طالما كان خط الافراط والتفريط حاكما على طول التاريخ ، خاصة على مستوى الآراء التي تستقرئ النص بأدوات علمية ، وتستنبط الأحكام من أدلتها الظنية ، وكانت العدالة النفسية من عناصر الحضور الخامل والنادر ، وهو ما يمكن استقراؤه من المناهج والمسارات الموجودة عبر التاريخ .
ومن الملاحظ أن الهدف الرسالي هو آلي أكثر منه غائي ، كونه سبيل وطريق لهدف أسمى وهو رضا الله ، وكون الرسالة مودوعة في رحم الحركة ومرتبطة بها ارتباطا عضويا وظيفيا ، يترتب بهما وعليهما سويا احراز الاثر الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع.
فأي دعوة تكتنز العلم لا يتبعها تطبيق وعمل ، فهي دعوة تبقى في فضاءات بعيدة لا يمكنها إحرازها لأثر حقيقي في محيط الفرد والمجتمع .
فالعلم يهتف بالعمل وإلا تركه وارتحل كما ورد في الأثر.
فمجتمعانتا منقسمة بين أهداف رسالية باتت غاية في ذاتها ، لكنها مفرغة من الحراكية التطبيقية ، وتدور في طاحونة التنظير والتبليغ فقط ، رغم ما للتبليغ من أهمية كبيرة لكن أهميته تكمن في كونه محركا بالأفكار إلى مشاريع عمل تنفذ وتطبق كي تحول المجتمع تدريجيا لمجتمع موحد، ليتحول إلى تبليغ عاطل عن العمل .خاصة مع عدم التزام كثير من المبلغين الرساليين بأغلب ما يدعو إليه ويطرحه ، وهو ما يناقي الآية الكريمة : ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون”
البقرة ٤٤
وهي غاية في الصراحة في مقصود خطابها والفئة المستهدفة بها.
وبين أهداف حركية لكنها فارغة من المحتوى الرسالي التأسيسي الأصيل ، هو مجرد حراك كمي يقوم به أفراد يملكون عزما وعقلا وقّادا بالأفكار ، وحيويةً فذة، أي هم طاقات لكنها واقعا طاقات مهدورة وعاطلة عن التنظير ، خلاقيتها للأفكار عالية لكنها أفكار لا تخضع لمبضع التنظير والتشذيب والتقريب من الواقع وانزالها بعد ذلك باليات صالحة للتطبيق، أفكار تخلط الحق بالباطل ، والغث بالثمين ، تحتاج غربلة تدمج بين النص والعقل بأدوات أصيلة ومنهج متقن له مراجعه الفكرية والمنهجية.
حيث قال الله في محكم كتابه : ” الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا “
الكهف ١٠٤
“وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون “
الأحزاب ٨٠
هذا الحراك الكمي غالبا أفراده لا يمتلكون الأهلية الحقيقية في قيادة المشاريع المثمرة واقعيا ، كون قراءة مجموعة كتب والمشاركة بمجموعة مؤتمرات ووجود مجموعة مشاريع لا تعتبر معيارا حقيقيا وواقعيا منفردة في قياس أهلية الفرد ، بل المعيار الكيفي لابد أن يجتمع مع الكمي وليس العكس ، في تقييم أهلية الأفراد للقيام بنهضة المجتمع على كافة الأصعدة ، كون كل منا له مرتبة وجودية ترتبط بوعاءه وقابليته ومدى إدراكه للحق والحقيقة .
وقد ورد في الأثر النهي عن تصدي غير الأهل بوجود من هو أهل للتصدي.
فالكيف هو المعيار الحاكم واجتماع الكم والكيف هو نور على نور في تقييم الكفاءات الموجودة .
إننا نحتاج لرسالية حراكية منتجة وان لم تحرز ثمارها على المدى القريب ، لكن إن كانت أهليتها عالية ومنهجيتها سليمة مستوية على صراط مستقيم ، فإن ذلك حتما سينتج ثمارا وإن كان على المدى البعيد .
فالمطلوب في ذاته ليس العمل والتبليغ ، وإنما إحراز رضا الله ، والرسالية الحراكية سبيل إلى هذا الرضا ، وكي نهتدي السبيل لابد أن تكون أدواته ومنهجه مستويا على الصراط المستقيم ، ويكون مقترنا كيفه بكمه وقوله بفعله ومحرزا للعدالة على كافة المستويات ، ومعتدلا لا يميل إلى الافراط ولا إلى التفريط.
فلا تبليغ رسالي دون حركية هادفة لتحقيق ملكوت السماء على الأرض ، ولا حراك أرضي دون توسله بالرسالية الملكوتية السماوية كمنهج يستقيم عليه .
أما انتشار ثقافة الكم الحراكي لمجرد إثبات الذات التي جبلت على حب العمل ، فإن النتائج ستكون عكسية كما في التبليغ المتجرد من أي حراك تطبيقي رسالي .
فالرساليةالحركيةتتطلبضوابطلتضبطإيقاعهاوفقأسسسليمةتحفظلهاتحقيقغايتهافيرضااللهبتوسلآلياتومنهجسليم .