محاولتان لخلق إنسانين مختلفين([1])
تمهيد
نتحدّث دوماً عن تأثير الدين على حياة الإنسان (الفرد ـ الجماعة)، ونتحدّث في هذا الصدد عن دوره في بناء أو تأييد أو تقوية الحياة الأخلاقيّة، وكذلك في إشباعه للنزعة الروحيّة الغريبة التي تسكن باطن الإنسان، فيأتي الدين ليسدّ هذه النزعة، ويشبع هذا التوجّه عند البشر.
لستُ أريد هنا التحدُّث عن هذه الأمور. ما أريده ليس سوى مقارنة بسيطة جدّاً. ولعلّها معروفة لنا جميعاً، ولكنّني سأقوم بعرضها؛ لنكتشف بكلّ بساطة أيضاً أنّ هناك إنسانين يريان الأشياء، ويتعاملان معها بطريقة مختلفة تماماً: متديِّن (بأيِّ دين سماوي)؛ وغير متديِّن. ويشتدّ الاختلاف بينهما تبعاً لشدّة قناعتهما، ثم ترجمتهما عمليّاً لما يؤمنان به.
ولكي أقوم بالمقارنة أبدأ من العناصر التالية، مُطلِقاً عنوان (الدين)، الذي يقابله هنا في الإطلاق عنوان (الإلحاد)، بمعنى عدم التديُّن:
1ـ العالم بين الظاهر والباطن، رؤيتان مختلفتان
يؤمن الدين بأنّ هذا العالم يقف خلفه إلهٌ يملك قدرةً فائقة، وسلطة علميّة، وإحاطة تامّة. فليس ما نراه من حولنا هو كلّ شيء، بل هناك خلف الستار قوّة مقدّسة متعالية متحكِّمة بكلّ شيء.
بينما يرفض الإلحاد هذا المفهوم، ويرى أنّ ما نراه في هذا العالم هو ما هو موجودٌ ملموسٌ لنا، وليس خلف هذه الصور الجميلة شيءٌ آخر مخفيّ، ولو كان هناك ما هو مخفيٌّ فسيظهر كما ظهر ما لم يختفِ؛ نتيجة تطوُّر العلوم.
إنّ المؤمن يرى أنّ الصورة لم تكتمل برؤيتي لما يحيط بي من هذا العالم مهما تطوّرت العلوم الطبيعية، بل هناك جزءٌ آخر مخفيٌّ خلف ما أراه، وهو عالَم الغيب، الذي تعبّر الذات الإلهيّة عن الدرجة القصوى منه، بل يذهب المؤمن أبعد من ذلك عندما يعتقد بأنّ ما يحيط به ليس سوى الجزء السطحي البسيط من الواقع، وأنّ الجزء الأعظم والأكبر هو ذلك المختفي في الغيب، والمتحكِّم بهذا الجزء الظاهر. فالعالَم عنده مثل جبل الجليد في أعماق المحيطات، مهما بدا جزؤه الظاهر فوق سطح الماء عظيماً، فإنَّه يظلّ أقلّ بكثير من ربع ذلك الجبل الجليدي القابع في الأعماق.
من هنا يقع بين الطرفين: المؤمن؛ والملحد، خلافٌ حقيقي، يتمثَّل في أنّ حكمي على أيِّ شيء يفترض إيمانيّاً أن يأخذ بعين الاعتبار ذلك الجزء المخفيّ، وإلاّ كان حكمي غير علمي، وغير صحيح، بل هو حكمٌ ناقص؛ أمّا الملحد فيرى أنّه لا يوجد غيبٌ أساساً، ولا حتّى الله تعالى، حتّى نُقحمه في قراءتنا للأمور، وبدل التفتيش عنه علينا بالتفتيش لكلِّ شيء عن الأسباب الماديّة، التي تعبّر عن ظاهر ما يحيط بنا.
إنّ المؤمن ـ لو أردنا التشبيه ـ لا ينفكّ عنده عالَم الغيب عن عالَم المادّة. فليسا عالَمَين بعيدين عن بعضهما، تصل أخبارُهما إلى بعضهما بعضاً، أو يربط بينهما حبلٌ طويل، بل هما متواشجان متداخلان، يحيط أحدهما ـ وهو الغيب ـ بالآخر، فكلّ ما هو مادّي فإنّ معه غيبٌ لا أراه، يحيط به ويتحكَّم، ولا تسير قوانين هذا العالم لوحدها، كما يرى ذلك علماء الطبيعة، بل مع صحّة هذه القوانين تماماً هناك قوانين أعلى تحكي عن منطق الهيمنة الذي يمارسه عالَم الغيب على عالَم الطبيعة، وهو منطقٌ وقوانين لم تكتشفها العلوم الطبيعيّة، ولم ترَها أساساً.
بينما يعارض الملحد كلَّ هذا الكلام، ويراه ضرباً من الظنون والتخمينات، ويدَّعي بضرس قاطع أنّه لم يجِدْ شيئاً من هذه المدَّعيات ملموساً على أرض الواقع.
وخلاصة القول: الدين يرى أنّ لحياتنا شقَّيْن: ظاهر، وهو ما يلوح لنا من الأمور؛ وباطن، وهو عالَم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا، لكنّه يقف خلف كلّ شيء. والمطلوب منّا أن نتَّجه نحو ذلك العالَم، ولا نقصر نظرنا على هذا العالَم.
بينما يقول الإلحاد بأنّ هذا ليس سوى الوَهْم والسراب، فليس هناك سوى ما هو من حولنا، نراه ونحسّ به ونواجهه، وكلُّ ما سوى ذلك فهو خِدَع وكلمات وألفاظ.
يشعر المتديِّن بأنّه على تماس يوميّاً مع عالَمَين: محسوس؛ وغير محسوس. فحياته هي مزيج من التماسّ المزدوج هذا، فهو يصلّي؛ لأنَّ الصلاة تماسٌّ مع عالَم آخر، ومع الإله، ولكنّه يأكل؛ لأنّ الأكل تماسٌّ مع هذا العالَم.
بينما في الإلحاد لا يوجد هذا المزدوج، فكلُّ تماسّ هو تماسٌّ مع الدنيا والمادّة والحسّ، وليس هناك تنوُّع في التواصل، بل هناك غيبوبةٌ عن شيءٍ آخر بحسب المبدأ.
2ـ حديث الغايات، هل ثمّة غايات أم هي القوانين الصامتة؟
يؤمن الدين بأنّ هناك هدفاً للخلق. فالخلق يتّجه نحو نهاية محدَّدة سلفاً، وهناك فلسفة وحكمة من وراء هذه النهاية، وكلّ شيء يحصل ناتجٌ عن خطط مدبَّرة ومدروسة بدقّة عالية من حيث الغايات. فحصولُ الظاهرة الطبيعية الفلانية له غاية محدَّدة، سبق أنْ خُطِّط لها في غرفة غيبية مغلقة، وأريد منها أن توصِل إلى تلك الغاية. وموتُ فلان أو فلان في هذا السنّ أو ذاك، وبهذه الطريقة أو تلك، أمرٌ سبق أن جرى الاطّلاع عليه، وحُدِّدت أغراضه بدقّة عالية، في زاويةٍ ما من العالم.
إنّ فكرة الهادفيّة في الخَلْق ـ سواء على المستوى التفصيلي أم على المستوى الجمعي العامّ، الذي تعبِّر القيامة والآخرة عنه ـ هي فكرةٌ جوهريّة في العقل الديني، وفي وعي المؤمنين. فلا تقع الأمور عَبَثاً، ولم نأتِ إلى الحياة كذلك. وكلُّ خطّ السير المتحرِّك بنا، صعوداً ونزولاً، ويميناً وشمالاً، لم يكن صدفةً عابرة، بل خطّة مدبَّرة، محكمة التدبير، تهدف لغاياتٍ محدَّدة للخلق كلِّه، وهي بالتأكيد غاياتٌ نبيلة لتلك القوّة القاهرة العليا المتحكِّمة بالعالَم.
أمّا الإلحاد فلا يؤمن بالضرورة بمنطق الغايات، ويقول بأنّ ما حصل ليس سوى وضعٍ تلقائي، وقع ولم يتمّ التخطيط له من قبل، ولم يهدف فاعلُه لغايةٍ يريد تحقُّقها من ورائه، بل هي كائنات هذا العالم التي التأمت بهذه الطريقة العفويّة؛ بحكم نظامها التكويني، لا بحكم غاياتها ومآلاتها.
إذاً فهناك فرقٌ جوهري بين المؤمن والملحد.
تارةً من زاوية العلّة الفاعليّة، حيث يرى المؤمن أنّ فاعل هذا العالَم هو الغيب، وهو الله؛ فيما لا يرى ذلك الملحد.
وأخرى من زاوية العلّة الغائيّة، حيث يرى المؤمن أنّ العلّة الفاعليّة فعلت فعلها، وتفعله دوماً، من منطلق غايةٍ وغرضٍ مدروس مسبقاً؛ فيما يرى الملحد أنّ الفاعل ـ وهو الطبيعة عنده ـ يفعل الفعل لا لغايةٍ، بل لأنّ تكوينه يفرض حركةً له بهذه الطريقة أو تلك، فليس خلف العِلل الفاعليّة المادّية غاياتٌ، ولا تفكِّر الطبيعة أو تخطِّط لأغراض.
وإذا كان النزاع بين الرجلين (المؤمن؛ والملحد) نزاعاً قد تغلب عليه الزاوية النظريّة في العلّة الفاعليّة، فإنّ النزاع بينهما في العلّة الغائية يرتدّ لآثار سيكولوجيّة ونفسيّة عامّة.
إنّ افتراض أنّ هناك غايات يعني افتراض أنّ هناك عقلاً كبيراً، يملك رؤية أوضح، يخطِّط لكلّ شيء. وهذا الافتراض سوف يسمح باعتبار ما يحصل معي هنا أو هناك جزءاً من مسارٍ مرصود سلفاً. هذه قضيّةٌ غير بسيطة على مستوى ارتداداتها النفسيّة. فأن تكون في غابة تسير بك قدماك بطريقة عفوية عشوائيّة شيءٌ، وأن تكون هناك وتعتقد بأنّ كلّ هذا المسير الذي يبدو لك عشوائيّاً له غايةٌ ونهاية محدَّدة، رُسِمت مسبقاً من قبل أحدٍ ما، شيءٌ آخر. إنّ الحيرة في الحالة الثانية هي حيرةٌ آنيّة، لكنَّها وعيٌ نهائي، فيما الحيرة في الحالة الأولى هي حيرةٌ في المبدأ والمعاد، وهي أيضاً وحشةٌ وغربةٌ.
3ـ ثنائيّة العالَم (الدنيا؛ والآخرة) وفضاءٌ آخر مختلف
يقول الدين بأنّ الدنيا هي ممرٌّ، وهي مجرَّد سراب، مقارنةً بالآخرة التي هي المقرّ؛ بينما يقول الإلحاد بأنّ الدنيا هي طريقنا ومستودعنا ونهايتنا، وليس هناك خلفها من شيء.
فالمتديِّن يبحث عن نتائج عمله في الآخرة؛ بينما يبحث غيره عن نتائج عمله في الدنيا.
عندما يحسب الدين ما يجري في الدنيا فهو ينظر إليه بوصفه جزءاً من مسيرةٍ طويلة للغاية؛ بينما الإلحاد عندما ينظر إلى الدنيا فهو يحسبها كلّ شيء؛ إذ ما من بعثٍ، ولا عالَم آخر يقف خلف هذا العالم. ويؤدّي هذا الأمر إلى تغاير في طريقة التعامل مع الظواهر الدنيويّة. فالمصائب والأزمات هي بالنسبة للمتديِّن مجرَّد تحدٍّ مؤقَّت؛ بينما هي القدر الذي ختم حياة الملحد، ومن ثمّ فليس أمامه سوى أن يقيِّم كلّ شيء في إطار هذه الدائرة؛ ليكون واقعيّاً.
إنّ الفرق بين الرجلين عظيمٌ. كيف لي أن أساوي بين رجلٍ يرى ما يجري مع حياته في هذا العالم هو ما يجري معه في حياته كلّها؛ لأنّ هذا العالم هو حياتُه كلّها، فلو عاش خمسين سنةً، وكان بينها أربعون سنة مظلمة وقاسية وتالفة، فإنّ نتيجة حساباته سوف تكون: إنّ أربعة أخماس حياتي قد ذهب هدراً. إنّه شعورٌ ثقيل. أمّا الرجل الآخر فهو يواجه الأمور بطريقة مختلفة تماماً. إنّه يقيس أوّلاً الدنيا المحدودة زمنيّاً للغاية على الآخرة المترامية زمنيّاً، مهما فسّرنا الخلود فيها. وعندما يفعل ذلك سيجد أنّ كلّ دنياه تساوي (الواحد في المليون) من مجموع حياته؛ لأنّ الحياة عنده ليست هذه، بل هذه هي (يومٌ أو بعض يوم). وهنا إذا واجه نفس ما واجهه الرجل الأوّل فإنّ نتائج رؤيته للأمور ستكون مختلفة تماماً. إنّ الأربعين سنة القاسية التي قضاها لا تشكِّل سوى الواحد من المليون من حياته. إذاً فآماله وقراءته للأمور مختلفة تماماً؛ لأنّ الحياة الحقيقية عنده لم تبدأ بعدُ. وهذا ما يترك تأثيراتٍ عظيمة على الروح والنفس والوجدان.
وما يثيرني أكثر لدى مقارنة الرؤيتين هو اعتبار الدنيا دينيّاً ممرّاً ومدرسةً ومركز تدريب واختبار. هذا المفهوم يبدو لي غير بسيط أبداً إذا تعمّق في الذات الإنسانيّة، وتحوّل إلى شعور مستمرّ. فعندما أواجه أيَّ شيء هنا فلا أراه (نهاية الأمور)، و(كلّ شيء)، و(تمام الحال). إنّه المرحلة الجنينية التي أحدِّد في ضوئها نوع حياتي الحقيقيّة. فهل أذهب لطلب العلم؛ كي أصير طبيباً، فأعيش حياةً جيّدةً مثلاً، أم أذهب للفلتان التامّ؛ كي أصبح سارقاً ملاحَقاً مطارَداً منبوذاً؟ هذه الفترة من سنّ العاشرة إلى سنّ الثلاثين قياساً بما بعد ذلك هي الفترة الدنيوية ـ دينيّاً ـ قياساً بالآخرة. فكلّ ضغط وخوف وقلق وتعب وإرهاق، وكلّ سلبيّة أتحمّلها في هذه الفترة، ستكون منطقيّةً تماماً عندما أضعها في سياق بناء الآخرة، تماماً كما هي منطقيّة بوضعها في سياق ما نسمّيه نحن في حياتنا بأنّه (بناء المستقبل).
الموضوع مثيرٌ بحقٍّ. وهذا ما يدفع المؤمن ليعتبر الدنيا امتحاناً وابتلاءً. إنّه يرى من الطبيعي أن يعاني فيها؛ لأنّ الطبيب لا يصبح طبيباً بلا معاناة وتحمُّل وسهر. ويرى من الطبيعي أن تكون هناك مشاكل، وأنّ المشاكل والآلام ليست ظلماً يتنفَّر منه، أو يعترض عليه؛ لأنّه لا يعترض على المصاعب التي تواجهه في مرحلة دراسته العلميّة؛ بحكم فهمه لطبيعة هذه المرحلة وقوانينها ونتائجها. الدنيا عند المؤمن مركزُ تدريبٍ عسكريّ، وبلوغ الغايات السعيدة فيه لا يكون إلاّ بالخضوع لمنطق التدريب هذا.
من هنا، لا يقوِّم الدين حُسنَ فعلٍ أو سوءَ عملٍ، ونجاحَ برنامجٍ أو فشلَه، بالنظر إلى تأثيراته الدنيوية فقط، بل لأنّه يرى الدنيا جزءاً من الخطّ الطويل لمسيرة الحياة. فهو ينظر في تأثير الفعل على الخطّ الطويل هذا (دنيا وآخرة معاً)؛ بينما يعمد الإلحاد في عمليّات التقويم إلى النظر في النتائج على المستوى الزمني الدنيوي؛ إذ لا يوجد مستوى زمني آخر حتّى نرصد النتائج فيه.
ويؤدّي هذا الاختلاف إلى اختلاف آخر بالغ الأهميّة في دور الدين نفسه. فالدين يرى دوره في بناء الآخرة بالدرجة الأولى؛ بينما ينظر إليه الإلحاد على أنّ دوره يجب أن يكون بناء الدنيا. فإذا جاء أيُّ مشروع آخر غير الدين واستطاع بناء الدنيا كان من المنطقي التخلّي عن الدين.
4ـ مفاهيم المواجهة مع الطبيعة القاهرة
يخلق الدين في العقل الإنساني والوجدان مجموعةً من المفاهيم التي يواجه الإنسانُ العالَمَ بها، ويقوم بالتعاطي مع الأشياء من منطلقها:
منها: مفهوم الابتلاء. وهو مفهومٌ ديني يفسّر المتديّن من خلاله الكثير من المشاكل التي يواجهها، بل تصبح عنده المشاكل أمراً مقبولاً، وأحياناً موجباً للسعادة، ولا أقلّ تصبح أمراً محتملاً نتيجة هذه المفاهيم.
ومنها: مفهوم العقاب العاجل. فهو يرى أنّ بعض مصائبه وآلامه هي عقابٌ غيبيّ لما اقترفه هو من سيّئات، وأنّها شكلٌ من أشكال التطهير.
وفي مناخ هذه المفاهيم تولد قدرة التحمّل والصبر عند المتديّن.
أمّا الإلحاد فهو ينظر إلى هذه الأمور على أنّها جهلٌ وخرافة، ويرى أنّ المطلوب أن نكون واقعيّين، فليس ثمّة شيءٌ من هذا، بل الموجود ليس سوى هذا العالَم وتناقضاته التي تفضي للمصائب والمشاكل على الجميع بلا استثناء. فالزلازل لا تعرف مؤمناً ولا كافراً، ولا تفكّر أين تحلّ؟ وفي أيّ بلد تنزل؟ والحلّ هو أن نكون واقعيّين ونرضى بما يحصل؛ لأنّه ـ شئنا أم أبينا ـ ليس الأمر بإرادتنا غالباً.
ومن هذه الزاوية يرجّح الدين محاولته في فهم الظروف المحيطة على محاولة فهم الإلحاد، لا من الناحية الفلسفيّة والمعرفيّة هذه المرّة، بل من الناحية النفسيّة والاجتماعيّة. فهذه المفاهيم التي يزرعها الدين في الوعي الإنسانيّ هي مفاهيمُ مواجهة، لا تمنح الإنسان شعوراً بالتفهّم لما يجري من حوله فحَسْب، بل ميزتها أنّها في بعض الأحيان تمنحه شعوراً بالسعادة الروحيّة والنفسيّة. فعندما يشعر بالتطهّر نتيجة المرض الذي نزل به فإنّ المصيبة هنا تتحوَّل إلى غنيمةٍ ومكسب، والأزمات والمشاكل والضغوط تتحوّل إلى فرصٍ سعيدة؛ لأنّها ـ من وجهة نظر المتديّن ـ عبارة عن اختبارات تشكِّل فرصاً لنجاح الإنسان، فهو يسعى للنجاح فيها، لا فقط لتحمّلها، تماماً كحالة فتح الجامعة باب الدخول فيها واضعةً امتحانات الدخول تحدّياً أمام الطلاب، فإنّ الامتحان هنا هو بابٌ فُتح للطلاب؛ كي يلجوا صفوف هذه الجامعة وقاعاتها من خلال النجاح فيه.
وكلّما ذهب الإنسان المتديّن بعيداً في هذا التسامي الروحيّ مُنح أكثر فأكثر قدرة مواجهة مصاعب الحياة بروحٍ أكثر مرونة، تتخطّى تفهُّم المحيط وما يجري فيه، إلى حالةٍ من الأُنْس به والرضا، ويصبح عنده الألم سعادةً وارتياحاً.. بل عبر هذا السبيل لا ينظر المؤمن إلى أصل خلق الله له على أنّه كارثةٌ.
فكثيرٌ من الناس الذين يعانون من مشاكل في الحياة جسديّاً أو مادّيّاً وماليّاً يعتبرون أنّ الله قد ورَّطهم بخلقه لهم دون أن يستشيرهم، بل هذه هي ثقافة الفلسفة التشاؤميّة التي رأيناها مع سبينوزا غرباً، وأبي العلاء المعرّي شَرْقاً. كان يفترض بالله أن يستشيرنا قبل أن يخلقنا، أو على الأقلّ أن يقدِّر لو أنّنا خُلقنا في هكذا ظروف ما كانت وجهة نظرنا حينئذٍ؟ ولمّا لم يقُمْ باستشارتنا في أصل الخلق فإنّ الموضوع يبدو خطوةً سلبيّةً أقدم عليها الله هنا..
لكنّ العقل الإيماني لا يرى الأشياء بهذه الطريقة؛ انطلاقاً ممّا قلناه عن ثنائيّة الدنيا والآخرة في النقطة الثالثة سابقاً. إنّه يرى أنّ الله منحنا بخلقه لنا فرصةً تاريخيّة، إنّه قال لنا بأنّني تكرَّمتُ عليكم بخلقكم، مهيّئاً لكم فرصة دخول النعيم الأبديّ. وكلّ ما في الأمر أنّ المطلوب منكم هو المرور باختبارٍ بسيط زمنيّاً، اسمه الدار الأولى أو عالم الدنيا. فالمؤمن يرى في فعل الله هذا كَرَماً أنْ وفَّر لكلّ الناس فرصة النعيم الأبديّ، ويرى في سقوط الكثير من الناس في جحيم الهاوية خطأً نتج منهم، إذ بَدَوْا غير قادرين حتّى للخضوع للامتحان البسيط زمنيّاً من وجهة نظره. وهذا هو معنى أنّ الإنسان كان ـ كما يشير القرآن الكريم ـ ظلوماً جهولاً، لقد ظلم نفسه بتفويت فرصةٍ تاريخيّة أمامه، وأغرق في السفاهة والجهالة عندما غشي بصره ظاهر الدنيا، ونسي الآخرة..
القراءتان هنا مختلفتان جدّاً لفلسفة الوجود الإنسانيّ وشرعيّة الإيجاد البشريّ؛ بين قراءة تعتبر خلق الله للإنسان خطأً وتجاوزاً لحقوق الإنسان نفسه في إرادة الوجود وعدمها؛ وبين قراءة ترى ذلك نعمةً وفرصة وكَرَماً، أراد الإنسان الفاشل أن يلقي بفشله فيه على الله، فاتَّهمه هو بالتقصير بدل أن يتَّهم نفسه.
الدين يقول بأنّ هذه المفاهيم التي يبثّها في الروح الإنسانيّة لها قدرة إعادة برمجة أداء الإنسان تجاه ما يحيط به، فليس المهمّ فقط أن تفهم ما يحيط بك فهماً علميّاً، بل المهمّ أيضاً أن يكون أداؤك تجاهه أداءً أفضل.
5ـ الملجأ والملتحد بين الرحمة الإلهيّة وصمت الطبيعة الغاضبة
يرى الإيمان الدينيّ أنّنا عندما نطيح بفكرة العقل الغيبيّ الكبير (الله) المتَّصف بالإحساس والعلم والقدرة والحكمة والتدبير والغايات و.. فإنّ هذا معناه أنّنا سنفتقد للنفحة التي سوف توفِّر لنا مفهوم (الرحيم الغفور الودود اللطيف..). إنّ الطبيعية لا تفهم ولا تعي ولا تشعر، بينما الله يعي الأمور ويلمسها، وله غايات. فيمكن في مناخ مقولة (الله) أن يلجأ الإنسان نفسيّاً وروحيّاً إلى نقطةٍ ما في هذا العالم تمثِّل الرحمة والخلاص والأمل؛ لأنّني بمجرّد أنْ أرتفع من عالم الطبيعة الصامت غير العاقل إلى عالم الغيب العاقل أشعر وكأنّني مع إنسانٍ آخر كبير بعقله وروحه وأخلاقه ووَعْيه؛ لأنّ الغايات شأنٌ عقلاني يلمسه الإنسان بتجربته، وعندما أحسّ بالإنسان الكبير الغيبيّ ـ إذا صحّ التعبير ـ فإنّ من الممكن لي أن أشعر بوجود الرحمة والمودّة والرأفة.
ولعلّ في هذا السياق ما يُلمح إليه الفلاسفة الإلهيّون من برهان الفطرة. فالإنسان بفطرته عندما يقع في مَهْلكةٍ وخطر، كما في سفينةٍ مشرفة على الهلاك وسط المحيطات الهائجة، يرتبط بقوّة متعاليةٍ تَسْمع وتَعي وترى، ولها إحساس الرحمة والعفو والمحبّة، فينشدّ إليها؛ كي تقوم بخلاصه. إنّه هنا لا ينشدّ ـ كما يقول الفلاسفة ـ إلى الاحتمال الضعيف في النجاة، بل ينشد إلى قوّة ما فوق عاديّة، وما فوق عالَم الاحتمالات، يمكنها أن تتدخّل لإنقاذه، لماذا؟ لأنّها تسمع الدعاء والنداء، وتعفو وتصفح وترحم، فيتوقّع النجاة، لا لأجل وجود احتمال الواحد في الألف أن يهدأ المحيط الهائج، بل حتّى لو لم يهدأ هو ينشدّ إلى هذه القوّة التي تقدر ـ في ما يحسّه في عمق وجدانه ـ على أن تبتكر طرقها لخلاصه..
الله هو الملجأ والملتحد، والله في الثقافة الدينيّة هو المدعوّ والمناجَى الذي تطلب منه الحاجات، لا من غيره، والتوحيد هو عمق التواصل الصحيح مع هذه القوّة الكبيرة التي نسمّيها (الله).
إنّ الإلحاد قد لا يبالي بكلّ هذه المفاهيم النفسيّة البانية للأمل والخلاص، والمستشعرة دوماً إحساس العناية واللطف والرأفة من قوّةٍ أعلى، وهو إحساسٌ سامٍ من وجهة النظر الدينيّة. إنّ الإلحاد يرى أنّه ليس سوى الوقائع الماديّة التي يجب التعامل معها، لا غير، وعليك أن تبني آمالك وفقاً لهذه الوقائع الحادثة.
6ـ الدين والإلحاد وتبادل اتّهامات التخدير والأفيون
يقول الإلحاد بأنّه حالةٌ صعبة على المِلَل المتديّنة. إنّها تشعر بثقله، ولكنَّها لو فعلته، وشعرَتْ بالوَجَع، فسرعان ما سترتاح؛ لأنّها سترى الأشياء بعده رؤيةً واقعيّةً ومنطقيّة. وسبب وجعها أنّها استأنست بإدمان خرافات الدين، والتحرُّر من التخدير يصاحبه وَجَع وأَلَمٌ عظيمان في البداية فقط.
بينما يقول الدين بأنّ رؤية الإلحاد لنفسه هي بنفسها غير واقعيّة؛ لأنّ صورة العالم عنده مجتزأة ومنقوصة وغير مكتملة، بل صورة الإنسان عنده غير سليمة؛ لأنّ الإنسان مضطرّ ـ سواء كان ذلك حقّاً أم باطلاً ـ إلى إشباع مشاعره الغيبيّة، فأيُّ واقعيّةٍ تتجاهل هذا النزوع الفطري الغيبيّ عند الإنسان هي التي ستخدِّره، لكنْ لمدّةٍ زمنيّة، سرعان ما سيستيقظ بعدها على أَلَمٍ كبير ووَجَعٍ عظيم، يفضي به إلى الشعور بالفردانيّة والوحدة والوحشة والغربة، ثم الانتحار، كما حصل في هذا العصر.
من هنا لا تقتصر تهمة التخدير على الدين، بل يرى الدين أنّ الإلحاد هو الذي يقوم بتخدير الناس ـ بقوّة الشهوات والإعلام والوَهْم ـ، عبر طمسه لبعض نوازعهم الفطريّة لمدّة زمنيّة معيّنة، سرعان ما ستتغير الأمور معه، ويعود الناس إلى هذه النوازع الفطريّة الكامنة في التعلّق بما وراء الطبيعة. فلم يتمكّن الإلحاد رغم كلّ نفوذه في هذا العالم لعدّة قرون أن يطمس الدين، ولن يتمكَّن، وإذا فعل ذلك هنا أو هناك فهي محاولات زمنيّة محدودة، لن تقدر على الاستمرار مهما عاشت غرور النصر للحظات. وما يؤكّد ذلك أنّ النزعات الماديّة والبراغماتيّة في القرن العشرين عادت لتنظر إلى الدين بوصفه واحداً من علاجات الأمراض النفسيّة التي تجتاح العصر الحديث.
7ـ المطلق بين الإنسانيّ والإلهيّ
يرى الدين أنّ المطلق أو شبه المطلق حالةٌ إنسانيّة أيضاً، وليس فقط إلهيّة، لكنْ ضمن حدود الإنسان، وهي تسمّى بالأنبياء والأولياء. ويتمثَّل إطلاقهم في أنّهم القدوة وحلقة الوصل مع الله المطلق الحقيقيّ، وفي أنّهم الأنموذج البشريّ الأفضل الذي تحفره الديانات في العقل الإنسانيّ، دافعةً الوجدان والروح للتماهي معه، وراسمةً بذلك أهدافاً إنسانيّة ممكنة له.
أمّا في الإلحاد فليس هناك سوى مجموعاتٍ من البشر، بلغوا تميُّزاً زمنيّاً وضعهم في مصافّ الممتازين، ليس إلاّ، دون أن يحتكروا الامتياز، أو يكون لهم على غيرهم تقدّمٌ.
ولأنّ هناك مطلقاً أعلى من الإنسان يرى الدين أنّ العقل محدودٌ، وأنّ عليه أن ينصت لصوت الوحي الذي يعبِّر عن العقل اللامحدود، وهو ذاك المطلق المسمّى بالله. ومن هنا يرى الدين أنّه من غير المنطقيّ أن نعترض على الله عندما لا ندرك بعقولنا البسيطة الغايات النبيلة من أفعاله، وكأنَّنا فهمنا كلّ شيء، بأنْ نسأل عن سبب قتله للناس بالزلازل والبراكين وغير ذلك، وسبب إرساله الشرور على هذا العالم. إنّ اعتراضنا مرفوضٌ، ليس لأجل أنّ الدين يقمع الحرّيات، وأنّ الله مستبدٌّ، بل لأنّ منطقيّة الأمور تتطلَّب ذلك؛ فإنّ العقل الإنساني محدودٌ للغاية، وكثيراً ما اعترض ثمّ بعد قرونٍ انكشفت له أسرار الأمور، ولأنّه محدودٌ فيما الله مطلقٌ، لهذا كان من المنطقيّ أن يقول، بدل (أرفض هذا السلوك الإلهي)، جملةَ: (لا أفهمه بالتفصيل)، وعقلي محدودٌ لا يدركه.
بينما يرى الإلحاد أنّ هذا الكلام ليس سوى ضَرْباً من القول، فليس عندنا سوى عقولنا المحدودة، وعلينا أن نتّكئ عليها لوحدها ما دامت هي العنصر المتوفِّر الوحيد لنا لإدارة أمورنا، وكلُّ كلامٍ آخر فهو مجرّد تخريجاتٍ كلاميّة، وألعابٍ لفظيّة.
8ـ بين مركزيّة الله ومحوريّة الإنسان
من مجمل ما تقدّم، نجد أنّ المحور والمركز في كلّ الثقافة الدينيّة هو الله، فالله هو المحور، وهو الأساس والأصل، ونحن ندور حول كعبته، وكلّ شيء بأمره، ويجب الاستسلام والتسليم له؛ لأنّ هذا التسليم ليس جهلاً، بل هو الوعي بجهلنا ونقصنا، إنّه العلم بحالنا. هو نورٌ، وليس ظلمة.
بينما يرى الإلحاد أنّ المركز هو الإنسان (إمّا الفرد، كما في الثقافة الليبراليّة؛ أو الجماعة، كما في الثقافة المادّيّة الماركسيّة). فالإنسان هو الأصل، والقوانين والأفكار والبرامج والمشاريع يجب أن تدور حول كعبته، وتكون في خدمته.
هذا التمايز الجوهريّ في قضيّة مركزيّة (الله ـ الإنسان) أهمّ تغايرٍ واختلاف شهده صراع الدين وخصومه في العصر الحديث. وحتّى الكثير من المتديّنين اليوم يفكِّرون بعقليّة مركزيّة الإنسان، وليس مركزيّة الله.
ونظراً لحساسيّة هذا الأمر، أشير إلى أنّ المذهب الكلاميّ الأشعريّ عند المسلمين بلغ به الحال أنْ قال بأنّ القوانين والتشريعات لا يجب أن تكون فيها مصالح واقعيّة للإنسان، بل حتّى لو كان فيها ما نراه نحن مفاسد عليه فهي خيرٌ؛ لأنّ قيمة القانون ليست في مضمونه، بل في الالتزام به تجاه الله سبحانه.
لستُ أريد تأييد هذه الفكرة التي وقع حولها جَدَلٌ كبير في التراث الإسلاميّ في سياق ما عُرف بمسألة التحسين والتقبيح العقليّين والذاتيّين، بقدر ما أريد أنْ أشير إلى حجم نزوع العقل الدينيّ نحو مركزيّة الله، فما يقنِّنه الله فهو خيرٌ، لا أنّه يقنِّن الخير.
وفكرة مركزيّة الإنسان التي باتت تسري لكلّ مرافق التفكير اليوم، حتّى في الوسط الدينيّ، حصل فيها انزياحٌ مفاهيمي هائل. فكلُّ شيء في خدمة الإنسان. حَسَناً، لا بأس، لكنْ ما معنى خدمة الإنسان ومصلحته؟
إنّ خدمة الإنسان تعني منفعته، لكنّ ما نراه يسير اليوم في العالَم هو أنّ خدمة الإنسان تعني راحته وإحساسه بالسعادة، فصارت هناك موضوعيّة وخصوصيّة للراحة والإحساس بالسعادة. ومن المعروف أنّ هذه المفاهيم غير مفهوم المصلحة، فقد تكون المصلحة في الوَجَع، وقد تكون في عدمه. فعندما تسير فكرة مركزيّة الإنسان من عنوان الخير والمنفعة والمصلحة إلى عنوان الراحة والأمن والاستقرار والإحساس باللذّة والسعادة والجمال فهو انزياحٌ كبير. فنقطة الخلاف الدينيّ اليوم ليست في منفعة الإنسان؛ لأنّ الدين يقول بأنّ منفعة الإنسان في الدين بحسب النظرة الدينيّة، التي تأخذ المآلات والآخرة بعين الاعتبار، سواء أخطأ الدين أم أصاب، ومنفعة الإنسان بمحوريّة الله نفسه، لكنّ القضيّة هي أنّ منفعة الإنسان صارت في راحته وأمنه واستقراره، وصارت قيمة العلوم أن تنتج ذلك، وهنا نقطة خلاف دينيّ أيضاً، لا بمعنى أنّ الدّين ضدّ ذلك، بل هو ضدّ جعل هذه القِيَم مبادئ عليا بوصفها قِيَماً أخلاقيّة.
خاتمة
رغم اختلاف الدين والإلحاد فإنّهما يتّفقان في أمور:
فبقدر ما يرى الإلحاد رؤيته واضحةً للأشياء، مؤيّدة بالعلم الحديث، يرى الدين وأنصاره أنّ رؤيتهم واضحةٌ للغاية، بل تكاد تكون من وجهة نظرهم تبلغ حدّ البداهة، إلى حدّ أنّ حجم يقينهم برؤيتهم يزيد بأضعاف عن حجم يقين الملحدين، وحجم يقين بعض الملحدين يتخطّى كثيراً حجم يقين جمهورٍ كبير من المؤمنين. فكلّ واحدٍ من الفريقين يرى نظريّته واضحةً جليّة. فبقدر ما يرى الملحد وضوح غياب الله عن الحياة؛ إذ لا نراه، ولا نحسّ به، يرى المتديِّن وضوح حضوره، ويمارس شعوريّاً علاقةً غريبة معه، تصل حدوداً تفوق حدّ التعقيل والفهم أحياناً.
كلّ فريقٍ من الاثنين يقول بأنّ الدين أو الإلحاد له خيراتٌ ومنافع على الإنسانيّة، ويسرد كلّ واحد منهما الكتب والمجلَّدات التي تعكس التأثيرات الإيجابيّة له على الحياة، وما قدّمه من نتائج وحضارة ومدنيّة هنا وهناك، بما لا مجال للحديث عنه الآن. في مقابل محاولة كلّ فريق إثبات فشل الآخر، والتركيز على نقاط ضعفه، دون النظر إلى نقاط قوّته. ففيما يفتخر الإلحاد بأنّه أنتج العلم الحديث ـ إذا صحّ أنّ العلم الحديث هو نتيج الإلحاد ـ نجد الأديان تفتخر بأنّها أيضاً قدَّمت تطوّراتٍ رهيبةً في العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، في بعض العصور التي كانت فيها صاحبة القوّة والنفوذ، كما هي الحال في التاريخ الإسلاميّ وتطوّر العلوم عند المسلمين.
من خلال النماذج التي مرّت، وهي مجرّد نماذج بسيطة، نجد أنفسنا أمام إنسانَيْن، كلّ واحدٍ يفكِّر بطريقة خاصّة، ويقوِّم الأشياء من منظارٍ خاصّ، وما أريد أن أقوله بعد هذه المقارنات البسيطة هو النتيجة التالية:
أـ الدين ليس انعداماً للرؤية، بل هو رؤيةٌ، سواء قبلتها أم رفضتها. هو رؤيةٌ متكاملة من نوع آخر. لهذا فما بتنا نجده عند بعض المثقَّفين من تصوير الدين بكلّ مدارسه وتيّاراته على أنّه ليس سوى فوضى فكريّة.. غيرُ صحيح. الدين رؤية للوجود والإنسان. هو وجهة نظر تستحقّ الوقوف عندها، ولا يجوز التحرُّر النفسيّ منها بتصويرها خطأً أنّها مجرّد خزعبلات المنجِّمين، أو ترّهات قرّاء الفناجين، فقد نتج في العصور الدينيّة ولادة فلسفات ضخمة عرفها التاريخ، وما تزال تحتضن في نظريّاتها الأصول الدينيّة الكبرى.
ب ـ لا يُقرأ الدين من زاوية الحقّ والباطل فقط، بل يُقرأ أيضاً من الزوايا النفسيّة والاجتماعيّة. ولا يُقرأ الدين من زاوية عناصر ضعفه فحَسْب، بل يُقرأ من زواياه كاملة. فما بتنا نجده اليوم في تيّارٍ كبير في الأمّة من التعاطي مع الدين عبر نهج جمع سلبيّاته هو خطأٌ كبير علميّاً، وكذلك التعاطي معه بروح السخرية، مستغلّين وجود بعض الهَفَوات والخرافات والخزعبلات القائمة في الأوساط الدينيّة. إنّنا نجد اليوم مَنْ يجمع كلّ تناقضات الدين التاريخيّة، وكلّ مشاكله ونقاط ضعفه؛ لتحشيدها في سياق صراعٍ علمانيّ إسلاميّ، ليس سوى معركةٍ سياسيّة بامتياز، يُراد القول بأنّها ذات صبغةٍ فكريّة. هي معركةٌ سياسيّة للإطاحة بتيّارات سياسيّة دينيّة لأجل تيّارات أخرى، والدين هو الضحيّة من خلال إبدائه للناس بوجهٍ قبيح، مستخدمين كلّ الوسائل الإعلاميّة المتنوِّعة والمذهلة. ومع الأسف لم يدرك كثيرٌ من المتديِّنين حقيقة الوضع حتّى الآن، فأَوْغَلوا في تكريس الصورة السلبيّة عن الدين، وأوقفوا كلّ عناصر الاجتهاد والتجديد في العقيدة والشريعة، ظنّاً منهم أنّ هذه العناصر هي التي تسقطنا في فخّ العلمانيّة والإلحاد، دون أن يتنبَّهوا إلى أنّ إلغاء مناهج الاجتهاد والتجديد هي الأخرى قد توصلنا ـ من خلال الصراع السياسيّ القائم ـ إلى كسب التيّارات العلمانيّة ذات الطابع العدوانيّ على الدين للمعركة بامتياز!! أليس في التيّارات الدينيّة المتوحِّشة اليوم خير سند لنموّ التيّارات العلمانيّة؟! أليس في التديُّن العدوانيّ والتديُّن الإقصائيّ والتديُّن الانغلاقيّ الذي يظنّ أنّه يحمي الدين بعدوانيّته وإقصائه وانغلاقه.. أليس فيه مادّةً دسمة لخلق وعي شبابيّ عارم يقوم برفع شعار: (عدم الإسلام هو الحلّ)، في مقابل شعار: (الإسلام هو الحلّ)؛ لأنه بات يرى أنّ دخول الدين على خطّ الحياة هو سبب مشاكلنا اليوم؟!!
إنّني أدعو الباحثين والمفكِّرين والعلماء والمثقَّفين والناقدين إلى التحرُّر من اللغة الإعلاميّة، ومن التنافس السياسيّ، ومن النظرة الأحاديّة، عندما يدرسون الدين؛ فقد نرتكب خطأً تاريخياً عندما نصفّي الدين نفسه في سياق تصفيتنا للأحزاب السياسيّة الدينيّة، فتخسر الأمّة عنصراً رفيعاً من عناصر التسامي الأخلاقيّ والروحيّ والاجتماعيّ والحضاريّ.
([1]) نشرت هذه المقالة على حلقتين في كلمة تحرير العددين المزدوجين 30 ـ 33، من مجلة نصوص معاصرة، من ربيع 2013 إلى شتاء 2014م.