الهادي). واختلف قول الشيخ الطوسي فيه،فقال في موضع: إنه ثقة. وقال في عدّة مواضع: إنه ضعيف الحديث غير معتمد فيه. وكان أحمد بن محمّد بن عيسى([18]) يشهد عليه بالغلو والكذب، وأخرجه من قم. وأظهر البراءة منه، ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه،ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل،وقال العلامة في الخلاصة: وقال النجاشي: كان ضعيفاً في الحديث، موسى بن بكر واقفي لم يعدّله أحد ولم يوثّـقه. عمّار الساباطي واقفي. قال في منتهى المقال: ضعّفه جماعة من أهل النقل، وذكروا أنّ ما ينفرد بنقله لا يعمل به، لأنه كان فطحياً، وقال ابن داوود في رجاله: إنّ عماراً الساباطي ضعيف،فاسد المذهب، لا يعمل على ما يختص بروايته.
مناقشة الفقهاء فيما يتعلق بحكم المرتد ومعنى المحارب
نقول للفقهاء الذين أفتوا، ويفتون بوجوب قتل المرتد الفطري دون استتابته، والملّي معهما وإمهاله ثلاثة أيام، كيف تجرأون على الإفتاء بقتل النفس المحترمة دون دليل واضح من الكتاب والسنة القطعيّة؟! حيث أفتى هؤلاء الفقهاء بشيء لم يكن ثابتاً من قبل الله تعالى، في حين نسبوه إليه سبحانه.
ثم نقول: لا شك في أنّ المراد من بعثة الرسل وتنزيل الكتب السماوية هو الإيمان بهما، والعمل بما جاء فيهما، ليفوز الإنسان بسعادة الدارين، وقتل النفس ليس عملاً مطلوباً، إلاّ في أداء الضرورة الملزمة كالحروب الدفاعية أما مَنْ لم يؤمن أو آمن ثم ارتدّ وصار محارباً لله ورسوله، فإن الحكم بقتله إكراه وإجبار في الدين، وذلك مرفوض بالقرآن الكريم نفسه: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (العنكبوت: 18).
ومع هذا فعدّ الجاحد والمنكر محارباً لا ينسجم مع معطيات اللغة والفقه ومخالف لاتفاق الأمة، والغريب أيضاً هو اعتبار بعض السراق وأمثالهم، كالمهربين من المحاربين،وأفتى بعض الفقهاء والقضاة بقتلهم، فلو سلمنا باحتمال شمول إطلاق المحارب لهؤلاء، فهل يجوز إراقة الدماء بمجرد الاحتمال والشك؟! فما ذاك إلاّ الضلال والإضلال.
وغاية ما يستفاد من هذه الأخبار القليلة هو الظن، وهو ليس حجة في المسائل المتعلقة بقتل النفس وإراقة الدماء([19]) ،فكيف أفتوا بقتل النفس اعتماداً على هذه الأخبار؟ في حين أنّ قتل النفس يعد من أعظم الكبائر: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَ مَنْ أَحْياها فَکَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً (المائدة:32)،مضافاً إلى أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، كما ورد في أكثر من رواية عن النبي صلى الله عليه واله وسلم ([20]).
ونتيجة الكلام: إنّ هذه الأخبار آحاد، وهي متعارضة ومختلفة فيما بينها، ولا يجوز العمل بها أصلاً، حيث لا تفيد إلاّ الظن، فحري بالفقيه أن يكون دقيقاً في الاستنباط، وأن لا يكون عجولاً في الإفتاء، ولا يكون شريكاً في إراقة الدماء، ولا يجعل من فتواه المؤثر الأقوى في المباشرة بسفكها، فلو لم تكن فتوى الفقيه، لم يحصل مثل هذا القتل، وعليه فإن خطيئة القتل بل القصاص تقع على عاتقه ومسؤوليته، والعجب من الآراء الفقهية التي لا تقوم على أدلة الكتاب والسنة، بل على الأدلّة القاطعة خلافها.
ثم إنّ الأخبار المتواترة ـ معنوياً ـ من طريق السنّة والشيعة، تدل على أنّ الحدود تُدرأ بالشبهات، علاوةً على ما لدينا من أخبار ـ تحدّد التعزير بالسوط بعشر إلى عشرين ضربة، ولا تجيز أكثر من ذلك، فكيف اعتبار واحدٍ وسبعين وواحدٍ وتسعين سوطاً جائزاً؟!
وما نريده من الفقهاء، هو الدليل الصريح القطعي الصدور؛ لأن صيانة حرمة الإنسان وشرفه واجبة بحكم الكتاب والسنّة القاطعة، فأين التخصيص القاطع؟ أجل، إنَّ التعزير واجب بمقتضى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يجب أنّ يكون بأقلَّ مراتب التعذيب والأذى، ولهذا السبب فإن الحدّ في الخطأ والذنب يتوقف على ذلك، ولو تاب المسيء سقط عنه التعزير أيضاً، لأن الله توّاب رحيم، قابل التوبة عن عباده. وهو المستفاد أيضاً من الروايات التي وردت فيها الحدود، مطلقةً وعامة، وعليه فإن إيذاء أي إنسان حرام، إلا ما ثَبُتَ جوازه من قبل الشارع المقدس، ومثل هذا الجواز لا يصدر ولن يصدر بسهولة وبساطة.
ولا يخفى فإن الإفتاء بقتل المرتد ورجم الزاني المحصن، وضرب الناس بالسياط وقطع يد السارق التي لم يثبت جوازها من الشارع المقدس، أدّى إلى جعل الإسلام موضعاً للمساءلة والاتهام، فإن عقلاء الناس لا يقبلون هذه الفتاوى. ويعدّون ذلك من الإكراه والإجبار والظلم، وهتك الأعراض وكشف عيوب الإنسان أمام الملأ فإثبات الزنا مثلاً لا يمكن تحقيقه، حيث لا يمكن قبول تحقق زنا المحصَنين لأنه ممتنع عادة، فلا بد أن يشاهد الحالة أربعة شهود عدول. وكذلك يجب رؤية الميل في المكحلة، من هنا يعلم أنّ غرض الشارع هو بيان كبر المعصية والخطيئة، وأنّ فاعلها خارج عن الإيمان ومورد لغضب الرحمن ومحروم من دخول الجنان بنص القرآن الكريم.
والحاصل أنّ الحدّ منحصر بما نصّ عليه الكتاب العزيز، كالقتل والزنا بعد الإقرار والبيّنة، وإذا حدث أن صار المتهم تحت وطأة الضرب أو الترهيب أو الإهانة، وكان عاجزاً عن فعل شيء، فلا يصح إقراره، مع علمنا أنه إذا لم يخف لا يقرّ بالجريمة، إلاّ نادراً، وهو ما يريده الشارع.
لا يقال هنا أنّ في ذلك مضيعة للحقوق؛ لأن المجرم لا يعترف إلا قليلاً؛ لأننا نقول: إن طرق كشف الحقيقة عديدة ولا تنحصر بما ذُكر، وعلى أيّة حال فإن مراد الشارع متعلق بعدم الإكراه والتخويف عند إقرار المتهم.
حكم المرتد في التوراة وتساؤل عن حال الروايات!!
ورد حكم المرتد في التوراة على النحو التالي: <10ـ وخرج ابن امرأة إسرائيلية هو ابن رجل مصري في وسط بني إسرائيل وتخاصم في المحلّة ابن الإسرائيلية ورجل إسرائيلي. 11ـ فجدّف ابن الإسرائيلية على الاسم وسبّ. فأتوا به إلى موسى وكان اسم أمه شلومية بنت دبري من سبط دان. 12ـ فوضعوه في المحرس ليحن لهم عن فم الرب. 13ـ فكلم الرب موسى قائلاً. 14ـ أخرج الذي سبّ إلى خارج المحلّة فيضع جميع السامعين أيديهم على رأسه ويرجمه كل الجماعة. 15ـ وكلّم بني إسرائيل قائلاً: كل من سبّ إلهه يحمل خطيئته. 16ـ ومن جدّف على اسم الرب فإنه يقتل. يرجمه كل الجماعة رجماً. الغريب كالوطني عندما يجدف على الاسم يقتل. 17ـ وإذا أمات أحد إنساناً فإنه يقتل. 18ـ ومن أمات بهيمة يعوض عنها. نفس بنفس. 19ـ وإذا أ حدث إنسان في قرية عيباً فكما فعل كذلك يُفعل به. 20ـ كسر بكسر وعين بعين وسن بسن. كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يحدث عيباً فيه. 21ـ من قتل بهيمة يعوض عنها ومن قتل إنساناً يقتل. 22ـ حكم واحد يكون لكم، الغريب يكون كالوطني. إني أنا الرب إلهكم. 23ـ فكلم موسى بني إسرائيل أن يخرجوا الذي سبّ إلى خارج المحلّة ويرجموه بالحجارة ففعل بنو إسرائيل كما أمر الرب موسى24>.
والمستفاد من هذا النص أنه لم يجر الحديث عن الاستتابة ولا عن نوع كلمة الكفر كيف توجب الكفر وما هي خصوصيتها؟ وكما هو معلوم فقد اعتبر القرآن الكريم التوراة محرّفة عندما جاء فيه: مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (النساء: 46). إلا باحتمال إنّ تكون الأخبار الضعيفة سنداً والمخالفة للكتاب درايةً من وضع اليهود وافتراءاتهم؟! لأن القرآن الكريم يصرح: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ (التوبة:104). حيث إنّ الخطاب مطلق لا استثناء فيه،فما يريده اليهود من ذلك هو أنّ لا يطعن أحد بحكم التوراة هذا، ليقولوا: إن هذا الحكم في الإسلام أيضاً. ولربما كانت هناك دواعي أُخرى، ومع هذا الاحتمال سيجري الحديث الشريف: «ادرؤوا الحدود ما استطعتم» و«ادرؤوا الحدود بالشبهات» ليكون حاكماً على تلك الأخبار. وبناءً على هذا فعدم العلم القطعي بالحكم يوجب عدم جواز قتل المرتد.
نقد مقولة ربط الارتداد بالمحاربة
قال الله في كتابه الكريم : إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ(المائدة:33).
«روى عكرمة عن ابن عباس: فنزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه لم يكن عليه سبيل،وليست هذه الآية للرجل المسلم، فمن قتل وافسد في الأرض وحارب الله ورسوله،ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه، فكم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب»([21]).
ولا يخفي أنّ الآية تدل صراحةً على أنّ القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل والإبعاد، مشروط بمحاربة الله ورسوله والسعي للإفساد في الأرض؛ لأن حرف (الواو) يدل على الاتحاد في الدلالة بين المعطوف والمعطوف عليه، كما عليه اتفاق أهل اللغة. ومحاربة الله ورسوله لا تتحقق إلا عند وقوع القتال بين النبي وغيره،فلو كان العدو كافراً أو مرتداً عن الإسلام، ولم يحارب الله ورسوله ولم يقاتلهما، فلا يجوز قتله.
والذي يثير الدهشة والغرابة أن بعض المتفقهين اعتبروا من أفتوا بقتله مفسداً في الأرض، وقد عمل بهذه الفتوى كثيرون، ظناً منهم جواز ذلك، في حين أنّ هذا الحكم مستفاد من أخبار الآحاد التي لا تتجاوز الأربعة، فهل يحصل العلم بوجوب القتل بواسطة مثل هذه الأخبار؟! ولماذا لم يرد ذكر مثل هذا الحكم في الكتاب العزيز .. الذي قال فيه تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا؟! وفي أي واقعة أمر فيها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بهذا الحكم؟
كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهـــــل تلقاه مرزوقا
هذا الذين ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا([22])
وقد أورد المفسرون عدّة وجوه في تفسير هذه الآية، من جملتها ما ذكره الفخر الرازي: «نزلت في قوم من العُرَينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام، فمرضت أبدانهم واصفرّت ألوانهم فبعثهم رسول الله‘ إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا، فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا، قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا، فبعث النبي‘ في أثرهم وأمر بهم، فقُطّعت أيديهم وأرجلهم وسُملت أعينهم وتُركوا هناك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية نسخاً لما فعله الرسول، فصارت تلك السنة منسوخة لهذا القرآن»([23]).
ويرد على ذلك ما يلي:
أولاً: هل أن في بول الإبل شفاء؟ وهل أنهم لم يكونوا بحاجة إلى غداء آخر غير بول الإبل ولبنه؟!
ثانياً: من هم هؤلاء وما هي هويتهم، ولماذا توقفوا في المدينة؟!
ثالثاً: كم كان عدد الرعاة؟ وكيف قتلوا بأجمعهم، وكم فرسخ كان بينهم وبين المدينة؟ حيث كانت ترعى إبل الصدقة غرب المدينة.
رابعاً: كيف تجرّأت هذه الفرقة القليلة أن تقترب من المدينة دون خوف أو رعب، فتقتل وتسرف في الوقت الذي كان يعيش الإسلام أقوى أيامه وأشدّها؟
خامساً: لماذا بعث الرسول في أثرهم فسُمِلت أعينهم وقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وتركوا حتى ماتوا جوعاً وعطشاً؟ فهل يجيز الإسلام هذه الغلظة والقسوة؟!
سادساً: كيف تنسخ هذه الآية عمل النبي‘ مع أنها وافقت ما قام به إلاّ ما فعله من سمل الأعين؛ حيث خلت الآية من ذلك، مضافاً إلى ذلك أنه لو كان هذا العمل صادراً عن النبي‘ لامتلأت به كتب التأريخ.
والحق: إن قصّة قوم عُرينة وقصة أبي برده الأسلمي لا أصل لها، وهي من مجعولات الأعداء، وآن الوقت لتطهير كتبنا من هذه الخرافات.
هذا وقد ذكر الفخر الرازي وجوهاً أخرى في تفسير هذه الآية لم نجد دليلاً على أيّ منها.
لقد جاءت هذه الآية في سورة المائدة، وهي آخر سورة نزلت على النبي‘ وهي متعلقة بالجهاد ضد المشركين الذين يحاربون الله ورسوله من الذين يقفون بوجه نشر الدعوة الإسلامية، فكان شعارهم في الحرب ضد النبي‘ هو القضاء على الدين وإبطاله، وقتل المؤمنين، ونشر الفساد والنهب والسلب وهتك الأعراض، وعليه فإن الآية نزلت لوعيد المشركين وتخويفهم كي يكفّوا عن نشر الفساد بين المسلمين. ومن جهة أخرى، فإن فيها إرشاد وعظة للمسلمين، ليقفوا يداً واحدة بوجه المشركين ويشحذوا هممهم إزاء مؤامراتهم. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (الصف: 4).
حيث نشاهد ـ وفي آيات عديدة ـ أن الباري تعالى ينهى المؤمنين عن إظهار الضعف والوهن أمام الأعداء، فيرغّبهم ويدعوهم لإيقاع الرعب في قلوب المعاندين والمشركين، وليعلموا أنهم إن لم يقبلوا السلم والصلح وأرادوا مواصلة الحرب لا يمكنهم القضاء على المسلمين وغلبتهم.
وهنا بعض الآيات التي تشير إلى ذلك: إِنَّما ذلِکُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(آل عمران: 175). وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْکَرَ فيهَا اسْمُهُ وَ سَعى في خَرابِها أُولئِکَ ما کانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ (البقرة: 114). سَنُلْقي في قُلُوبِ الَّذينَ کَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَکُوا بِاللَّهِ (آل عمران:151). وَ أَنْزَلَ الَّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ مِنْ صَياصيهِمْ وَ قَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَريقاً (الأحزاب:26). وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّکُمْ(الأنفال:60).
وهكذا يوجه الباري سبحانه وتعالى خطابه إلى المسلمين حينما يأمرهم بضرورة اشتداد بأسهم واستجماع قوتهم أمام الكفار: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ(الفتح:29).يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْکُفَّارَ وَ الْمُنافِقينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصيرُ (التوبة:73). فهذه الآيات المباركات وأمثالها جاءت لترهيب الكفار وإرعابهم، وإيجاد القوة والقدرة في قلوب المسلمين، لئلا تظهر عليهم علائم الضعف والوهن أمام أعدائهم من الكفار والمشركين.
وعليه، فالآية التي دار عليها البحث: {إنما جزاء الذين… } كانت من هذا الباب أيضا،ً ولم تكن مورد الضرورة ومقصداً لعمل النبي‘؛ لأن الكفار ـ حين نزول هذه الآية ـ لم يكونوا محاربين لله ولرسوله ولا مفسدين في الأرض.
ويُروى عن رسول الله‘ أيضاً أنه قال: «نُصِرْتُ بالرعب»، ويقول كذلك: «الحرب خدعة»، حيث يستفاد من ذلك أنّ من العوامل المؤثرة في النصر إيجاد الرعب في نفوس الأعداء وخداعهم عند القتال، ولكن للأسف صار الرعب والخدعة من الوسائل التي يستخدمها السلاطين وقادة الدول الإسلامية ضد الشعوب المسلمة، حيث لا هم محاربون ولا هم كفرة!! في حين لم يكن النبي‘ قد عمل بهذا الأسلوب حتى مع الكفار الذين لم يدخلوا في حرب مع المسلمين.
وقفة مع روايات الحدود والتعزيرات
روُي من طرق السنة مسنداً إلى أبي بردة: أنه سمع رسول الله‘ يقول: «لا يجلد أحد فوق عشر أسواط إلا في حد من حدود الله»([24]). ورُوي عن رسول الله‘ أنه قال: «لا عقوبة فوق عشر ضربات من حدود الله»([25]). وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله‘: لا تُعزّروا فوق عشرة أسواط»([26]). وعن جابر بن عبد الله، عن أبي بردة، قال رسول الله‘: «لا يُجلدُ أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل»([27]).
ومن طرق الشيعة: «قال رسول الله‘: «لا يحل لوالٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلاّ في حدٍ»([28]).
ونقول هنا: إن هذا الحديث مخالف لما رواه الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في التهذيب عن إسحاق بن عمار أنه قال: «سألت أبا إبراهيم موسى بن جعفر× عن التعزير كم هو؟ قال: بضعة عشر سوطاً ما بين العشرة إلى العشرين»([29]). كما أن هذا الخبر يخالف الخبر القائل بأن التعزير إنما هو بحسب رأي الإمام([30]). نعم، إذا كان مراعياً للعدل والرحمة، وجرى التعزير دون الضرب بالسوط فلا إشكال فيه، فالعمل بخبر من لا يحضره الفقيه عن رسول الله‘ متعين؛ لأنه عدّ الحدود أعم من التعزير، وهو دافع للشبهة المتصورة، فإن وجود الخبر النبوي الذي اعتبر عدم جواز ما زاد عن عشرة سياط هو من أقوى الشبهات، وهذا الخبر يخالف خبر إسحاق بن عمار وخبر جابر بن عبد الله يخالف أحدهما الآخر، وهما من أخبار الآحاد التي لا تفيد العلم ولا العمل .
ثم أن رسول الله‘ لم يجعل حداً لشارب الخمر، بل كان يعزّره بالنعل، فإنه وإن كانت أقوال الصحابة قد اختلفت في ذلك، لكن لم يدّعِ أحد منهم أن الشارع كان قد قرر لشارب الخمر حداً معيناً، فقد ضرب عمر شارب الخمر أربعين سوطاً ثم زاد عليه حتى بلغ ثمانين سوطاً، على هذا المنوال حُرّفت الكثير من الأحكام؛ مع أن الرواية جاءت متواترة عن النبي‘: «أدرأوا الحدود بالشبهات», فعمل عمر الذي صار سنةً متّبعة عند أبناء السنّة والجماعة،يقع على خلاف.
روى الحلبي عن حماد عن أبي عبد الله× أنه سُئل: «أرأيت النبي‘ كيف كان يضرب في الخمر؟ فقال: كان يضرب بالنّعال، ويزيد إذا أتى بالشارب، ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف ذلك على الثمانين»([31]). وذلك في إشارة إلى عمر.
نقول: لا يجوز لأحدٍ من الأمة أن يزيد في مقدار التعزير الذي عمل به النبي‘ فالزيادة فيه بدعة في الدين وضلال عن الحق المبين. قال صاحب الوافي في شرح هذا الحديث: «الوجه في ازدياد الضرب يوماً فيوماً إلى أن استقر الحد على ثمانين، وتشديد الأمر على الناس في ذلك على التدريج، كما وقع في أصل تحريم الخمر وأريد بالناس الولاة المنصوبون لإقامة الحدود»([32]).
نقول أولاً: ليس للأمة أن يضيفوا شيئاً على الحد ليستقر على الثمانين أو غيره، إذ لو جاز مثل هذا الأمر لم يبق حكم من الأحكام ضمن الحد والرسم الذي عينه الشارع المقدس له، فهل يجوز للأمة أن تضاعف الحكم وتزيد عليه دون تصريح من الشارع نفسه؟! إنّ هذه المسألة ليست من صلاحيات الأُمة ومسؤوليتها، حتى يمكنها تشديدها أو مضاعفتها تدريجاً، مضافاً إلى ما جاء في الأخبار الكثيرة من طرف الفريقين، والتي عيّنت التعزير بعشرين ضربة إذا كانت بالسوط، ولم تُجز تعدّي ذلك الحد،كما ويمكن معاقبة المجرم بطريقة أخرى، كأن يأخذ المال منه أو يسجن وفق ما يراه القاضي العادل.
ثانياً: لقد قال صاحب الوافي: «كما وقع في أصل تحريم الخمر»، وتحريم الخمر وقع تدريجاً بأمر الوحي وعمل النبي‘، وأين هذا من تبديل الحكم وتغييره بعد انقطاع الوحي وتوقفه؟ فإن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة([33]).
والعجب من الُمحدّثين والفقهاء كيف لا يعدّون أخبار الآحاد المخالفة للأصول المسلمة ضعيفة ومردودة، ويتشبثون بأعواد الرياحين لتوجيهها.
أما قول الفيض: إن « المراد بالناس الولاة المنصوبون لإقامة الحدود»،فمن الواضح أن المأمورين لإقامة الحدود ليسوا سوى عمّال بني أمية وبني العباس، فهل كان يجوز لهؤلاء التصرف في الأحكام ومضاعفتها، حقاً إنه أمر عجيب!!
السيرة النبوية في منهاجية التعامل مع المرتدين والكفار والمنافقين
كان عبد بن سَلول رأس المنافقين في المدينة، وهو من اليهود الذين دخلوا الإسلام خشية فتك المسلمين به، ولكن في كل يوم تظهر مفسدة من مفاسده، وهنا نذكر واقعتين حدثتا بينه وبين رسول الله‘؛ الأولى ما ذكره الكشّاف عند تفسيره لقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَکُونَ (المنافقون: 4)، «هم العدو: أي الكاملون في العداوة؛ لأن أعدى الأعداء العدو المُداجي: الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي… وروي أن رسول الله’ حين لقي بني المصطلق على المر يسيع وهو ماء لهم، وهزمهم وقتل منهم؛ ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أُبي، واقتتلا، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وسنان بالأنصار، فأعان جهجاهاً جعّال من فقراء المهاجرين ولطم سناناً، فقال عبد الله لجعّال، وأنت هناك، وقال: ما صحبنا محمداً إلا لنلطم، والله ما مثلنا ومثلهم لا كما قال سمن كلبك بأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، عنى بالأعز: نفسه وبالأذل: رسول الله‘, ثم قال لقومه ما فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعّال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم. ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم، فلا تنعقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حَدَث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت فما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، أذن ترعد أنف كثيرة بيثرب، قال فإن كرهت أن بقتله مهما جرى، فأمر به أنصارياً فقال: فكيف إذا تحّدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وقال‘ لعبدالله: أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك، وأن زيداً لكاذب، وهو قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً (المنافقون:2)، فقال الحاضرون: يا رسول الله! شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وَهِمْ. وروي أن رسول الله قال له: لعلّك غضبت عليه، قال: لا، قال فلعلّه أخطأ سمعك،قال: لا، قال: فلعله شبّه عليك،قال: لا، فلما نزلت: لحق رسول الله زيداً من خلفه معرك أذنه وقال: وفت أذنك يا غلام،إن الله قد صدقك وكذّب المنافقين، ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حبّاب ـ وهو عبد الله غيّر رسول الله اسمه ـ وقال: إن حباباً إسم شيطان، وكان مخلصاً،وقال ولاءك ـ والله ـ لا تدخلها حتى تقول: رسول الله الأعز وأنا الأذل، فلم يزل محبوساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته، وروى أنه قال له: لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك، فقال: ويحك، أفاعل أنت؟ قال نعم، فلما رأى منه الجدّ قال: أشهد أن العزّة لله ورسوله وللمؤمنين، فقال رسولُ اللهِ لابنه: «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً»، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آيٌ شداد، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فنزلت وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ (المنافقون: 5). ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات»([34]).
الواقعة الثانية: هي ما ذكره الرازي في تفسيره: «أنه لما اشتكى عبد الله بن سَلول عاده رسول الله‘ فطلب منه أن يصلّي عليه إذا مات ويقوم على قبره،ثم إنه أرسل إلى الرسول‘ يطلب منه قميصه ليكفّن فيه، فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفّن فيه، فقال عمرt: لم تعط قميصك الرجسَ النجس؟ فقال‘: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً، فلعلّ الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام »، وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذٍ ألف»([35]).
وما نرمي إليه من عرض هاتين الحادثتين بيان أن رسول الله‘ كان يعرف المنافقين قبل وبعد نزول هذه الآيات الكريمة وغيرها، حيث نزلت آيات عديدة لكشف حقيقتهم، كما في قوله تعالى: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَکُمْ(محمد: 30) فلاحظوا الآيات في سورة النساء، الأنفال، التوبة، الأحزاب، المنافقين، لتعرفوا فساد المنافقين والمشركين، ولذا قدّمهم في الوعيد بالعذاب على الكفار: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْکُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ (التوبة:68).
ومع ذلك كله لم يأمر رسول الله بقتل أحد من هؤلاء، بل كان قتاله منحصراً بالمشركين عند محاربتهم له، ويدافع عن كيان الإسلام إذا تجاوزوا عليه، وأما المرتدون علم يقتل أحداً منهم، ولم تجد آية واحدة في القرآن الكريم تشير إلى وجوب أو جواز قتل المرتد، إلا إذا حاربوا الله ورسوله، وقد وصلنا إلى عدم إثبات وجوب أو جواز ذلك من الكتاب والسنة، وقلنا: إن القرآن الكريم نهى عن اتّباع الظن والاحتمال، لاسيما إذا كانت المسألة متعلقة بالنفوس والدماء، مضافاً إلى أن الدين الإسلامي الحنيف مبني في دعوته للناس على أساس الحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالحرب والإجبار، وذكرنا أيضاً أن الروايات التي يمكن الاستناد إليها في هذا المجال لا تفيد حتى الظن، فيجب ضربها عرض الحائط.
موضوع جدير بالاهتمام
علّل رسول الله‘ عدم قتل المنافقين بأخذ الحجة من المشركين والمنافقين كي لا يقولوا: إن محمداً يقتل أصحابه، الأمر الذي يؤدي إلى ابتعاد الناس عن الإسلام وحرمانهم من اعتناق الدين الحق المبين، إذ يحسبون أن الإسلام دين القهر والجبر والإرهاب الذي يبطله القانون القرآني القائل: لا اکراه فى الدّین فلماذا لا يقتدي (الفقهاء والمحدثون) برسول الله‘، فالناس ناس والزمان زمان؟! حيث إن قتلكم المرتد غير المحارب لله ولرسوله، وغير المفسد في الأرض، سيؤدي إلى عدم ميل الناس إلى الإسلام، بل الفرار منه كما تفر الحيوانات الأليفة من زئير الأسد وعواء الذئاب، فأين الرحمة والإحسان والعفو عن المخطئ، والدعائم التي ستجعل قلوب الناس أشد تعلقاً ومحبة للدين وأكثر قرباً منه؟!
فقد ذُكر في كتب التاريخ أن هّبار بن الأسود ممن تعرض لزينب فضربها وأسقط جنينها. وقد ذكر هذه الواقعة ابن أبي الحديد في شرحه للنهج عن البلاذري، فقال: «فأما البلاذري فإنه روى أنّ هّبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله‘ حين حملت من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله‘ يأمر سراياه أن ظفروا به يحرقوه، ثم قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار، وأمرهم إذا ظفروا به أن يقطّعوا يديه ورجليه ويقتلوه، فلم يظفروا به حتى إذا كان يوم الفتح هرب هّبار، ثم قدم رسول الله‘ المدينة حين فرغ من أمر حنين فمثل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبل إسلامه، وأمر أن لا يعرض له، وخرجت سلمى مولاة رسول الله‘ فقالت: لا أنعم الله بك عيناً، فقال رسول الله‘: مهلاً فقد محا الإسلام ما قبله. فقال البلاذري: فقال الزبير بن العوام: لقد رأيت رسول الله‘ بعد غلظته وهّبار يعتذر إليه وهو يعتذر إلى هبار أيضاً»([36])
فكان من أعظم أخلاق النبي‘ العفو عند المقدرة، وهو ما حصل عند فتحه لمكة، فبعد كل ما اقترفته قريش من ظلم المسلمين وتعذيبهم ومحاربتهم له في بدر وأحد والخندق وغيرها من المعارك، يدخل النبي‘ ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل مدججين بالسلاح، فكانت قريش تعتقد يومئذ أن النبي سيقطع رقابهم بسيفه، وألاّ يمكنهم الفرار من سطوته وجبروته، ولكن انظروا ماذا فعل النبي‘، أمر المنادي أن ينادي كل مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وعندما اجتمع الناس عنده عند جبل الصفا، نادى بأعلى صوته: «لا أقول لكم إلا ما قال أخي يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، أذهبوا وأنتم الطلقاء»([37]).
فآمن الجميع إلا عكرمة بن أبي جهل ومعاوية بن أبي سفيان وهبّار بن الأسود، حيث فرّ هؤلاء إلى خارج مكة، فهرب عكرمة إلى اليمن، لكن زوجته كانت أعقل منه، ذهبت إلى رسول الله‘ تطلب الأمان له، وعندما استجاب النبي‘ لذلك، ذهبت إلى زوجها، فأدركته في ساحل من سواحل تهامة وقد ركب البحر، فلمّا وصلت إلى مقربة منه أشارت إليه بالنزول، وقالت له: لقد أخذت لك الأمان من رسول الله، فرجع إلى مكة وذهب إلى رسول الله‘، وقال: هل أعطيتني الأمان؟ قال‘: نعم، عندها أسلم عكرمة أيضاً([38]).
وأمّا هّبار فقد جاء إلى النبي‘ وأسلم، في حين ظل معاوية بن أبي سفيان متحيّراً ستة أشهر تقريباً يتسكع البوادي لا يدري ما يصنع، ويُنقل أنه كتب إلى أبيه حينها يحذّره من الدخول في الإسلام:
يا صخر لا تسلمِنَّ طوعا فتفضحينا | بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا | |
جدّي وخالي وعمُّ الأمَّ يا لهم |
قوماً وحنظلة المهدي لنا الأرقافالموتُ أهونُ من قول الوشاة لنا خلي ابن هند عن العزّاذ أفرقا([39])
فلما أيقن أنّ القدرة للمسلمين بعد ما ولّت قدرة قريش وجبروتها، جاء إلى المدينة وأسلم، مكرهاً وبقي منافقاً حتى موته([40]).
ومن سماحة النبي‘ وعظم أخلاقه عفوه عن المرأة اليهودية التي أتته باللحم المسموم بعد فتح خيبر، الذي أكل منه بشر بن البراء بن معرور، وذهب المؤرخون إلى أن النبي‘ أكل منه قليلاً أيضاً، لكن لم يثبت ذلك عندنا، بل جاء في بعض كتب التاريخ أنّ النبي نهى بشر بن البراء عن الأكل منه، فلما لم يمتثل لأمره أكل منه ومات، فهذه الوقائع وأمثالها الدالة على أخلاق النبي‘ السامية كانت في أوج قدرة المسلين وعظمتهم، فالعفو عن أعدائه في تلك الفترة يجسّد أروع الصور التي تجلى بها الدين الإسلامي العظيم.
الهوامش
(*) أحد مراجع التقليد في مدينة إصفهان، يؤمن بالاجتهاد القرآني، وينكر حجية أخبار الآحاد، له دراسات عديدة مخالفة للسائد المشهور بين الفقهاء، توفي منذ فترة وجيزة.
([1]) قال في المنجد: ارتدّ الشيء: ردّه. طلب ردّه عليه واسترجعه، وارتدّ على أثره، أو عن طريقه: رجع، وارتدّ عن دينه: حاد، وقال الراغب الإصفهاني في مفرداته: الارتداد والردّة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردّة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره. من يرتد منكم عن دينه: وهو الرجوع عن الإسلام إلى الكفر.
([6]) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الإمام علي×، بيروت، الطبعة الأولى: 2/338ـ339.
([8]) الصدوق، محمّد بن علي، من لا يحضره الفقيه, جامعة المدرسين ط2, 2/104.
([10]) الكافي:6/174, والاستبصار: 4/252ـ253, والتهذيب: 8/91, والوافي:أبواب الحدود والتعزيرات:2/80.
([11]) «لمن»في الوسائل, و«لكل من»في الوافي.
([13]) من قوله «ويقسّم »إلى آخر الحديث أضيف في الوافي.
([14]) راجع الكافي: 6/ 174؛ ومن لا يحضره الفقيه:3/149؛ والتهذيب:8/91؛ والوافي أبواب الحدود والتعزيرات:2/70
([15]) فوطئ في الوافي، فوطئه في الوسائل
([16]) الوافي: أبواب الحدود والتعزيرات:2/70
([17]) انظر الكافي:7/ 256، عن علي بن إبراهيم؛ والتهذيب: 10/137، والاستبصار:4/253، عن السرّاد.
([18]) كان والياً على قم في ذلك الوقت.
([19]) لقد ألفت كتاباً بهذا المجال وسينشر قريباً.
([20]) الوسائل، كتاب الحدود، باب أنّ الحدود تدرأ بالشبهات: ادرؤوا الحدود من المسلمين ما استطعتم، وأبو داوود: الصلاًة:114، والترمذي: الحدود 2: ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا، وابن ماجة.
([21]) السيوطي، جلال الدين، الدر المنثور: 2/277.
([22]) مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي: العدد:149، ص124.
([23]) الرازي، محمد بن عمر، تفسير الرازي، وذكر الطنطاوي في تفسير الجواهر:2/180:أن هؤلاء القوم كانوا رعاة في البادية، فانتخبهم النبي‘ ليرعوا الإبل ليلاً، لكنهم سرقوها.
([24]) صحيح مسلم:ج5 باب قدر اسواط التعزير.
([26]) ابن ماجة، السنن :حديث:2602.
([27])المصدر نفسه: حديث 2601، أبو داوود:2، الحدود، باب:38، 4491، ص:167، الترمذي، الحدود: 30.
([28]) من لا يحضره الفقيه: 4/73، والوسائل: كتاب الحدود والتعزيرات:28/375.
([29]) الكافي:7:240، والتهذيب:10/144.
([30]) يشمل لفظ (الإمام) في الروايات العلماء والأمراء والقضاة؛ فيقال: إمام الجمعة وإمام الجماعة وغيره، وهو معنى (إمام الأصل) في اصطلاح الشيعة.
([31]) أنظر الكافي:7/214ـ 215، والتهذيب: 10/ 191، حيث جاءت في هذين الكتابين بسندين، أنظر الوسائل أيضاً:18/446، والوافي:2/59، أبواب الحدود والتعزيرات، باب حد شرب المسكر.
([36])ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 3/360، طبعة بيروت، 362، طبعة مصر.
([37]) النسائي، أبو عبد الرحمن احمد، السنن الكبرى، دار الكتب العلمية بيروت، 6/383.
([39]) الأميني، عبد الحسين، الغدير:10/168، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الأولى، 1997م.
([40]) ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم: 7/211، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية،1999م.