دور الدين في خدمة الأخلاق
د. أبو القاسم فنائي(*)
«إنّما بُعثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([1]) (النبيّ الأكرم‘).
1ـ مدخل ــــــ
أثبتنا في دراسة أخرى استقلال الأخلاق عن الدين، وأثبتنا تقدّم الأخلاق على الدين، وقلنا بأن عقلانية الالتزام الديني لا تتوقَّف على التبرير الأخلاقي الإيجابي لأحكام الشرع، وأن وجوب اتباع هذه الأحكام يمكن أن يكون حكماً من أحكام العقلانية المصلحية، ومع ذلك فإن الأحكام الشرعية إنما تكون معقولةً إذا لم تعمل على نقض القيم الأخلاقية؛ لأن القيم الأخلاقية هي من مقتضيات العقلانية الأخلاقية، وإن العقلانية الأخلاقية متقدِّمة على العقلانية المصلحية. وعلى هذا الأساس فإن الالتزام الديني إنما يكون عقلانياً بشرط أن تحظى الأحكام الشرعية بالتبرير الأخلاقي السلبي، في الحدّ الأدنى، وأن لا تعمل على نقض هذه القيم. وإن الأحكام الشرعية المنافية للقيم الأخلاقية تفتقر إلى التبرير والاعتبار العقلاني، وإن اتباعها مخالف للعقلانية.
وأما استقلال الأخلاق عن الدين وتقدّمها عليه بالمعنى المتقدِّم فإنما يكون مقبولاً إذا اقترن بتصويرٍ واضح وجليّ عن خدمات الدين في دائرة الأخلاق، وبيان معقول ومقبول للتعاليم الأخلاقية الموجودة في النصوص الدينية. وتكمن أهمّية هذه المسألة في أن الكثير من المتديِّنين يرَوْن في «الخدمات» التي يقدِّمها الدين في دائرة الأخلاق دليلاً على «تَبَعية» الأخلاق للدين، في حين أن هذا الكلام مجانبٌ للحقيقة؛ إذ إن خدمات الدين في دائرة الأخلاق إنما يُثبت أن الأخلاق موضع «تأييد» من قبل الدين.
وسنبحث هنا هذا النوع الخاص من العلاقة بين الدين والأخلاق. إن تأييد الأخلاق من قبل الدين ينسجم مع:
1ـ استقلال الأخلاق عن الدين.
2ـ تقدّم الأخلاق على الدين.
3ـ حجّية ومرجعية العقل والوجدان في دائرة الأخلاق.
إن هذا الارتباط موجودٌ بين الأخلاق وجميع أجزاء الدين، فإن كُلاًّ من: العقائد الدينية، والعبادات الدينية، والتوصيات والتعاليم الأخلاقية الموجودة في النصوص الدينية، إذا تمّ فهمها واتّباعها بشكلٍ صحيح فإنها سوف تساعد بشكلٍ كبير ومؤثّر على تخلُّق المؤمنين، وبقائهم على الاتصاف بالأخلاقية.
إن للقِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية وجوداً وهويّة مستقلّة عن الدين. وبغضّ النظر عن النقل والوَحْي يمكن التعرّف عليها وتبريرها. وهي موضع تأييد وإمضاء من قبل الدين، بلا تدخّلٍ أو تصرّف. إن الأخلاق مقولة تفوق الدين، وإن الدين لا يستطيع التدخّل والتصرّف في القيم الأخلاقية، أو أن يعمل على تغييرها. وإن القيم الأخلاقية مطلقة، فهي ليست مدينة في وجودها واعتبارها إلى الدين، بل إن الدين يتقبَّل القيم الأخلاقية كما هي، ويوصي أتباعه بالتحلّي والاتّصاف بها واتّباعها. وعلى أيّ حال يمكن لنا أن نفترض للدين أدواراً وأنشطة متنوّعة وواسعة في حقل الأخلاق، وسوف نشير إلى بعض هذه الأدوار.
ويمكن القول إجمالاً: إن الدين يلعب دوراً هامّاً في اتّصاف المتدينين بالأخلاق، وبقائهم على هذا الاتصاف. وإن الاضطلاع بهذا الدور يتمّ عبر طرقٍ مختلفة. وإنْ كان التديُّن غير مقترن بـ «البصيرة» و«العقلانية» و«المعنوية»، وإذا لم يكن لدى المتديِّنين فهمٌ صحيح للدين، ونسبة الدين إلى العقلانية والأخلاق، وإذا تمّ إحلال الفقه محلّ الأخلاق، فإن النتيجة المترتِّبة على ذلك ستكون معكوسةً. وإن مثل هذا الفهم للدين سيبعدهم عن الأخلاق، بمعنى أن الدين في هذه الحالة سيتحوّل إلى أحد الموانع أمام التخلُّق، وبقاء الإنسان على صفاته الأخلاقية. قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ (الأنعام: 104).
لا نتحدّث عن خدمات الأخلاق في دائرة الدين؛ لأن أبحاثنا الأخرى تبيِّن بوضوحٍ أن الرسالة الدينية لا تصل إلى غايتها دون التحلّي بالأخلاق، وأن الدين المتنصّل عن الأخلاق ـ إذا صحّ أن نسمّيه ديناً ـ هو غير قابل للتبرير من الناحية العقلانية، وأن الإنسان العاقل بما هو عاقلٌ ليس مُلْزَماً باتباع مثل هذا الدين، بل إن اتباعه لمثل هذا الدين ممنوعٌ وغير مشروع. كما تلعب الأخلاق في مقام المعرفة الدينية دوراً مؤثِّراً وفريداً. وهذا ما سوف نتناول دراسته وبحثه في كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية) بالشرح والتفصيل المُسْهَب([2]).
2ـ الدين ورؤية الإنسان إلى الحياة الدنيا ــــــ
إن للدنيا من الناحية الدينية ظاهراً وباطناً. وإن ظاهر الدنيا خادعٌ، ويدعو إلى الغفلة، وأما باطن الدنيا فهو ذات الآخرة([3]). إن الدنيا في حدّ ذاتها غير سيّئة، وإنما المذموم فيها هو التعلُّق بها، والمبالغة في حبّها، أو عبادتها والقول بتأصيلها، بحيث يتمّ نسيان الحياة الأخروية([4]). وإن حبّ الدنيا يشكّل أساساً لجميع الخطايا([5]). وإن الدنيا دار بلاء واختبار، وإن النِّعَم والنِّقَم الدنيوية تمثِّل الأرضية للابتلاء والامتحان([6]). ويتمّ تعريف الدنيا في النصوص الدينية على أنها قصيرة الأجل، ويعدّ الإنسان فيها بمنزلة الظاعن والمسافر الذي يضطرّ إلى التزوُّد بالمتاع الذي يكفيه حتّى بلوغ غايته([7]). إن الدين يعلّمنا أن الحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة في الآخرة لا تعدو أن تكون مجرَّد متاعٍ قليل ولعبة متواضعة([8])، وأنها لا تتجاوز اللَّحَظات([9]). وإن الدين يريد منا أن نستفيد من الإمكانات المتاحة لنا في هذه الدنيا؛ للسعي من أجل الوصول إلى السعادة في الآخرة، وأن لا ننسى في الوقت نفسه نصيبنا من الدنيا([10]).
لا شَكَّ في أن مجموع التعاليم الدينية في حقل الدنيا، وفي ما يتعلّق بالتأثير الذي تتركه أعمال الإنسان في الدنيا على سعادته وشقائه في الآخرة، لو استقرَّتْ في روح الإنسان سيمكنها أن تلعب دوراً بنّاءً في صيرورة المؤمن أخلاقياً، وبقائه على الاتصاف بالأخلاقية؛ لأن أحد أهمّ الموانع من التمسّك بالقيم الأخلاقية هو تنافي هذا الأمر وعدم انسجامه مع المصالح الدنيوية الآنيّة والعابرة. إلاّ أن التعاليم الدينية لو أرادت أن تضطلع بهذا الدور فيجب على المؤمنين أن يكون لهم إدراكٌ وتصوّر صحيح عن العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق. وفي الوقت نفسه فإن تأكيد الدين على رعاية القيم الأخلاقية إنما يأتي أوّلاً وبالذات من أجل المحافظة على البُعْد المعنوي والأخروي من حياة الإنسان، وليس من أجل إعداد الأرضية المناسبة للتعاون الجماعي، وتنظيم العلاقات الاجتماعية([11]). تكمن أهمّية الأخلاق من وجهة نظر الدين في تأثيرها على البُعْد المعنوي والأخروي من حياة الناس فرداً فرداً، وليس من أجل تأثيرها على تنظيم الحياة والعلاقات الاجتماعية بالشكل المطلوب.
3ـ بيان الصُّوَر الغيبية والنتائج الأخروية للأعمال ــــــ
إن إحدى أهم خَدَمات الدين للأخلاق يتمّ عبر إزاحة الستار عن الصور الغيبية والنتائج المترتبة على أعمال الناس الصالحة والسيّئة على المدى البعيد. وإن الدين يساعد من هذه الجهة على تخلّق المتدينين، وبقائهم على الاتصاف بالتديّن. إن توقّف معرفة الحكم الأخلاقي للعمل على معرفة نتائج ذلك العمل وصوره الغيبية أو باطنه شيء، وتشديد وتقوية العلم بنتيجة العمل وصورته الباطنية؛ لخلق الدافع لدى الشخص من أجل مراعاة الحكم الأخلاقي لذلك العمل، شيءٌ آخر.
إن للناس أدلّة ودوافع مختلفة في مراعاتهم للقيم الأخلاقية. فالذين يتمتّعون بالمقدار الكافي من العقل لا يحتاجون في التمسّك بالأخلاق لأكثر من إدراك الحكم الأخلاقي، بمعنى أن الدليل الذي يبرّر العمل على المستوى الأخلاقي بالنسبة لهم هو بنفسه الذي يكون دليلاً لتحريكهم وتحفيزهم نحو القيام بالعمل على طبق ذلك الحكم أيضاً؛ أما الآخرون ـ أي الذين لا يتمتعون بالمقدار الكافي من العقل ـ فيحتاجون في البقاء على تمسّكهم بالأخلاق إلى محرّكات ودوافع إضافية. ويبدو أن أكثر الناس هم من القسم الثاني. فالعالم مفعم بمتوسِّطي الذكاء، الذين تكون الدوافع الأنوية والأنانية عندهم قويّة، وتدفعهم إلى تقديم مصالحهم الشخصية على القيم الأخلاقية. وهنا بالتحديد يبرز دور الدين المؤثِّر، حيث تلعب التعاليم الدينية دوراً ملحوظاً في دفع هذا النمط من الناس نحو التمسُّك بالقيم الأخلاقية.
فعلى سبيل المثال ليس هناك مَنْ يجهل قبح أكل مال اليتيم، دون أن نكون بحاجة إلى التعاليم الدينية؛ لنعلم ذلك. ولذلك فإن الدين لا يقول لنا: «لا تأكلوا مال اليتامى»، وإنما يقول لنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ (النساء: 10). وهذه هي الصورة الباطنية لأكل مال اليتامى، التي يتمّ تعليمها للإنسان من طريق الوحي، وتعزِّز الدافع النفسي لدى المتديِّنين؛ لتجنب هذا الأمر. ومن الضروري الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن تشريع الحكم الشرعي في هذه الموارد لا يُثبت عدم وجود حكم أخلاقي في هذه الموارد مستقلٍّ عن الشرع، بمعنى أن الأمر ليس بحيث لا يوجد لأكل مال اليتامى حكمٌ من الناحية الأخلاقية، وأن قبح هذا الفعل تابعٌ لحكم الشرع، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، أي إن الحكم الشرعي لهذه الأعمال تابع لحكمها الأخلاقي، وأساساً إن تشريع الحكم الشرعي في هذه الموارد إنما يأتي في إطار الصيانة والمحافظة على ذلك الحكم الأخلاقي([12]).
وعلى أيّ حال إن التفكير الأخروي والرؤية الباطنية للأمور يعدّ من التعاليم الجوهرية للأديان، وإن لهذه التعاليم تأثيراً كبيراً في مراعاة القيم الأخلاقية. وكما تقدّم فإن هذا التأثير ـ بطبيعة الحال ـ يتوقّف على أن يكون لدى المؤمنين تصوُّر صحيح للعلاقة القائمة في أذهانهم بين الدين والأخلاق؛ وفي غير هذه الصورة فإن التعاليم الدينية سيكون لها نتائج معكوسة. إن الدين يعلمنا بأن لأعمالنا ظاهراً وباطناً، وأن لنا ظاهراً وباطناً، وأن للدنيا ظاهراً وباطناً. ولا شَكَّ في أن الاعتقاد الراسخ بهذه الأمور إذا اقترن بالبصيرة، والوضوح في الرؤية، والإدراك الصحيح للعلاقة بين الدين والأخلاق، فإنه سيخلق دافعاً قويّاً جدّاً لدى المؤمنين للاتصاف بالأخلاق، والبقاء على هذا الاتصاف.
4ـ ربط المفاهيم الأخلاقية بالمفاهيم الدينية ــــــ
إن الآلية المهمّة الأخرى للدين في حقل الأخلاق عبارةٌ عن ربط المفاهيم الأخلاقية بالمفاهيم الدينية. إن الربط بين المفاهيم الأخلاقية والمفاهيم الدينية يختلف عن تعريف المفاهيم الأخلاقية في إطار المفاهيم الدينية. فإن الصبر ـ على سبيل المثال ـ يُعَدّ واحداً من الفضائل الأخلاقية، ونحن بغضّ النظر عن التعاليم الدينية ندرك معنى الصبر، ونستوعب حكمه الأخلاقي، أو يمكن لنا أن نعلمه، والدين لا يقول لنا: كونوا صبورين، وإنما يقول لنا: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)، بمعنى أنه يربط بين الصبر ـ بوصفه فضيلة أخلاقية ـ ومحبة الله ـ بوصفها محرّكاً ودافعاً دينياً قوياً ـ وبذلك يؤدّي بردّة الفعل التي يقوم بها المؤمنون تجاه محبة الله إلى نقلها وإسقاطها على الصبر، حيث يضطرّون إلى تنمية هذه الفضيلة الأخلاقية في أنفسهم؛ من أجل الحصول على محبّة الله. وبذلك فإن الدين يخلق من خلال ذلك دافعاً مضاعفاً لدى المؤمنين من أجل التمسُّك بالقيم الأخلاقية.
إن الدين يعمل هنا على توظيف واستثمار المشاعر والدوافع الدينية الحاضرة لدى المؤمنين بقوّةٍ؛ ليعمل على ترغيبهم وتشجيعهم على اكتساب الفضائل الأخلاقية ونبذ الرذائل الأخلاقية. لا شَكَّ في أن الهاجس الرئيس للمؤمنين هو الحصول على محبّة الله، فالمؤمن هو الذي يسعى لكي يكون موضع رعاية الله واهتمامه، ويتصرّف في الحياة بالشكل الذي يُرضي الله، وإن إرادة وكراهية الله وحبّه وبغضه هو الذي يشكِّل الدافع والمحرِّك لدى المؤمنين، وإن الدين يستثمر هذه الحقيقة النفسية لتربية المؤمنين أخلاقياً. ولكنْ في الوقت نفسه فإنّ حُسْن الصبر ليس من أجل أن الله يحبّ الصابرين، بل العكس هو الصحيح، أي إن الله إنما يحبّ الصابرين بسبب حُسْن الصبر.
إن من المفاهيم الهامّة التي يتمّ التأكيد عليها من قبل الدين في هذا الشأن هو مفهوم «التَّقْوى». يُفهم من بعض النصوص الدينية أن التقوى تمثّل ـ من وجهة نظر الدين ـ أمّ القيم([13])، إلاّ أن التقوى في ما نحن فيه لا تعني الخوف من «إله الفقه»، وإنما تعني:
1ـ الرجوع إلى «إله الأخلاق» في مقام اتّخاذ القرار والتشاور معه بشأن الحُسْن والقبح، أو الصواب والخطأ في العمل.
2ـ الاتباع العملي لرأي وحكم هذا الإله.
إن التقوى فضيلةٌ عقلانية ومعرفية، قبل أن تكون فضيلة أخلاقية، ولها تأثير في إدراك التكليف ومعرفته. وبعبارةٍ أخرى: إن للتقوى، مثل سائر الفضائل الأخلاقية، ناحية معرفية([14])، وناحية تحفيزية([15]) وعملية([16])، أي إن صفة التقوى من جهةٍ تؤدّي بالمتقي إلى أن يرى في مقام النظر أشياء لا يستطيع الآخرون رؤيتها، ومن جهةٍ أخرى تؤدّي به إلى العمل على طبق تلك الرؤية على المستوى العملي([17]).
وعلى هذا الأساس فإن التقوى في مقام العمل عبارة عن تنظيم السلوك على طبق إرادة إله الأخلاق، أو الشاهد المثالي، وتقديم إرادته على إرادتنا، وعلى إرادة الآخرين. وأما التقوى في مقام النظر فهي عبارة عن الجهد المَقْرون بالصدق والجدّيّة في الكشف عن إرادة إله الأخلاق، والرجوع له بوصفه شاهداً مثالياً.
5ـ تقديم النماذج الأخلاقية ــــــ
إن من الأساليب المؤثّرة في التعليم والتربية الأخلاقية التعريف بالأمثلة والنماذج الأخلاقية المناسبة. ويمكن اعتبار هذا الأسلوب واحداً من الأدوات الدينية البارزة في دائرة الأخلاق. إن النصوص الدينية مشحونةٌ وزاخرة بقصص وسِيَر الأشخاص الذين يُمثّلون نموذجاً أخلاقياً بنحوٍ من الأنحاء. وإن واحداً من الأدوار الرئيسة للأنبياء والأولياء هو رسم هذا النموذج الأخلاقي من خلال أفعالهم وأقوالهم([18]). إن مهمة الأنبياء والأولياء لا تنحصر بتعليم القِيَم والفضائل الأخلاقية على المستوى النظري فقط، فقد كان هؤلاء، بالإضافة إلى ممارسة تعليم الفضائل الأخلاقية على المستوى النظري، يجسِّدون هذه الفضائل في وجودهم وسلوكهم العملي أيضاً.
6ـ النظام الأخلاقي لعالم الوجود ــــــ
إن النظام الأخلاقي في العالم يُعَدّ من مفاهيم الدين الجوهرية التي تلعب دوراً مؤثِّراً في اتصاف المؤمن بالأخلاق، وبقائه على الاتصاف بهذه الصفة. إن عالم الوجود بالإضافة إلى النَّظْم الطبيعي والعلمي يشتمل على نَظْمٍ أخلاقي أيضاً، وإن الفرد يعبّر عن هواجسه تجاه الأعمال الصالحة والطالحة، وتصدر عنه ردود أفعال متناسبة في مقابل الأفعال والسلوكيات الجيّدة والسيئة. إن التفسير الأخلاقي للوقائع والظواهر المادية والطبيعية يُشكِّل أحد أهم المفردات الغالبة في النصوص الدينية، وإن هذه المفردة الدينية الهامّة تمثّل الجواب المباشر والواضح عن السؤال القائل: «لماذا يجب التحلّي بالأخلاق؟». إن العالم مليءٌ بمتوسِّطي الذكاء، وإن أخلاق هذا الصنف من الناس تقوم على النزعة الأنوية. إن أغلب الناس ينظّمون سلوكهم على أساس العقل الأنوي والأناني والعقلانية الاقتصادية، وإن تمسّكهم بالأخلاق والقيم الأخلاقية رهنٌ بمقدار ما يعود عليهم هذا التمسُّك بالمنافع.
في خضمّ هذه الأوضاع والأحوال إذا اعتقد شخصٌ بأن العالم الذي يعيش فيه يُعتبر من الناحية الأخلاقية أعمى وأبكم، وأنه يلتزم الحياد واللامبالاة، حيث يدار على أساس القوانين الطبيعية والعلمية، دون أن يكون للمفاهيم الأخلاقية أيّ دور في مسار أحداث وظواهر هذا العالم، فإن دوافعه إلى التمسّك بالأخلاق ستكون ـ بطبيعة الحال ـ أضعف من الدوافع التي يمتلكها الفرد المؤمن بوجود النَّظْم الأخلاقي في هذا العالم. نعم إذا كان الشعور بالمسؤولية وحبّ الآخر أو العقل والوجدان الأخلاقي لدى الفرد كافياً وقويّاً لن يكون للاعتقاد وعدم الاعتقاد بالنظام الأخلاقي للعالم تأثير في سلوكه، وفي تمسُّكه بالقيم الأخلاقية([19]).
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشخص الذي يقدِّم جواباً مختلفاً عن السؤال القائل: «لماذا يجب التحلّي بالأخلاق؟»، ففي مثل هذه الحالة لا يكون للاعتقاد وعدم الاعتقاد بالنظام الأخلاقي للعالم تأثيرٌ في سلوكه أيضاً.
فعلى سبيل المثال: إن الذين يرَوْن أن منشأ الأخلاق هو العقد الاجتماعي يعتقدون بأن التمسّك بالأخلاق يضمن المصالح والمنافع الشخصية للأفراد بشكلٍ أفضل. إلاّ أن هذه النظرية لا تحتوي على حلٍّ مقنع لـ «مفارقة التطفُّل»([20]).
وعلى أيّ حال فإن القول بأن النظم الأخلاقي في العالم يعتبر في المجتمعات الدينية ـ في الحدّ الأدنى ـ واحداً من الدوافع التي تحثّ المؤمنين على مراعاة القيم الأخلاقية قولٌ مقبول ومنطقي([21]).
7ـ معرفة الإنسان الدينية ــــــ
تلعب التعاليم الدينية دوراً هامّاً في ما يتعلّق بروح ونفس الإنسان على المستوى الأخلاقي. وإن من أهمّ هذه التعاليم ما يلي:
1ـ خلود الروح.
2ـ الفصل بين الأنا العلويّة والأنا السفلية، أو النفس اللوّامة والنفس الأمّارة.
3ـ كرامة النفس.
4ـ جهاد النفس.
5ـ اتّحاد نفوس الناس.
إن للاعتقاد بخلود النفس والروح، وعدم محدودية حياة الإنسان واقتصارها على هذه الدنيا، نتائج وتداعيات أخروية على العمل لشخص الفاعل؛ إذ سيُدخله ذلك في حساباته العقلانية، وسوف يساعده ذلك على تخلُّقه، وعلى بقائه على التحلّي بالأخلاق.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن المعرفة الإنسانية الدينية تعلّم الإنسان أنه يمتلك ذاتين ونفسين؛ نفس تدفعه إلى فعل السيئات([22])، وهي التي تمثّل أعدى أعداء الإنسان([23])، ويعدّ جهادها هو الجهاد الأكبر([24])، ويعتبر من أهم الفرائض الدينية؛ ونفس تبلغ في جلالة قدرها وعظيم قيمتها بحيث يُقسم الله بها([25])، وهي التي يُلْهِمها الله صالح الأمور وطالحها([26])، وهي التي تلعب دور الحسيب والقاضي والرقيب والحَكَم على الإنسان في يوم القيامة([27]).
ومضافاً إلى ذلك فإن النصوص الدينية تصف «كرامة النفس» بأنها أمّ القِيَم أو مصدر الفضائل الأخلاقية([28])، وتصف «الشعور بالحقارة» بأنه مصدر الرذائل الأخلاقية([29]). وبذلك فإن هذه النصوص تضع بين أيدينا طريقاً يمثِّل العلاج الجذري للمفاسد والآفات الأخلاقية. وبطبيعة الحال فإن الذي تمّ التأكيد عليه في النصوص الدينية يرتبط بشكلٍ رئيس بكرامة نفس شخص الفاعل. وإن الدرس الذي تقدِّمه هذه النصوص للمتديِّنين هو أن الشعور بكرامة النفس يردع الإنسان عن ارتكاب القبائح والموبقات. وإن هذه الكرامة تمثّل في الحقيقة محور الأخلاق الفردية.
ولكنْ يمكن اعتبار كرامة النفس محور الأخلاق الاجتماعية أيضاً.
إن كرامة النفس المنشودة في الأخلاق الاجتماعية ليست هي كرامة شخص الفاعل، بل هي كرامة الآخرين الذين يتأثَّرون بنحوٍ من الأنحاء بسلوك الفاعل. ويبدو أن الكرامة التي يتحدّث عنها (كانْت) هي هذه الكرامة؛ حيث يرى أن الاعتقاد والاهتمام بكرامة سائر الأفراد يردع الإنسان عن إساءة استغلالهم، أو الاستفادة منهم كمجرّد وسائل وأدوات([30]).
ومن التعاليم الهامّة للدين في حقل المعرفة الإنسانية اتّحاد أنفس البشر. فمن وجهة نظر الدين يعتبر الناس أعضاء جسدٍ واحد، وتجلِّيات جوهر واحد، وهم أبناء لأبٍ واحد وأمّ واحدة، وخلفاء لإله واحد، وهم متساوون بأجمعهم في الإنسانية([31]). لو ترسّخ هذا الاعتقاد في ضمير الشخص فإنه سوف لا يبحث عن مصلحته في إلحاق الضرر بالآخرين، وسوف يستخدم في الوصول إلى تحقيق السعادة والرفاه لنفسه وللآخرين معياراً وميزاناً واحداً.
8ـ دور العبادات الدينية في أخلاق المؤمنين ــــــ
تقوم فلسفة العبادات الدينية على تنمية البُعْد الأخلاقي من وجود الإنسان، فإن جميع العبادات تعمل بشكلٍ وآخر في خدمة تخلُّق الإنسان بالأخلاق، وتمسّكه بهذا التخلُّق([32]). إن العبادة ليست سوى إظهار الخضوع والخشوع والعبودية بين يدَيْ الله، وحيث إن الله يمثِّل تجسيداً للفضائل الأخلاقية فإن عبادته تعني الثناء على هذه الفضائل. إن للمفاسد والرذائل الأخلاقية جذوراً في الاستكبار والشعور بالعظمة والنرجسية والأنا واتّباع الأهواء النفسية والاستجابة لرغبات النفس الأمّارة، وإن عبادة الله تمثِّل علاجاً لجميع هذه الأمراض النفسية. وبطبيعة الحال فإن صفات الله لا تُخْتَزل في الصفات الأخلاقية، بل هي تنقسم إلى قسمين: «الصفات الأخلاقية»، و«الصفات الكلامية». ولكنّ الله لا يتّصف بما ينافي الأخلاق.
كما أن صفات الله الأخلاقية مقدَّمةٌ على سائر صفاته الأخرى.
كما أن التقرّب من الله رهنٌ بتنمية الشخص للصفات الأخلاقية في نفسه بشكلٍ كامل.
وعلاوة على ذلك فإن الله ـ على ما سيأتي ـ شاهدٌ مثالي، وإن الخضوع والخشوع في حضرته إنما هو في الحقيقة خضوع وخشوع في حضرة الشاهد المثالي، وهو يعني الرضوخ والانصياع لحكم الشاهد المثالي. إن جوهر العبادة عبارةٌ عن أن الإنسان يلقِّن نفسه بأنه «ليس إلهاً، وإنما هو مجرَّد عبدٍ». وليس هناك من شَكٍّ في أن هذا الأمر إذا ترسّخ في عمق وجدان الإنسان إلى حدّ التجذُّر فإنه سيترك تأثيراً عميقاً، سواءٌ في تشخيص التكليف الأخلاقي أو في العمل على طبق ذلك التكليف. إن العبادات والرياضات الدينية تؤدّي إلى تقرّب الإنسان من الله، وإن التقرّب من الله لا يعدو كونه تقرّباً من الشاهد المثالي، ورؤية ما يراه، وسماع ما يسمعه([33]).
9ـ الدين والتعليم والتربية الأخلاقية ــــــ
هناك كمٌّ كبير من النصوص الدينية يختصّ بالتعاليم الأخلاقية. وإن جانباً من هذه التعاليم ورد على شكل حِكَمٍ من قبل الله تعالى وَحْياً إلى أنبيائه؛ والجانب الآخر هو حصيلة تجارب الأنبياء والأولياء وتأمُّلاتهم ومشاهداتهم على المستوى الشخصي.
وينبغي الالتفات إلى بعض المسائل في ما يتعلّق بهذه التعاليم:
أوّلاً: إن التعليمات الأخلاقية للدين هي من نوع الوعظ والتذكير، وليست من نوع التعليمات العلمية والفلسفية. وقد تمّ بيان هذه المواعظ غالباً في إطار القصص وأخبار الأمم الماضية وعاقبة المجتمعات الصالحة والمفسدة. إن المواعظ والتعاليم الأخلاقية الواردة في النصوص الدينية ترشد الناس إلى حكم عقلهم ووجدانهم، ولذلك فإنها غالباً ما تقترن بالأدلة، وعلى أيّ حال فإن هذه التعاليم ليست «مولوية»، ولا «تعبدية»، بل هي «إرشادية، وإن الحكم النهائي بصحتها أو سقمها، وكيفية ولزوم اتّباعها، والقدرة على تعميمها وتطبيقها على المصاديق الجديدة، متروكٌ إلى العقل والوجدان الأخلاقي لدى الإنسان. إن التعاليم الأخلاقية الدينية في الأغلب تَرِدُ في سياق بيان النموذج الذي ينبغي التأسّي به؛ من أجل إيقاظ الحسّ والوجدان الأخلاقي لدى الإنسان، وخلق الهواجس الأخلاقية في وجوده.
إن هذه التعاليم تتعارض في بعض الموارد فيما بينها؛ وفي بعض الموارد تعمل على التشويش الثقافي. وعلى أيّ حالٍ فإننا للاستفادة منها وتطبيقها على الأوضاع الراهنة بحاجة إلى رفع التعارض القائم بينها، وإلى الاهتمام بتفسيرها ثقافياً. ولا يمكن ذلك إلاّ من خلال الرجوع إلى فلسفة الأخلاق، وامتلاك نظرية عقلانية منقّحة ومقنعة في مجال الأخلاق. إن التعاليم الأخلاقية المتوفِّرة في النصوص الدينية لا يمكن الاستفادة منها وتوظيفها إلاّ إذا تمّ:
1ـ رفع التعارض القائم بينها.
2ـ رفع التعارض بينها وبين المشاهدات الأخلاقية.
3ـ رفع التعارض بينها وبين المعتقدات الدينية والفلسفية والعرفانية والعلمية([34]).
ثانياً: إن رسالة الأنبياء في باب الأخلاق عبارة عن تربية وتزكية نفوس الناس. وإن هذه الرسالة تذهب إلى أبعد من مجرّد التعليم. إن الاتّباع العملي للقيم الأخلاقية، مضافاً إلى اكتساب المعرفة الأخلاقية، والقدرة على إصدار الأحكام المبرّرة والمقنعة بشأن الموضوعات الأخلاقية، بحاجةٍ إلى مقدّمات أخرى أيضاً. وإن من هذه المقدّمات معرفة مراحل السَّيْر والسلوك، والطرق العملية لمكافحة الرذائل الأخلاقية؛ والمقدّمة الأخرى بيان الأمثلة والنماذج الناجحة في المجال الأخلاقي؛ بغية التأسّي والاقتداء بها. إن هاتين المقدّمتين يتمّ توفيرهما من طريق الدين وإرسال الأنبياء واصطفاء الأئمة وحضورهم بين الناس. وإن من المؤشِّرات والأدلة الهامة على النبوّة والإمامة هو تمسّك مَنْ يدّعي النبوّة والإمامة بالقيم الأخلاقية([35]).
رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: «إنما بُعثْتُ لأتمّم مكارم الأخلاق»([36]). والتتميم يعني البلوغ بالعمل أو المشروع إلى الغاية، والوصول به إلى نتائجه المطلوبة. وعليه فإن الهدف من إرسال النبيّ لم يقتصر على مجرّد بيان القيم الأخلاقية، وإنما هو تحقيق هذه القِيَم الأخلاقية، من طريق توفير الأرضية المناسبة، ورفع جميع العَقَبات والموانع. إن هذا الحديث الشريف يثبت أن الأخلاق ليست مستقلّةً عن الدين ومقدَّمة عليه فحَسْب، بل هي أهمّ من الدين أيضاً؛ لأن الأخلاق تمثِّل الهَدَف والغاية، بينما الدين مجرد وسيلة وأداة موصلة إلى الأخلاق.
وإن هذه الحقيقة تستبطن بدورها أمرين آخرين:
الأوّل: إن الأفراد والمجتمعات المختلفة إنما تكون متديّنةً بمقدار تمسّكها والتزامها بالقيم الأخلاقية، والثبات عليها. وإن الفرد أو المجتمع الذي ينتهك القيم الأخلاقية باسم الدين لا يمكن أن يكون متديِّناً في الأساس. وإن قرب الفرد أو المجتمع من القيم الأخلاقية هو الذي يحدّد قربه من الله، فكلما كان الفرد أقرب إلى القيم الأخلاقية كان أقرب من الله؛ لأنه يكون قد عمل على تطبيق رسالة النبي في المجتمع أكثر من غيره. إن الملاك والمعيار في التديُّن هي الأخلاق، وليست الهوية الشخصية، أو كثرة الصلاة والصيام([37]).
الثاني: لو أن قراءةً أو فهماً خاصّاً للدين أدّى بالفرد أو المجتمع الديني إلى الابتعاد عن الأخلاق فإن بطلان هذه الفهم سيكون واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، أي إنه لكي نثبت بطلان قراءة أو فهم خاصّ للدين يكفي أن نثبت أن هذه القراءة تبعد الفرد أو المجتمع الديني عن الأخلاق؛ وذلك لأنها تعارض الهدف من بعثة النبيّ الذي هو عبارة عن تحقيق وتطبيق القيم الأخلاقية وتجسيدها على أرض الواقع. إن القراءة الدينية التي تبعد الفرد عن الأخلاق، وإن الفهم الديني الذي يؤدّي بالإنسان إلى انتهاك عقله، وسحق وجدانه الأخلاقي، وتجاهل القيم الأخلاقية، ليس ديناً، بل هو دكّانٌ لبيع الأفيون.
10ـ الله بوصفه شاهداً مثالياً ــــــ
إن أهمّ مَدَد يقدّمه الدين إلى الأخلاق يكمن في وفائه بتنمية الحسّ والشعور الأخلاقي لدى الإنسان؛ فإن التعاليم الدينية في حقل الصفات الإلهية، وكذلك التقرّب إليه من خلال العبادة وأداء الطاعة، يُنمّي الحسّ الأخلاقي لدى الإنسان، ويُجذِّر معرفته ورؤيته الأخلاقية. إن الأحكام الأخلاقية إنما هي ـ في واقع الأمر ـ الأحكام الصادرة عن الشاهد المثالي. ومن أهمّ خصائص الشاهد المثالي ما يلي:
1ـ مطّلع بالمقدار الكافي([38])، بمعنى أنه على دراية بالوقائع المرتبة بنحوٍ ما، والتي يكون لها دخل في الحكم الأخلاقي.
2ـ يتمتّع بالتجربة والبصيرة الأخلاقية والحكمة العملية.
3ـ يتحلّى بالإنصاف والحياد، بمعنى أن مصالحه الشخصية لا تؤثِّر في أحكامه.
4ـ يتّصف بالرحمة والعطف، ويتمنّى الخير للآخرين.
5ـ يتّصف بالصدق والأمانة، وعدم الكذب والاحتيال.
إن الحكم الذي يُصدره الموجود المتّصف بهذه الصفات والخصائص يُعتبر من الناحية الأخلاقية حكمَ الأخلاق. وإن الصورة التي يقدّمها الدين عن الله، ويرسمها في أذهاننا، تتّصف بالحدّ الأعلى من هذه الخصائص. وعليه فإن الله شاهدٌ مثالي، ولا بُدَّ من الرجوع إليه لمعرفة الحكم الأخلاقي. إن الشاهد المثالي يمثّل «جهة» أو «منزلة» أو «مقاماً»، وإن الذي يتمتع بصلاحية إصدار الأحكام الأخلاقية هو الذي يتمتّع بخصائص الشاهد المثالي، وينظر إلى الموضوع من الزاوية الأخلاقية، بمعنى أن الشرط في كون الحكم الأخلاقي مبرّراً ومقنعاً هو أن يصدر عن مثل هذا المقام، ومن مثل هذه الجهة. ولذلك فإن الشاهد المثالي ليس هو الله فقط، بل يمكن لجميع أفراد البشر ـ الصالح منهم والطالح، والمؤمن والكافر ـ أن يقفوا يوم القيامة في موقف الشاهد المثالي، وأن يُصدروا أحكامهم على أعمالهم وتصرُّفاتهم بأنفسهم، وتكون أحكامهم مقبولةً من قبل الله؛ لأن هذه الأحكام ستكون مساويةً لأحكام الله([39]). وفي هذه الدنيا يختلف الناس من حيث الدرجات، تَبَعاً لاختلافهم في البُعْد والقرب من الشاهد المثالي. ويُعتبر الأنبياء والأئمّة في مرتبة القدّيسين، وهم الأقرب من بين سائر الناس إلى الشاهد المثالي، ولذلك فإن الحكم الذي يُصْدرونه من الزاوية الأخلاقية يُعتبر مبرّراً ومقنعاً ومعتبراً.
وعلى أيّ حال حيث إن الله شاهدٌ مثالي فإن المرء عندما يقترب منه يكون قريباً من الشاهد المثالي. وإن هذا القرب يؤدّي به إلى الاستفادة الأكبر من صفات وخصائص الشاهد المثالي. إن الحكم الأخلاقي هو الحكم الذي يصدره الشاهد المثالي من الزاوية الأخلاقية، وإن القرب من الشاهد المثالي يؤدّي بالفرد إلى تكوين قراءةٍ وفهم أفضل وأعمق للأحكام الأخلاقية. وإن العبادة الموحِّدة لله تحرِّر الإنسان من شرور الأوثان الباطنية والخارجية، والوَثَن لا يعدو أن يكون هو الشخص أو الشيء الذي يفرض إرادته وهيمنته على الإنسان من داخله أو من خارجه، ويدعوه إلى انتهاك القيم الأخلاقية، ونقض أحكام الشاهد المثالي، وبعبارةٍ أفضل: إن الإنسان يُصاب بالخلل في الفهم والبصيرة الأخلاقية، فيُضلّه الوَثَن، ويُزيِّن له سوء عمله، ويُحسّن له شرور أفعاله، ويدفعه إلى التضحية بالحقّ والحقيقة على مذبح المصالح والمنافع الشخصية. إن الجهة السلبية من التوحيد تعني نفي الطاعة لغير الله، وهو المفهوم الذي يتجلّى في عبارة «لا إله»، وهي الجهة التي توازي في أهمّيتها الناحية الإثباتية فيها، وهي عبادة الله وإطاعته، المتمثّلة بعبارة: «إلاّ الله». ومن خلال سلب عبادة غير الله يتحرَّر الإنسان من الحدود والقيود التي تحول دون بصيرته ورؤيته الأخلاقية، ومن خلال القرب من الله تغدو أحكامه أكثر أخلاقية.
ولكنّ تحقق هذا الأمر المطلوب والمنشود يتوقّف ـ بطبيعة الحال ـ على شرطٍ هام، وهو أن يكون الإله المشرِّع تابعاً للقيم الأخلاقية. إن عبادة هذا الإله تجعل العابد منحازاً إلى المشهد الأخلاقي، وأن يزدهر شعوره الأخلاقي، ويتحلّى بالبصيرة والمعرفة الأخلاقية. وأما إذا كان معبود الإنسان إلهاً مُستبدّاً ومنتقماً وقاسياً وغضوباً، بحيث يحقّ له نقض القيم الأخلاقية، فإن عبادته ستعطي نتائج معكوسة، بمعنى أنها لن تؤدّي إلى عدم ازدهار الشعور أو الوجدان الأخلاقي عنده فحَسْب، ولن تبعده عن القرب من الشاهد المثالي فحَسْب، بل ستؤدي أيضاً إلى قتل وجدانه الأخلاقي، وتُعمي شعوره الأخلاقي، وتحرفه عن مساره، وتحوِّله إلى أخطر الحيوانات افتراساً ودموية على وجه البسيطة؛ إذ سيغدو حيواناً كاسراً يرتكب أبشع الفظائع والجرائم باسم الله، وبقصد التقرّب منه، وبنيّة تطبيق أحكامه وأوامره. وعليه فإن مجرّد عبادة الله لا تكفي للاتّصاف بالصفات الأخلاقية والثبات عليها، بل لا بُدَّ من النظر إلى ماهية الإله الذي يعبده الشخص أيضاً. فإن إله الأصولي المتطرِّف أصوليّ متطرِّف أيضاً، وإن إله المستبدِّ مستبدٌّ أيضاً.
ومن جهةٍ أخرى فإن الدين عندما يعلِّمنا أننا في بقعة ضوء الله ورؤيته، وأن الله مشرف على أعمالنا وشاهد علينا، وأنه سيحاسبنا على ما يصدر عنا، فإن ذلك يجب أن لا يُفْهَم بأن الله يترصّدنا، ويتسقّط أعمالنا الحسنة والسيئة، وأنه يسجِّلها علينا ليؤاخذنا أو يكافئنا عليها فقط، بل إن المعنى الأهمّ والأعمق لذلك هو أن على الإنسان؛ لكي يتعرّف على الحسن والقبيح من الأفعال، أن يراجع الله، وأن يطلب منه الدليل على تبرير العمل. إن حاجة الإنسان إلى الهداية الأخلاقية للشاهد المثالي تسبق العمل، وتكون مقارنة للحظة اتّخاذ القرار ومباشرة العمل، أكثر من حاجته إليها بعد الفراغ من العمل [وخراب البَصْرة]([40]). وعليه إذا كان الدين يأمر الإنسان بأن يعمل على تحصيل مرضاة الله في جميع الأفعال والأعمال فإن ذلك يعني أن الإنسان مكلّفٌ من الناحية الدينية بالرجوع إلى الله بوصفه شاهداً مثالياً قبل أن يقدم على ممارسة أيّ عمل، ويلاحظ ما هو حكمه الأخلاقي بشأن ذلك العمل. وإن معنى الحديث القائل: «تخلَّقوا بأخلاق الله»([41])، وما جاء في القرآن: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الحمد: 6)، ليس شيئاً غير هذا المعنى.
إلاّ أن الرجوع إلى الله لتشخيص الحكم والواجب الأخلاقي ـ بطبيعة الحال ـ لا يعني الرجوع إلى الفقه؛ لأن إله الأخلاق هو غير إله الفقه. وإن الرجوع إلى إله الأخلاق يتمّ من خلال العقل، والوجدان الأخلاقي يمثِّل صوت الله وصدى حكمه في صقع الضمير الإنساني. إن العقل على حدّ تعبير بعض الروايات هو «الحجّة الباطنية»، وإن حكم الله الأخلاقي يتمّ إبلاغه إلى الإنسان عبر هذا النبيّ الباطني([42]). ولو أن الإنسان لم يستجِبْ لنداء هذا النبيّ الكامن في باطنه، ولم يُلبِّ دعوته، فإن الأنبياء الظاهريين لن يجدوه نفعاً، بمعنى أنه إما أن يتجاهل أقوالهم وتعاليمهم، أو أنه لن يفهمها بالشكل الصحيح، وعليه سيحصل من خلال اتّباعه للأنبياء الظاهريين على نتائج معكوسة([43]).
علينا الاستماع إلى الحكم الأخلاقي من خلال صوت العقل والوجدان، لا من طريق الفقه والنصوص الفقهية. إن الأحكام الفقهية هي في حقيقتها إجاباتٌ على أسئلة تتعلّق بالأحكام الشرعية، والحكم الشرعي هو غير الحكم الأخلاقي؛ لاختلاف المشهد الأخلاقي عن المشهد الفقهي. إن الأحكام الفقهية تنبثق عن إرادة الإله المشرِّع، في حين أن الأحكام الأخلاقية مقدَّمةٌ على إرادة الإله المشرِّع، وإن إرادة الإله المشرِّع تابعةٌ لها، وليس العكس([44]).
والحقيقة أن من أهم نقاط ضعف الفقه التقليدي الراهن نقطتين؛ إذ في هذا الفقه:
1ـ تنقطع صلة وصف الله بالمشرِّعية عن بعض صفاته الأخرى، من قبيل: صفة العدالة، والحكمة، حيث تستند شارعيته إلى مالكيّته وخالقيّته وعلمه للغيب فحَسْب، في حين أن هذا الفهم عن الله تعالى يجعل بالإمكان تبرير نسبة كلّ فعلٍ غير أخلاقي أو مناقض للأخلاق إلى الله تعالى من الناحية الشرعية.
2ـ تنخفض «الحكمة العملية» إلى مستوى «التفكير المصلحي»، ويتمّ استبدال «الإله الحكيم» بـ «الإله المصلحي». ولذلك فإن الحقّ في هذا الإطار يكون تابعاً للمصلحة، وبَدَلاً من انتزاع التكاليف من الحقوق سوف تنتزع من المصالح والمفاسد.
وعلى أيّ حال إذا كان الهدف من الدين والتديّن التقرُّب من الله المتّصف بالصفات والمؤهلات اللازمة والضرورية لإصدار الأحكام الأخلاقية وجب أن تكون إحدى أهم ثمار التديُّن هي زيادة المنسوب الأخلاقي لدى الإنسان على مرّ الأيام، ويكتسب صلاحية أكبر لإدراك وإصدار الحكم الأخلاقي، وتغدو بصيرته الأخلاقية أقوى يوماً بعد يومٍ، ويُصبح حكمه أكثر أخلاقية. وهذا يُعدّ إحدى أهم الخَدَمات التي يقدِّمها الدين في حقل الأخلاق، ولنغضّ الطرف عن أن تديُّن الذين لا يمتلكون فهماً صحيحاً سيؤدي بهم إلى البُعْد عن الله تعالى، وتَبَعاً لذلك سوف يفقدون القدرة على إدراك وإصدار الحكم الأخلاقي([45]).
11ـ ضبط وتعديل النزعة الأنويّة ــــــ
إن من أهمّ الأشياء الأخرى، وأكثرها تأثيراً في حقل الأخلاق، السيطرة على النزعة الأنوية([46]) والأنانية([47]) وتعديلها. تُعَدّ النزعة الأنويّة والأنانية من آفات الأخلاق، ولربما كانت من أهمّ الموانع أمام التمسّك بالقيم الأخلاقية. إن قِيَم الأخلاق الاجتماعية هي قِيَم إيثارية([48])، حيث إنها تعمل على حفظ قيم وحقوق ومصالح الآخرين، وتشتمل على الإيثار والتضحية، أو في الحدّ الأدنى غضّ الطرف عن المصالح الشخصية العابرة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن النزعة الأنوية والأنانية من الدوافع المتأصِّلة في وجود الإنسان. ويذهب بعض علماء النفس الأخلاقي إلى الاعتقاد بأن حبّ الذات وصيانة الذات من التجذُّر والعمق في وجود الإنسان بحيث «يوجد تحت كلّ إيثار استئثار». وبطبيعة الحال هناك من علماء النفس وفلاسفة الأخلاق مَنْ يعتقد بأن الإنسان يتّصف أيضاً بالنزعة الإيثارية وحبّ الآخرين، وإن هذه الدوافع هي في الحدّ الأدنى متجذّرة وقويّة في وجودنا بمقدار ما للدوافع الأنوية والأنانية من القوّة والتجذُّر.
إن النزعة الأنوية والأنانية لا تحول دون إدراك وتشخيص المرء لوظائفه ومسؤولياته الأخلاقية تجاه الآخرين في مقام العمل بالقيم الأخلاقية فحَسْب، بل إنها تحول دون ذلك حتّى في مقام العلم بهذه القِيَم أيضاً. كما أن النزعة الأنوية تظهر أحياناً على شكل نظريّة في حقل العقلانية العملية أيضاً. إن القائلين بهذه النظرية يعتقدون بأن العقل العملي يريد منّا أن نسعى على الدوام إلى تحصيل مصالحنا الشخصية. من هنا فإن التمسُّك بالقيم الأخلاقية يحتاج إلى دليلٍ يُبرر هذا الأمر من الناحية العقلانية، ويجعل السؤال القائل: «لماذا يجب علينا الاتصاف بالأخلاق؟» سؤالاً معقولاً([49]).
من هنا يسعى بعض فلاسفة الأخلاق إلى القول بأن مراعاة القيم الأخلاقية تعود بالمصلحة الشخصية للفاعل على المدى البعيد، ولذلك فإن الأخلاق تنسجم مع العقلانية المصلحية والأنوية. وهذا هو ما يقوم عليه المذهب التعاقدي([50]) في الأخلاق المعيارية.
وتذهب جماعة أخرى من فلاسفة الأخلاق ـ ممَّنْ هم في الغالب من أتباع (كانْت) ـ إلى الاعتقاد بأن القيم الأخلاقية في حدّ ذاتها جزءٌ من معايير وملاكات العقل العملي، وتكون عند التعارض مع المعايير الأخرى مقدّمة عليها. وبالتالي فإن فلاسفة من أمثال (سيتشويك) يذهبون إلى ادّعاء الثنائية الفلسفية([51]) في ما يتعلّق بالعقل العملي، وتكافؤ أحكام العقل الأنوي والمصلحي، والعقل الأخلاقي والإيثاري.
وعلى أيّ حال ممّا لا شَكَّ فيه أن «العقل الأخلاقي» لدى أكثر الناس ليس بالقوّة التي يمكن للإنسان أن يلجأ إليها لمقاومة مطالبات «العقل الأنوي»، أو الأهواء والرغبات الأنانيّة والنفسيّة، وأن مجرّد معرفة القيم والمعايير الأخلاقية والاعتقاد بها لا يكفي لتحريكه نحو العمل. ولذلك فإن التمسُّك بالقِيَم الأخلاقية والقيام بالوظائف والمسؤوليات الأخلاقية عند أغلب الناس رهنٌ بدوافع غير أخلاقية، ومن النادر جدّاً أن يكون هناك أناسٌ يتَّبعون الضرورات والمحظورات الأخلاقية بداعي «الشعور بالمسؤولية»، والاعتبار بنتائج العمل.
من هنا يمكن للدين أن يلعب دوراً هامّاً في تمسُّك الناس بالقيم الأخلاقية. إن التعاليم الدينية تعمل لحلّ هذه المشكلة ضمن أربع مراحل في الحدّ الأدنى، أو على أربعة أشكال مختلفة على النحو التالي:
1ـ إن الدين بالدرجة الأولى يعلِّم الإنسان بأن عالم الوجود يحتوي على نَظْم أخلاقي، بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من النَّظْم الطبيعي والعلمي([52]). لا شَكَّ في أن الذي يؤمن بوجود النَّظْم الأخلاقي في العالم، ويعلم أن نتيجة أفعاله الحسنة والقبيحة سوف ترتدّ إليه، سوف يتغاضى بسهولةٍ عن مصالحه العابرة وقصيرة الأمد؛ لعلمه بأن الإيثار والتضحية وخدمة الناس والتمسُّك بالقِيَم الأخلاقية ورعاية حقوق الآخرين تأتي في إطار مصالحه الشخصية على المدى الطويل، وإن التزامه الأخلاقي لن يعود بأيّ ضرر على مصالحه الشخصية. وعليه فإن النظام الأخلاقي في العالم، الذي يمثِّل أحد التعاليم الرئيسة والأساسية في الأديان، يلعب دوراً هامّاً في السيطرة على النزعة الأنوية، وتعديلها، وتمسّك المتدينين والتزامهم العملي بالقِيَم الأخلاقية.
2ـ إن الدين يعلّم الإنسان بأن لعالم الوجود حاكماً ومديراً يعلم بكلّ شيءٍ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه أبداً. إن إله الدين مُشْرفٌ على أعمال الناس، ويراقب أفعالهم الحسنة والسيّئة، وتصدر عنه ردود أفعال تجاه كلّ ما يصدر عنهم من الأعمال، وإنهم مسؤولون أمامه، وعليهم أن يعتبروه على الدوام مراقباً لأفعالهم وأقوالهم، وأن يسعَوْا إلى كَسْب مرضاته، وأن يتجنَّبوا غضبه وسخطه، وأن يخشَوْا من انتقامه وعقوبته، وأن يرجوا فضله ورحمته. وعليه فإن الإيمان والاعتقاد بالإله الذي يتحلّى بهذه الصفات سيلعب دوراً هامّاً في رعاية القيم الأخلاقية من قبل المؤمنين.
3ـ إن الدين يسعى إلى تحويل النزعة الأنوية الضيّقة والسطحية والدنيوية إلى نزعة أنوية بصيرة وثاقبة وأخروية. إن التعاليم الدينية؛ من خلال إدخال الحياة الأخروية في حسابات الإنسان ومعادلاته، تعلِّمه أن ما يتحمّله من الرياضات، وما يقوم به من الإيثار والتضحية، وما يُكابده من العَنَت والصعوبات والمشاقّ والآلام والِمحَن والحرمان؛ بسبب التشبّث بأهداب الأخلاق والمحافظة عليها في هذه الدنيا، سيعوَّض له في عالم الآخرة أضعافاً من الحسنات مضاعفة، وأن عليه أن لا ينظِّم سلوكه وعلاقته مع الآخرين على مجرّد الحسابات العابرة والوقتية والدنيوية الزائلة. إن الدين هنا يعمل على توسيع أفق الإنسان، وبذلك يُحفِّزه ويدعوه إلى التضحية بمصالحه الدنيوية الزائلة؛ من أجل مصالحه الأخروية الباقية([53]).
4ـ إن الدين يسعى من خلال تزكية وتهذيب النفس إلى اجتثاث أساس الأنانية والعُجْب والنرجسية، وإلى إحلال «الله» محلّ «الأنا». إن التعاليم الدينية في حقل علم النفس الأخلاقي تؤكّد بشدّة على النيّة والدافع لدى الفاعل([54]). وربما أمكن القول بأن إخلاص النيّة في العمل يشكِّل أهمّ القِيَم الدينية. إن المخلص هو الذي يريد الله لأجل الله، لا لأجل مطامعه وأهدافه الشخصية. وإن مثل هذا الشخص عند اتخاذ القرار بفعل شيءٍ لا ينظر إلى مجرّد مصلحته الخاصة، وتكفي لتحفيزه الخصوصية والقيمة الكامنة في ذات العمل([55]). إن النيّة الأخلاقية الخالصة إنما تحرِّك الأحرار الذين تخلَّصوا من سلاسل وقيود التفكير بنتائج الربح والخسارة، والخوف والطمع، وأخذوا يعبدون الله؛ لأنهم وجدوه أهلاً للعبادة، وليس من أجل الفوز بالجنّة أو الخلاص من النار([56]).
وعلى أيّ حال فإن الدين من خلال تعليم الفرد مراحل السَّيْر والسلوك يرشده إلى كيفية التحرُّر من رِبْقة النفس الأمارة ـ التي تمثّل من الناحية الدينية مصدر جميع الشرور والآفات والمفاسد الأخلاقية ـ، وكيف يعمل على إحياء وإنعاش وجدانه الإنساني والأخلاقي، وكيف يعمل على تهذيب وتزكية قدرته على إصدار الأحكام الأخلاقية. وهذا شيءٌ قلَّما نجده في علم الأخلاق أو فلسفة الأخلاق العلمانية؛ فإن علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق العلمانية تنظر في الغالب إلى الأخلاق الاجتماعية، وتتحدّث عن أساليب المعرفة، وتبرير الحقوق والمسؤوليات الأخلاقية. إلاّ أنّه للتغلب على الموانع الأخلاقية الداخلية والخارجية، وإذا أردنا تجاوز العقبات الماثلة في طريق الحياة الأخلاقية، فإنّنا على المستوى العملي سوف نحتاج إلى شيءٍ أكثر من ذلك. إن اكتساب الفضائل الأخلاقية واجتثاث الرذائل الأخلاقية من وجودنا، وكذلك تزكية وتهذيب النفس، تحتاج إلى شروط ومقدّمات وتعاليم أخرى، لا يمكن للإنسان أن يحصل عليها من غير الدين.
إن فلسفة الأخلاق الحديثة تعلّمنا كيف نعمل على احترام الكرامة الإنسانية للآخرين، وأن نراعي حقوقهم، وأن ننظر إليهم بوصفهم من الغايات، لا بوصفهم وسائل وأدوات. علينا أن نعلم أننا مسؤولون حتّى عن أنفسنا أيضاً، فلا تقتصر مسؤوليتنا على الآخرين فقط، فلا يحقّ لنا الإضرار بأنفسنا، وإلحاق الظلم بها. إن مفهوم «ظلم النفس» يعدّ واحداً من المفاهيم الدينية الهامّة. إن التأكيد على الحقوق والحرّيات الفردية في المجتمعات الحديثة توسّع وتفاقم من هذا التصوّر الخاطئ القائل بأنه إما أن لا يوجد شيءٌ باسم الأخلاق الفردية، أو أن قِيَم الأخلاق الفردية إنما تعكس الميول والأذواق والعقائد الشخصية للأفراد. وعلى أيّ حالٍ فإن تقدير سلوك الأفراد في الدائرة الخاصّة، وفي اختيار أسلوب الحياة، ليس عرضةً للنقد والتقييم العقلاني والأخلاقي. إن الكثير من الأفراد يوسِّعون من دائرة التحرُّر من قيود الإلجاء والضغوط الخارجية، لتشمل حتى التحرُّر من العقل والأخلاق أيضاً.
إن الإنسان حرٌّ في اختيار أسلوب حياته، بمعنى أنه لا يحقّ للآخرين أن يفرضوا عليه نموذج الحياة المقبول عندهم، لا بمعنى عدم وجود أيّ معيار عقلاني لتقييم مختلف نماذج الحياة، وأن هذه النماذج متساوية ومتكافئة من الناحية الأخلاقية، ولا تنقسم إلى الحسنة والقبيحة والصائبة والخاطئة. إن الإنسان في الوقت الذي يتّصف بالحرّية يتّصف بالمسؤولية أيضاً. وإن مسؤوليته العقلانية والأخلاقية تقتضي منه أن يقارن بين مختلف نماذج الحياة، وأن يسعى بجدٍّ وصدق للعثور على أفضل وأنسب نماذج الحياة، وأن يعمل على تنظيم حياته على أساس ذلك النموذج.
12ـ تأكيد الدين على أهمية العقل والعقلانية والأخلاق ــــــ
يمكن لنا أن نعثر في القرآن الكريم على الكثير من الآيات التي تدلّ، صراحةً وتنويهاً، على أهمّية العقل والعقلانية بشكلٍ عام، وعلى الخصوص العقل والعقلانية الأخلاقية. وسنكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة:
ـ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197).
ـ ﴿فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 100).
ـ ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 44).
ـ ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 73).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 242).
ـ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 32).
ـ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2)([57]).
ـ ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 109).
ـ ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (القصص: 60).
ـ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك: 10).
ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170).
ـ ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال: 22).
ـ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 100).
ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (الحجرات: 4).
وأما بشأن بعض الروايات الواردة في النصوص الروائية الشيعيّة في هذا الشأن فهي:
ـ «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ؛ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ…؛ وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»([58]).
ـ «…وَلاَ يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِْ اسْتَنْصَحَهُ»([59]).
ـ «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ»([60]).
ـ «قوامُ المرء عقلُه»([61]).
ـ «لا دين لمَنْ لا عقل له»([62]).
ـ «لَيْسَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إِلاَّ قِلَّةُ الْعَقْلِ»([63]).
ـ «الدِّينُ لا يُصْلِحُهُ إِلاَّ الْعَقْلُ»([64]).
ـ «دعامة الإسلام العقل»([65]).
ـ «مَا قَسَمَ اللهُ لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ»([66]).
ـ «فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ»([67]).
ـ «وَلا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ»([68]).
ـ «يَا هِشَامُ، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ× يَقُولُ: مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ»([69]).
ـ «يَا هِشَامُ، لا دِينَ لِمَنْ لا مُرُوءَةَ لَهُ»([70]).
ـ «الْعَقْلُ دَلِيلُ الْمُؤْمِنِ»([71]).
ـ «ما بعث الله نبياً قطّ إلاّ عاقلاً»([72]).
ـ «ما استخلف داوود سليمان حتّى اختبر عقله»([73]).
ـ «يَا مُفَضَّلُ، لا يُفْلِحُ مَنْ لا يَعْقِلُ»([74]).
ـ «لا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ»([75]).
ـ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاةِ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَلا تُبَاهُوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ عَقْلُهُ»([76]).
ـ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ×، قَالَ: قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ لِي جَاراً كَثِيرَ الصَّلاةِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، كَثِيرَ الْحَجِّ، لا بَأْسَ بِهِ؟ قَالَ فَقَالَ: «يَا إِسْحَاقُ، كَيْفَ عَقْلُهُ؟» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ! قَالَ: فَقَالَ: «لا يَرْتَفِعُ بِذَلِكَ مِنْهُ»([77]).
وعليه نرى أن هذه الشواهد والنصوص، التي لا تشكِّل سوى النزر القليل من الآيات والروايات الواردة في المصادر الشيعية، إنما تدلّ على أهمّية العقل والعقلانية الأخلاقية، لا على أهمّية العقل والعقلانية النظرية، ولا على أهمّية العقل والعقلانية الاقتصادية والمصلحية. وعليه فإن تعطيل العقل والعقلانية الأخلاقية بذريعة روايات من قبيل: «إن دين الله لا يُصاب بالعقول»([78])، أو حصر حجّيّة العقل في دائرة الأمور العقائدية وأصول الدين، لا ينافي العقل والعقلانية فحَسْب، بل يُنافي الدين أيضاً.
13ـ كلمةٌ أخيرة ــــــ
تناولنا خدمات وإسهامات الدين في حقل الأخلاق. وذكرنا أن الدين يقدِّم من خلال الطرق التالية خدمات جليلة لاتّصاف المؤمنين بالأخلاق، وثباتهم على هذه الصفة:
1ـ تصحيح رؤية الإنسان للحياة.
2ـ بيان الصورة الغيبية والنتائج الأخروية للأعمال.
3ـ ربط المفاهيم الأخلاقية بالمفاهيم الدينية.
4ـ التعريف بالنماذج والأمثلة الأخلاقية.
5ـ التأكيد على وجود النظام الأخلاقي في العالم.
6ـ معرفة الإنسان، وتصحيح تصوير الإنسان لذاته ونفسه.
7ـ العبادة.
8ـ التعليم والتربية الأخلاقية.
9ـ تعريف الله بوصفه شاهداً مثالياً.
10ـ السيطرة على الأنا والنزعة الأنوية، وتعديلها.
11ـ التأكيد على العقل والعقلانية والأخلاق.
إلاّ أن هذه الإسهامات والخدمات ـ على ما مرّ شرحه وبيانه ـ منسجمةٌ وقابلة للجمع مع استقلال الأخلاق عن الدين، وتقدّمها عليه. وإن هذه الخدمات والإسهامات لن تكون مثمرةً إلاّ إذا تكوَّن لدى المؤمنين إدراكٌ صحيح عن الله تعالى والإنسان، وتكوَّن لديهم ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تصوُّرٌ وإدراك صحيح عن العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق في أذهانهم.
وسنتناول لاحقاً شرح وبيان نظرية الشاهد المثالي، ودوره في معرفة الوجود ومعرفة الأخلاق، بالتفصيل. كما أن هذه النظرية تشكِّل حلاًّ للمفارقة القائمة بشأن الأخلاق الدينية، وتعمل أيضاً على جسر الهوّة بين «أخلاق التشريع» و«أخلاق المعرفة الدينية».
الهوامش
(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([2]) إن أخلاق التديّن أو دور الأخلاق في مقام التديّن هو موضوع كتاب آخر لنا، نسأل الله تعالى أن يعيننا على طبعه في القريب العاجل.
([3]) ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).
([4]) جاء في نهج البلاغة: قال الإمام عليّ× وقد سمع رجلاً يذمّ الدنيا: «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا، أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟!… إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ».
([5]) «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئةٍ». (الكافي 2: 130).
([6]) ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2).
([7]) رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: «الدنيا مزرعة الآخرة». (عوالي اللآلي 1: 276)؛ وعنه أيضاً: «إن الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم». (بحار الأنوار 91: 90).
([8]) ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ (الرعد: 26)؛ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 32)؛ ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (القصص: 60).
([9]) رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: «الدنيا ساعة؛ فاجعلها طاعة». (بحار الأنوار 67: 68).
([10]) ﴿وَابْتَغِ فِي مَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).
([11]) في ما يتعلّق باختلاف دور وآلية الأخلاق في العالم القديم والعالم الجديد انظر كتابنا: (أخلاق المعرفة الدينية).
([12]) ولذلك فإن تخصيص حكم الغيبة على خصوص الشيعة، والقول بجواز اغتياب المخالف من أهل السنّة، غير معقول، أي إنه يبدو حكماً منافياً للعقل. وإذا ورد مثل هذا الاستثناء في الروايات فلا بُدَّ أن يكون من باب جواز المقابلة بالمِثْل، بمعنى أن مِثْل هذا الحكم يختصّ بموردٍ يبيح فيه أهل السنة اغتياب الشيعة.
([13]) على سبيل المثال: يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8)؛ ورُوي عن الإمام عليّ× في نهج البلاغة أنه قال: «التُّقى رئيس الأخلاق». (نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم: 410).
([17]) ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ (الطلاق: 2)؛ ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ (الأنفال: 29).
([18]) على سبيل المثال: يعرّف الله تعالى النبيّ الأكرم‘ في القرآن الكريم قائلاً: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).
([19]) إن الشواهد والأمثلة المذكورة في النصوص الدينية على وجود النظم الأخلاقي في العالم لا تُعَدّ ولا تحصى. وعلى سبيل التمثيل، دون الحصر: يقول القرآن الكريم: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ (النساء: 9).
([20]) the problem of free-rider.
([21]) إن لمفارقة التطفّل حلاًّ دينياً؛ وحلاًّ علمانياً.
أما طريقة حلّها الدينية فتكون إما عبر القول بالنَّظْم الأخلاقي، أو عدم مرضاة الله. فعلى سبيل المثال: ورد في رواياتنا: «ملعون ملعون مَنْ ألقى كَلَّه على الناس». (الكافي 4: 12).
وأما طريقة حلّه العلمانية فهي عبارة عن القول بالعقلانية الأخلاقية، أو الشعور بالإيثار والتعاطف.
([22]) ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (يوسف: 53).
([23]) «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبَيْك». (بحار الأنوار 67: 64).
([24]) إن النبيّ‘ بعث سريّةً، فلما رجعوا قال: «مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس». (الكافي 5: 12).
([25]) ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (القيامة: 2).
([26]) ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7 ـ 8).
([27])﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ (الإسراء: 14).
([28]) «مَنْ كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته». (بحار الأنوار 75: 14)؛ و«مَنْ هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه». (المصدر السابق 72: 300).
([29]) «ما من رجل تكبَّر أو تجبّر إلاّ لذلّةٍ وجدها في نفسه». (المصدر السابق 70: 225).
([30]) يؤكّد (كانْت) في بعض تقريراته للأمر المطلق على كرامة النفس بشكلٍ مطلق. يرى (كانْت) أن الأخلاق تريد منا أن نعتبر الإنسانية فينا وفي الآخرين هي الغاية، وأن لا نقتصر على عدم استخدام الآخرين كأدوات، بل أن نمتنع عن ذلك حتّى بالنسبة إلى أنفسنا.
([31]) ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13)؛ ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
([32]) قال الله تعالى بشأن الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45). وقال بشأن الصيام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183). وقال بشأن الحج: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ (الحج: 37).
([33]) «عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله‘: قال الله: ما تحبَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ممّا افترضته عليه، وإنه ليتحبَّب إليَّ بالنافلة حتّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته. وما تردَّدْتُ في شيءٍ أنا فاعله كتردُّدي في موت المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته». (بحار الأنوار 67: 22).
([34]) إن الأسلوب الصالح لهذا الأمر هو «منهج الاعتدال الفكري» (the method of reflective equilibrium). وقد شرحنا هذا المنهج في الفصلين السابع والثامن من كتابنا (أخلاق تفكّر أخلاقي)، بالتفصيل.
([35]) فعلى سبيل المثال: تعتبر العدالة من أهم الشروط في الإمامة. وإن عدالة الإمام تتبلور من خلال سلوكه في التعامل مع الناس، وليست هي من الأمور الغيبيّة والتعبُّدية. قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124).
([37]) هناك الكثير من الموارد والشواهد والأدلة في النصوص الدينية المؤيِّدة لهذا المعنى. انظر على سبيل المثال: الكافي 5: 123؛ وسائل الشيعة 19: 69.
([38]) قيد «الكافي» هنا بديل عن قيد «الكامل»؛ إذ لا يشترط الاطلاع الكامل في هذا المورد على ما سيأتي.
([39]) يُصرِّح القرآن الكريم أنّ الحكم يوم القيامة سيكون صادراً من قبل المكلَّفين أنفسهم: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ (الإسراء: 14).
([40]) مثل يُضرب لفوات الأوان، وعدم التمكُّن من تدارك الفاسد من الأمور وإصلاحه. (المعرِّب).
([42]) قال الله في القرآن: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7 ـ 8). يعبّر بعض العرفاء والصوفيين عن هذا الإلهام بـ «وحي القلب»، ويتحدّثون عن مفهوم: «حدَّثني قلبي عن ربّي»، أو «فتوى القلب». إلاّ أنه يمكن تعميم هذا الادّعاء إلى العقل أيضاً. وفي الأساس فإن «القلب» هو الاسم الآخر لـ «العقل». قال الله تعالى في القرآن: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ (الحج: 46)، وقال أيضاً: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24). وإن التدبّر أو التعمّق (reflection) من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل. وعليه فإن عبارة «حدّثني قلبي عن ربّي» هي عين عبارة «حدّثني عقلي عن ربّي»، وإن «فتوى القلب» هي ذات «فتوى العقل»، وإن الروايات والأحاديث الي يحصل عليها الإنسان من هذه القناة تبيِّن له «شريعة العقل». تروي مصادر أهل السنّة عن النبيّ الأكرم أنه قال لـ (وابصة بن معبد الأسدي): «استفْتِ قلبك، وإنْ أفتوك وإنْ أفتوك وإنْ أفتوك». (الغزالي، إحياء علوم الدين 1: 18 ـ 19، كتاب العلم، الباب الثاني).
([43]) قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾ (الإسراء: 82). إن الدافع الصحيح والنيّة السليمة في فهم الدين واتّباعه هو الذي ينبثق عن العقل، أو الذي لا ينقض المعايير العقلانية في الحدّ الأدنى.
([44]) إن الرجوع إلى العقل والوجدان في حقل الأخلاق لا يعني الاستغناء عن التعاليم الأخلاقية للوحي. إلاّ أن المهمّ في البَيْن هو كيف نستفيد من هذه التعاليم؟ هذا ما سوف نتناوله بمزيد من البحث لاحقاً.
([45]) انظر مزيداً من الشرح والتفصيل بشأن نظرية الشاهد المثالي في بحثٍ قادم.
([49]) يقال في الإلهيات والكلام الإسلامي؛ لإثبات وجوب معرفة واعتناق الدين واتّباع الأوامر والتعاليم الدينية: إن كلاًّ من «جلب المنفعة» و»دفع الضرر المحتمل» واجبٌ بحكم العقل. وهذا العقل هو ذاته العقل المحافظ، والذي يتمتع ببعد النظر، والذي عمد العرفاء إلى نقده وتوجيه اللوم إليه. وهؤلاء عندما يتحدّثون عن التقابل بين العقل والعشق، وعدم معقولية العشق، يريدون هذا النوع من العقل. وعلى أساس حسابات هذا العقل يعدّ العشق عين الغباء والجنون.
([51]) (dualism): الثنائية أو الثنوية نظرية شاعت بين فلاسفة الغرب منذ القدم بشأن ثنائية الروح والمادة، والداخل والخارج، والعقل والحسّ، والوحدة والتعدُّد، والفرد والجمع، وهكذا. وعليه فإن الثنائية أو الثنوية مذهب فلسفي يقول بأن الكون خاضعٌ لمبدأين متعارضين. (المعرِّب).
([52]) على سبيل المثال: نقرأ في مستهل دعاء كميل: «اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النعم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنـزل البلاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء».
([53]) يجب الالتفات ـ بطبيعة الحال ـ إلى أن الذين يتمسَّكون بالقيم الأخلاقية؛ بدافع الخوف من العقاب أو الطمع بالثواب، إنما يتبعون الأخلاق المصلحية والأنوية، التي هي أخلاق الطبقة الوسطى (من العبيد والتجّار). أما أخلاق الكاملين أو الأحرار فهي الأخلاق التي يمارسها الفرد بغضّ النظر عمّا سيحصل عليه من الثواب بسببها، أو يترتب على تركها من العقاب، وإنما يقوم بها بدافع من الواجب والمسؤولية الأخلاقية، أو إدراكه للخير وما يلحق الآخرين من النَّفْع والخسارة، بمعنى أنه يراعي القيم الأخلاقية انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية. إن مثل هذا الشخص متحرِّرٌ من قيود وأغلال الخوف والطَّمَع.
([54]) رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات». (بحار الأنوار 67: 210).
([55]) وبطبيعة الحال إن الإنسان العاقل يفكِّر أيضاً بمصلحته الخاصة، ولكنّه ينظر إلى هذه المصلحة في إطار القيم الأخلاقية والمصالح العامة. فإذا حصل تعارض بين المصلحتين لن ينتهك حكم العقل ووجدانه الأخلاقي.
([56]) إن الله يستحقّ العبادة من الناحية الأخلاقية، بمعنى أن المرء عندما ينظر إليه من الزاوية الأخلاقية سيحكم وجدانه الأخلاقي بأن الكائن والوجود المتّصف بهذه الخصائص يستحقّ العبادة، حتّى وإنْ كانت هذه العبادة لا تعود بأيّ منفعة لصالح الشخص، ولا تبعد عنه أيّ ضررٍ. إن مثل هذا الحكم إنما يبرّر العبادة من الناحية الأخلاقية، ويحفّز الأحرار إلى عبادة الله تعالى. إلاّ أن هذا الحكم لا يستطيع تحريك الراسفين بأغلال الطمع، وقيود الربح والخسارة، إلى عبادة الله، فهؤلاء لا يمكنهم إلاّ أن يفكّروا بالنتائج والمصالح المترتّبة على العبادة، حتّى تحصل لديهم الدوافع الكافية إلى القيام بالعمل. تقدّم سابقاً أن أفعال الله تعالى تابعةٌ للقِيَم الأخلاقية أيضاً، وأن أخلاقية الله تعني أن «الدليل المبرّر» للعمل في مورده هو ذات «الدليل المحرِّك» نحو العمل؛ لأن الله كمال مطلق، وإن فعله لا ينطوي على أيّ نفعٍ له أو ضررٍ عليه. وهذا النموذج يثبت أن «النـزعة الأنوية الأخلاقية» غير صحيحة، كما يثبت أن العقلانية الأخلاقية غير العقلانية الأنانية والمصلحية، والتي تأخذ نتائج العمل بنظر الاعتبار.
([57]) إن كلمة (العربي) في هذه الآية تعني الواضح والبيِّن والخالي من الإبهام والغموض والتعقيد. وقال الله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ (الرعد: 37).
([58]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
([59]) المصدر السابق، الحكمة: 281.