العلاقة بين التوالم والتضادّ
د. رشيد ركابيان(*)
د. حسن رضا آريايي راد(**)
مقدّمة
لقد تزامن ظهور العلمانية بشروع النهضة العلمية في أوروبا، حيث تم استبدال الدين (المسيحية) ومتونها بأفكار دعاة التحرُّر والمواطنة، أمثال: القس مارتين لوتر، كالوين، ولتكتمل بنظريات هابر، لاك، وجون جاك روسو. ودخلت ما اصطلح عليه بعد ذلك بالدولة القومية في صراع مع الكنيسة والملكية التي كانت تعيث في أوروبا فساداً، لتنتهي الحرب بسقوط الحكم الديني، ويتم رفع علم فصل الدين عن السياسة.
لم تكن إيران بعيدةً عن هذه الأجواء. فمنذ بداية حكم القاجار عمد العديد من رجال السياسة للهجرة نحو أوروبا؛ بهدف الدراسة والتحصيل العلمي. ونذكر من جملتهم: الميرزا مَلْكَم خان، طالب أف، تقي زاده و…. فظهرت العلمانية في إيران، واستمرت هذه المسيرة وهذا الفكر في بعض الأوساط إلى اليوم.
في أوساط بعض المثقفين الجدد؛ ونتيجة لعدم درك مفهوم ولاية الفقيه وتمهيداته، لا زال لديهم خلط بين مفهوم ولاية الفقيه ومفاهيم سياسية أخرى، واعتبارهما في مستوى واحد، حيث يجعلونه مسانخاً لمفهوم الحكومات المطلقة والملكية، الفاشستية والسلطنة؛ بينما الواقع يكشف عن وجود فارق ماهوي، شكلي، كلامي وعقائدي، قانوني وحقوقي، بين مفهوم ولاية الفقيه وباقي أشكال الحكومات الأخرى. وهذه الفئة لا تفهم من مفهوم ولاية الفقيه سوى قيومية الفقيه وتسلطه على عقول الأمّة، بحيث يصبح كل شيء ما سواه ممنوعاً ومحرَّماً. ومن هذا الفهم راحوا يستخرجون ويستنبطون الدلائل وكلّ ما يلازم هذا التفسير. ومع شيءٍ من النقد خلصوا إلى أن نظام ولاية الفقيه نظامٌ يخرمه التناقض واللامعقولية([1]).
كذلك لم يجدوا طرح الولاية إلى جانب الحكومة سوى لغز يستعصي على الحلّ، وربط غير معقول، بل لم يرَوْا في المركب المفهومي السياسي «حكومة الجمهورية الإسلامية» سوى تمويه واستدراج للعاطفة؛ إذ لا تجانس عقلي بين الجمهورية وولاية الفقيه.
هم يذهبون إلى أن أقرب مفهوم سياسي لمفهوم ولاية الفقيه، التي تعني الوصاية والتصدي لشؤون الدولة نيابة عن الغير، هو السيطرة والسلطنة والمالكية والحكم الوراثي، وأن بين مفهومَيْ الولاية والمالكية تشابهاً؛ فالمالكية تعني الحكم على الأشياء؛ والولاية تعني الحكم على الأشخاص، تماماً كما أن كلّ شؤون المملوك هي تحت يد وسلطة المالك، كذلك كلّ شؤون «المولى عليه» هي ضمن سلطة وتصرُّف الولي([2]).
المشكل عند هذه الفئة أنهم ينطلقون في تحليلاتهم لحكومة الجمهورية الإسلامية من نظرية الاستبداد. فهم وضعوا ولاية الفقيه في نفس مرتبة الديكتاتورية، وعليها قاموا بتفسير كلّ تحركات وفعاليات هذه الحكومة، بل إن البعض منهم استمات في هذا التوصيف، حتّى عد الوليّ الفقيه: «الديكتاتور الصالح»([3]).
إن مفهوم ولاية الفقيه أو نظرية ولاية الفقيه تختلف عن نظرية الدولة، بلحاظ أن جلَّ الفقهاء في زمن الغيبة قد نصّبوا تنصيباً عاماً من قبل المعصوم. وإذا كانت في أحد الفقهاء شروط تشكيل الحكومة، وقبل به الناس، فتخرج بذلك ولايته من القوّة إلى الفعل، ويكون له جميع الشؤون التي للمعصوم، إلاّ ما كان خاصاً، وخرج بالدليل. لكنْ في الجملة تكون له ولاية على مصالح البلد والأمة الإسلامية.
توجد بعض الآراء حول أن القول بالتنصيب الإلهي للحاكم ومشروعية الحكومة وحقّ الحاكمية وإنكار حقّ الناس في ظلّ الحاكمية الشرعية، هو سلطنة مطلقة وحكم مستبدّ. فالناس في ظلّ هذا الحكم ليس لهم الحقّ في أن يعزلوا الحاكم أو ينصبوه، وهذا يسمّى السلطة الدينية. وهي مبدئياً تختلف عن الجمهورية الإسلامية، وعن النظام الديمُقراطي وحاكمية الشعب. كما أنها تختلف جوهرياً عن «المجتمع المنفتح»، والذي يكون فيه للأحزاب والتنظيمات حرِّية في التحرّك والفاعلية؛ لأن أدنى ما يمكن أن ينتج عنها هو العلاقات السلطوية ونظاماً ملكياً.
اعتبار التنصيب في الحكومة الإسلامية لا يختلف عن السلطة، اللهُمَّ إلا في أن على رأس الحكومة يكون فرد عادل عارف بالشريعة غير تابع للأجنبي، وهو كأنّه السلطنة في زيِّها الإسلامي([4]).
يرى البعض الآخر أن هناك نزاعاً وصراعاً مستميتاً بين الديمقراطية الدينية والسلطة الدينية، فهي تقابل بين نوع من النظم يعتمد الآمرية والأتوقراطية (oligarchy) والشمولية وبين نظام فكري ينبني على أحقِّية الفرد والأمة([5]).
البعض يقول: بين النصب الإلهي وبين رقابة الناس تعارضٌ. فهم قد أنزلوا ولاية الفقيه منزلة الحكومة الدِّكتاتورية والأوليغاركية، التي لا تقبل رقابة الناس، بل هي تضيق حقّ الناس وتمنعهم أبسط حقوقهم في التنصيب والعزل([6]).
وفي الجواب عن كلّ هذه الآراء فإنّ فهم نظرية ولاية الفقيه أو الحكم في الإسلام يحتاج إلى بحث في هذا الإطار.
فالبعض من هؤلاء قد فسَّر ولاية الفقيه على نفس منوال نظرية السلطنة أو الباتريمونالية والديكتاتورية و…، فهم لم يحلِّلوا المباني الإسلامية في الحكم، وكما عبر عنهم الخميني: إن هؤلاء مشكلتهم مع الإسلام، وليس مع الحكومة الإسلامية أو الولي الفقيه؛ أو لعلهم تحت تأثير العلوم الإنسانية الغربية.
في هذا البحث سنسلِّط الضوء على تاريخ نظرية الحكم في الإسلام، من حيث اختلاف مفهوم ولاية الفقيه ونظرية الحكومة، وكذلك نظريات الحكومة التي تمّ عرضها بخصوص الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الولاية في الإسلام
لقد خلق الله الإنسان حرّاً، وميزه عن غيره من المخلوقات بالعقل والفكر، وبهما جعله مختاراً في أسلوب حياته. وقد أكَّد الأئمة^ على حرِّية الإنسان واختياره. قال الإمام علي×: «الناس كلهم أحرارٌ، إلاّ مَنْ أقرَّ على نفسه بالعبودية». وقال في خطابه للإمام الحسين×: «ولا تكُنْ عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً».
ولهذا وجدنا العديد من العلماء قد ركَّزوا على أصل «لا ولاية لإنسان على إنسان»([7]). لكنّ الحياة الاجتماعية، وتشارك الناس مع بعضهم البعض في الحياة، توجب تكليف أحد الأفراد للقيام بترتيب هذه المشتركات، وإدارة شؤون جمعهم.
الإسلام، وبعد تأكيده على الحاكمية المطلقة لله كأصلٍ ثابت([8])، وفي مقام ردّ ولاية الإنسان على الإنسان، أشار إلى مسألة الحكومة، باعتبارها منهجاً ضروريّاً في الحياة، وقبلها ضمن شروط خاصة.
القرآن في تناوله لمسألة الولاية والإمامة مرَّ عليها ضمن تقديمه لمحةً تاريخية لما كانت عليه في خطوطها العريضة، وأرشد لما يجب أن تكون عليه في المستقبل. الصيرورة الفعلية للحكم الإسلامي دليلٌ واقعي على اهتمام الإسلام بمسألة الولاية والقيادة.
قصة الإمامة في القرآن
ـ بعد أن امتحن اللهُ إبراهيم× بحقائق (كلمات) فأتمَّها× رفع الله مقامه، فجعله إماماً. قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124). هذا هو مقام الولاية المعنوي والمادي في المجتمع الذي منحه الله تعالى لإبراهيم× بعد أن أحرز اللائقية والمناسبة حتّى يستعمله في مواجهة قوة حكومته، ويجري العدالة الإلهية في أرض الله وبين عباده.
وبخصوص حكومة بني إسرائيل وصفها القرآن بقوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).
فشرط الحكم والقيادة الإيمان واليقين بالله والصبر والاستقامة والثبات؛ لأن تولّي زمام أمر الناس وقيادتهم غالباً ما تواجهها متاعب وصعوبات، لا يمكن دفعها إلاّ بالصبر وقوّة الإيمان والاستقامة والدراية بدقائق الأمور.
طالوت× لما وُهب القوّة في البدن والعقل وفطرة سليمة في التدبير اختاره الله قائداً لجيوش بني إسرائيل: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 247).
داوود× اختاره الله خليفة له في الأرض حتّى يحكم بين الناس بالحقّ، ولا يتبع الهوى([9])، فيكون إحقاق الحقّ وتجنُّب اتّباع هوى النفس من شروط القيادة والولاية.
ولاية المسلمين
جاء في ولاية المسلمين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).
وقد بين المفسِّرون أن المقصود من لفظ «الأمر» و«الإمارة» و«الحكومة» إدارة أمور الناس وتنظيم شؤون حياتهم، بحيث يصل لكلّ ذي حقٍّ حقَّه. وقد تعدَّدت التفاسير للمراد من قوله تعالى: «أولي الأمر»، ومن جملتها:
1ـ رأى بعض مفسِّري أهل السنّة أن «أولي الأمر» هم القادة والحكّام والمتصدّون للأمور في كلّ مكانٍ وزمان.
2ـ البعض الآخر منهم رأى أن المقصود من أولي الأمر هم خلفاء (الذين يخلفون) كل الطبقات الاجتماعية، والحكام والقادة والعلماء وأصحاب المناصب العليا في كلّ شؤون حياة الناس، بشرط أن يكون عملهم موافقاً للقرآن، وغير مخالف له أو خارج عنه.
3ـ لكنّ «كلمة جميع مفسِّري الشيعة على أن أولي الأمر هم أئمّة أهل البيت المعصومين، وهم الأئمّة والقادة معنوياً ومادياً لكلّ الأمة الإسلامية في جميع شؤون الحياة. وإمامتهم جاءت من الله تعالى عن طريق رسول الله|، ولا تشمل غيرهم من البشر. وبالطبع فمَنْ نصَّبوه للنهوض بالتكليف نيابةً عنهم في هذا المقام وجب على الأمّة إطاعته، ليس من باب أنه وليّ أمر الأمّة، ولكنْ من باب أنه نائب عن الإمام المعصوم»([10]).
الولاية الفعلية لرسول الله| ولعليّ بن أبي طالب×
مارس الرسول الأكرم| منذ وصوله إلى المدينة عملية تشكيل الحكومة، حيث كان أخذ البيعة من القبائل، وعقد عهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إعلاناً رسمياً عن بدئها، وقامت بذلك كلّ شؤون الدولة، التي جعلت من المسجد مقرها الرسمي، والذي كان تعقد فيه جلسات الرتق والفتق، والأمور العبادية والاجتماعية والسياسية» ([11]).
حاكمية وولاية النبي الأكرم| كانت في مفهومها الواسع، وبدون قيدٍ أو حدٍّ. صرَّح بذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: 6). وقد فسَّر المفسِّرون هذه الولاية بكلّ أمور الفرد المسلم، سواء الشخصية منها والعامة، الاجتماعية والسياسية([12]).
كذلك الأمر بالنسبة لعليّ بن أبي طالب×، والذي كان يلازم رسول الله في كلّ لحظة وفي كلّ مكان. وحَسْب اعتقادات الشيعة فإن هذه الولاية قد انتقلت إليه بوصية من رسول الله يوم غدير خمّ([13])، وصارت له الولاية استحقاقاً تشريعياً، سواء تولّى السلطة بالفعل أم لم يتولاها. وحين صارت له الخلافة السياسية بعد الخلفاء الثلاثة قام على الولاية السياسية، ومارس رئاسة الحكومة الإسلامية.
طرح قضيّة الوالي (الحاكم)
لقد أيَّد الإسلام أمر الخلافة والإمارة وإدارة شؤون الأمّة، وجعلها من المسلَّمات، وقد جعل النبيَّ الأكرم| والأئمة المعصومين^ هداة وقيادات للأمة في كل شؤونها. هذا التنصيب الإلهي يسير وفق حكمة إلهية، تحكي عن حاجة الأمّة لمَنْ يسوسها، حتّى تأمن الهرج والمرج، وتعيش في مأمن عن الفوضى، وضمن شأن طابعه التنظيم والسلام. ورغم أن النبي الأكرم| وتلك الكوكبة من كبار الأمّة وعظمائها قد رحلت عن هذه الدنيا، إلاّ أن الأمّة استمرَّتْ في الحياة. وبهذا فحاجة المجتمع إلى الوالي والقائد أمر ضروري وواقعي، ولا يستثنى المجتمع الإسلامي من هذا الأمر مهما كانت ظروفه.
وقد بيَّن الإمام عليّ× ضرورة وجود والٍ وأمير على رأس الأمّة، حتّى وإنْ لم يوجد غير الأمير الغاشم فهو أفضل من أن تبقى الأمّة في فوضى، يأكل يابسها أخضرها، وتموج في ظلمات طويلة حالكة، فقال×: «والٍ ظلومٌ خيرٌ من فتنةٍ تدوم»([14]).
وفي ردِّه× لمقولة الخوارج، الذين رفعوا شعار الولاية المطلقة لله تعالى([15])، قال×: «كلمة حقٍّ يُراد بها باطل. نعم، إنه لا حكم إلاّ لله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ لله، وإنّه لا بُدَّ للناس من أميرٍ، بِرٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأَجَل، ويجمع به الفَيْء، ويقاتل به العدوّ، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف»([16]).
هذه الكلمات من إمامٍ عادل بالقدر الذي لم يَرَ تاريخ الإسلام بعد رسول الله| مثله مبنيّةٌ على ترجيح الأمّة التي يحكمها ظالم على الأمّة التي لا حاكم لها، وتبين بما لا مجال للتردُّد فيه ضرورة وجود الحاكم على الأمّة.
ولاية علماء الدين
الآراء المرتبطة بمسألتي الدين والسياسة
بناءً على فرض ضرورية الوالي والأمير على الناس في زمن غيبة الإمام× فهل المسلمون هنا عليهم أن يعتبروا أنفسهم غير معنيين بهذا الأمر، بحيث يستمرّون في الحياة تحت إمرة أيّ كان، وكيفما كانت الحكومة التي تحكمهم (فاسقة أو عادلة)، أم أن القصد في الحكومة الإنشاء؟
في الجواب عن هذا الأمر نظريتان:
1ـ يذهب بعض المفكِّرين، سواء في الدول الإسلامية أو الغربية، إلى أن الإسلام لم يُولِ أهمية للأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن جلّ عمله مقتصرٌ على سلوك البشر الخاصّ وشؤونهم الخاصة. إن سبب ابتعاد علماء المسلمين عن السياسة والحكومة هو ما صدر من الحكام الذين تولّوا زمام أمور الأمّة من ظلمٍ واستبداد على طول تاريخ الإسلام، وتعاون بعض علماء الدين مع الحكومات الظالمة ([17])، وفي بعض الأحيان هو جزء ممّا ينشره المستعمر عن المسلمين من إعلام كاذب([18]).
إن كلّ ذلك هو ما يفسِّر إعراض وإمساك الفقهاء عن التعرُّض لمباحث الحكومة في الكثير من كتب الفقه([19]).
2ـ النظرية الثانية حاكية عن وحدة الدين والسياسة. ودليلهم المفاهيم القرآنية التي ترى أن بيان الأحكام لأمور الحياة هي نفسها تتولّى أمر الأمّة وإدارة دفّة حكمها. فأمر القضاء، والأموال، والحرب، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأحكام القانونية والجزائية، وإقامة العدل، كلها أمور تندرج في أحكام السياسة والحكم. وقد تكلم فيها الكثير من العلماء قديماً وحديثاً، وفصَّلوا في مباحثها([20]). فضرورة تدخُّل العلماء في أمر الحكومة من باب التكليف بإجراء العدالة وتجنُّب الظلم. رُوي عن الإمام علي× أن من واجبات إجراء حكم الله تعالى على المسلمين أنه إذا مات أو قتل أميرهم… فقبل القيام بأيّ عملٍ عليهم أن يسارعوا في اختيار أميرٍ تقيّ، عالم، عادل، عارف بأمور القضاء والسنّة، يقلِّدونه أمورهم، يعاقب ظالمهم، وينصف مظلومهم، ويحمي حدودهم»([21]).
مباني إثبات ولاية الفقيه
1ـ المباني النقليّة في إثبات ولاية الفقيه
إلى مَنْ يرجع الناس في زمن غيبة الإمام×، وفي أمور الدولة والناس وما يجري عليهم من حوادث وأحداث؟ هناك رواياتٌ متعددة، ومنها: سبع روايات استند إليها الإمام الخميني في كتابه (ولاية الفقيه) في إثباته لولاية الفقيه:
1ـ رُوي عن رسول الله| أنه قال: «اللهم ارحَمْ خلفائي، قيل له: ومَنْ خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي، ويروون أحاديثي وسنَّتي، فيعلِّمونها الناس من بعدي»([22]).
2ـ قال رسول الله|: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، ويتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم»([23]).
3ـ عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان×: «أما ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبَّتك ـ من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا… وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»([24]).
4ـ في خبر عن أبي عبد الله×، عن رسول الله|: «إن العلماء ورثة الأنبياء؛ وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمَنْ أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ حظّاً وافراً. فانظروا علمكم هذا عمَّنْ تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلفٍ عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»([25]).
5ـ وعن الإمام الحسين×: «ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه»([26]).
6ـ وعن الإمام علي×: «العلماء حكّام على الناس»([27]).
7ـ ويشبه هذا القول ما قال الإمام الصادق×: الملوك حكّامٌ على الناس، والعلماء حكّامٌ على الملوك»([28]).
من مجموع هذه الروايات نستنبط أن العالم بأحاديث وروايات المعصومين^ له الحقّ في التصدّي لأمور الناس. وكذلك من خلال الروايات المتقدِّمة نستنبط أوّلاً: إن العلماء والفقهاء مورد النظر قد لا يكون لهم بالفعل القدرة السياسية حتّى لو نصبوا من طرف المعصوم؛ بقرينة مناسبة الحكم للموضوع؛ ثانياً: إن العلماء ورواة الأخبار بلحاظ العدد كثيرون، وهذه الكثرة لا تنسجم مع وحدة الوليّ والحاكم، وكذلك هنا بقرينة مناسبة الحكم للموضوع، والنتيجة الوحيدة المقدورة من هذه الروايات: في زمن الغيبة وحدهم العلماء الذين لهم القدرة والمكنة السياسية وفي الإدارة (إدارة الأمور) مسؤولون شرعاً بإجراء القوانين الإلهية التي تفصل في أمور الناس والمجتمع.
من هنا فالمعصوم× قد عين الوليّ الفقيه ولاية مطلقة، ويأخذ مشروعيته القانونية من النظام الإسلامي ومؤسَّسات الحكومة والقوى الثلاثة للقانون الأساسي، القوانين العادية وغيرها. كما أن حكومة الولي الفقيه لها حقّ ممارسة جميع الأعمال والصلاحيات التي كانت لإدارة النبيّ الأكرم|، وكذا ما كان يمارسه المعصوم× بشكلٍ عام([29]).
من هنا فدائرة الولاية أوسع مدىً، وكذلك دائرة ولاية الفقيه غاية في السعة، وهي تشمل كافّة الشؤون الاجتماعية، ما خلا الأمور التي يختصّ التدخُّل فيها بالإمام المعصوم×، كما تشمل مجال الاقتصاد والسياسة في ما لا بُدَّ منه لمصلحة الإسلام والمسلمين. وهذه الإشارة للولاية المطلقة واضحة في نظرية الإمام الخميني، ويكفي الرجوع إلى أقواله وكتاباته ليتَّضح أنه وفقاً للشرع لم يكن يرى ولاية الفقيه ضمن حدود ضيِّقة. وكان من المناسب أن تدرج مباحث في مجلس الخبراء حول نظريّة الإمام الخميني في هذا الشأن، لكنّ الجوّ العام الذي كان سائداً آنذاك يجعل مجلس الخبراء يسارع في التصويت على الدستور بذلك. كما لم يتمّ اختبار هذه النظرية على صعيد الممارسة والأداء، لهذا لم يتمّ التصريح بها ضمن القانون الأساسي لولاية الفقيه.
وطبقاً لذلك ما تمّ درجه ضمن القانون الأساسي حول صلاحيات الوليّ الفقيه لم يكن الإمام الخميني يراه كافياً([30])، لكنّ تسرُّع مجلس الخبراء في التصويب، وما أحدثه المخالفون من ضوضاء حول المسألة جعل القانون الأساسي أو دستور البلاد يُختم بما فيه. ولذلك فإن ما جاء في القانون الأساسي حول صلاحيات ووظائف الولي ما هو في الحقيقة إلاّ قسط، وليس الكلّ([31]).
ولهذا السبب لم يكن الإمام الخميني يتبع القانون الأساسي في إدارة شؤون البلاد، بل كان يمارس الولاية المطلقة، وهي أبعدُ مدىً من الصلاحيات التي ينصّ عليها النمط القانوني، وعمل مدة على نفس الطريقة، وأصرَّ عليها إلى أن تهيّأت الأرضية المناسبة، حيث أدرك المسؤولون في الدولة أنه بدون ولاية الفقيه المطلقة لا يمكن التغلُّب على مشكلات الدولة، ولا أخذها نحو التطوُّر والأمان، وأن منطقة الفراغ القانوني ستزداد اتِّساعاً يوماً بعد يومٍ. ومن جملتها أنه في سنة 1981 وقع خلاف بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور حول أراضٍ في المنطقة الحضرية. وفي جواب 6/9/1981 وجَّه رئيس مجلس الشورى الإسلامي خطاباً للإمام الخميني قال فيه: «كلّ ما يدخل في حفظ نظام الجمهورية، بحيث يكون فعله أو تركه موجباً للاختلال في النظام، ومستلزماً للوقوع في الحَرَج، بعد تشخيص الموضوع بواسطة الأكثرية وكلّ مجلس الشورى مع التصريح المؤقَّت، وما دام الموضوع محقَّقاً، وبعد الرفع، فإنه سيلغي نفسه بنفسه، لهم الحقّ في تصويبه وإجرائه، ولا بُدَّ من التصريح أنه كلّ واحد تصدّى للإجراء فإنه سيكون متجاوزاً للحدود، وسيعدّ مجرماً تستوجب عقوبته». «وبالطبع فالإمام الخميني؛ من أجل الدقّة في تشخيص الموضوعات، رأى من اللازم أخذ بعين الاعتبار رأي النواب. وهذه هي المسألة التي في نهاية الرسالة 11/11/1366 دفعت بالخميني إلى أن يصدر مرسومه بتشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام، وهذا الأمر بدوره صورة أخرى من ممارسة الولاية المطلقة.
أهمّ توضيحات الإمام الخميني حول ولاية الفقيه المطلقة حملتها رسالته بتاريخ 16/1/1987، التي وجَّهها إلى رئيس الجمهورية آنذاك السيد الخامنئي. وبالطبع فقد بدأ الخميني طرحه الموسع لنظرية ولاية الفقيه ضمن خطابه لوزير العمل (سرحدي زاده) حول ضرورة تنفيذ أرباب العمل للقواعد والتزامات القانون في العمل، مقابل ما تمنحهم الدولة من خدمات، حيث أصدر ضمن هذه الرسالة فتاوى حملت عدة تفسيرات، كان منها قوله: إن ولاية الفقيه هي نفسها ولاية الرسول الأكرم|، وهي من الأحكام الأولية في الإسلام، ومقدمة على كل الأحكام الفرعية، بل مقدّمة حتّى على الصلاة والصوم والحج…»([32]).
من أهمّ ما جاء في هذه الرسالة حول ولاية الفقيه المطلقة:
1ـ أن الحكومة شعبة من الولاية المطلقة للرسول الأكرم|.
2ـ الحكومة من الأحكام الأوّلية.
3ـ الحكومة من أهمّ الأحكام الإلهية.
4ـ معيار تقدُّم الحكومة على كلّ الأحكام أهمّيتها، والحكم العقلي قائل بتقدُّم الأهمّ على المهم. والدليل على أهميتها وجود المصلحة الأهمّ، والمصلحة هنا هي مصلحة الناس وحفظ النظام الإسلامي.
2ـ المباني العقلية لولاية الفقيه
إن العقل يؤيِّد بالبداهة وجود شخص يقوم بتنظيم الأمور المشتركة بين الناس، ويرفع النزاع والاختلاف، ويحفظ المصالح العامة الاجتماعية، ويبسط المعروف، ويرفع الظلم والفساد، ويكون متمتعاً بكل أوصاف الحلم والعدالة والإنصاف. بالإضافة إلى أن للفقهاء أوصافاً أخرى تجعل منهم نخبة المجتمع القادرة على تولي أمور المجتمع الإسلامي.
3ـ تعيين الوليّ الفقيه للقيادة
أـ أوصاف القائد
اشتملت كتب الفقه وغيرها على شروط خاصّة للفقيه عامّة، والفقيه القائد خاصّة، وأهمها: 1ـ العلم؛ 2ـ الإيمان والاعتقاد؛ 3ـ الأخلاق (العدالة والتقوى)؛ 4ـ شروط خاصّة (مثل: أن يكون ذكراً، بالغاً، كاملاً، عاقلاً)؛ 5ـ الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية.
ب ـ مسؤولية القائد (الحاكم)
خلافاً تامّاً لما كان عليه النظام السياسي الشاهنشاهي، حيث كان شخص الشاه يتمتَّع بالحصانة السياسية العامّة، بمعنى أنه معفىً من كلّ مسؤوليةٍ([33])، فإنّ الدستور في النظام الإسلامي يجعل القائد مسؤولاً في عدّة مواقع:
فالدستور يجعل لشخص القائد وأعماله شروطاً، بحيث إذا أخلّ بها يصبح موضع المساءلة. وبموجب القسم الأول من المادة الحادية عشرة بعد المئة: «عند عجز القائد عن أداء وظائفه القانونية، أو فقده أحد الشروط المذكورة فـي المادة الخامسة بعد المئة، والمادة التاسعة بعد المئة، أو عُلم فقدانه لبعضها منذ البدء، فإنه يعزل عن منصبه. ويعود تشخيص هذا الأمر إلى مجلس الخبراء المذكور فـي المادة الثامنة بعد المئة».
ووفق هذا القانون يكون القائد مسؤولاً أمام مجلس خبراء القيادة. فمجلس خبراء القيادة هو الذي يشرف على أعمال القائد بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وملاحظة مدى مطابقتها للشروط الأولية الابتدائية التي نص عليها الدستور، فإذا وجدوا إبهاماً في جانبٍ من جوانبها اتَّصلوا بالقائد، واستفسروا بشأنه، سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ولهذا المجلس أمانة عامّة تضمّ مجموعة من العلماء والمحقِّقين تقوم بعمل دراسة للقضايا المختصّة بالحكومة من النواحي السياسية والاجتماعية.
إن استخلاف القائد على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم وكلّ أمورهم يوجب أن يكون أي انحراف موجباً لأضرار عظيمة لا يمكن تعويضها. إن قدسية مقام القائد والوليّ الفقيه لا تمنع أن تكون أعمال القائد وسلوكه والجهاز الحاكم وكلّ أطرافه المكلفة بحفظ النظام تحت المراقبة، وهذا الأمر قد تمّ تأييده من طرف لجنة تعديل الدستور([34]). وممّا جاء في المادة الحادية عشرة بعد المئة من الدستور:
(التبصرة 2 من المادة 1): «يجب أن يكون أعضاء هذه الهيئة متفرِّغين بما فيه الكفاية للقيام بالمهام الموكَلة إليهم، وأن لا يكونوا شاغلين لمناصب في السلطة التنفيذية والقضائية من قبل القائد، وأن لا يكونوا من أقاربه».
(المادة 3): «فإن هذا المجلس هو المسؤول عن المعلومات اللازمة في ما يتعلَّق بالمادة 11 ضمن حدود القوانين والموازين الشرعية؛ كذلك بخصوص صحة أو سقم التقارير الواردة في هذا الصدد عليها مواصلة التحقيق. وإذا لزم الأمر الاستفسار المباشر من شخص القائد ومقابلته».
«هيئة التحقيق مكلَّفة بعد التحقيق والتحرّي في الأمور المتعلقة بالمادة 111 برفع تقريراتها إلى هيئة الرئاسة (المادة 5)، وفي صورة المصلحة إلى النواب (المادة 6).
وفي حالة ثبوت الضرورة والمصلحة تقوم هيئة الرئاسة بالدعوة لعقد جلسة لمجلس خبراء القيادة (المادة 7)، بعد أن ترفع تقارير هيئة التحقيق إلى مجلس خبراء القيادة (المادة 8).
بعد رفع تقرير التحقيق لمجلس الخبراء (المادة 10)، وبعد استيفاء حدّ النصاب الذي نصَّت عليه المادة 111 من الدستور، وهو 2/3 من مجموع الأعضاء المنتخبة (المادة 11)، وإذا تأكد لمجلس الخبراء عجز القائد (المرشد الأعلى) عن القيام بمهامه أصدر أمره بعزله عن منصبه، وإقالته من القيادة؛ لعدم تحلِّيه بصفات الأهلية الواردة في الدستور (المادة 12).
خبراء القيادة لهم الحقّ في مراقبة أمور القيادة، «كذلك هيئة التحقيق والتحرّي مكلفة بالتنسيق مع القائد في التنظيم الإداري للمذكرة الرسمية، حتّى يتمّ منع تدخل جهات غير مرغوب فيها» (المادة 19).
وبملاحظة المقرَّرات المذكورة يصبح تكليف القائد واضحاً.
ج ـ المسؤوليّات المالية والحقوقية
1ـ «يتولّى رئيس السلطة القضائية التحقيق فـي أموال القائد، ورئيس الجمهورية ومعاونيه، والوزراء، وزوجاتهم، وأولادهم، قبل تحمّل المسؤولية وبعده، وذلك لئلا تكون قد ازدادَتْ بطريقةٍ غير مشروعة» (المادة 142 من الدستور).
الملفت في هذه المادة أن رئيس القوة القضائية، رغم أنه منصَّبٌ من طرف المرشد الأعلى (القائد)، ومسؤول من قِبَله، إلا أن له صلاحيات مراقبة المرشد الأعلى ومحاسبته قانونياً على ما زاد عن أمواله بطرقٍ غير مشروعة.
2ـ يتساوى القائد مع كلّ أفراد البلاد أمام القانون([35]). وهذه المادة تجعل القائد وكلّ أفراد عائلته، بالنسبة إلى القوانين المدنية والجنائية، الاقتصادية والمالية والعسكرية، متساوين مع سائر أبناء البلاد، له حقوق، وعليه واجبات، وشأنه ومقامه لا يرفعه عن هذه القوانين.
وحين ألَّف الإمام الخميني كتابه (كشف الأسرار) طرحت عليه عدة شبهات (سنة 1323هـ.ش)، ومنها: إنه لما قسم الحكومة إلى: ملكية؛ وإلهية فإنّ هذا يعني أن شأن الولي الفقيه يختلف عن شؤون الآخرين! وكان جوابه: «لم نذكر كما لم يصرِّح بذلك أيّ فقيه أو أيّ كتاب بأننا نحن ملوكٌ، أو أن المَلَكية حقٌّ لنا»([36]).
وقال في مكانٍ آخر: «نحن نقول: الحكومة والولاية في هذا الزمان هي للفقهاء، ولا نريد القول: إن الفقيه هو ملك، وزير وعسكري و… لكنْ كما أن المجلس له مؤسسون من أفراد دولة، وهذا المجلس يشكِّل الحكومة، ويغير السلطنة، ويجعلها انتخابية، وليست سلطوية فرد أو عائلة أو…»([37]).
وكان الإمام الخميني يقول: إن الحاكمية لله تعالى: «الاقتداء والاتِّباع يكون لمَنْ يملك كلّ الناس، وأيّ تصرُّفٍ منه يكون تصرُّفه في ماله، وهذا الشخص تكون ولايته سائرة في جميع البشر؛ بحكم العقل، وهذا الشخص هو ربّ العالمين. فهو مالك كل الموجودات، وخالق الأرض والسماوات، إذن فأيُّ حكم حكم به فهو حكم في مملكته، وأيُّ تصرُّف منه هو تصرُّف في عطائه. وإذا قلد الله أحداً أمر الحكومة، وذلك عن طريق أنبيائه، فهو يكون ملزماً بالإطاعة، وعلى البشر إطاعته، ولا طاعة لمَنْ لم يأمر الله بطاعته»([38]).
الإمام الخميني، في استناده إلى الآية الشريفة: ﴿للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ (البقرة: 284)، بيَّن أن لا حقّ لأحدٍ من البشر في التصرُّف في شؤون الناس الآخرين، بل ليس له الحق في التصرف في شؤون شخصه. وبناءً على هذا فالنبي الأكرم| والأئمة والنائبون عنهم من طرف الحكم الإلهي لهم حقّ الحاكمية والولاية على الناس، ولهذا قسم الحكومة إلى: «فاسدة» «جائرة»؛ و«حكومة إسلامية إلهية».
وقال الإمام الخميني: «ولاية الفقيه ولاية على الأمور، بحيث لا يترك هذه الأمور تنحرف عن مسارها. وتقوم بمراقبة المجلس ورئيس الجمهورية؛ مخافة أن يصدر منه شيء مخالف. ولاية الفقيه النقيض مع الديكتاتورية، وهي ليس ديكتاتورية»([39]).
«هؤلاء الذين نصَّبهم الله لهم حقّ الإشراف على الأمور، وتعيين مراكز إدارة الحكم، وهؤلاء هم الفقيه الجامع للشرائط»([40]).
وفي الحقيقة ولاية الفقيه ولاية «الفقه»، وليس ولاية شخص «الفقيه»؛ لأن الفقيه هو هنا لتنفيذ قوانين الإسلام، وتدخُّله في أمور السياسة إنما هي مقدّمة للقيام بتكليفه الذي أناطه به الإسلام. «تولي مسؤولية الحكومة في حدّ ذاتها ليست شأناً أو مقاماً، ولكنها وسيلة لتأدية الوظيفة، وتنفيذ الأحكام، وإقرار النظام الإسلامي العادل»([41]).
يقول الإمام الخميني: «إن موضوع ولاية الفقيه مهمة دينية وأداء الواجب»([42]). «الإسلام مؤسس للحكومة التي لا يحمِّل فيها استبداد الحاكم الأمّة والمجتمع آراءه وأهواءه النفسية، وليست دستورية، ولا جمهورية، بحيث تعتمد قوانين وضعية سنَّتها مجموعة وأرادت تحميلها للآخرين، لكنها حكومة إسلامية، نظام ملهم ومنبعث من الوحي، الذي يأخذ مدده في كلّ المجالات من القوانين الإلهية»([43]).
والحكومة الإسلامية التي يريدها الإمام الخميني ليست استبدادية ومطلقة، حتى تكون محل قول المغرضين بأنها حكومة استبدادية، وحكومة قانون شخص واحد، والناس ليس لهم مكانة في السياسة، بينما في الحكومة الإسلامية القانون والناس هم المنصب الأصلي لهيكلة القدوة الحاكمة.
«الحكومة الإسلامية ليست استبدادية، وليست مطلقة، بل هي مشروطة…؛ مشروطة من جهة كون المنفذين والفاعلين فيها مقيَّدون بمجموعة من القوانين المستنبطة من القرآن وسنّة النبي الأكرم|. مجموعة الشروط تلك هي أحكام الإسلام التي لا بُدَّ من مراعاتها بشكلٍ تامّ. وبهذا اللحاظ فالحكومة الإسلامية هي حكومة إلهية على عباد الله»([44]). والفقيه الذي يتولّى زمام الأمور لا بُدَّ له من شروط، ومن جملتها: العقل، التدبير، العلم بالقانون، والعدالة([45]). بينما نرى أنّه في الأنظمة السلطوية والاستبدادية لا يوجد شيء يحمل مفهوم العدالة أو القانون. الولي الفقيه في الحكومة الإسلامية إذا ارتكب جرماً فإن عدالته تسقط، وبسقوط عدالته تسقط ولايته. يقول الإمام الخميني بخصوص هذا الأمر: «إذا أراد فقيه أن يمارس الغطرسة والتعسُّف فإنه يفقد ولايته. في الإسلام القانون هو الذي يشكِّل الحكومة ويقوِّمها»([46]).
وقد نصَّت 111 من الدستور على أنه عند عجز القائد عن أداء وظائفه القانونية، أو فقده أحد الشروط المذكورة فـي المادة 105 والمادة 109، أو عُلم فقدانه لبعضها منذ البدء فإنه يعزل عن منصبه…. ومتى ما عجز القائد ـ إثر مرضه أو أيّ حالة أخرى ـ عن القيام بواجبات القيادة مؤقَّتاً يقوم المجلس المذكور فـي هذه المدّة ـ خلال مدّة العجز ـ بأداء مسؤوليات القائد.
د ـ ولاية الفقيه ولاية سياسية
لا بُدَّ من القول: إنه في كلّ حكومات هناك سلطات وصلاحيات موسَّعة. والحكومة التي تستعمل القدرة الغريبة، وليس لها إدارة عالية، لا تستحقّ عنوان الحكومة. في النظام السياسي يوجد مجتمع تتبلور إداراته المختلفة في إدارةٍ عليا تتولى مهمة القيادة. وليس هناك أيّ نظام سياسي خارج هذا القانون وهذه القاعدة. وسواء كانت مرجعية مشروعية الحكومة انتخاب الأفراد أو التنصيب الإلهي بواسطة الوحي والقانون الإلهي، فلا بُدَّ لها من هذه الصلاحيات. فهل هناك نظامٌ سياسي لا يكون فيه للمديرين الأعلى والمسؤولين مثل هذه الصلاحيات والمسؤوليات؟! فإذا وجدت حكومة سياسية بدون هذه الصلاحيات فهذه ستكون حكومة فوضى واللاسلطوية. في نظرية ولاية الفقيه قلنا: إن هذه الصلاحيات تعطى للفقيه العادل الجامع للشرائط. فإذا كان أحد يريد أن ينتقد هذه النظرية فلا بُدَّ له من أن يتوجَّه بالنقد لأدلَّتها، وليس باستعمال المغالطات اللفظية. والرجوع إلى الميراث المكتوب للفقهاء الأبرار، الذين تناولوا بالنقد جوانب القضية، خير شاهد على صدق مدَّعانا بأن الولاية التي نقصدها في نظريتنا هي نفسها الإمامة، والتدبير السياسي للمجتمع الإسلامي، والتي عبَّرنا عنها بالإدارة الكلية السياسية. الحكومة الولائية، على خلاف ما يسمِّيها البعض «السلطنة أو ديكتاتورية الصالح»، هي مقابل السلطة التحليلية. وفي الواقع الولائية هي تعبير عن «الولاية القائمة بتكليف الإشراف وحفظ الدولة»([47]). فالحكومة الإسلامية مكلَّفة بالمراقبة والإشراف، وإذا تأكَّد لديها فقد الوليّ الفقيه لشروط الأهليّة تنتفي الحاكمية عن الولي الفقيه السابق، وتقدِّم وليّاً جديداً.
الإمام الخميني، الذي كان أحد المنظِّرين لنظرية الولي الفقيه، أكَّد كثيراً على حقّ الناس في الإشراف والمراقبة، وكان يؤمن «أن لكلّ فردٍ من أفراد المجتمع الحقّ في الاستيضاح من طَرَف جميع المسؤولين والمكلَّفين في الحكومة، وأن يوجِّه لهم انتقاداته، وهم عليهم أن يجيبوا أفراد الشعب، ويبيِّنوا لهم ردودهم حول كلّ الاستفسارات المطروحة عليهم، وإذا لم يخضع المسؤول في الحكم لهذه القواعد، وتقاعس عن أداء هذا الواجب، فإنه سيعزل من منصبه»([48]).
وقد كان الإمام الخميني يسعى إلى أن يضع الأفراد أو الجماعات من النخبة في موضعها المناسب داخل تركيبة الحكومة. وكان الإمام لا يتدخَّل سياسياً إلاّ في الحالات التي لديها أزمة السجال التنظيمي والسياسي تكون حرجة، وهي الحالات التي بدون تدخُّل الوليّ الفقيه تكون الأزمة فيها غير قابلة للحلّ السليم والصحيح. وكان يبدي ملاحظاته وموقفه السياسي في مختلف مجالات الدولة، الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية. وهذا النهج جوهري في سياسة الحكومة الإيرانية.
إن السلوك السياسي النموذجي للإمام الخميني، باعتباره الحاكم السياسي، كان في إيجاد التعادل بين مختلف الأحزاب والاتجاهات المختلفة. ولم يكن يميل لحذف الأحزاب والتيارات السياسية من داخل الحكومة، كما لم يكن يتدخل في مراقبة وتنظيم كلّ أمور الدولة. وكان يرى نفسه كسائر المواطنين، له حقوقٌ، وعليه واجبات تجاه دولته وأمَّته، والقانون بالنسبة له يجري على الجميع من دون استثناء.
الهوامش
(*) عضو هيئة العلوم السياسية العلمية في جامعة السيد البروجردي.
(**) باحثٌ وأستاذ في العلوم السياسية.
([1]) كمثال: مهدي حائري، «الحكمة والحكومة»: 177 ـ 178، 215، 216؛ «ثورة الحرية، تفصيل وتحليل لنظرية ولاية الفقيه»: 87؛ محسن كَدِيوَر، «حكومة الوصاية»: 45 ـ 51.
([2]) هذه المباحث قد عرضت مراراً وتكراراً في جرائد الإصلاحيين. «ثورة حرية إيران»، المصدر السابق: 87.
([3]) محسن كَدِيوَر، پژوهشنامه متين، العدد 1: 27، السنة الأولى، خريف 77هـ.ش.
([4]) محسن كَدِيوَر، صحيفة خرداد، العدد 60: 6، بتاريخ: 26/11/77.
([5]) المصدر السابق، العدد 61: 6، بتاريخ: 27/11/77.
([6]) عبد الكريم سروش، مدارا ومديريت: 357 ـ 362.
([7]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب المحرمة: 153.
([8]) ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (يوسف: 40).
([9]) ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص: 26).
([10]) ناصر مكارم الشيرازي، تفسير الأمثل 3: 436، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، 1354.
([11]) منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 9، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية.
([12]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 17: 551.
([13]) مَنْ كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه.
([14]) منتظري، دراسات في ولاية الفقيه: 4، نقلاً عن كتاب الغرر والدرر، للآمدي، ح10109.
([16]) نهج البلاغة (ترجمة: فيض الإسلام): 125، الخطبة 40.
([17]) منتظري، دراسات في ولاية الفقيه: 13 ـ 14.
([18]) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية (ولاية الفقيه): 16.
([19]) الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه (المكاسب المحرمة): 152. وبعد أن ذكر عشرات الأحاديث والروايات خلص إلى القول: هذه الأخبار لا تدلّ على أن الشارع قد ولى العلماء ونصبهم مقام الولاية، بحيث يكونون مثل النبيّ| في أن تكون لهم ولاية مطلقة.
([20]) انظر: منتظري، المباني الفقهية للحكومة الإسلامية 1: 13 ـ 59، ترجمة: محمود صلواتي.
([21]) المصدر السابق: 12 ـ 13، نقلاً عن: كتاب سُلَيْم بن قيس (بالمعنى).
([22]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 66.
([23]) الكليني، أصول الكافي 1: 58، ح5.
([24]) الصدوق، كمال الدين 2: 483، الباب 45، ح4.
([28]) النراقي، عوائد الأيّام: 18.
([29]) الإمام الخميني، شؤون واختيارات الولي الفقيه، من كتاب البيع، الناشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامية، طهران.
([30]) مجلس الشورى الإسلامي، 1369 3، 1313.
([32]) المصدر السابق 20: 451 ـ 452.
([33]) الأصل الرابع والأربعون من التعديلات الدستورية على الدستور.
([34]) صورة شرح مذكرات مجلس تنقيح الدستور: 290، 292.
([36]) الخميني، كشف الأسرار: 186.
([38]) الإمام الخميني؛ صحيفة النور: 230 ـ 229.
([41]) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 54.
([43]) شؤون صلاحيات الولي الفقيه: 21 ـ 20.
([47]) الميرزا النائيني، تنبيه الأمة وتنـزيه الملة: 6 ـ 14.
([48]) الخميني، طليعة الثورة الإسلامية (لقاءات في النجف وباريس وقم): 291.