تساؤلاتٌ في العلاقة الجَدَليّة
د. أبو القاسم فنائي(*)
توطئة ــــــ
أفرزت المحاضرات والمقالات المقدمة من قبل ثلة من علماء إيران لندوة الدين والحداثة، وما سبقها أيضاً، مجموعة من المفاهيم المحورية الحسّاسة والمبهمة في آن واحد، الأمر الذي ألح في تقديم بعض الإيضاحات حولها، وهذا غرض بحثنا الحالي([1]).
المفاهيم وأزمة الهويّة ــــــ
نبدأ من مقال وحوار الدكتور سروش، حيث جاء فيه: «الكلاسيكية والحداثة هما أكبر أحدوثة في هذا العصر. فلا هوية معينة للكلاسيكية، كما لا هوية للحداثة أيضاً. وليس للدين وجودٌ ثابت، ولا للتاريخ أيضاً. وليس قولنا بوجود ذات أو ماهية لهذه المفاهيم إلاّ تهافتٌ منا «بثّ التراب في عين الحقيقة». علينا أن ننطلق من أساليب الفلاسفة التحليليّين في قراءة السؤال كي تتسنّى الإجابة عنه. فلا روح للحداثة، ولا ذات، وهي ليست سوى علم حديث وفلسفات حديثة وفنّ حديث وسياسة حديثة واقتصاد حديث وعمارة حديثة، وما شابه ذلك. فعندما نسأل عن موقف الحداثة من الدين فهذا يعني في الواقع تراكم عشرات الأسئلة بانتظار الردّ عليها. وهو أمرٌ بعيد المنال، لذا لا بُدَّ أن يقال في السؤال: ما هو موقف العلم الجديد من الدين؟ وما هو موقف الفلسفة الجديدة من الدين؟ وما هو موقف السياسة الجديدة من الدين؟ وهكذا دواليك. ثم نأتي لاستخراج كلّ حكم على حِدة. ولن تجدينا نفعاً قصة «العقلانية الجديدة» في السياق ذاته؛ لأن العقلانية الجديدة هي بالنتيجة نتاج لما يظهر في العلم الجديد والفلسفة والفنّ والأخلاق الجديدة أيضاً. وعليه سيعود بنا المطاف إلى المربع الأول مرة أخرى. ثم إن الدين نفسه لا يقتصر على مصداق واحد، فهل المراد الإسلام أم المسيحية أم الأديان الأخرى؟ إذاً فالسؤال المطلوب هنا هو: ما هو موقف العلم الجديد من الدين الإسلامي ـ أو المسيحي ـ؟»([2]).
الأسئلة الموجَّهة إلى رأي سروش ــــــ
1ـ هل المقصود من «الهوية» هنا معناها الخاصّ (essence) أو العام (nature)؟([3]).
2ـ هل معنى نفي الهوية عن الكلاسيكية والحداثة والدين هو النفي بشكل مطلق أم نفيٌ لوجود هوية (واحدة) أو (ثابتة)؟ أي هل معنى ذلك نفي الهوية أم نفي لوحدة الهوية أو لثباتها؟
3ـ هل المقصود من نفي الهوية عن الكلاسيكية والحداثة والدين هو نفي لوجود معادل ـ مصداق ـ مستقلّ لهذه المفاهيم في العالم الخارجي أم نفي للمعادل المحدَّد أو الثابت؟
4ـ هل أن افتعال الهوية أو إلصاقها بما لا هوية له([4]) هو الخطأ الوحيد الذي لا بُدَّ من تجنُّبه في هذا البحث أم أن هناك مغالطات أخرى نقع فيها ولا بُدَّ من استدراكها؟
5ـ هل توجد هوية محدَّدة وثابتة لكلٍّ من العالم الجديد والفلسفة الجديدة والسياسة الجديدة والفنّ الجديد والاقتصاد الجديد والعمارة الجديدة، ومن خلالها يتسنّى لنا رصد علاقتها وموقفها من الدين، فنتجنب بذلك الوقوع في مغالطة إلصاق الهوية وافتعالها بحقّ مَنْ لا هوية له؟
6ـ هل أن مفاهيم الكلاسيكية والحداثة والدين والتاريخ هي وحدها لا هوية لها في هذا العالم أم أن جميع الأشياء بلا هوية، أو هناك تبعيض في المسألة؟
لعل هذه الأسئلة تصلح لتكون نقطة البداية في دراسة الموضوع والإبهام الموجود في كلام الدكتور سروش.
فنقول عن السؤال الأول: لم يتَّضح لدينا أيّ الأشكال قصدها سروش من نفيه الهوية؟ إلاّ أنه يمكننا التخمين ـ وفقاً للنتيجة المترتبة على فحوى كلامه ـ بأن المراد هو نفي الماهية والطبيعة بكلا المعنيين في الكلمة.
وإذا كان كذلك طرحنا الأسئلة التالية:
1ـ كيف تبلور مفهوم الحداثة في الذهن البشري؟ وهل أننا نشير به إلى شيء محدَّد؟ وإذا كان الجواب بنعم فما هو ذلك الشيء؟ وإذا كان بلا فما الجدوى من هذا المفهوم؟
2ـ حين نقول: «ليست الحداثة سوى…» فهل أننا قفزنا إلى وضع تعريف لها قبل أن نفترض وجود هوية لها؟([5]).
3ـ نحن عندما نجعل من «الحداثة» وصفاً للعلم والفلسفة والفنّ والسياسة والاقتصاد ألا نشير في الوقت ذاته إلى وجود قاسم مشترك متوفّر لكلّ واحد منها؟! فإذا وُجد فما هو ذلك القاسم المشترك؟ ولماذا لا يمكن التطرُّق إليه؟
وإذا لم يكن هناك قاسمٌ مشترك فكيف صحّ انطباق النعت الواحد على هذه المفاهيم مجتمعة؟
ونعود إلى الأسئلة المحورية، وتحديداً إلى السؤال الثاني والثالث، فنطرح الأسئلة التالية:
1ـ هل كان الدكتور سروش يقصد من نفي الذات والهوية النفي المطلق ـ كما توحي به بعض كلماته ـ، أم أنه أراد نفي وجود ذات وهوية «ثابتة» ـ كما أوحَتْ به كلماته الأخرى ـ، أم أنه قصد هذه المرّة نفي الذات والهوية «الواحدة» ـ كما يستنبط من بيانات أخرى له ـ؟ أي هل أراد أن يقول: لا ذات أو ماهية لكلٍّ من الدين والحداثة والكلاسيكية، أم أنّ لها ذات لكنّها غير ثابتة، أو لها ذات ولكنْ متعدِّدة؟
2ـ هل كان يريد أن يقول: إننا لا نستطيع تحديد المعنى الدقيق لمفهوم الدين والكلاسيكية والحداثة في مجال كلّ واحد منها؛ لأن هذه المفاهيم لا تمتلك معادلاً لها خارج أذهاننا يصلح التطرُّق إليه([6])، أو أنه كان يريد أن يقول: إن لهذه المفاهيم معادلاً، لكنه ليس ثابتاً، بل هو في تحوُّل دائم، أو أنه أراد أن يقول: إن المعادل ذلك ليس مفرداً، ووفقاً لرأي مجموعة من علماء إيران لا بُدَّ لنا من التحدُّث عن الأديان والكلاسيكيات والحداثات، بدلاً من التحدُّث عن الدين والكلاسيكية والحداثة؟
3ـ هل قصد الدكتور سروش في كلامه أنّ معادل الحداثة العيني عبارة عن العلم الحديث والفلسفة الحديثة والفنّ الحديث و…، وأن وحدة هذه المجموعة هي وحدة اعتبارية، فلا وجود لقاسمٍ مشترك بين العلم الحديث والفلسفة الحديثة والفن الحديث، وكأنّ انضمام هذه المفاهيم إلى بعضها البعض هو من قبيل: «ضمّ الحجر إلى الإنسان»؟
أما في ما يخصّ السؤال الرابع فيبدو أن «افتعال الهوية لمَنْ لا هوية له» أو «جمع المسائل في مسألة واحدة» ليسا وحدهما ما يُتجنَّب من مغالطات في البحث المنظور، ليحذر من ارتكابها الباحثون. ففي أقلّ تقدير ارتكاب نقيضهما مغالطةٌ أيضاً، أي «سلب هوية الأشياء»، «وتحويل المسألة الواحدة إلى مسائل عدّة». وهذا مخالفٌ للمنطق أيضاً، وكما أجاد الدكتور في وصفه حين قال: «بثّ التراب في عين الحقيقة». ومن أبرز مصاديق سلب الهوية عن الأشياء هو التحويل والاختزال([7]).
فإذا ثبت هذا المدَّعى، وتحتَّم علينا تجنُّب هذه المغالطات الأربع في هذا الموضوع وما شابهه، صحّ أن يقال بضرورة الاستدلال على انعدام ذات وماهية كلٍّ من الدين والكلاسيكية والحداثة، قبل أن نتَّهم الآخرين بارتكاب مغالطتين فقط، وإلا من الممكن أن نقع نحن في ثلاث مغالطات، بدلاً من الاثنتين، إحداها: «المصادرة بالمطلوب»، والثانية: «سلب هوية الأشياء»، والثالثة: «تحويل المسألة الواحدة إلى عدّة مسائل»([8]).
وقفةٌ نقدية ــــــ
يبدو ـ حسب اطّلاعنا ـ أن كلا الفريقين ـ سواء مَنْ قال بوجود الذات والماهية ومَنْ لم يقل، كالدكتور سروش ـ يتحدَّث عن «الوجود» أو «العدم» وكأنه قضية مسلَّم بها، دون أن يقدم دليلاً على مدّعاه. فالفريق الأول يستهلّ كلامه بفرضية وجود ذات وماهية لهذه المفاهيم، ومن ثم يسعى إلى كشف تلك الذات وتعريفها؛ كما ينطلق الفريق الثاني من فرضية نفي الذات عن المفاهيم، ثم يحاول العثور على أمور أخرى تمتلك الماهية والذات، ليقول: إنها هي المراد من الدين والكلاسيكية والحداثة.
إلا أن الظاهر في الأمر ـ في حدود تحقيقنا ـ أنّه لم يقدِّم أيٌّ من الفريقين دليلاً على فرضيته. في حين لو صحت فرضية الفريق الأول ـ مثلاً ـ بطل عمل الفريق الثاني، وكان مغالطة محضة. والعكس صحيحٌ أيضاً. ولا يمكن أن تكون كلا الفرضيتين صحيحتين في آنٍ واحد. ومع هذا كله يمكن القول: إنه لا يمكن لأحد اتّهام الآخر بارتكاب المغالطة قبل أن يسوق دليلاً على إثبات مدَّعاه، سواء كان في باب الإثبات أم النفي، وإلاّ كان ذلك مصادرةً على المطلوب. نعم، يحقّ للمرء أن يقول: سأنطلق من فرضية وجود الهوية أو عدمها، مطبِّقاً فرضيتي على المفاهيم المتقدّمة، ومؤخِّراً الحديث عن أصل الفرضية إلى وقتٍ آخر. لكنْ مع هذا نقول: إن الحكم الصائب في الموضوع يبقى مرهوناً بالتحقُّق من أصل الفرضية.
نفي الهوية بين التعميم والتقييد ــــــ
والآن نعود لنناقش سؤالنا الخامس، والذي ينصّ على أنه إذا كان معنى نفي الذات عن الدين والحداثة هو استحالة أن نسأل: ما هو موقف الحداثة من الدين؟ ولا بُدَّ من استبدال ذلك بقولنا: «ما هو موقف العلم الحديث والفلسفة الحديثة والفن الحديث و… من الدين؟» فلماذا نتوقَّف عند هذا الحدّ؟ ألا يمكن أن نستكمل ونسترسل في اختزالاتنا وتحويلاتنا إلى النهاية؟! ألا يمكن أن نقول: ليس للعلم الحديث والفلسفة الحديثة و… ذات أو ماهية، وعليه سيؤدّي بنا السؤال عن علاقة هذه المفردات بالدين إلى ارتكاب مغالطة أو أكثر، إذاً لا بُدَّ من استبدال السؤال أيضاً فنقول: ما هو موقف الفيزياء الحديثة، وعلم الأحياء الحديث و…. من الدين؟ بل ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، فيدَّعى أنه ليس للفيزياء والكيمياء و…. ذات أو ماهية وهوية، أو أنها لا تمتلك هوية واحدة أو هوية ثابتة، وعليه سيكون السؤال الصحيح ـ مثلاً ـ: ما هو موقف نظرية (غاليلو) في حركة الأفلاك السماوية من الدين؟ وما موقف نظرية (دارون) في أصل النشأة من الدين؟ وهكذا دواليك.
في الجانب الآخر نقرأ في كتاب الدكتور سروش أيضاً: ليس للدين مصداق محدَّد، ولا بُدَّ أن يكون السؤال بهذه الصيغة: ما هو موقف العلم الجديد من الإسلام أو المسيحية أو البوذية؟ لكنْ هل لنا أن نسأل: لماذا اكتفينا هنا بهذا القدر من الدين، ولم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لنسأل هذه المرّة عن موقف العلم الجديد من الإسلام المحمدي الأصيل، أو من الإسلام الأمريكي، أو بعبارة أخرى: ما هو موقفه من التشيُّع الاثني عشري؟ أو نذهب بعيداً مرّة أخرى فنقول: ما هو موقف العلم من التشيُّع الإمامي حسب رؤية العلاّمة المجلسي أو العلامة الطباطبائي، أو من التشيُّع الصفوي أو العلوي؟ وهل نذهب إلى ما هو أبعد من هذا كلّه فنقول: ما علاقة نظريةٍ ما بمعتقدٍ من المعتقدات الشخصية لدى فردٍ من الأفراد؟ وهلمّ جرّاً.
ألا يوجد قاسم مشترك بين هذه القراءات والرؤى؛ ليتسنّى لنا حصر الكلام عن علاقة العلم الجديد بذلك القدر المشترك تحديداً؟
ونتساءل في السياق ذاته: ألا يوجد قدر مشترك بين فرق الدين الإسلامي، أو بين الإسلام والأديان الأخرى؛ لنتمكن من تسليط الضوء عليه في دراستنا لحقيقية العلاقة بين العلم الحديث وذلك القدر المشترك؟ وألا يوجد قدر مشترك بين نظريات العلم المتنوعة، أو بين الفيزياء وعلم الأحياء؛ لكي يكون بالإمكان دراسة علاقة ذلك القدر المشترك مع القدر المشترك بين الأديان، أم أن الدكتور سروش لا يرى فائدةً في هذا النوع من الدراسة والتحقيق؟
يبدو أن الاختزالية الموجودة في كلام سروش لا تخضع لضابطةٍ معينة، أو أن ضابطتها ـ في أقلّ تقدير ـ غير مفهومة لدينا. وإنّ سلب الذات والهوية عن الدين والحداثة لا يوحي بمثل هكذا نتيجة إطلاقاً.
أما بالنسبة للسؤال السادس فقد جاء في بقية مقال الدكتور سروش قوله: «إن للحضارة الإسلامية روحاً جسداً، ولا يمكن إحياء ذلك الجسد دون إحياء الروح»([9]).
وهنا نسأل: هل هذه التعابير مجازية ومن خيال الشعر، أم أنها نصوص فلسفية؟ أليس المقصود من روح الحضارة الإسلامية في هذا الكلام هوية وذات وجوهر تلك الحضارة؟ وعليه ما هو الفرق بين الدين أو الإسلام وحضارته؛ لكي يكون الأول بلا روح، أو بلا روح ثابتة ومحدَّدة، والثاني مع روح؟
يتحدّث الدكتور سروش في مقاله الرائع «الذاتي والعرضي في الأديان» عن عرضيات الدين الإسلامي. وهناك صرَّح بوجود ذاتيات أيضاً للموضوعين. وهكذا أبدى بيانات وآراء قيِّمة في مناسبات أخرى، كما جاء في «مقوّمات» الحداثة، أو «مقوّمات» العالم الجديد([10]).
فما هو غير مفهوم لدينا كيف يجمع الدكتور سروش بين نفي الذات والهوية عن الدين حيناً والقول بوجود ذاتيات وعرضيات في الأديان في أحيان أخرى؟
فإذا كان هذا العمل ممكناً في حقّ الدين أو أحد مصاديقه، أو في حقّ الحضارة الإسلامية، فلماذا لا يصدق الأمر على الحداثة نفسها؟
وبعبارة أخرى: هذا يعني أنه بإمكان المفهوم الكلي أن يكون انتزاعيّاً من جهة، وأن تكون لمصاديقه المتعدّدة خصوصيات ذاتية وعرضية من جهة أخرى.
وليس مفهوماً عندنا أيضاً قول الدكتور سروش بنفي الذات والهوية عن العقلانية الجديدة، وعليه فهي لا تمنح علاجاً شافياً، في حين أنه يقول بتجديد تجربة الاعتزال وإحياء العقلانية الاعتزالية؟
كما يمكن أن نتساءل أيضاً: إذا كانت العقلانية الجديدة في رأي سروش هي تلك التي تظهر في جديد كلٍّ من العلم والفلسفة والأخلاق والفنّ» أليس معنى ذلك كون العقلانية عبارة عن «الظاهرة»([11])، التي (تتبلور)([12]) في العلم والفلسفة والأخلاق والفنّ؟ فهل أن القول بنفي أو إثبات الذات والهوية مسألة ذوقية تتأثَّر بالأمزجة والميولات أم أنها تخضع لمعايير وأسس تحدّدها؟
يبدو أن السبيل لرفع هذه الملابسات هو تفريقنا بين معنيين للهوية: الأول: هو الماهية حسب أرسطو (essence)؛ والثاني: هو الطبيعة في المعنى العام للكلمة (nature). وقد أثبتت البراهين الفلسفية أنه لا وجود خارجي للذات أو الماهية بمعناها الأرسطائي، وأنها من نتاجات الذهن واعتباراته. لكنْ لا يوجد دليلٌ على هذا الادّعاء «المطلق» من القول باستحالة وجود أو واقعية الطبيعة في معنى الكلمة العامّ، وأنه ليس في العالم شيءٌ ذو هوية وطبيعة بالمعنى العام([13]).
وعلى الرغم من هذا كلّه يبقى النفي أو التأييد للطبيعة في معنى الكلمة العام في مورد من الموارد بحاجة إلى دليلٍ خاصّ ومستقلّ. فالسبيل الوحيد في مثل هذه الحالة هو من خلال التحليل الفلسفي، والتوفيق بين الدلالات اللغوية وغير اللغوية الواردة في المقام. فلا يمكن الاستدلال على وجود أو عدم هكذا طبيعة بنظريات علم الاجتماع، أو بعملية التجربة والتعقيب. أي يمكن القول بأن من جملة الهفوات المعرفية التي يرتكبها الفكر الإنساني في مرحلة تحصيل الحقائق عن الأشياء هي عبارة افتراض الطبيعة لمَنْ لا طبيعة له. لكنّ هذا الخطأ الفكري ليس من قبيل الأخطاء المنظّمة، وإنما هو خطأ فردي. ولذا سيكون الخطأ الآخر هنا متمثِّلاً في نفي الطبيعة عمَّنْ يمتلكها. وهذا أيضاً ليس خطأً منظّماً، وإنما هو حالة منفردة.
وبناءً عليه لن يكون من الأمور البديهية ادّعاء ارتكاب الذهن أحد الخطأين في حالةٍ ما أو عدمه، بل يبقى ذلك بحاجةٍ إلى دليل أيضاً. وعليه يمكن صياغة سؤالنا المحوري كما يلي: هل أن لمفاهيم «الدين»، «الكلاسيكية»، «الحداثة»، دلالة على وجود «طبيعي» واحد في مصاديقها، أم أنه لا وجود للطبيعة هنا، وإننا نستعمل هذه الألفاظ لمجرّد الإعلام بوجود مجموعة من الأمور التي لا علاقة بين مكوّناتها، وإنما لم تجتمع مع بعضها الآخر إلاّ لمجرّد الصدفة؟
لا بُدَّ من التنبُّه هنا إلى نمط هذا السؤال. فنحن نتعامل مع سؤالٍ فلسفي، وليس لغوياً. فليس حديثنا عن مسألة دلالة الألفاظ على المعاني، وإنّما نحن بصدد البحث في علاقة المفهوم بالمصداق، أو علاقة الذهن بالأعيان الخارجية([14]). ففي الصورة الأولى سيكون معنى كلامنا أن هذه المفاهيم انتزاعية، مع القول بوجود منشأٍ للانتزاع خارج الذهن «الوجود»، أو بعبارة أخرى: هي «واقعية»، وإنْ لم يكن بمستوى الوجود المستقلّ والحسّي. أما في الصورة الثانية فسيكون معنى ذلك أنه ليس هناك أيّ نوع من الشراكة بين الأمور التي يطلق عليها هذا المفهوم.
نظريّة «تيغ آكام» ــــــ
تجدر الإشارة إلى مسألةٍ هامة في هذا البحث، وهي أنه لا يمكن نفي وجود الطبيعة بمعناها العام عند «تيغ آكام»، أي لا يمكن أن يقال: إنّ «مؤونة البرهان»([15]) هنا ملقاة على عاتق الذين يؤمنون في موضوع خاص بوجود أو واقعية هذا النوع من الأشياء، وإن الذين لا يقولون بهذا الأمر وينفون وجوده أو واقعيته ليسوا بحاجةٍ إلى إقامة الدليل على مدّعاهم؛ وذلك لأن (تيغ آكام) يقول بأنه لا يمكننا أن نزيد في عدد الموجودات دون دليلٍ على ذلك. وليس في القول بوجود الطبيعة في معناها العامّ زيادة في شيء. فلو قال أحدهم: إن للحداثة طبيعة بمعناها العام، وإنها ليست سوى علم حديث وفلسفة حديثة و…، فإنه لن يضيف شيئاً على عدد الموجودات؛ لأنه أراد توفُّر الحداثة في جميع هذه المفاهيم.
وبعبارة أخرى: ثمة طريق واصل بين الذاتية الأرسطائية (essentialism) والاختزالية (reductionism)، وهو عبارة عن القول بوجود الطبيعة حسب المعنى العام للكلمة. فنحن لا ننكر أبداً وجود جملة من المفاهيم الموجودة ضمن ذهنية العقل البشري، وقد ولدت نتيجة لافتعال الهويّة ووضعها لمَنْ لا هوية له، إلاّ أن وجداننا هو دليلنا الوحيد في أن مفاهيم الدين والكلاسيكية والحداثة ليست كذلك، كما نعتقد بأنّه لا دليل متوفر على نفي أو إثبات ذلك، إلاّ الوجدان نفسه.
إن القول بوجود الطبيعة هنا هو الذي سيسمح لنا بالتحدُّث عن ذاتيات ومكونات الدين، وذاتيات أو مكونات الحداثة أيضاً. وهذا ما قام به الدكتور سروش في مواضع ومناسبات أخرى، وأجاد حينها. كما يمنحنا هذا الرأي أيضاً إمكانية نفي النسبية في المقولات الهامّة، كالعقلانية، ومعارضة الاختزال الفقهي أو الذبح الإسلامي للمفاهيم والمقولات الحداثوية([16]).
ولا منافاة بين نفي الهوية أو الماهية حسب المفهوم الأرسطائي والكلام عن الذات والمكونات؛ لأن الكلام عن الذاتيات والمقوّمات يقتصر على افتراض وجود أو واقعية الطبيعة أو الماهية بمعناها العام.
ووفقاً لما تقدّم من ملاحظات تتّضح لدينا أيضاً بعض الملابسات التي تكتنف أحاديث باحثين آخرين، من قبيل ما جاء في كلام للسيد رحمن بوذري، حين كتب يقول: «ماذا نعني بالـ «كلاسيكية»؟ وماذا نعني بالـ «حداثة»؟ فهل هما عبارة عن واقعيين (fact)، وحدثين حاصلين (event)، وظاهرتين من الظواهر (phenomenon)، أم أنهما عبارة عن مجرّد مفهومين (concept)؟ فهذا القدر من التحديد أمرٌ في غاية الخطورة.
إن مَنْ يقتات على إبقاء الإبهام والإيهام في هذين المفهومين تحت مظلّة الكل والكلية لن يسمح أبداً بوضع ملامح محدّدة للمفهومين. فأولئك الذين يتخوَّفون من ركود تجارتهم إذا ما تكلَّم أحد عن انتزاعية هذين المفهومين، وتهميش كل النقاشات والجدليات الدائرة، لن يقبلوا أبداً بالتلاعب بأساس المسألة… فهم يفترضون ـ سَلَفاً ـ بتصريحاتهم مبدأ الكلية على نحوٍ من التقابل…، إلا أنه لم يتّضح بعد أين سيتحقّق ذلك التقابل؟ هل هو بين مفهومي الكلاسيكية والحداثة، أو بين ظاهرتيهما، أو بين…؟ إذاً لا مناص من تحديد أيٍّ من الكلاسيكية والحداثة نريد؟…
إن للظواهر وجوهاً متعدّدة، تبين المفاهيم قسماً منها، لكنّنا كلما اتّجهنا نحو المفاهيم الكلية كلما تجاهلنا عدداً أكبر من تلك الوجوه. ولعل من الأفضل أن نترك المفاهيم الكلية، ونتمسك بوجوه محدّدة ومفهوم خاصّ. إن مفاهيم «الكلاسيكية» و«الحداثة» لهي أعمّ من أن تكون حلاًّ لرفع جانب من التناقضات الموجودة. فليس عندنا شيء كلّي اسمه «الكلاسيكية»، أو «الحداثة». وإنما نحن أمام خليط من التقاليد والتجارب الحديثة…. تمثِّل الكلاسيكية أمراً منسوخاً مبتذلاً منشأه الماضي وحَسْب. وإنّ مقارنته بالحداثة، وتقابله معها على نحو من الكلية، جاء نتيجة لأيديولوجيات منحازة لأصل القضية؛ لكي يعود ذلك بالنفع على أولئك الذين يجعلون من قبيل هذه الآراء الكلية وسيلة لزيادة الجالسين تحت منابرهم، ولإقامة المؤتمرات والندوات أو المناظرات و…. فالسؤال الأهمّ هو: ما هي الكلاسيكية؟ وما هو معنى التجربة الحديثة في الحياة؟
وقد تضمَّن هذا الكلام أيضاً ملابسات ومبهمات عديدة، تحتاج إلى الإيضاح والتفصيل:
أولاً: أمّا التساؤل عن تحديد وجهة الاستفهام عن علاقة الكلاسيكية بالحداثة إذا كان عن أمرين واقعيين، أم حدثين متحقّقين أو ظاهرتين أو مفهومين، فهو جديرٌ بالاهتمام، وغاية في الأهمّية، إلاّ أن مَنْ طرح التساؤل هذا كان قد افترض ـ سَلَفاً ـ وجود هوية محدّدة لكلٍّ من «الكلاسيكية» و«الحداثة»، فعنى بسؤاله «نوع» تلك الهوية، وليس أصل وجودها.
ثانياً: إن هذا السؤال متشعّب الأطراف. وإذا عملنا بكلام الكاتب في توجيه سؤالنا عن الكلاسيكيات والحداثات، بدلاً من الكلاسيكية الواحدة والحداثة الواحدة، فإنّنا لن نجيب أيضاً عن ذلك التساؤل، وإنّنا لم نحدِّد بعد ما إذا كانت تلك الكلاسيكيات والحداثات أموراً واقعية، أم أحداثاً أو ظواهر أو مفاهيم.
ثالثاً: نحن عندما نتحدّث عن الكلاسيكيات والحداثات فإننا كنا قد افترضنا لها هوية محدّدة بين مصاديق الكلاسيكية من جهة، وبين مصاديق الحداثة من جهة أخرى، وإلاّ فما هو المبرِّر العقلاني في إطلاق عنوانٍ أو مفهوم ما على أمور منفصلة تماماً عن بعضها البعض؟!
رابعاً: يقول الكاتب: إن مفاهيم الكلاسيكية والحداثة أعمّ من أن تكون حلاًّ لقضيتنا، في حين يدّعي أيضاً أنّه ليس لدينا شيء كلي وعام اسمه الكلاسيكية أو الحداثة؛ لكي نسأل عن العلاقة القائمة بينهما. فهل يوجد أمر كلّي باسم الكلاسيكية والحداثة، لكنّه غاية في الكلّية بما لا طائل من تحديده، أم لا يوجد ذلك إطلاقاً؟
خامساً: هل أن معنى كون المفهوم انتزاعياً يستلزم ـ حقّاً ـ التكسّب واستقطاب التلامذة وإقامة المؤتمرات والندوات؟ أليس الأصل في المفاهيم ـ جزئية وكلية ـ أن تكون انتزاعية، ولا وجود لها إلاّ في الذهن؟ وحَسْب الكاتب نفسه فإننا عندما نتكلم عن شيءٍ ما، أو نفكر فيه باطناً، لا مناص ولا تملُّص يعترينا من توظيف بعض المفاهيم.
صحيحٌ أنّه كلّما اتّجهنا نحو المفاهيم الكلية تجاهلنا ـ عملياً ـ خصائص المصاديق لتلك المفاهيم، لكنْ ليس هناك مفهوم بإمكانه استيعاب جميع خصائص الشيء. كما أن المفاهيم الجزئية نفسها لا تعكس جميع خصائص مصاديقها. هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى فإن هذا الموضوع أصلٌ في إدراك الحقيقة ومعرفتها: «لولا الحيثيات لبطل العلم». فالمهمّ من الأمر هو ما مدى قيمة تلك الخصائص المشتركة المتبقّية في دلالات المفاهيم الكلية؟ وما هو جدوى التعرُّف عليها؟ وهل يمكن ـ أصلاً ـ تجنب معرفتها؟ فجرِّبوا أنتم، واقصروا الطرف عن الكلاسيكية والحداثة، ثم طبِّقوا فكرة الكاتب هذه على موارد متشابهة. فعلى سبيل المثال: هل يصحّ أن يُقال: لا تتطرَّقوا لذكر الإنسان في معرض دراسته؛ لأن هذا المفهوم انتزاعي وكلي لا يجدي لنا نفعاً، سوى التكسُّب والاقتيات. وعليه استبدلوا ذلك بالكلام عن زيد وعمر وبكر؟
هل يمكن الادّعاء باستغناء البشر عن معرفة الحقائق العامة عبر تحصيل المفاهيم الكلية؟ نعم، يمكن الادّعاء بأنه لا يوجد لدينا شيءٌ اسمه «الكلاسيكية» و«الحداثة». وعليه لا يصحّ السؤال عن علاقة بينهما. لكنّ هذا الادّعاء يحتاج إلى دليل. وليس الدليل من خلال التذرُّع بالكلية أو الانتزاعية، أو الدعوة إلى تجنُّب التعميمات ومقاطعة الأيديولوجيّات، وغير ذلك من التُّهَم التي وجَّهها الكاتب إلى الآخرين. فهذا كلّه من قبيل المصادرة على المطلوب.
كذلك نؤيّد تأكيد الكاتب على ضرورة الاهتمام بخصائص المصاديق الفردية في الكلاسيكية والحداثة، لكنْ ليس بالحدّ الذي سيلقي بنا في الهاوية. وبعبارة أخرى: لا بُدَّ في بحث العلاقة بين الكلاسيكية والحداثة بحثاً صحيحاً من تسليط الضوء على المفهوم الكلي لتلك العلاقة، مضافاً إلى رصدها على صعيد مصاديق الاثنين. وهذان المجالان ليسا من قبيل «مانعة الجمع». ولا لغو أو عبث في تقصّيهما. كما لا يعني تحصيل النتائج في أحدهما منع الباحثين من متابعة التحقيق في المجال الآخر.
يبدو لنا أنه لا صلة لما قدَّمه الكاتب من استدلالات بالموضوع. فإذا كنا غير مقتنعين بما يقدِّمه الآخرون من حلول للأسئلة المطروحة فهذا لا يعني أن نذهب إلى التشكيك في أصل تلك الأسئلة وموضوعها، أو تقليص حجمها واستبدالها.
الهوامش
(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) مصدرنا الوحيد في ذلك هو شبكة الإنترنت.
([2]) الدكتور سروش، «دين در دوارن مدرن به كجا مي رود؟»، صحيفة (شرق)، الأحد 29 مرداد 1385هـ.ش: 20. يُراجع أيضاً: الحوار الذي أجرته معه الصحيفة ذاتها تحت عنوان: «أز إسلام هوية تا سياسه عرفي»، الأربعاء 25 مرداد 1385هـ.ش.
([3]) من هنا فصاعداً سيكون لفظ «الماهية» هو الهوية بالمعنى الخاصّ للكلمة، وسيكون لفظ «الطبيعة» دلالة على المعنى العامّ لها.
([5]) يصطلح على التعريف المذكور في كلام الدكتور سروش بالتعريف بالإشارة، أو التعريف بالمصداق، إلا أن العدول من التعريف الماهوي أو الذاتي إلى التعريف بالإشارة لا يستلزم ـ في حدّ ذاته ـ نفي الذات والماهية، غير أنه لا يتحقّق بدون افتراض الطبيعة بمفهومها العام.
([6]) وكما أحسن القرآن في ذلك حين قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (النجم: 23).
([8]) بعبارة أخرى: إن الاستدلال على نفي الهوية والذات عن الأشياء هو نفسه دليل على وقوع القائلين بالذات والهوية في فخّ المغالطة.
([9]) يقول الدكتور سروش: على أولئك الذين يدعون إلى إحياء الحضارة الإسلامية أن لا ينسوا أن تلك الحضارة هي عبارة عن جسدٍ وروح، وأن روح الاسلام التليدة لا يمكن إحياؤها إلاّ في المعطيات المعرفية، أمّا التمسُّك بجسمٍ بَدين وروح مُجْهدة فهذا ما يذكرنا بقصة سليمان الهامد على العصا تأكلها دابّة الأرض.
([10]) انظر: محاضراته بعنوان: «دين ودنياي جديد»، سنة وسكولاريسم، (طهران، صراط).
([13]) بل إن نفي الطبيعة بهذا المعنى ـ في رأينا ـ موجبٌ لإلغاء الفكر، والقول بالتشكيك في أعلى مستوياته. ولذا نحن نتردَّد في نسبة هذا الرأي إلى الدكتور سروش، وإنْ وُجد في أحاديثه ما يدلّ عليه.
([14]) بناءً على ذلك لا يمكن أن يقال ـ بذريعة انتزاعية مفهوم الحداثة ـ بأنّ النـزاع الناتج عن تفاعل تركيب عناصر الدين مع عناصر الحداثة هو نزاع لفظيّ، ولا قيمة له فلسفياً.
([15]) راجِعْ: مقال رائع للدكتور سروش، بعنوان: «ذهنية مشوش، هوية مشوش»، إينك در أخلاق خدايان: 157 ـ 174، (طهران، 1380، منشورات طرح نو).