صحوتان عمّتا العالمَين العربي والإسلاميّ في الآونة الأخيرة. الصحوة الإسلاميّة، والصحوة الديموقراطيّة. وإذا كانت الثانية تأتي في سياق العولمة الثقافيّة والسياسيّة التي جعلت من الديموقراطيّة صراط كلّ نظام سياسيّ مستقيم، فإنّ الصحوة الإسلاميّة تتوافق مع العودة إلى الدين التي يشهدها العالم، عالم المراحل الأخيرة من عصر الحداثة. أمّا القاسم المشترك، هنا بين الاثنين، فهو ازدياد منسوب الحاجة الإنسانيّة إلى القيم والكرامة الإنسانيّة العزيزة والروحانيّة.
وإذا ما بدا عند الانطباع الأوّل أنّ هاتَين الصحوتَين هما ردّ فعل على منظومة القيم الغربيّة وممارساتها السياسيّة، فإنّهما بحقيقة الأمر تمثّلان، وبنظرة أخرى، انسجاماً مع المخاض الذي يشهده العالم كلّه تجاه الموقف من النظرة للإنسان والشعوب، وتجاه نظام الحقوق العالميّ وكيفيّة تطبيقه.
صحوتان، ظنّ البعض أنّ الثورات العربيّة هي التي ولدتهما، وقال آخرون: إنّ هذه الثورات نتيجة لهاتيك الصحوتَين. إلّا أنّه ومهما كان الأمر، فما ينبغي التذكير به، أنّ الصحوة الدينيّة والصحوة الديموقراطيّة، كانتا منذ العقد الأخير من القرن المنصرم؛ أي قبل انطلاق الثورات العربيّة. وما يعنينا في هذه المداخلة، هو السؤال أو الإشكاليّة التي تولّدت بفعل تعاصر الصحوة الدينيّة والديموقراطيّة، وما هي المعالجات التي قدّمها الفكر الإسلاميّ المعاصر بهذا الشأن؟ وحينما نتحدّث عن الفكر الإسلاميّ المعاصر، فإنّما نعني به ذاك المعنيّ بتقديم الرؤية الإسلاميّة للمجتمع الإسلاميّ، والبيئة الثقافيّة المسلمة؛ أي إنّه الفكر العملانيّ الذي أخذ يخوض غمار الواقع بمقاربات اجتهاديّة معاصرة.
وإذا كانت هذه الإشكاليّة مدار اهتمام باحثين من مصر، وتونس، والجزائر وغيرها.. فإنّ إيران أحسّت بثقل المسؤوليّة عليها مبكراً…
وقد عملتُ على بحث العلاقة بين الإسلام كدين وشريعة، وبين الديموقراطيّة؛ الديموقراطيّة بمأخذَيها الفلسفيّ والإجرائيّ؛ ذلك أنّ هناك من يعتبر الديموقراطيّة رؤية فلسفيّة تقوم على جملة من القيم النظريّة، وهناك من يعتبرها آليّة إجرائيّة للحكم، تصلح لكلّ مبنى فلسفيّ أو دينيّ أو نظريّ. إنّها آليّة حياديّة لحفظ قيمة الفرد وخياراته الحرّة.
هذا التفريق بين معنَيَي الديموقراطيّة لَحِظته السجالات الفكريّة في المشهد الثقافيّ والسياسيّ الإيرانيّ. بين قائل: إن الأصل هو حفظ قيم الديموقراطيّة النظريّة، وإن التسوية يجب أن تكون في جانب الدين. وقائل: إنّ الدين هو الثابت، وإنّ علينا إنشاء ديموقراطيّة متوافقة مع القيم الدينيّة.
عمل الفريق الأوّل على تعديل رؤيته لجملة أمور منها:
أوّلاً: التفريق بين الثابت الدينيّ؛ وهو النظام العباديّ للأفراد، والمقاصد الإلهيّة العامّة؛ كحفظ الحياة والحريّة والهداية، وبين الاجتهادات التفصيليّة، في شريعة الدين، للشؤون العامّة للحياة…
ثانياً: النظر إلى كلّ حكم إجرائيّ سياسيّ أو اجتماعيّ ورد في القرآن الكريم، أو السنّة النبويّة، لا باعتباره حكماً إلهيّاً خالداً، بل بما هو حكمٌ جاء لموضوع محدَّد ولبيئة خاصّة، ينقضي الحكم إذا انقضت ظروفه التي ولدته.
ثالثاً: إنّ القِيم تتوالد مع الزمان والمكان، وإنّ علينا العمل الدؤوب على نقد القِيم وتمحيصها لتصبح متوافقة ومبتنية على ركيزة الواقع الجديد عند كلّ مرحلة.
رابعاً: إنّ الواقع الحياتيّ اليوم، إنّما يقوم على أصول من القواعد المبنيّة على نظام الحقوق، لذا دعا أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء نظام سياسيّ يتجاوز منطق التشريع والتكليف، وما يجب ولا يجب، إلى نظام يقوم على ما يحقّ وما لا يحقّ.
ولم يكتف هذا الاتجاه في إيران عند هذه الحدود في طرحه لنظام الحكم الإسلاميّ ــ الديموقراطيّ المفترض، بل إنّه أخذ يبلور جملة مقدّمات لعلمنة الأطروحة الإسلاميّة بُغية تسويغ ديموقراطيّة تبتلع المرتكزات الفقهيّة للحكم السياسيّ. ولو أردنا هنا، تقديم تحليل لموقف هؤلاء لأمكن القول:
إنّ الاتّجاه الأوّل لا يرفض الإسلام كدين طقوسيّ، لكنّه يرفض دخالة الدين في السياسة والحكم، إلّا أنّه، وبنفس الوقت، أعطى للدين دوراً وعظيّاً في الحقل السياسيّ.
أمّا الاتّجاه الثاني، فقد نحا منحى آخر، فهو من جهة آمن بموقعيّة الشعب والناس ودورهم، ومن جهة أخرى أراد الانطلاق من نفس الروحيّة الدينيّة وفق التشريع الإسلاميّ. وقد استرسل هذا الاتّجاه بصياغة أطروحة محدّدة للديموقراطيّة الإسلاميّة، هي السيادة الشعبيّة الدينيّة، ومفادها:
أوّلاً: إنّ محور حركة الوجود والحياة هو الله، وإنّ الله سبحانه استخلف الجماعة البشريّة في إدارة شؤون الأرض، من دون أن يعطي الإنسان حقّ التملّك المطلق. فمن حقّ الإنسان أن يدير شؤون الأرض والعباد، لكن ليس من حقّه أن يُهلك الحرث والنسل، أو أن يظلم، إذ بمقتضى الاستخلاف، فإنّ الإنسان مُستأمن على إقامة نظام العدل، وأن يهتدي بسُنن المالك سبحانه، وأن يهدي الناس إلى سُبل الرشاد الإلهيّ.
من هنا، يأتي التشريع، ومقاصد رسالة الوحي لتبعث نفحات الروح، وتضع الموازين الدقيقة العامّة، وأحياناً التفصيليّة، لحفظ وثاقة عهد الإنسان مع الله، وهذا معنى السيادة الإلهيّة. إلّا أنّ هذا العهد لا يقوم دون طرف رئيسيّ فيه هو الإنسان الذي أولاه الله القدرة على العلم والمعرفة والتدبير والشجاعة والحكمة لإدارة شؤون حياته بتفاصيلها الناظمة، وسُنن وتقاليد وأعراف روابطه العقلائيّة.
وهنا، تدخل حيثيّة البشريّ فيما هو إلهيّ؛ أي إنّ سيادة الإنسان على نفسه هي ضمن سنّة الله بتكريم الإنسان وإيلائه الحقّ بإدارة شؤونه وشؤون الجماعة. وهنا أيضاً، تكمن القيمة المؤسِّسة لإقامة أيّ نظام إداريّ أو سياسيّ.
ثانياً: لا يمكن للزمن أن يكون قاعدة للقطيعة بين الماضي والحاضر، أي بين التراث والجديد، كما لا يمكنه أن يكون السبب للقطيعة بين فعّاليات الإنسان وحقائق الوحي.
بمعنى آخر، إنّ وعي اللحظة يستحضر دوماً كلّ مقوِّمات الذاكرة وماهويّة الذات بين تلك القيم الواصلة لذاكرة الهويّة ووعي اللحظة لذاتها. من هنا، فإنّ التحديث المبنيّ على القطيعة، هو انهيار متكرّر للذات والهويّة، بينما التجديد الاجتهاديّ الباني للذات الموصولة مع الهويّة هو المحقّق لفرادة المشروع الحضاريّ الذي يستحضر الوحي وقيم السماء في الحياة، كما يتجلّى عند متطلّبات الواقع بمتغيّراته وخصوصيّاته وتنوّعاته الثقافيّة والجغرافيّة والزمنيّة، وهذا ما قامت عليه فلسفة السيادة الشعبيّة [الذات] الدينيّة [الهويّة].
ثالثاً: أقرّت أطروحة السيادة الشعبيّة الدينيّة (بوجهها الإسلاميّ)، بأنّ الشريعة الإسلاميّة هي الحاكم الفاصل في الأحكام البانية لكيان المجتمع وناظمه السياسيّ والإداريّ. إلّا أنّها ردمت الهوّة بين الله سبحانه وخليفته الذي استأمنه على إعمار الأرض، الإنسان، لذا، كان العرف والناتج الإنسانيّ في بناء الأنظمة المجتمعيّة والإداريّة والسياسيّة مورد احترام وإمضاء مُسبق من قبل الله سبحانه. هذا، فضلاً عن أنّ الإمرة إنّما تكون للإنسان، لكنّ الشريعة تدخّلت بالمواصفات.
والتوفيق بين ثلاثيّ: حاكميّة الشريعة، وإمرة الحاكم، وسلطة الشعب، هو الذي تمّ الاصطلاح عليه بـ«السيادة الشعبيّة الدينيّة».
من هنا، كان التأكيد لدى قادة الدولة الإسلاميّة الإيرانيّة على دور الناس، ورفع مستوى الثقة بأنفسهم وحقوقهم.
إلّا أنّ كلّ هذا قد يتحوّل إلى مجاملات إنشائيّة ما لم يتبلور في صيغ إجرائيّة واضحة تحقّق المقاصد العليا للعدالة الاجتماعيّة، والكرامة الفرديّة الشعبيّة والحريّة المسؤولة.
وهذا، ما يشكّل التحدّي الاستراتيجيّ أمام المشروع الإسلاميّ في استلام الحكم وإدارة شؤون المجتمع.
من الأسئلة التي يفرضها هذا التحدّي.. موقع الدستور في ظلّ الفقيه الشرعيّ، وما هي طبيعة العلاقة بينهما؟ كيف يمكن أن نقيم فصلاً بين السلطات، وأن نُجري تداولاً عادلاً للحكم والسلطة؟ ماذا لو اختلفت نتائج استفتاء شعبيّ مع رأي الحاكم الشرعيّ؟ كيف نمارس التعدّديّة في الحياة السياسيّة والمجتمعيّة؟ هذه الأسئلة قد تكون إيران وفّرت بعض الإجابات لها، إلّا أنّه ما زال أمامها الكثير.
لكن ما ينبغي ملاحظته، هو أنّ للتجربة الإيرانيّة خصوصيّاتها المجتمعيّة والدينيّة والمذهبيّة، وأنّ السؤال يكبر ويتعاظم عندما نتحدّث عن مجتمعات متعدّدة الانتماء الدينيّ والمذهبيّ والفكريّ، على غرار ما هو حاصل في العالم العربيّ مثلاً. فكيف ستتعاطى أطروحة السيادة الشعبيّة الدينيّة مع بيئة منغمسة بالتعدّدية، وعلى كلّ صعيد؟