ـ الحلقة الثانية ـ
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي(*)
ثالثاً: الحوزة العلمية والثقافة
أ ـ الحوزة العلمية والثورة الثقافية
1 ـ الثورة الثقافية ومسؤوليّتنا تجاهها
إن إحدى توجهات ثورتنا الإسلامية المباركة واهتماماتها هي الثورة الثقافية، التي تم طرحها بعد انتصار الثورة في الأوساط الجامعية. وتعطلت الدراسة في الجامعات لفترة من الزمن؛ بهدف تحقيق الثورة الثقافية وأسلمة الكتب والمناهج الدراسية, وبذلت في هذا الإطار بعض الجهود. ولكن مما يؤسف له أن الأهداف المرجوة لم تتحقق. ومن إحدى أسباب عدم تحقق هذه الأهداف هي قلة الكادر العلمي الملتزم في الجامعات. وتجدر الإشارة إلى أن هناك أسباباً أخرى أيضاً لها دخلٌ في هذا الإطار لا يسع المجال الآن للتطرق لها. وعلى أية حال فإن إحدى أهم تلك العوامل تمثلت في قلة الكادر العلمي في الجامعات. وعلى سبيل المثال: تم إدخال درسٍ في مناهج الجامعات يدعى «المعارف الإسلامية»؛ لكي يدرس الجامعيون المواد الإسلامية من خلاله, ولكن المؤسف أنه لم يتسنَّ لهم توفير الأساتذة الأكفاء وبأعداد كافية لتدريس هذه المادة في الجامعات, على الرغم من استعانتهم بالحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة ورجال الدين في المدن الأخرى. ولعل ذهاب البعض من الأفراد الذين توجهوا لتدريس هذه المادة في الجامعات كان أكثر ضرراً من عدم ذهابهم؛ لأن الآمال المرجوة منهم لم تتحقق وعادت بنتائج سلبية؛ إذ لم تكن لديهم الكفاءة والقدرة اللازمتين، ولم تتحقق الآمال المعقودة عليهم.
نحن نرى أن القرآن الكريم والمصادر الإسلامية قادرة على تلبية جميع المتطلبات الثقافية للمجتمع، سواء في البعد العقائدي أو في البعد الأخلاقي، وكذلك في الأبعاد السياسية, والقانونية, والاقتصادية وسائر الأبعاد التي ترتبط بشكل وبآخر بالمسائل الدينية والثقافية. والدليل الوحيد على إسلامية النظام الجامعي للبلاد في الوقت الحاضر يتمثل بدروس المعارف الإسلامية هذه. فإذا لم يتم تأمين أساتذة هذه الدروس من الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة ومن بقية الحوزات العلمية الأخرى فمن أين يتم تأمينهم إذن؟ وهل يجب أن يقوم الأساتذة الدارسين في الغرب بتلبية هذه الحاجة؟ أليس من المعيب على الحوزة العلمية التي ترى نفسها أنها الجهة التي تقوم بتلبية احتياجات البلاد الدينية وفي الوقت نفسه تعجز عن توفير الأساتذة الأكفاء بالعدد الكافي لتدريس دروس المعارف الإسلامية, بعد مضي عدة سنوات على انتصار الثورة الإسلامية في البلاد؟ أليست هذه المسألة من ضمن مسؤوليات الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية بشكل عام؟
وكما سبق أن قلنا: إن من إحدى مسؤوليات الحوزة العلمية مسألة الحرب الثقافية؛ إذ نرى اليوم أن جميع القوى في العالم تحزّبت لمحاربة الدين الإسلامي، وهذه المعركة لا تقتصر على المواجهة العسكرية فقط، على الرغم من أنها لا تتورع عن خوضها كلما سمحت لها الظروف بذلك؛ لكي يعملوا على إضعاف قوة المسلمين ومقاومتهم بأية وسيلة ممكنة.
والحقيقة أن أهم بُعدٍ في الدين الإسلامي يتمثل في بُعده الفكري والثقافي. فالإسلام يتعامل قبل كل شيء مع العقل والقلب والفكر أكثر من أي شيء آخر؛ إذ يعمل الإسلام على خلق الحركة الثقافية في المجتمع وتطويرها وتنميتها, والنشاطات الأخرى تتبلور وتظهر في ظل هذه الحركة. ففي جبهات الحرب تدور المعركة بالمدفعية والبنادق والأسلحة الأخرى, ولكن الحرب في الجبهة الثقافية تدور رحاها بشكل آخر. وبنفس الشكل الذي يقوم فيه الأعداء بإعداد الكثير من الخطط في الجبهات العسكرية والاقتصادية، ويعملون على تنفيذها, فهم يبذلون الكثير من الجهود في الجبهة الثقافية أيضاً, ويخططون لمشاريع معقدة؛ ليستأصلوا الإسلام من جذوره في المجتمعات الإسلامية، فتراهم يؤلفون الكتب باسم الإسلام وباسم الدفاع عنه, ولكنهم في الحقيقة يريدون إضعاف إيمان المسلمين بدينهم وعقيدتهم بواسطة تلك الكتب.
ولابد من الالتفات إلى أن ساحة المواجهة الثقافية هي من أخطر سوح المواجهة؛ لأنها ليست علنية، وتعمل على تجفيف معتقدات الناس بكل هدوء, من دون أن تثير فيهم أية حساسية تذكر. وبناء على ذلك يتوجب على المؤسسة الدينية ورجال الدين مراقبة الهجوم الثقافي لأعداء الإسلام, وأن يبذلوا المزيد من الجهود في سبيل تعزيز معتقدات الناس والثقافة الإسلامية في البلاد.
2 ـ أسباب ضعف الثورة الثقافية
منذ بداية عهد الثورة الإسلامية كانت تطرح جملة من التساؤلات بشأن الاقتصاد, والسياسة، والحكومة الإسلامية. وكان المتسائلون بصدد المقارنة، ويسعون للوقوف على الفرق بين الاقتصاد والسياسة والحكومة الإسلامية مع الاقتصاد والسياسة والحكومة في البلدان الأخرى. كما كانت التساؤلات تثار في مجال العلوم الإنسانية، وهل أن الإسلام متفق معها أم لا؟ إلا أن الإجابات كانت تُعطى بشكل إجمالي، ولم تتوفر الفرصة الكافية لتناول هذه المسائل بشكل أكبر. ومنذ أن تم طرح فكرة الثورة الثقافية، وجرت مقولة أسلمة المناهج والدروس الجامعية على الألسن, أخذنا نشعر تدريجياً بالنواقص والعقبات الموجودة في هذا الطريق. وهناك عدة أسباب لعدم نضج فكرة الثورة الثقافية، وسنشير إلى بعضها في ما يلي:
أ ـ إن أحد الأسباب التي أدت إلى عدم تطور الثورة الثقافية هو قلة الأفراد المطلعين على الشؤون والمسائل الثقافية. كما أن العدد القليل من الأفراد الأكفاء في هذا المجال, أمثال: الشهيد المطهري وأشباهه, قد حرمنا الأعداء منهم, رغم أنه لم يكن بالإمكان تأمين جميع الاحتياجات بوجود هذه الشخصيات أيضاً.
ب ـ بعض المسؤولين والمتصدين للأمور لم يدركوا أهمية المسائل الثقافية كما يجب وينبغي. ولكن لابد من القول: إنه نظراً لخلفيتهم العلمية ومعلوماتهم الإسلامية لا يمكن أن نتوقع منهم أكثر من ذلك، فكل واحد منهم كان متخصصاً في مادة معينة, ويدركون جيداً أهمية المسائل ذات الصلة بتخصُّصهم فقط, ويبذلون أكثر جهودهم أيضاً بشأن تلك المسائل. وعلى سبيل المثال: نجد أن آمراً من آمري الجيش يمضي فترة من الدراسة في الكلية العسكرية, وبعد إكماله مدة الدراسة يقوم بتأدية واجبه في أحد الصنوف في الجيش، ولا يمكن أن نتوقع منه أن يدرك أهمية بعض المسائل الأخرى، من قبيل: المسائل العقائدية, والفكرية، وغيرها، كما يجب وينبغي؛ ذلك أن تخصصه ليس في هذا المجال.
وكذا الحال بالنسبة لمسؤولي الوزارات, فلو كانوا متخصصين في مهنتهم، ويمتلكون الخبرة والتجربة اللازمة في هذا المجال, ويؤدون أعمالهم على أحسن وجه, يجب أن نكون ممتنين لهم. فعلى سبيل المثال: يجب أن لا نتوقع من وزير الطرق أن يكون مدركاً للمسائل والشؤون الإسلامية بشكل جيد. ولكن على أية حال فإن جميع الإمكانيات هي تحت تصرف هؤلاء الأشخاص، من قبيل: توزيع الطاقات, تخصيص الميزانية, ومسائل أخرى من هذا القبيل يتم إنجازها بإشرافهم.
والمشكلة تبدأ من هنا؛ ذلك أن هؤلاء الأفراد غير قادرين على لعب دور مؤثر في النشاطات الثقافية والإعلامية, سواء ما كان منها داخل البلاد أو خارجها. وعلى سبيل الفرض: لو أردنا أن نرسل مجموعة للتبليغ ونشر الثقافة الإسلامية إلى بلد مثل باكستان أو الهند، أو البلدان البعيدة، مثل: البلدان الإفريقية, وبلدان جنوب شرقي آسيا, أو البلدان الأوروبية وبلدان أقصى آسيا, التي تتوفر فيها الأرضية الخصبة والاستثنائية لممارسة النشاط التبليغي والإعلامي, سنواجه الكثير من المشاكل. فأولاً: يجب أن يمتلك أعضاء هذا الفريق الاستعداد اللازم للقيام بالتبليغ، ويرتبط هذا الأمر بقضية نقص المبلّغ الكفوء في الحوزة العلمية. وثانياً: لو افترضنا أنه توفر لدينا فريق تبليغي كفوء، ويمتلك كافة المزايا المطلوبة لإرساله إلى الخارج، فسنواجه جملة من المشاكل، من قبيل: نقص العملة الصعبة، وسائر الإمكانيات التي يجب أن تتوفر لهم.
وعلى أية حال فإن هذه المعوقات تمثل المشاكل الموجودة في مراكز اتخاذ القرار العليا. فإذا كان من المقرَّر إرسال فريق واحد فقط للتبليغ في إحدى الدول، وكان بحاجة إلى نفقات وإمكانيات كبيرة, فسوف لن يحظى بذلك القدر اللازم من الاهتمام والرعاية. نعم, لو حصل هذا الأمر لأغراض معينة تصبّ في المسار السياسي فمن الممكن أن يحظى بقدر معين من الاهتمام والرعاية.
ج ـ من إحدى مميزات المسائل الثقافية أن تأثيرها لن يظهر بسرعة. والفقر الثقافي ليس خانقاً كالفقر الاقتصادي. فعندما تشهد البلاد ارتفاعاً في نسبة التضخم الاقتصادي أو البطالة فإنها تلفت أنظار الجميع لنفسها, وتحمل المسؤولين على التفكير الجاد لوضع الحلول المناسبة لها, على العكس من الاحتياجات الثقافية التي تتسم أنها غير ملموسة بالقدر الكافي. ويتجه المسؤولون بشكل أكبر نحو القضايا التي تسبب المزيد من الضغط وعدم الارتياح. كما أن الناس لا يصرون كثيراً على إصلاح الأوضاع الثقافية؛ لأنهم لا يشعرون بحاجة ملحّة في المجالات الثقافية. وتوجد في حكومة البلاد عدة لجان، تضم كل واحدة منها عدداً من الوزراء ينسِّقون فيما بينهم في الأمور ذات الصلة المشتركة. ولعله من أهم تلك اللجان اللجنة الاقتصادية، التي يتعاون فيها وزراء الزراعة والصناعة والمالية، ويجري التخطيط فيما بينهم. وبعد مضي سبع سنوات على انتصار الثورة الإسلامية اقترح أحد الوزراء، وللمرة الأولى، تشكيل لجنة ثقافية أيضاً داخل مجلس الوزراء، أي إنهم لم يشعروا حتى ذلك التاريخ بأية حاجة في هذا المجال!
3 ـ انحدار الخط البياني لمسيرة الأخلاق والعقائد الدينية في الجامعات
تأسست الجامعات في مجتمعنا بهدف قيامها بإعداد الكوادر العلمية المتخصصة؛ للعمل في مختلف النشاطات الاجتماعية، بما في ذلك الميادين الزراعية والصناعية والاقتصادية والإدارية والسياسية وسائر المجالات الأخرى؛ لكي تتم تغطية احتياجات المجتمع في مجال توفير الطاقات البشرية. ولكن مما يؤسف له ويبعث على الأسى أن أوضاع الجامعات ـ وكما نسمع ذلك عن لسان المسؤولين والعاملين في هذا المجال ـ ليس مرضياً كما يجب وينبغي, سواء من الناحية العلمية, أو الأخلاقية والسياسية أيضاً, في حين أن هذه الثوابت الثلاثة (العلم, الأخلاق، والسياسة) تربطها أواصر وثيقة في ظل الجمهورية الإسلامية.
وبناء على الأخبار الموثوقة التي تصل إلى مسامعنا من مناطق البلاد المختلفة، وما أثبتته الإحصائيات العلمية بشكل وبآخر أيضاً, فإن الوضع الأخلاقي والعقائدي الديني في الجامعات يبعث على القلق الشديد؛ إذ إن الدراسات التي أجريت تشير إلى المنحى التنازلي للمعتقدات الدينية طيلة مرحلة الدراسة الجامعية. كما تكشف هذه الدراسات بشكل وبآخر عن مجالس المجون, والسهرات, وأعمال الفساد الجنسي، واستخدام المخدرات أيضاً. كما أن الإجراءات المتخذة لم تتمكن حتى الآن من الحؤول دون حصول هذه الأحداث بشكل كامل.
دراسة أسباب هذه الظاهرة الاجتماعية، والوقوف على دوافع ظهورها, هو من اختصاص علم الاجتماع والدراسات الاجتماعية. ومن المناسب أن تتم دراسة هذا الموضوع ومعرفة العوامل والأسباب المؤدية إلى إيجاد هذا الوضع. وقبل القيام بمثل هذه الدراسات الدقيقة الشاملة هناك عدة عوامل واضحة هي التي تؤدي إلى خلق هذه الحالة. وسنشير هنا إلى بعض تلك العوامل:
أ ـ يمثل الكتاب أحد الأركان الأساسية للجامعة. والمؤسف أن الكتب الدراسية للجامعات تم تأليفها من قبل الغربيين, والأساس الفكري للعلوم الإنسانية بجميع اختصاصاتها في الغرب قائم على الماديّة وأصالة المادة, وأصل الموضوع في جميع فروع العلوم الإنسانية التي تدرّس اليوم في الجامعات تقوم على أساس أن المادة فقط هي التي تقبل التجربة، ولا شأن لها بما وراء المادة. كما يطرح بين طيات الكتب أحياناً الرأي القائل بعدم وجود عالم الماوراء بالنسبة للمادة. والأساتذة الذين يدرّسون هذه الكتب يتعاملون معها وكأنها وحيٌ مُنزَل، فلا وجود لأي نقد أو تمحيص، ولا يتم تنبيه الطلبة للأخطاء الواردة في هذه الكتب. هذا النمط من الكتب هي التي تخلق هذه الحالة والذهنية, خاصة إذا كان للأسباب الخارجية أيضاً دخل في هذا الأمر.
ب ـ العامل الآخر الذي يتسبب في إيجاد هذا الوضع وهذه الذهنية يتعلق بالأساتذة. ففي الأعوام 1360 ـ 1361, حيث أعيد فتح جامعات البلاد, لم يكن لدينا العدد الكافي من الأساتذة، على الرغم من أن عدد الطلبة الجامعيين آنذاك كان أقل بكثير من العدد الحالي؛ ولأن البعض منهم توجهوا إلى جبهات القتال أو ميادين جهاد البناء والإعمار، ولم يكن بمقدورهم عملياً مواصلة الدراسة في الجامعات، لذا اضطرت الحكومة إلى توجيه الدعوة للأساتذة الذين غادروا البلاد إلى الخارج للتعاون معها في هذا المجال، وأن تمنحهم بعض الامتيازات أيضاً. وبهذا الشكل اضطرت الدولة إلى تأمين العدد اللازم من الأساتذة من خلال السماح للعملة الصعبة بالخروج من البلاد, ودفع الرواتب الباهظة للأساتذة، ومنحهم الامتيازات الاستثنائية. والعدد القليل منهم لم يكن مستعداً للعودة إلى البلاد؛ بسبب سوء ماضيهم السياسي, وأما بقية الأساتذة فقد عادوا إلى البلاد، وتم استخدامهم في الجامعات، سواء في فروع العلوم التطبيقية أو في فروع العلوم الإنسانية، وكان أغلبهم من ذوي الثقافة الطاغوتية, أو من غير المسلمين أيضاً.
والمؤسف أن بعض الأفراد المرموزين في الجمهورية الإسلامية يطرحون بعض الأفكار التي تؤدي إلى استئصال جميع جذور العقائد الدينية، ولن تدع مجالاً لإثبات أبسط المبادئ الدينية. وتثار هذه المسائل في الخطب والمحاضرات الدراسية في الجامعة، وفي المقالات وسائر الفرص السانحة الأخرى. كما يتصور البعض أيضاً أنه لو لم يكن هذا الشخص أهلاً للثقة لما سمحوا له بالتحدث عبر المذياع, أو أن ينشر كتاباته ومقالاته في الصحف والمجلات الرسمية للدولة.
ج ـ الكثير من الطلبة الجامعيين لا يرغبون؛ ولأسباب متعددة، بنظام الحكم في البلاد. وهذا سبب آخر من الأسباب التي تحول دون ازدهار البرامج والخطط الإسلامية والدينية في الجامعات. الطلبة الجامعيون الذين ينتمون إلى الطبقة المستضعفة من المجتمع يعانون أكثر من غيرهم من شظف العيش والمشاكل الاقتصادية, ويسعون للهو وقضاء الأوقات الممتعة. ومن هنا فهم مستاؤون من الحكومة الإسلامية؛ لأنها لا تسمح لهم بارتكاب الفساد, وإذا ظهرت حركة معينة يمكن أن تصبح سنداً لهم تراهم يرحبون بها ويتعاطفون معها. وهذه المجموعة تنظر للحركات الإسلامية على أنها تابعة للدولة, ويظنون أن الدولة تصرف الأموال لكي تتشكل هذه الحركات. فلو أن حزباً أو حركة معينة لا ترتبط بالدولة, وليس لها امتياز معين في الجامعة أيضاً، وتقوم بواجب إسلامي معين, فمن الطبيعي أن ينقاد إليها الآخرون إذا كان لعملها هذا مردود إيجابي.
4 ـ كيفية الحد من انتشار الفساد في الجامعات
كما سبق وأشرنا فإن الوضع في جامعاتنا ليس مرضياً لبلادنا ولحكومتنا الإسلامية. وبناءً على ذلك من الضروري اتخاذ الإجراءات الجادّة بهدف تحسين الوضع الأخلاقي والعقائدي والديني للطلبة الجامعيين. وسنشير هنا إلى جملة من العوامل التي بإمكانها المساهمة في التقليل من ظاهرة الانحلال الأخلاقي وضعف التوجه العقائدي والديني:
أ ـ الأساتذة الملتزمين: للأستاذ الملتزم دورٌ مؤثِّر جداً في الوقوف بوجه شيوع الرذائل الأخلاقية بين الطلبة الجامعيين. إذاً على أساتذة الجامعة الكرام الالتفات إلى مسؤوليتهم الكبرى والخطيرة. الأستاذ الملتزم والثوري يرى نفسه جندياً من جنود الإسلام, ويجب أن لا يقول: إني لو قمت بالدراسة الكذائية فسوف أحصل مقابل كل ساعة على المبلغ الكذائي؛ ويجب أن لا يقول: إني ملتزم أمام الجامعة بعدة ساعات في الأسبوع فقط، وإذا خصصت تلك الساعات للتدريس فإنها تكفي, وليس لدي مزيد من الوقت لكي أمنحه للجامعة, ويجب أن أهتم أكثر بالأمور الاقتصادية والمعاشية اليومية. هذا النمط من التفكير ليس تفكيراً ثورياً، وليس من طريقة تفكير الذين فجروا هذه الثورة الإسلامية، وجاهدوا في جبهات الحق ضد الباطل. على الأساتذة الملتزمين والحريصين أن يبذلوا ما بوسعهم من الجهود المضاعفة؛ لتربية وإعداد العقول المفكّرة والملتزمة.
ب ـ العلاقة الودية والعاطفية بين الأساتذة الملتزمين والطلبة الجامعيين: يجب على الأساتذة أن يكونوا هم السبّاقين في هذا المجال. وكمثال على ذلك: يقوم عدد من الأساتذة والطلبة بالاجتماع ليالي الجمعة بعد الصلاة في مسجد الجامعة، ويشرعون في نقاش علمي، فيقوم أحدهم بإلقاء محاضرة معينة، ويقوم الآخرون بتوجيه النقد له، فيجلسون إلى بعضهم بكل مودة ويتحاورون في جوٍّ علمي ودّي. وعندما يشاهد بقية الطلبة ذلك تتولد لديهم الرغبة للمشاركة في جلساتهم, وسوف تحيا في نفوسهم نفس تلك الروح الوقّادة التي شاهدناها في الأيام الأولى لاندلاع الثورة الإسلامية. وفي هذه الحالة يجب أن لا يكون للأعمال الآنفة الذكر بعدٌ سياسيٌّ؛ فتصبح سبباً للابتعاد عنها وعدم المشاركة فيها. ولو ظهرت في كل كلية مجموعة كهذه تتواصل فيما بينها وتنسِّق برامجها ونشاطاتها، وتستفيد من الإمكانات المتاحة, فمن المتأمَّل أن تتحسن أوضاع الجامعات، أما بمجرَّد إعطاء المقترحات والآراء فلا يمكن أن تحل أية مشكلة.
ج ـ تشكيل الخلايا المنسجمة والعامة في جامعات البلاد: هذه الخلايا يجب أن تكون مرتبطة فيما بينها، وتعمل على شكل شبكة. فمن مجموع مائتي أستاذ في جامعةٍ ما توجد على الأقل نسبة مئوية معينة من الأساتذة الملتزمين، والذين يحبون الدين. كما يمكن العثور على مجموعة من الطلبة الملتزمين والمتدينين من بين مجموع الطلبة أيضاً. ويجب السعي ابتداءً إلى تشكيل خليةٍ من هؤلاء الأساتذة والطلبة، وأن تقوم علاقات ودية وبنّاءة بين الأساتذة والطلبة من الناحيتين الفكرية والعاطفية؛ بهدف تقوية هذه الخلية ودعمها، وذلك عن طريق إقامة المحاضرات, وكتابة المقالات, ومنهج منتظم للمطالعة، وغيرها من الإمكانات اللازمة الأخرى؛ لكي تتم تقوية البنى الفكرية والعقائدية لهم. ومجموعة كهذه بإمكانها أن تحكم قبضتها على الجو الجامعي، وتترك بصماتها الإصلاحية الواضحة والمؤثرة فيها بقوة, بنفس المستوى الذي كان عليه المناخ الجامعي في بداية الثورة بيد المنافقين؛ إذ على الرغم من أعدادهم القليلة تمكنوا من السيطرة على الجو الجامعي، من خلال مثابرتهم وجديّتهم في العمل. ولكن الله تعالى فضحهم على أيدي هذه النخبة من الطلبة المؤمنين وأعمال المنافقين المشينة.
د ـ الاستفادة من حصة المؤسسات: هذا العامل بإمكانه أيضاً المساهمة في إصلاح الجامعة، والإبقاء على أجوائها ومحيطها سالماً؛ لأن المؤسسات الحكومية هي مؤسسات إسلامية، والأفراد المستخدمون فيها والعاملون عليها هم أفراد صالحون. والفائدة الأولى للاستفادة من حصة المؤسسات تتمثل ـ على الأقل ـ في أن الأفراد الذين يدخلون إلى الجامعة لا يخرجون منها وهم كافرون، إذ نشاهد اليوم أنه يدخل أحياناً بعض الطلبة الملتزمين والمتدينين إلى الجامعة, ويخرج منها في نهاية المطاف وقد تراجعت أفكاره وتغيرت معتقداته, بل الأسوأ من ذلك أنه قد يخرج منها وهو من الكافرين. لو كان بالإمكان القيام بما يحافظ على المعتقدات والأفكار الإسلامية للطلبة في الجامعة، وأن لا تتعرض إلى محاولات الانحراف, نكون قد أنجزنا عملاً كبيراً جداً بذلك.
هـ ـ المسؤولية المشتركة: لا تقع المسؤولية على الدولة فقط في مواجهة هذا النمط من المشاكل, بل يتحمل جميع أفراد الشعب هذه المسؤولية أيضاً. إذا قلنا: إن الحوزة العلمية تتحمل مسؤولية القضايا الفكرية للجامعة, والدولة تتحمل المسؤولية المالية والإدارية، والبقية لا يتحملون أية مسؤولية, فستزداد أوضاع الجامعات سوءاً يوماً بعد آخر. على كل فرد أن يفترض أنه لا يوجد شخص آخر غيره يتصدى للعمل، وإذا توفر شخص آخر فبها ونعمت, وإلا وجب على الجميع العمل فرادى، كلٌّ من موقعه في الوفاء بمسؤولياتهم. متى ما ظهر هذا المستوى من التفكير لدينا يمكننا أن نتأمل مستقبلاً زاهراً، أما لو أخذ كل منا ينتظر المبادرة من غيره، ومن ثم يتبعه، فسوف لن يُنجز أي شيء.
ب ـ الغزو الثقافي والحوزة العلمية
اختبر العدو طرقاً متعددة لمواجهة الدين الإسلامي. وعلى الرغم من أنهم لا يتورعون عن اللجوء إلى استخدام الضغوط الاقتصادية والسياسية، بل وحتى العسكرية إذا لزم الأمر, لإضعاف الإسلام والمسلمين وكسر شوكتهم إلا أن الطرق والوسائل الثقافية لها خصائص معينة تشجعهم على أن يعطوا للغزو الثقافي أهمية أكبر. كما أن هذا الطريق أقل خطراً وتكلفةً لهم، ومثمراً أكثر؛ للوصول إلى تحقيق أهدافهم الخبيثة. وكما هو واضح فإن الهجوم الذي يشنّه العدو على الجبهة الثقافية واسع جداً وعميق. ولو أمعنا النظر في كل بُعد من الأبعاد الثقافية سنشهد هذا الغزو بنحو معين.
الخطر الرئيسي للغزو الثقافي يتمثل في أنه ـ على العكس من الغزو العسكري ـ لا يشعر الجميع به حتى يستنفروا طاقاتهم للتصدي له والوقوف في وجهه. وفي هذا النمط من الغزو يستخدم الأعداء الناس، من حيث لا يشعرون، وبطرق متعددة، لخدمة هذا الغزو. وانطلاقاً من الأمور التي ذكرناها فإن الغزو الثقافي يحتاج إلى مزيد من الدراسات التفصيلية المعمقة, ولكن سنشير هنا فقط إلى إحدى جوانبه المرتبطة بالعقائد والأفكار.
وقبل البدء بالدراسة لابد من التذكير بمسؤولية الحوزة العلمية ورجال الدين وكل مسلم واعٍ تجاه هذه المسائل.
1 ـ مسؤولية الحوزة العلمية تجاه الغزو الثقافي
نحن نقف اليوم وجهاً لوجه أمام الكفر العالمي في الجبهة الثقافية؛ لذا يجب أن لا نفكر بالدعة والرفاهية. لقد قاموا بالهجوم علينا بما أوتوا من قوة ومن جميع الجهات, ولكن أكثر الناس لا يشعرون بذلك. هذه الأخطار يدركها جيداً شخصٌ كقائد الثورة الإسلامية؛ إذ يقول سماحته بهذا الصدد: «إن عملهم هذا يعدّ غزواً ثقافياً». كما يعبر عنها أحياناً بـ «الغارة الثقافية». في حين يتصور الآخرون أن المسألة ليست ذات أهمية، وأنهم منشغلون بأنفسهم.
لقد تحولت بلادنا اليوم في الجبهة الثقافية إلى ساحة للمواجهة بين المثقفين الملتزمين والقوى المعادية. كما أن الوقوف على الوضع الوخيم الموجود يتطلب أن لا يتنصل الآخرون من تحمل مسؤولياتهم، ويتركوا الأمر على حاله، ولا يقدموا على اتخاذ أي إجراء, بل ينبغي علينا جميعاً السعي لتشخيص الأوضاع على أفضل وجه ممكن, وأن نبذل ما بوسعنا، بعد التوكل بكمال الإخلاص على الله تعالى، والتأسّي بأولياء الدين^.
في بعض الأخبار المتعلقة بآخر الزمان تم التنبؤ بهذه المسائل. لذا من الممكن أن يقال: إن هذه الأمور ستقع على أية حال. وبما أننا لا نقوى على فعل أي شيء لذا يجب أن نراقب الأمور فقط. هذا المستوى من الفهم والاستنتاج غير صحيح بأي شكل من الأشكال, ولا ينبغي لنا الخوض في هذا النوع من الأوهام؛ لأن معرفتنا بأنه سيقع هكذا أمر في المستقبل لا يرفع عن كاهلنا عبء المسؤولية. وهذا النوع من القضايا يعد من الأمور التكوينية، والأخبار الواردة بشأنها لن تغير من تكاليفنا التشريعية إطلاقاً، فنحن مكلفون بالسعي في حدود ما أوتينا من قدرة وإمكانات، وبذل ما أمكننا من الجهد, والنتيجة ستكون بلا شك كما أرادها الله تعالى.
وهناك الكثير من العوامل التي تحول دون قيام الإنسان بأداء المسؤوليات الملقاة على عاتقه؛ فأحياناً يتعلل الأفراد بالذرائع والحجج، كما كان يحصل ذلك عادة أيام الحرب؛ إذ كان البعض يأتي بشتى الأعذار على أن له أعمالاً وواجبات أكثر أهمية؛ وأحياناً أخرى كانوا يتعللون بحجة قلة الإمكانيات. وأي من هذه الأعذار لا يرقى إلى المستوى الذي يرفع التكليف. ففي كل الأحوال نحن مكلفون بالعمل بمسؤولياتنا. وعلى الرغم من أن الإمكانيات قليلة إلا أننا إذا بادرنا وتحركنا فإن الله تعالى سيهيئ الإمكانيات. وقد أثبتت التجربة هذه القضية.
إذا كان التصور السائد يقول: طالما أن الإمكانيات المادية اللازمة لأداء النشاطات الدينية غير موجودة إذاً لا ينبغي القيام بأي عمل فلابُدّ أن نقول، رداً على ذلك: إن التجربة أثبتت أنه متى توفرت الجهود المخلصة يهيِّئ الله تعالى أدوات القيام بتنفيذ الأعمال.
2 ـ تحريف حقائق الإسلام
الأعداء يخشون الإسلام بشدة. وإذا كانوا يعارضون الجمهورية الإسلامية فلأن بلادنا وحكومتنا تدافعان عن الإسلام. فهم يعلمون جيداً أنه إذا ترسخت دعائم الدين الإسلامي، والتفتَّ الجماهير المليونية المسلمة حول راية دينهم, فإن جميع مصالح القوى العظمى تتعرض للخطر، بل من الممكن أن تظهر قوة إسلامية عظمى في العالم. وبالإضافة إلى ذلك فإن تغلغل الدين الإسلامي بين غير المسلمين بإمكانه أن يشكل سداً منيعاً يحول دون أعمال التهور الطائشة والجرائم التي ترتكبها القوى العظمى بحق الشعوب. وبناءً على ما ذكرناه بات من الطبيعي أن يشنّ الأعداء هجوماً على الأسس العقائدية للمسلمين, لكي يسلب منهم تلك الطاقة والقوة الدافعة التي تحركهم، ألا وهو الإسلام العزيز. والأدوات التي تقوم بتنفيذ هذه الأعمال المنحرفة إما من الأعداء الداخليين أو من أصدقائهم الأغبياء.
البعض من أفراد مجتمعنا لا يؤمنون بالإسلام في حقيقة الأمر, ولكنهم يخدعون الناس، فتراهم يتظاهرون بالتدين، وتنعق ألسنتهم بذكر الإسلام والقرآن؛ لتنفيذ مآربهم المشؤومة. وإلى جانب هذه المجموعة هناك فريق آخر يؤمن حقاً بالإسلام والقرآن ومذهب أهل البيت إلا أنهم وقعوا ـ ولأسباب متعددة ـ تحت تأثير أفكار الفريق الأول, وتصوروا أنه لكي يخدموا الإسلام، ويستقطبوا الطبقات المثقفة الواعية، عليهم أن يكتموا بعض العقائد الإسلامية، أو يقوموا بتحريفها. ويستفيد الأعداء من كلا الفريقين، بل ويدعمون هذا الاتجاه إذا لزم الأمر ذلك.
المحور الأساسي لنشاطات كلا الفريقين (الأعداء من الداخل؛ والأصدقاء السذّج) هو في بث الأفكار المسمومة، والترويج للعقائد المنحرفة، القائمة على إنكار الغيب. إنهم يقفون بالضبط في مواجهة القرآن الكريم. إنّ شرط الاستفادة من القرآن يتمثل في الإيمان بالغيب, إلا أنهم يقولون إزاء ما يقوله القرآن: إنه لا وجود إطلاقاً لأي شيء وراء المحسوسات (الغيب)، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فقالوا: إن الله عبارة عن (مجموعة القوانين التي تتحكم بالوجود).
وقد كان يوجد في أوساط الحوزة العلمية أيضاً بعض الأفراد الذين يفسِّرون الله تعالى بأنه عبارة عن (النظام الرياضي للعالم), ويقولون: إن ظواهر هذا الوجود قائمة على أساس سلسلة من القوانين الفيزيائية والكيميائية وسائر القوانين الطبيعية الأخرى, وإن تلك القوانين تابعة هي الأخرى لسلسة من القواعد والمعادلات الرياضية, وهذه المعادلات الرياضية هي «الله» تعالى. ومما يؤسف له أن هؤلاء الأفراد كانوا متلبسين بلباس رجال الدين، ويدرّسون الشباب وبسطاء الناس، بل كانوا يدرِّسون في بعض المؤسسات الرسمية.
ومن غير أن يتظاهر هؤلاء بإنكار كلمة (الغيب) كانوا يحاربون مصاديقه بكل شدة؛ فهم يقولون على سبيل المثال: إن قول الفلاسفة القائم على أن «عالم الغيب له وجود» كذب, و«المجرّد» هو من الأمور الوهمية، بل قالوا: إن الله تعالى ليس شيئاً مجرَّداً برأي القرآن, ويستدلون في ذلك بالآية الشريفة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} (البقرة: 115).
وقال فريقٌ آخر: إن الله تعالى هو أنموذج الحكومة العالمية الموحِّدة. ويقولون: بما أن الإسلام يريد أن يشكل الحكومة العالمية الموحِّدة فهو بحاجة إلى هذا الأنموذج. ويقولون أحياناً: «الله يعني نواميس الطبيعة والمجتمع», وأحياناً أخرى ينكرون الله تعالى، ويرون الإيمان به نوعاً من الإيمان بالخرافة وفكرةً مثالية، ويفسرون المعجزات الواردة في القرآن الكريم كذلك بأنها حوادث مادية، فهم ينسبون تيبس البحر لموسى× مثلاً إلى ظاهرة المد والجزر التي تحدث في البحر, وحمل السيدة مريم÷ بأنه من سنخ ولادة البكر. ومردّ جميع هذه الصيغ التعبيرية هو إنكار الغيب وما وراء المادة.
إنهم يسعون بالأساس إلى فصل الإسلام عن فكرة ما وراء المادة, والقول: إن الإسلام ليس ديناً، كالمسيحية والبوذية والبراغماتية وسائر الأديان الأخرى، يدعو إلى ما وراء المادة والغيب والمجرّدات والآخرة, بل إن الإسلام دينٌ يدعو قبل كل شيء، أو أنه يدعو فقط، إلى هذه الحياة الدنيوية المادية ليس إلا, وأن هدف هذا الدين يتمثل في الحياة الأمثل والتربية الأمثل والأمن في هذا العالم. وبناء على ذلك تراهم يتهمون العلماء ورجال الدين بأنهم يقدمون الدين للناس على أنه دين أخروي, وحذفوا منه المسائل الدنيوية والعينية.
ومن صور التحريف الأخرى التي يسعون إلى إيجادها في العقائد الإسلامية هو سعيهم إلى تفسير «الآخرة» بنحو آخر. فهم يقولون: «المراد بالآخرة خدمة المجتمع، أو مرحلة تكامل البشرية أو المجتمع التوحيدي الجديد. الجنة مجتمع غير طبقي؛ وجهنم مجتمع طبقي». كما يأتي في ذات السياق قولهم: «أحكام الإسلام ليست أبدية، بل تتعلق بمرحلة خاصة من تكامل البشرية التي تمتلك وضعاً خاصاً, أما الآن وقد تغيرت تلك الحالة التاريخية فيجب أن تتغير تلك الأحكام أيضاً».
رابعاً: الحوزة العلمية والجامعة
أ ـ وحدة الحوزة والجامعة
1 ـ العلاقة بين الحوزة والجامعة قبل الثورة الإسلامية
كلنا يعلم الوضع الذي كانت عليه الحوزة العلمية والجامعة في ظل النظام السابق. ففي ظل النظام السابق كان العمل يجري بالعكس تماماً مما كان يجب أن يحصل. فقد كانت الجهود منصبّة على إيقاع الفرقة والفصل بين المؤسسات. وأما في خصوص الحوزة العلمية والجامعة فقد كانت تبذل الجهود الكبيرة من أجل التفريق بينهما. إلا أن بعض الأفراد الملتزمين، أمثال: الشهيد المطهري، والشهيد الدكتور مفتّح، والشهيد الدكتور بهشتي، والشهيد الدكتور باهنر، انتبهوا لنقطة الضعف هذه، فكانوا يتفانون ويبذلون جهوداً جبارة من أجل إقامة العلاقات والترابط بين الحوزة العلمية والجامعة.
ما قام به أولئك الأجلاّء آنذاك من عمل كبير أثمر ينعه ثماراً قيّمة. وبفضل هذه العلاقة المحدودة التي حصلت بين الحوزة العلمية والجامعة آنذاك تعرّف أعزاؤنا الطلبة على ثقافة الدين الإسلامي ونظامه القيّم, فتمكنوا في البعد السياسي أن يتعاونوا مع إخوانهم من رجال الدين، ورأينا ما كان لهذا التعاون والتنسيق من تأثير عظيم في انتصار الثورة الإسلامية.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية كان الأمل المشروع الذي يحدو شعبنا المسلم، وما زال, هو في أن يرى هذين الصرحين العلميين وقد تقاربا من بعضهما أكثر فأكثر. كما أن إمام الأمة& كان يؤكد دائماً على وجوب التعاون والتنسيق بين الحوزة العلمية والجامعة, وأن يبذلا ما في وسعهما من أجل تأمين احتياجاتهما وإصلاح نواقصهما. كما أنجزت في هذا المجال بعض الخطوات التي يجب أن نتقدم بالشكر فيها إلى المسؤولين الذين تجشّموا عناء القيام بإنجازها. ولكن الشيء المهم هنا أنه يجب أن نلتفت إلى نقاط ضعفنا، ونعلم ما هي الأعمال المهمة والتي لم تنجز حتى الآن، فإذا كانت هناك أخطاء في الأعمال ينبغي أن يصار إلى تصحيحها، ولا نسمح من الآن فصاعداً بأن يبقى مجتمعنا الإسلامي المضحي، الذي وقف كل ما يملك لخدمة الإسلام, محروماً من بركات الوحدة بين الحوزة العلمية والجامعة أكثر مما حصل في السابق.
وفي هذا السياق تم انجاز خطوات بناءة قيّمة. وإحدى هذه الخطوات هو تأسيس «مكتب التنسيق بين الحوزة العلمية والجامعة». وقد قدّم مشروع تأسيس هذا المكتب من قبل الحوزة العلمية. فأثبتت الحوزة العلمية بهذا الشكل كفاءتها ومقدرتها بتقديم هذا المشروع بهدف تحسين الأوضاع الثقافية. وبالإضافة إلى التفاهمات التي أوجدها بين أساتذة الحوزة العلمية والجامعة فمن ثمار تأسيس هذا المكتب أيضاً جملة من المؤلَّفات التي تم طبع البعض منها ونشرها, وسيتم إصدار البعض الآخر أيضاً في أقرب وقت ممكن. وقد تم حتى الآن إصدار الكتب التالية من قبل هذا المكتب، وهي: «درآمدي بر جامعه شناسي إسلامي»؛ و«درآمدي بر اقتصاد إسلامي»؛ وغيرها من الكتب. كما أن كتاب «درآمدي بر حقوق إسلامي»، وكتباً أخرى في مجال علم النفس الإسلامي والعلوم التربوية من وجهة النظر الإسلامية، هي الآن قيد التأليف. هذه الجهود أثمرت الكثير من النتائج الطيبة لمجتمعنا، وبخاصة للجامعات. ولكن لابد من القول هنا: إن ما تم إنجازه في هذا السياق قليل جداً بالنسبة لما يجب أن يُنجز فعلاً.
والملاحظة التي لابد من الإشارة إليها هنا أنه على الرغم من النقاط الإيجابية الكثيرة الموجودة في المؤسسات التعليمية للحوزة العلمية والجامعات، وإنجاز الكثير من الخطوات القيّمة في هذا المجال، وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية, إلا أن أية مؤسسة حيّة فاعلة يجب أن تكون دائماً بصدد التعرف على عيوبها، والعمل على إزالتها. كما أن من الضروري أيضاً أن يعرف الفرد عيوبه، بل ويطلب من الآخرين أن يهدوا إليه عيوبه؛ لكي يلتفت إلى إصلاح ذاته وبنائها. يقول الإمام الصادق×: «أحّبُّ إخواني إليَّ مَنْ أهدَى إليَّ عُيوبي»([1]). إن أفضل هدية يقدِّمها المحب لحبيبه هي أن يدلّه على عيوبه. وإن لم يكن الأمر كذلك فإن كل فرد سيبقى في حالة من الركود، ولن يتدرج في سلم التكامل والرقي.
وكذا الحال بالنسبة للمجتمع. فعلى كل مؤسسة أو هيئة أو دائرة اجتماعية أن تضع نصب عينيها قضية الوقوف على نقاط ضعفها، وتطلب من الآخرين القيام بنقدها, ولكن بنَفَسٍ حريص وبنّاء, وليس نقداً هدّاماً يراد به الانتقام. إذا لم يكن مبدأ النقد موجوداً في حياة الفرد والمجتمع فأول ضرر ينجم عن ذلك هو الركود الذي سيؤول في النهاية إلى السقوط. يجب علينا أن لا نتوقف عند ما تمّ إنجازه من أعمال وخدمات ونقنع بها، فإن نقاط القوة الموجودة في المراكز التعليمية للحوزة العلمية والجامعة تعد من النعم التي منَّ الله تعالى بها علينا، وترسخت بجهود المسؤولين الملتزمين، ولابد من تكريمهم. ولكن قبل ذلك يجب القيام بالبحث عن نقاط الضعف.
على مسؤولي الحوزة العلمية والجامعة الوقوف على نقاط الضعف الموجودة في عمل المراكز العلمية التابعة لهما؛ فإن معرفة نقاط الضعف هذه تقود إلى بذل المزيد من الجهود الحثيثة لتذليلها. وبناء على ذلك فإن من إحدى المهام التي يجب أن يقوم المسؤولون الملتزمون بها في تلك المؤسسات هو التذكير بنقاط الضعف لبعضهم البعض.
2 ـ ضرورة الشعور بالمسؤولية تجاه الجامعة
على الطلبة ورجال الدين توخي الحذر والاهتمام بمسؤولياتهم؛ لئلا يُسألوا ذات يوم: لماذا لم تُقدِموا على إصلاح الأمور التي كان بإمكانكم إصلاحها؟ فلا يكون لديهم ما يُجيبون به. وعلى الرغم من ضرورة الحصول على المعلومات الخاصة؛ بهدف تذليل المتطلبات الثقافية للبلاد, لا ينبغي التوقف عند المعلومات القديمة والاكتفاء بها. ففي الوقت الذي ترسخت فيه أمواج الشك والانحراف في أذهان الشباب ومعتقداتهم، وأخذت تهدد العقائد والأفكار الإسلامية, لا يليق برجال الدين أن يبقوا مكتوفي الأيدي، ويقولوا: إن العلماء الأعلام كانوا يشتركون في عدة دورات لدروس البحث الخارج, وكلما انتهت إحداها عادوا للدخول في دورة جديدة أخرى؛ ليروا ما إذا كان فيها أمر جديد أم لا. لا ينبغي القول: وما شأننا إذا كانت الجامعات بحاجة إلى أمر كهذا. إذا كان هذا النفس موجوداً ـ لا سمح الله ـ فهل سيكون لدينا جواب لله يوم القيامة؟
لقد أكّد الإمام الخميني& بمزيد من الحرص والإخلاص في رسائله وبياناته ووصيته على قضية تقارب الحوزة العلمية والجامعة, إلا أن المؤسف أنه لم يتم التعاطي والتفاعل بشكل إيجابي مع نداءاته.
اليوم يقول المسؤولون في الجامعات: «على السادة رجال الدين التفضل بالمجيء إلى الجامعة؛ لكي تتم الاستفادة من علومهم، ومن المعارف والأخلاق والتربية التي يتحلّى بها رجال الدين»، ولا يوجد لدينا أي مانع في هذا الاتجاه. والأمر الآن ليس كما كان في زمن النظام السابق، بحيث إن رجل الدين إذا وطأت أقدامه أروقة الجامعة يُطرد بمهانة, بل إن رجال الدين يُدعون اليوم بكل تقدير واحترام. اليوم وعلى الرغم من كل ما نشهده من تقصير وقصور في الوضع العام للدولة، والأساليب غير المرغوب بها، والمتَّبعة في الكثير من الوزارات, إلا أنه تمت الموافقة على منح الخرِّيجين من الحوزة العلمية شهادةً تعادل البكالوريوس والماجستير، واستخدامهم بشكل رسمي في الجامعات. وعلى رجال الدين اغتنام هذه الفرص، وأن يعدّوا أنفسهم لتحمّل هذه المسؤوليات.
3 ـ المراد بالوحدة بين الحوزة والجامعة
يُفهم أحياناً أن المراد بالوحدة بين الحوزة العلمية والجامعة الوحدة الهيكلية والشكلية, وأنه بعد أن قامت الثورة الإسلامية يجب أن يدغم النظام التعليمي الجامعي والنظام الحوزوي في بعضهما البعض، ونتخلص من هذه التعددية في النظام التعليمي. ومن ثَمّ يطرح السؤال التالي: ما هي الآلية المناسبة التي يجب أن تُنجز بواسطتها هذه الوحدة؟ هل يجب أن يتم إلغاء إحداهما ونبقي على الأخرى؟ بمعنى أن تأخذ إحداهما شكل الأخرى، كأن تُستبدل الحوزة بالجامعة، أو بالعكس مثلاً؟ أو أن يتم إلغاء كليهما، ويظهر نظام تعليمي جديد إلى حيز الوجود, يكون بين بين، أو يجمع كلا النظامين في نظام تعليمي واحد، فلا يكون حوزوياً ولا جامعياً, بل يكون جامعاً لخصائص كليهما؟
ولابد من القول هنا: إن هذا الرأي خاطئ جملةً وتفصيلاً؛ إذ لم يكن مراد الذين طرحوا فكرة الوحدة بين الحوزة والجامعة وحدتهما الهيكلية على الإطلاق.
والشيء المعقول الذي يجب أن يتحقق هو أن تضع الحوزة والجامعة هدفاً مشتركاً نصب عينيهما، ويعملان جنباً إلى جنب من أجل تحقيقه. وهذه الوحدة لا تختلف عن الوحدة بين سائر فئات وشرائح المجتمع الأخرى. فعلى سبيل المثال: لا يقول أي شخص بأن يصبح الصفّارون حدادين أو الحدادون صفّارين, بل المراد من الوحدة هو أن تتحرك جميع شرائح الشعب باتجاه واحد، ويسعوا لتحقيق هدف واحد.
كما أن الوحدة بين الحوزة والجامعة لا تعني أن تتخلى الحوزة العلمية عن الفقه والأصول وسائر علومها الأخرى, وتتجه نحو الدروس الجامعية, أو على العكس من ذلك، فتتخلى الجامعة عن دروسها ومناهجها ويتجه الطلبة الجامعيون نحو دراسة المناهج الحوزوية, أو أن يرتدي الجامعي مثلاً ملابس رجل الدين، أو بالعكس. هذه الأمور يمكن أن تحصل، إلا أنها ليست هي الهدف المطلوب؛ لأننا بحاجة إلى جميع هذه العلوم الحوزوية والجامعية. ولابد طبعاً من أن تقوم مجاميع من الطلبة بدراسة تلك العلوم؛ إذ لابد من وجود الجامعي ليقوم بأداء مسؤولياته. وكذا بالنسبة للحوزوي. ولكن في المسائل السياسية يجب أن ينسّقا في ما بينهما، ويتشاركا في التخطيط للبرامج العلمية.
على الحوزة العلمية والجامعة أن ينشطا كخطين متوازيين, وأن يزداد التعاون بينهما قوةً, في الحالات التي تتلاقى فيها الأهداف والنتائج لكليهما, دون أن يبرز بينهما التضاد والتصادم. فعلى سبيل المثال: نجد أن هدف العلوم الإنسانية والتطبيقية واحد, وهو تلبية الاحتياجات العلمية للبلاد, إلا أن لكلٍّ منهما أسلوبه الخاص في البحث العلمي, فطريقة البحث العلمي في إحداهما اختبارية؛ وفي الأخرى باللقاء والأسئلة وغيرها.
ومن المقدور أن يكون لدينا نوعان من التعليم: أحدهما: يتمثل بتدريس العلوم التي لها علاقة مباشرة بالدين، أو أنها تغذّى من قبل الدين، أو تعمل على تقوية الدين، أو تكون في خدمة تطور الدين؛ والقسم الثاني: هو العلوم غير ذات الصلة المباشرة بالدين, إلا أنها تخدم الدين والمتدينين بصورة غير مباشرة. ولكل من هذين النوعين من العلوم خصائصه التي ينفرد بها، وخاصة أن أسلوب البحث العلمي في كل منهما يختلف كثيراً عن الآخر. وبشكل عام فإن أسلوب البحث العلمي في العلوم الإسلامية هو أسلوب نقلي وتاريخي, على العكس من أسلوب البحث العلمي في العلوم الجامعية، التي تكون أغلبها علمية.
وعلى أية حال فإن هذا المستوى من الاختلافات يقتضي أن يكون هناك نوعان من النظم التعليمية. ووحدة الهدف لا تستدعي دمجهما في بعضهما البعض؛ لأن وحدة الهدف تعني أن يكون لكليهما توجه واحد، ولا يشعران بالغربة فيما بينهما, بل يساعد أحدهما الآخر, ويتبادلان إمكانيات البحث العلمي والتدريس, ويستفيدان من تجارب بعضهما, ويقفان على نقاط القوة في كليهما، ويأخذان عن بعضهما الأقسام التي يمكن اقتباسها وتطبيقها في الحقل العلمي الخاصّ به, وأخيراً يتعاونان فيما بينهما في القضايا السياسية والاجتماعية.
4 ـ أوجه التعاون بين الحوزة والجامعة
4 ـ 1ـ تبادل الأساتذة
إن أحد أوجه التعاون بين الحوزة العلمية والجامعة يتمثل في تبادل الأساتذة في المجالات التي يمكن أن يساعد أحدهما الآخر. فمن جهة توجد اليوم في جامعات البلاد بعض الدروس تحت عنوان «المعارف الإسلامية»، وعناوين أخرى من هذا القبيل, وهي موجودة أساساً في مناهج الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية, وبإمكان الجامعات أن تستعين بأساتذة الحوزة العلمية في هذا المجال. ومن جهة أخرى تستطيع الحوزات العلمية أن تستعين بأساتذة الجامعات؛ لتوضيح آراء الإسلام ونظرياته بشأن قضايا العلوم الإنسانية.
4 ـ 2 ـ تبادل الدراسات
إن بعض المواد العلمية التخصصية في الحوزة العلمية والجامعة لا يوجد بينها ذلك الارتباط الوثيق؛ ولذا فإن التعاون البنّاء والجاد في هذا المجال سوف لن يكون عملياً؛ لأن مواضيع تلك المواد غريبة عن بعضها البعض. فلا تستطيع الحوزة العلمية مثلاً أن تساعد الجامعة في المسائل الطبية والهندسية. كما أن الجامعة لا تستطيع مساعدة الحوزة العلمية في مواد علمية خاصة. والقاسم المشترك بين الحوزة العلمية والجامعة هي العلوم الإنسانية, ففي هذا المجال يستطيع علماء الطرفين والمتخصصين إبداء وجهات نظرهم.
لقد أبدى الدين آراءه ووجهات نظره في بعض العلوم، من قبيل: الاقتصاد, والقانون، والسياسة، والتي تعد من الفروع الاختصاصية في الدراسة الجامعية, حتى أن جانباً كبيراً من الآيات القرآنية تتعلق بالمسائل الاقتصادية، وكذا الحال بالنسبة لباقي فروع العلوم الإنسانية. ومن هنا ينبغي على علماء الحوزة العلمية والجامعة إبداء وجهات نظرهم في هذه المجالات، والإصغاء إلى أقوال وآراء بعضهم البعض، والوصول بالتالي إلى نتائج إيجابية عن طريق تبادل الدراسات العلمية.
5 ـ أسباب عدم تحقيق الوحدة الكاملة بين الحوزة والجامعة، ونتائج ذلك
على الرغم من أنه تم ـ ولله الحمد ـ اتخاذ خطوات واعدة على طريق تحقيق الوحدة بين هذين المركزين العلميين, إلا أن الأهداف المنشودة لم تتحقق بشكل كامل. وللكثير من العوامل تأثيرها ودخلها في هذه المسألة. ويجدر تناولها بالبحث والدراسة بشكل تفصيلي في محله, ولكن سنشير هنا باختصار لبعض من تلك العوامل:
1 ـ إن عدم التواجد الفاعل لرجال الدين البارزين في «اللجنة العليا للثورة الثقافية» يعد أحد تلك العوامل. فمنذ البداية استشهد البعض من أعضاء اللجنة العليا للثورة الثقافية من رجال الدين, ولم يتمكن البعض الآخر من أن يكون لهم حضورٌ فاعلٌ ومؤثرٌ في اللجنة؛ بسبب بعض المشاكل والمسؤوليات الأخرى. وبالتالي تم تحديد مسار اللجنة والسير عليه بنحو لم يؤدِّ فقط إلى عدم التوائم مع مشروع الوحدة بين الحوزة العلمية والجامعة, بل جاء أحياناً وإلى حدٍّ ما بشكل يتعارض مع هذا المشروع.
والعمل الوحيد الذي أنجز على خلفية تواجد علماء الدين في اللجنة المذكورة تمثل في إضافة دروس المعارف الإسلامية إلى الدروس الجامعية. ولطالما كان يتم تذكيرهم منذ بدء تأسيس اللجنة بأن الأضرار الناجمة عن العمل بالطريقة التي سبق وأن أخذوا بها أكثر من فوائدها. فإذا كان من المقرَّر أن تصبح دروس المعارف الإسلامية ضمن الدروس الجامعية يجب الالتفات منذ البدء إلى ضرورة توفير الكتب والأساتذة. ولكن مما يؤسف له أنه لم يتم الاهتمام بهذه المسائل. وبالتالي ما تزال الكثير من المشاكل موجودة في هذا الإطار, سواء من حيث الكتب والمناهج الدراسية أو من حيث توفر الأساتذة الأكفاء.
2 ـ إن سلوك بعض الأفراد يعد عاملاً آخر يعرّض مسار الوحدة بين الحوزة والجامعة للمشاكل؛ إذ مما يؤسف له أن بعض الأفراد في الجامعة، بل حتى في كلية الإلهيات، يطرحون أفكاراً تثير التساؤلات حول الجمهورية الإسلامية والعقائد الدينية؛ فهم يعتبرون ولاية الفقيه ضرباً من الفاشية المعادية للديمقراطية، ونظاماً يمسك الهراوة بيده, بل يقولون بشأن القرآن الكريم: «ليس لدينا أي دليل على صحة القرآن الكريم، وأن المعجزة تتعارض من حيث المبدأ مع العلم». ونتيجة لإثارة هذه الشبهات تخلّى البعض من الطلبة الجامعيين عن أداء صلاتهم وعن معتقداتهم الدينية, وسيطرت الشكوك والظنون على أذهان البعض الآخر منهم. ومن هنا لو أن الحوزة والجامعة تعاونتا في ما بينهما بشكل فعّال، ووحَّدتا جهودهما، لما وصل الأمر بنا إلى ما نحن عليه الآن. ومع ذلك ما تزال الفرصة قائمة، و«في أي وقت نحدّ فيه من الضرر فهو مفيد».
3 ـ من العراقيل التي تحول دون التحقق الكامل لهذه الوحدة جملة من النواقص الموجودة في الحوزة العلمية ورجال الدين. فعندما يسأل الطالب الجامعي رجال الدين عن شبهته ولا يتلقى جواباً مناسباً، أو يلاحظ سلوكاً غير صحيح من قبل رجل الدين, سيعتريه الشك في أصل الدين، وسيقول في نفسه: «لو كان للدين والمسائل الأخلاقية حقيقة ملموسة لكان المفروض أن يلتزم بها رجال الدين قبل غيرهم، ويعملوا بها, فكيف نتعلم الدين من أولئك الذين لا يعملون بما يقولون؟ ولو حصل هذا الأمر فهل ثمة أمل يبقى لدينا بثبات العقائد الإسلامية ومبادئ الثورة وأهدافها. هذه الأمور مكانها في القلب, وعندما يتغلغل الشك ويجد طريقه إلى القلب, ولا يُغذّى بشكل صحيح, فإنه سيفقد إيمانه بمعتقداته.
ب ـ المقارنة بين الحوزة والجامعة
عطفاً على ما تمّت الإشارة إليه مراراً في ما تقدم فإن لكل من الحوزة العلمية والجامعة خصائص إيجابية يمكن أن يقتبسها أحدهما من الآخر. ولغرض الوقوف على مساوئ ومحاسن هذين الصرحين العلميين ننتقل إلى إجراء مقارنة إجمالية بينهما:
1 ـ محتوى الدروس
المحور الأساسي للمواضيع التي كانت تطرح في الحوزة العلمية، وما تزال كذلك, هو الإسلام والقضايا المرتبطة بالمعارف الإسلامية. وتعطى الأهمية للفقه والأصول أكثر من العلوم الأخرى. كما أن العلوم الأخرى، من قبيل: تفسير القرآن الكريم، والفلسفة، والعرفان، وغيرها، تُعطى هي الأخرى قدراً من الاهتمام. وأما الإسلام فقد كان قبل الثورة ملغىً تماماً من الجامعات أو كان يطرح في بعض الكليات بشكل غير مناسب.
كما أنّ كلية الإلهيات، التي كانت تُعنى بالمسائل الإسلامية, لم تكن هي الأخرى ذات محتوى رصين, والطلبة الراسبون في أماكن أخرى كانوا يقصدون هذه الكلية؛ ليحصلوا على شهادة دراسية يستفيدون منها. والحقيقة أن أولئك الطلبة لم يكن هدفهم من الذهاب إلى هذه الكلية دراسة الإلهيات والمعارف الإسلامية. ولعله من غير المعقول أن نقول: إنه من بين آلاف الطلبة الجامعيين الذين درسوا في هذه الكلية، وعلى مدى عدة سنوات, يمكن أن نجد عدداً قليلاً من الطلبة فقط ممن ذهبوا إلى تلك الكلية لهذا الهدف.
ولم يحصل أي اهتمام بالمسائل الإسلامية على الإطلاق في كليات العلوم الإسلامية, التي كان ينبغي لها أن تهتم وبشكل كافٍ بمصالح الإسلام والمسلمين, بل على العكس من ذلك كانت تنشط ضد الإسلام والمسلمين. هذا الأمر كان يمثل فرقاً أساسياً بين الحوزة العلمية والجامعة؛ إذ إن محور الدروس في الحوزة العلمية هو المعارف الإسلامية, وأما في الجامعة فلم يكن هناك أي أثر للمعارف الإسلامية. وهذا الفارق كان له تأثيره في المتخرجين من الحوزة العلمية والجامعة أيضاً. فالطلبة الدارسون في الحوزة العلمية كانت لديهم معرفة أكثر بالدين الإسلامي؛ بمقتضى طبيعة دروسهم التي يدرسونها. وعلى العكس من ذلك كان الطلبة الجامعيون محرومين من المعارف الإسلامية. وإذا كان لبعض الأساتذة أو الطلبة الجامعيين توجّه نحو الإسلام، ولديهم اطلاع على المعارف الإسلامية, فقد كانوا يأخذون هذه المعارف عن طريق الحوزة العلمية بشكل مباشر أو غير مباشر، بمعنى أنهم كانوا من طلاب الحوزة العلمية, أو أنهم اطّلعوا على الإسلام عن طريق علماء الحوزة العلمية وكتبهم. ولكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه من المؤسف أن نجد اليوم الكثير من المواضيع غير الصحيحة في المناهج الجامعية، والتي يدرسها أبناؤنا وإخواننا وأخواتنا.
2 ـ العلاقة بين الأستاذ والطالب
إحدى الخصال الإيجابية للنظام الدراسي في المدارس الدينية، والموجود بدرجة أدنى في النظام الجامعي, العلاقة الحميمة بين الأستاذ والطالب. فعلاقة الأستاذ والطالب في الحوزة عبارة عن علاقة مودة ومحبة، أو علاقة أبوية بين الأب وابنه. علاقة الأستاذ والطالب لا تقتصر على قاعة الدراسة فقط؛ فالطلبة يتعايشون مع أساتذتهم، ويجالسونهم في المساجد والمدارس والبيت والمجالس أيضاً. وهذه المخالطة تؤدي بالطلبة إلى أن يتمكنوا من الاستفادة جيداً من أخلاقيات الأساتذة وسلوكياتهم, وأن يتمكن الأساتذة من توجيه طلبتهم في المسائل المعيشية اليومية، فضلاً عن المسائل الأخلاقية.
كما أن طبيعة الدراسة، وخاصة في المستويات المتقدمة, تسير بنحو يؤدي إلى المزيد من تعزيز هذه العلاقة. وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات بين الحوزات والمدارس الدينية, إلا أنها ذات منحى واحد. في المراحل المتقدمة للدراسة الدينية تصبح الدروس أكثر شبهاً بالمناقشات؛ إذ يثير الطلبة التساؤلات والإشكالات على ما يطرحه الأستاذ، ويجيب الأستاذ عن إشكالاتهم. وفي بعض الأحيان يقوم الطالب، الذي لا يتم إقناعه في قاعة الدرس بمناقشة الأستاذ خارج الصف؛ لكي يصل إلى ما يصبو إليه. وأحياناً لا تكون الفائدة التي يحصل عليها الأستاذ من الطلبة أقلّ من الفائدة التي يحصل عليها الطالب من الأستاذ. وسبق أن حصل ذلك مع المراجع أيضاً, ذلك أن مرجعاً أصدر فتوىً، ومن ثَمّ تغير رأي الأستاذ، وغيّر فتواه؛ على خلفية انتقادات الطلبة ومناقشاتهم معه. وهذا لا يعني أن هذا المنهج ليس موجوداً على الإطلاق في الجامعة، ولكن بناءً على المعلومات المتوفرة لدينا، والمستحصلة من قبل الطلبة والأساتذة الجامعيين، فإن هذه الطريقة التعليمية ضعيفة جداً في الجامعة. والسائد في الجامعات أن الموضوع الذي يطرحه الأستاذ يُنظر إليه على أنه صحيح وغير قابل للنقد. فالكثير من الفرضيات والنظريات الموجودة بين أيدينا من الممكن أن يكون قد أعلن عن بطلانها في البلد الذي انطلقت منه, ولكنها تدرّس في بلادنا على أنها فرضيات علمية جديدة, ويظن الطلبة أيضاً بأنها مبرهنة وغير قابلة للنقد. هذه المسألة هي من إحدى النقاط الإيجابية للنظام الدراسي للحوزة العلمية. وعلى الجامعة اقتباس هذه الطريقة منها.
إن الأساتذة الذين كانوا على تواصل مع رجال الدين في إطار «مكتب التنسيق بين الحوزة العلمية والجامعة» كانوا يعترفون بوجود هذا النقص التدريسي في الجامعة, وأعربوا عن تقديرهم العالي لما كانوا قد اطلعوا عليه من طريقة المناقشة والنقد في المدراس الدينية.
إن إحدى الإيجابيات الأخرى للدراسة الدينية هي أن الطلبة أحرار في اختيارهم لأستاذهم. فكل طالب له الحق في أن يختار الأستاذ الذي يدرس عنده حسب ذوقه واختياره الشخصي. وهذا الأمر له بالغ الأثر في تطوُّر الطالب. ولكن على الرغم من أن الطلبة في بعض الكليات لهم الخيرة في اختيار الأستاذ في بعض الدروس, إلا أن هذه الخصوصية ضعيفة في النظام الجامعي.
3 ـ التقييم والامتحانات
لقد كان التقييم والامتحانات في الحوزات العلمية على درجة كبيرة من الضعف, على الرغم مما يُنقل أنه كان يوجد قبل حوالي قرن من الزمان نوعٌ من التقييم الدراسي في الحوزة العلمية. ومن كان يريد أن يتصدى لتحمل مسؤولية معينة تتوقف على امتلاكه لدرجات علمية دينية معينة كان يجب عليه الحصول على تصديق معين من قبل أساتذته. في حين أن النظام الدراسي الجامعي جادّ بنحو ما, ويأخذ مسألة الامتحان والتقييم بنظر الاعتبار. وعلى الحوزات العلمية أيضاً أن تسعى ليكون لديها نوعٌ من التقييم. ولكن ذلك لا يعني أن يتم تطبيق ما هو موجود في المنهج الجامعي بعينه في الحوزة العلمية, بل المراد هو أن هذا المنهج إيجابي من حيث المبدأ، ويجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار.
4 ـ تحديد مدة الدراسة
إن للمدة المحددة في الدراسة عيوبها ومحاسنها أيضاً. فمن عيوبها أن جميع الطلبة ليسوا بمستوىً واحد من الذكاء والقدرة على الاستيعاب, والمدة المحددة لمرحلة دراسية معينة تعتبر مقيِّدة للطالب الذكي، وتقطع عليه طريق التقدم والرقي. كما أنها تسبب المشاكل للطلبة الأقل استعداداً؛ ذلك أن هؤلاء الأفراد لا يستطيعون استيعاب المنهج وفهمه خلال المدة المقررة. في حين أنه لو لم تقرر مدة محددة للدراسة يستطيع الطلبة أصحاب القدرة الجيدة على الاستيعاب الاندفاع في الدراسة بسرعة، وبالتالي لا تتحدد مدة دراستهم بفترة معينة, وأما الذين هم أقل استيعاباً فلا يجدون ضرورة لإكمال مرحلتهم الدراسية بمشقة وعناء، بل بمقدورهم إكمال دراستهم في مدة زمنية أطول.
وأما بالنسبة لمحاسن المدة الزمنية المحددة للمراحل الدراسية فإنها تكمن في أنها تنسجم مع الحقائق الاجتماعية الراهنة لوقتـنا الحاضر, ويستطيع المسؤولون بموجبها التخطيط وتقدير كل ما يحتاجونه في المستقبل. وإنما تستطيع الدولة العمل على تأمين الطاقات البشرية المتخصصة والتخطيط لهذا الأمر في ظل وجود المدة الدراسية المقررة فقط. فلو كان من المقرَّر مثلاً أن يكون لدينا عددٌ معينٌ من الأطباء خلال السنوات العشر القادمة فبإمكاننا اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك من الآن، والتخطيط لقبول هذا العدد من الطلبة؛ اعتماداً على نسبة المعدلات الدراسية. وبالتالي يصبح بإمكاننا الحصول عل هذا العدد من الأطباء في السنة المقررة. وأما إذا لم توضع مدة محددة للدراسة, وكان الجميع أحراراً في المدة الزمنية التي يكملون فيها دراستهم, فلا يمكننا التخطيط لأن يكون لنا في سنة كذا عددٌ معينٌ من الأطباء.
ومن إحدى الإيجابيات الأخرى لتحديد مدة الدراسة أنها تلزم الأفراد بالاستفادة القصوى من الوقت والقابلية العلمية لديهم؛ إذ إن روح الكسل والتسامح موجودة لدى جميع بني البشر بنسب متفاوتة. وإذا لم يكن هناك نوع من الالتزام والتعهّد في الأمر سيلجأ الإنسان إلى الكسل والتراخي، ولن يستفيد من ذهنه وقدراته العلمية كما ينبغي, وسيتهرَّب من دروسه لأبسط عذر أو مشكلة.
ج ـ أسباب رغبة الطلاب بالجامعات
يعود السبب في إعراض الطلبة قبل الثورة الإسلامية عن الدراسة في الحوزة العلمية، ورغبتهم في التوجه إلى الجامعة, حتى إنهم كانوا يغيِّرون ملابسهم أحياناً, يعود إلى الأمور التالية:
1 ـ لم تكن لدى الحوزة العلمية أية ضمانة لمستقبل الطلبة, ولم يكن معلوماً ما هي الوظيفة أو المنصب الذي سيتمتع به الطلبة في المستقبل. وبناءً على ذلك كان بعض الطلاب يتوجهون نحو الجامعة؛ للحصول على الشهادة، وبالتالي على الموقع الاجتماعي.
2 ـ الإعلام المعادي المكثف من قبل النظام السابق ضد رجال الدين والمؤسسة الدينية. فأكثر الذين كانوا يدرسون في الحوزة العلمية لم تكن لديهم شهادات دراسية حديثة. ولهذا السبب كان البعض منهم يشعر بالوضاعة، وبالتالي يتركون الدراسة في الحوزة ويتوجهون إلى الجامعة.
وبعد قيام الثورة الإسلامية زال السبب الثاني نهائياً، إلا أنه أضيفت أسباب جديدة أخرى إلى تلك الأسباب, ومنها:
1 ـ أضيفت دروس جديدة في المنهج الدراسي للجامعات, وكان يتوجب على الطلاب بموجبها التوجه إلى الجامعة لتدريسها، من قبيل: تاريخ الإسلام, المعارف الإسلامية, علم الإنسان الإسلامي, علم النفس الإسلامي, الاقتصاد الإسلامي، وما شابه ذلك؛ إذ تم إلغاء البعض من هذه الدروس؛ بسبب عدم توفر الأساتذة. كما واجه درس المعارف الإسلامية، الذي وضع كدرس أساسي في المنهج, مشكلة قلة الأساتذة. وعلى أية حال لم يتم التعامل مع الأساتذة الذين كانوا يذهبون للتدريس في الجامعة بشكل لائق، سواء من قبل الطلبة الجامعيين أو من قبل إدارة الجامعات، حيث كانوا يعاملونهم بشكل يختلف عن الأساتذة الآخرين. والسبب في ذلك هو أن أساتذة الحوزة لم تكن لديهم شهادة جامعية.
وكان هؤلاء الطلبة يرون أحياناً أنهم بحاجة إلى بعض المعلومات التي لم يتلقوها في الحوزة العلمية، وخاصة في ما يتعلق بتعلمهم اللغات الأجنبية؛ لأن بعض الطلبة الجامعيين كانوا يرون في عدم تمكنهم من بعض المصطلحات الأجنبية دليلاً على تدني مستواهم العلمي والدراسي, من دون الالتفات إلى أنهم متخصصون في الفقه والأصول والفلسفة والتفسير وغيرها، وليس في اللغة الإنگليزية.
هذه الأسباب هي التي أدت بقسم من الطلبة إلى التفكير بالدراسة في الجامعة؛ ليحصلوا على شهادة جامعية، فضلاً عن تعلمهم اللغة؛ لكي لا يتعرضوا إلى الغبن وقلة الاحترام والاهتمام بهم.
ولكن لابد من القول: إن ذهاب الطلاب إلى الجامعة له أسباب ودوافع متعددة, تحمل بمجملها جوانب سلبية, ولا يمكن اعتبارها أسباباً مقنعة لأيٍّ منّا؛ لأنه لو كان من الواجب أن يتوجه المرء إلى الحوزة العلمية، ويدرس فيها طبقاً لتكليفه الشرعي, لا يجوز له أن يتركها اعتماداً على هذه الأسباب.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) من أبرز أساتذة الفلسفة في إيران. رئيس مؤسسة الإمام الخميني للبحوث والدراسات، وعضو في مجلس خبراء القيادة، اشتهر بمناهضته الشديدة لمقولات الفكر الإصلاحي الأخير في إيران. له مؤلَّفات عديدة قيِّمة.