في حوار مع تلميذه الشيخ حيدر حبّ الله(*)
المكانة العلميّة للسيد الشاهرودي في النجف
بدايةً، هلّ بيّنتم لنا المكانة العلميّة للمغفور له آية الله الشاهرودي في الحوزة العلميّة في النجف، ومتى تعرّفتَ شخصيّاً على سماحته؟
الجواب: تعود معرفتي بالأستاذ الجليل السيد محمود الهاشمي الشاهرودي رحمه الله إلى أواسط عام 1995م (1374هـ. ش)، حيث تشرّفت بالحضور في درسه في الفقه والأصول، ولم يكن لديّ اطّلاع مسبق على شخصه الكريم إلا من خلال أعماله العلميّة من قَبل، مثل كتبه: «بحوث في علم الأصول» و «كتاب الخمس» وأمثال ذلك.
إنّ السيد الهاشمي الشاهرودي يحظى منذ قديم الأيّام بسمعة طيّبة ومرموقة في الوسط الشيعي في العالم العربي، ولهذا كانت أعماله العلميّة، منذ تقريرات بحوث أستاذه الشهيد الصدر في علم الأصول محلّ حضور واهتمام، وكانت هناك أجيال من طلابه اللبنانيّين والعراقيّين وغيرهم ممّن تركوا انطباعاً إيجابيّاً حسناً وكبيراً عنه لدى عودتهم من العراق أواخر السبعينيّات أو أوائل الثمانينيّات من القرن الماضي، فكانوا ينقلون الكثير عن نبوغه ومكانته في درس أستاذه الشهيد الصدر، ومدى احترام هذا الأستاذ له وتقديره.
هذه الصورة التي كوّنتُها عن سماحته قبل مجيئي إلى الجمهوريّة الإسلامية في إيران، كان لها دور في حماستي الشخصيّة للحضور في درسه، والاستفادة من علمه، منذ الأيّام الأولى لحضوري إلى الحوزة العلميّة في قم.
أنشطته العلميّة قبل تولّي السلطة القضائيّة
كيف كانت نشاطاته البحثيّة والعلميّة في قم قبل تولّيه رئاسة السلطة القضائيّة عام 1999م؟
الجواب: رغم الانشغالات السياسيّة والجهاديّة التي كانت لسماحته في أوائل الثمانينيّات من القرن العشرين عند مجيئه إلى إيران، لكنّ ذلك لم يمنعه من التصدّي للجانب العلمي والحوزوي بجدارة، وأذكر أنّه ـ رحمه الله ـ أخبرني ذات يوم أنّه في بدايات حضوره في قم، وافتتاحه درسه الخارج، أراد أن يعطي دروساً في الفقه الجزائي والجنائي في الإسلام، منظّمةً على معايير البحوث القانونيّة المعاصرة اليوم في العالم، وكان قد استعان لأجل ذلك بكتاب التشريع الجنائي الإسلامي للدكتور عبد القادر عودة، وهو من الكتب العربيّة المهمّة في هذا المجال، لقد كان همّه ـ رحمه الله ـ أن يعيد فهرسة وتنظيم كلّ البحوث المتعلّقة بأبواب الحدود والقصاص والديات وأمثالها، ضمن تنظيمٍ قانونيّ جديد يتناسب مع الحياة المعاصرة، ويستجيب لمتطلّبات وجود دولةٍ إسلاميّة، تحتاج لمستوى عالٍ من التنظير القانوني، لهذا قام بإعادة رسم خارطة كاملة لهذا البحث، واشتغل بتدريسه عدّة سنوات، لكنّه ووجه ببعض العوائق، الأمر الذي اضطرّه لإيقاف البحث، والانتقال إلى كتاب الخمس.
وبحثُه ـ رحمه الله ـ في الفقه الجزائي والجنائي موجودٌ الآن، وكان هو في السنوات الأخيرة بصدد إكماله كي يقوم بطباعته، لكنّ الظروف وضغط الأعمال العلميّة وغيرها، لم تسمح له بذلك، رغم أنّه قد اُجريت على هذا الكتاب الكثير من الإصلاحات وتقويم النصّ، وغير ذلك.. نأمل أن يصار إلى إخراج هذا الكتاب القيّم وطباعته ليستفيد منه الباحثون في مجال الفقه والقانون، في قضايا مهمّة جداً للمجتمع والدولة الإسلاميّين.
إنّ الذي يبدو لي بشكل واضح جداً من خلال مسيرته ـ رحمه الله ـ أنّه كان مهتماً بنقل الفقه من مرحلته التقليديّة إلى مرحلة الاستجابة لمتطلّبات العصر الحديث.
تأسيس دائرة المعارف الفقهيّة، ودورها في تطوير الفقه الإسلامي
حبّذا لو تحدّثونا عن مسار تأسيس دائرة معارف الفقه الإسلامي وأهدافها وفعالياتها وأنشطتها، فأيّ موضوعاتٍ أو ملفّات تعالج هذه الدائرة العلميّة؟ وما هي الحاجات التي يستجيب لها هذا العمل البحثي والتحقيقي؟ وهل كان لسماحة آية الله الخامنئي دورٌ في تأسيس هذه المؤسّسة فقط أو أنّه كان له ارتباط متواصل معها بعد ذلك؟
الجواب: يعود تأسيس دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام لأكثر من خمس وعشرين عاماً مضت، كانت الفكرة المركزيّة عند سماحته ـ بإلفاتٍ وتوجيه من الإمام الخامنئي حفظه الله ـ أن يواكب الفقهُ أساليب التدوين الحديثة اليوم في العالم، ونحن نعرف أنّ العلوم المختلفة دخلت منذ فترة طويلة مرحلة تدوين المعاجم والموسوعات ودوائر المعارف وغير ذلك، والهدف من هذه الموسوعة أو دائرة المعارف تسهيل الفقه على الباحثين من جهة، ونقله إلى مرحلة جديدة من جهة ثانية.
كانت الفكرة المركزيّة هي تطوير الفقه الإمامي، لكنّ دائرة المعارف لا تقف في مشروعها عند الفقه الإمامي، بل قد اتخذت طريقها إلى الفقه المقارن بين المذاهب الإسلاميّة أيضاً، وكان هذا من الأمور التي دوّنت في أعمال هذه المؤسّسة الكبيرة، ولهذا شرع سماحته بموسوعة الفقه المقارن منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، وصدر منها حتى الآن العديد من المجلّدات.
تقوم دائرة المعارف بتنظيم الفقه على أساسٍ ألفبائي، وتضمّ الآلاف من المصطلحات والعناوين الفقهية، وهي لا تقوم فقط بشرح المصطلح على الطريقة المعجميّة، بل تدرس أيضاً كلّ البحوث الفقهيّة في التراث الفقهيّ الإمامي منذ ولادته وإلى اليوم، مستعرضةً الأفكار والنظريّات والمناقشات المتصلة بالعنوان أو المصطلح. إنّ قيمة موسوعةٍ من هذا النوع لا تقف عند حدود عرض الفقه الإمامي لطلاب العلوم الدينيّة، بل أهميّتها الأكبر تكمن في إيصال صوت هذا الفقه لطلاب القانون أيضاً، بل ولطلاب العلوم الدينيّة من المذاهب المختلفة، كي يتسنّى لهم الاطّلاع على منجزات الفقه الإمامي في هذا المضمار.
وبهذا تتمكّن مثل هذه الموسوعة من سدّ حاجاتٍ كثيرة، فالوصول إلى موضوعاتٍ فقهيّة اليوم في التراث الإمامي أمرٌ صعب، لا يعرفه غير المختصّين بل وأحياناً بعضهم، فيما هذا النوع من الموسوعات يسهّل على الباحثين في مختلف الاختصاصات الوصول إلى الموضوعات الفقهيّة في كلّ العناوين. وميزة هذه الموسوعة أنّها حاولت قدر الإمكان أن تضع مختلف العناوين، لكي تذكر ضمنها كلّ البحوث الفقهيّة حتى لو كانت هذه العناوين حديثة جداً ومعاصرة، فلمعرفة رأي الفقه الإمامي في قضايا مستحدثة يمكن الرجوع إلى العناوين الواردة في هذه الموسوعة لقضايا المستحدثات، والاطّلاع من هناك على النظريّات الإماميّة في هذا المجال.
الحاجة الأخرى التي تسدّها هذه الموسوعة هي التنظيم، إنّ السيد الهاشمي الشاهرودي كان يمتاز في نفسه وفي بحوثه بتنظيمٍ عالٍ جداً، وقد تركت شخصيّتُه العلميّة المنظّمة هذه تأثيراً كبيراً على هذه الموسوعة، وعلى مختلف أعماله العلميّة، لهذا تهتمّ هذه الموسوعة بسرد الأفكار وشرح المصطلحات، والمعنى اللغوي، وكذلك تمييز النظريّات عن بعضها، وذكر عناصر تشابهها وتمايزها، وكذا تمييز المصطلحات عن بعضها؛ لكثرة ما يقع الباحث في خلط بين المصطلحات فيتصوّر مصطلحان فقهيّان على أنّهما مصطلح واحد أو على أنّهما متباينان، فيما هما متداخلان أو مشتركان في نسبة معيّنة مثلاً، ويحتاج الأمر إلى دقّة لغويّة أو فقهيّة عالية أحياناً للتمييز الدقيق بينهما دون الوقوع في خطأ، الأمر الذي تكفّلت هذه الموسوعة بالاهتمام به، فهذا التنظيم للبحوث، من المعنى اللغوي، إلى المصطلحي، إلى تمييز المصطلحات، إلى عرض الموضوعات المتصلة بهذا العنوان والمصطلح بشكل مرتّب، بعد جمعها من مختلف أبواب الفقه الإسلامي، وعرض النظريّات داخل هذه الموضوعات، وعرض المناقشات داخل هذه النظريّات بشكلٍ متسلسل موثّق وعلميّ.. هو أمرٌ في غاية الصعوبة، وقد قام السيد الهاشمي الشاهرودي بهذه المهمّة الجليلة عبر سنوات طويلة، باذلاً جهده واهتمامه العالي رغم كثرة مشاغله وأعماله.
وإلى جانب دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وكذلك موسوعة الفقه المقارن، أصدرت مؤسّسة السيد الهاشمي مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام باللغتين العربيّة والفارسيّة، وهذا إنجاز كبير في الحوزة العلميّة في ذلك الوقت الذي كانت فيه فكرة المجلات والنشريّات البحثيّة قليلة جداً في الميدان الفقهيّ. والاهتمام بفكرة النشريّات والمجلات البحثيّة في مجال الفقه، يعني أنّ هناك إحساساً بالحاجة لتناول القضايا العصريّة في الفقه بشكلٍ حديث، يمكنه أن يستجيب لمتطلّبات المرحلة الراهنة.
ولا يفوتني أن أذكر (مركزَ الغدير للبحوث والدراسات) في بيروت، والذي أسّسه رحمه الله قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً، ليكون منبراً فكريّاً في العالم العربي، وقد كانت تُعقد فيه باستمرار الندوات الفكريّة والبحثيّة التي يشارك فيها الحوزويّون والجامعيّون ومن مختلف الطوائف الإسلامية، ويُعتبر مثالاً للحوار بين المذاهب من دون سبابٍ أو شتائم أو تفريقٍ بين المسلمين أو فتنة. وقد أصدر هذا المركز عشرات الكتب، والعديد من النشريّات والمجلات المرموقة، مثل مجلّة المنهاج البيروتيّة التي تعتبر من المجلّات الحسنة الصيت في العالم العربي.
عن منهج السيّد الهاشمي في تدوين البحوث العلميّة
كيف كان منهج السيد الشاهرودي في تدوين المقالات والبحوث؟
الجواب: إذا كنتم تقصدون مقالاته الشخصيّة التي غالبها كان ينشر في مجلة فقه أهل البيت، ثمّ نشر قسم كبير منها لاحقاً في كتاب تحت عنوان (قراءات فقهيّة معاصرة)، فإنّ من ميزات مقالاته ـ رحمه الله ـ هو الآتي:
أوّلاً: اختيار الموضوعات الحسّاسة والعصريّة التي تمثل سؤالاً إشكاليّاً وتواجه تحدّياً معيناً، فمثلاً مسألة ضمان انخفاض قيمة النقد، موضوع بالغ الأهميّة والحساسية، وكذلك موضوع إرث الزوجة من العقار، ومسألة الهلال والأفق، ودور وليّ الأمر في القصاص، وغير ذلك.
ثانياً: كان ـ رحمه الله ـ يميل بطبعه إلى اختيار الموضوعات التي تمثل تحدّياً قانونيّاً في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، ومن ثمّ كان همّه إيجاد حلول فقهيّة لمعضلة قانونيّة تواجهها التجربة الإسلاميّة، دون الخروج عن قواعد الاجتهاد الصارمة.
ثالثاً: كان يتميّز في بحوثه بكثرة التخريجات الفقهيّة والمحاولات الفقهيّة لوضع حلول، فيبتكر من نفسه في بعض الأحيان سلسلة من الحلول الفقهيّة ويناقشها بالتفصيل، وهذا يدلّ على غزارة عقله في طرح الفرضيّات، ثم بيان بل ابتكار الأدلّة على الفرضيّات، ثم ذكر المناقشات على هذه الفرضيات نفسها، وهذا أمرٌ يختلف عن مجرّد التمسّك بعامٍ أو مطلق من كتابٍ أو سنّة هنا أو هناك، وإنهاء البحث عبر هذه الطريقة المختصرة، كما يفعله بعض الكتّاب، وكان دائماً يؤكّد على ضرورة أن لا تُدرس مستحدثات المسائل بطريقة مستعجلة، بل يعمل الفقيه على التأمّل فيها من جوانبها المتنوّعة.
ابتكارات السيد الهاشمي في مشروع دائرة المعارف، ومدى تأثير ذلك في فقه النظام
ما هي ابتكارات آية الله الشاهرودي في مؤسّسة دائرة المعارف وفروعها وأقسامها؟ هل يمكننا القول بأنّه قد بُذل جهد فيها لانطلاقة مشروع فقه النظام؟
الجواب: لا أعتقد بأنّ دائرة المعارف يمكنها أن تكون كافية لتكوين فقه النظام، لكنّها بالتأكيد حلقة في سلسلة تصل في النهاية إلى تحويل الفقه إلى فقه عصري أكثر، وإلى فقهٍ قادر على أن يستوعب مختلف جوانب الحياة اليوميّة للفرد والجماعة والدولة والحياة السياسيّة والاجتماعيّة، فعندما ينهض الفقه من مرحلة البحث في مسائل الأفراد، لكي يتناول قضايا عصريّة تخصّ الأمّة والدولة والحياة العامّة، فهو يقترب من التفكير في وضع منظومات فقهيّة ونظام فقهي كامل.
لقد كان سماحة السيد الهاشمي الشاهرودي متأثراً جداً بأعمال اُستاذه الشهيد الصدر؛ لهذا كان يطمح للبحث في فقه النظم والنظريّات، لكنّ الظروف لم تكن تُسعفه للحديث عن ذلك، ولا أخفيكم بأنّه كانت لديه في مجالسه الخاصّة شكوى من أنّ هذا النوع من البحوث ما يزال غير مرحّب به بالقدر الكافي في الحوزات العلميّة، رغم مسيس الحاجة إليه من وجهة نظره.
ولعلّ من أبرز الكتب التي أعتقد شخصيّاً بأنّ سماحته كان ناظراً فيها لوضع الفقه ضمن منظومة الدولة والمجتمع عموماً هو كتاب الخمس، فالسيّد الاُستاذ الهاشمي الشاهرودي رحمه الله كان في هذا الكتاب يقترب كثيراً من وضع ضريبة الخمس ضمن سياق مشروع النظام الإسلامي، ولهذا لو تلاحظون كيف أنّه أفاض كثيراً في الحديث عن قضيّة سهم السادة وسهم الإمام، وتحليل حقيقة سهم الإمام، وأنّ القضية لا تكمن في شخص الإمام المعصوم، بل تكمن في منصب الإمامة، ونجده في مختلف فصول هذا الكتاب يحاول أن يصل إلى هذه النقطة بربط مباحث فقه الخمس بقضيّة النظام الإسلامي العام، واستخراج قراءة فقهيّة شاملة للخمس في ضوء هذه الرؤية.
عندما عاد سماحته من السلطة القضائيّة وشرع بدروسه مجدّداً في الحوزة العلميّة في قم، اختار كتاب الزكاة، وهنا سألته عن سبب اختيار هذا الباب، فأجابني ـ فيما أجاب ـ بأنّ فقه الزكاة والنظام الضريبي عموماً ضعيف الاهتمام به في فقهنا الإمامي في الفترة الأخيرة، وعلينا أن نحيي هذا النوع من البحوث المهمّة في العصر الحاضر.
هل أخذ السيّد الشاهرودي موقعه الطبيعي في المحافل العلميّة في إيران؟
هل أخذ السيّد الهاشمي موقعه الطبيعي في المجامع العلميّة في إيران أو لا؟ وهل لدائرة المعارف موقعٌ في العالم الإسلامي اليوم؟
الجواب: إذا أجزتم لي، فإنّني أعتقد بأنّ سماحة السيد الهاشمي رحمه الله لم يحظَ بموقعه الحقيقي، ولم يُعرف كما ينبغي حتى في الأوساط الحوزويّة، لا أقول ذلك لأنّه اُستاذي المفضّل، بل لأنّني أرى الأمر على هذه الشاكلة، ولعلّ لذلك بعض الأسباب، فدروس الخارج التي شرع بها منذ عودته إلى الجمهوريّة الإسلاميّة كانت باللغة العربيّة، وقد استمرّ هذا الوضع إلى تسلّمه السلطة القضائيّة تقريباً، ومن الطبيعي أن لا تُعْرَفَ دروسه بشكلٍ كامل في هذا السياق نتيجة حاجز اللغة، لكنّنا رأينا كيف أنّ سماحته بعد عودته إلى قم من السلطة القضائيّة، وفتحه دروسه العليا باللغة الفارسيّة، رأينا كيف تحوّل درسه إلى واحدٍ من الدروس الكبيرة في الحوزة العلميّة في قم.
أضف إلى ذلك أنّ مدرسة السيد الشهيد الصدر، ليست معروفةً كثيراً في الحوزة العلميّة في قم، وقد بدأ الانتباه إليها مؤخّراً بجدّية أعلى، وقد كان أحد أهداف السيد الشاهرودي أن يُعرّف الحوزة العلميّة بجميع تياراتها بالمدرسة الفقهيّة والأصوليّة للسيد الصدر، كان يحمل هذا الهمّ منذ بدايات تسلّمه للسلطة القضائيّة حسب ملاحظتي الشخصيّة، ونظراً لأنّ هذه المدرسة تحتوي على منظومتها الخاصة ومصطلحاتها وتقسيمها للبحوث الأصوليّة، لهذا يغدو فهمها صعباً في بعض الأحيان على من لم يأنس بها ويخوض في عبابها وبحارها، وربما لذلك تأخّر الوقت قليلاً لكي يكون اسم السيد الهاشمي مطروحاً أكثر في الفضاء الحوزويّ في قم، لكنّ دخوله مجال السلطة القضائيّة وفتحه دروسه في طهران وقم باللغة الفارسيّة سهّل كثيراً معروفيّته في الأساط العلميّة رحمة الله عليه.
دور السيّد الهاشمي وأخلاقيّاته في عمل دائرة المعارف الفقهيّة
هل لكم أن تضعونا في صورة حول طريقة عمل السيّد الشاهرودي في مؤسّسة دائرة المعارف؟ كم من الوقت كان يعطي لهذه الموسوعة بأقسامها وفروعها؟ وكيف كانت أخلاقيّاته في مجال العمل؟
الجواب: في البدايات كان السيد الشاهرودي يعطي وقتاً طويلاً لدائرة المعارف، لأنّ مرحلة التأسيس كانت شاقّة؛ إذ التجربة فريدة، ولم نعهد شيئاً مثلها من قبل، وكان يقول دائماً بأنّ علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين الذين سبقونا في هذا المجال، مثل بعض الموسوعات عند أهل السنّة، وكان يركّز على الاهتمام بالمجال القانوني أيضاً، وشيئاً فشيئاً تحوّلت الأمور إلى شكل منظّم، وصار سماحته يراجع المقالات والبحوث التي تُكتب من قبل الباحثين والمحقّقين، ويضع عليها الاستفهامات والملاحظات والانتقادات والإضافات.
الشيء الذي يلفتني أنّ السيّد الشاهرودي رحمه الله كنّا عندما نسلّمه مجموعةً من المقالات الفقهيّة في الموسوعة، كان يأخذها معه ثمّ يرجعها مليئةً بالأفكار ويضع ملاحظات عدّة، والأهمّ أنّه كان يزيد الكثير من الأفكار ويُسهب أحياناً بعدّة صفحات في سرد تحليلٍ فقهي يضيفه إلى صفحات هذه الموسوعة، وأعتقد أنّكم لو اطّلعتم قليلاً على أرشيف دائرة المعارف سوف ترون شيئاً مدهشاً حقاً، فحجم حضوره العلمي في تقويم المقالات، والإضافة عليها، والتغيير الموسّع، وتحليل خارطة البحث، وتقديم وتأخير العناوين، كان هائلاً، خاصّة في الفترات الأولى من العمل، فلم يكن ـ رحمه الله ـ مجرّد مشرف من بعيد أو يعتبر نفسه في منصب تشريفي، بل كان بالفعل متابعاً وقارئاً لكلّ صفحات البحوث تقريباً، ومساهماً فاعلاً في تدوين هذه الموسوعة التي رأت النور على يديه وببركة أعماله الصالحة التي نسأل الله تعالى أن يجزيه عليها خير جزاء المحسنين.
الأمر الآخر الذي لاحظته أنّه لم يكن يجامل في الموضوع العلمي، كان عندما ينتقد مقالاتٍ بحثيّة في الموسوعة أو غيرها، لا يمارس المجاملة إطلاقاً، بل عادة ما كان صريحاً واضحاً وحاسماً، حتى بعض المصطلحات والعناوين الفقهيّة الصغيرة التي لا يوجد فيها كلمات كثيرة عند الفقهاء، لم يكن يمرّ عليها أو يترك ملاحظةً فيها انطلاقاً من مجاملة، حتى أنّ بعض الإخوة الأفاضل كان يعتبره صارماً جداً في نقده للبحوث، وهذا يدلّ على مدى جديّته في إصدار موسوعة فقهيّة حقيقيّة تحظى بقيمة علميّة في المحافل الاجتهاديّة والقانونيّة، وليس موسوعةً شكليّة الهدف منها فقط وفقط تكثير المجلّدات والاهتمام بالجانب الإعلامي.
بين السيّد الشاهرودي ومشروع النظام الإسلامي
لقد جاء السيّد الشاهرودي إلى إيران لمساعدة الثورة الإسلاميّة بتوصيةٍ وتوجيه من السيد الشهيد الصدر، فماذا كانت رؤية السيّد الصدر للدولة الإسلاميّة؟ إنّ السيد الهاشمي كان واحداً من أولئك الذي تركوا كرسيّ التدريس في قم تلبيةً لحاجات الثورة الإسلاميّة فتحمّل مسؤولية السلطة القضائيّة، فكيف كانت نظرته لتحمّل مسؤوليّات الدولة الإسلاميّة والقبول بهذه الوظيفة وتعامله معها؟
الجواب: إنّه من البديهي أن نقول بأنّ السيد الشاهرودي رحمه الله كان يعتبر النظام الإسلامي ومشروع الحركة الإسلاميّة والدولة الإسلاميّة من أولى الأولويّات التي يجب الحفاظ عليها والدفاع عنها، وكان يعتقد بأنّه من الضروري أن لا تغيب المرجعيّة الدينيّة والمؤسّسة الفقهية عن التعاون التامّ مع هذا النظام في مختلف المجالات التي يحتاجها لتطوّره وتناميه لما هو الأفضل والأحسن. وكلّ من يقرأ بحوث سماحته المختلفة ومحاضراته المتفرّقة يدرك أنّ الفقه عنده يتعاضد لتشكيل رؤية منظوميّة سياسيّة ـ اجتماعيّة، كما أشرتُ لذلك قبل قليل، ولهذا كانت لديه تصوّراته الخاصّة في قضيّة الأعلميّة ومفهومها وحقيقتها والعناصر التي لابد أن تدخل فيها، فلو أردنا أن نحلّل هذا المفهوم فهو واضح عنده في علاقته بالوعي السياسي والاجتماعي وبالإدارة الإسلاميّة للمجتمع، وكذلك الحال في رؤيته لمن يتولّى استلام الأموال الشرعيّة، وهذا ما نجده ينعكس في مختلف كتاباته الفقهيّة.
إنّ تجربة السيد الشاهرودي تؤكّد أنّه كان يرى أنّ الحوزة العلميّة ـ رغم الاعتقاد باستقلالها واستقلال المرجعيّة الدينيّة ـ لا يصحّ منها تجاهل النظام الإسلامي ومتطلّباته، فضلاً عن معاداته، فلابدّ للفقهاء من الاشتغال على القضايا التي تمثل مشاكل عالقة قانونياً في فقه الدولة الإسلاميّة، وأن لا يتعاملوا بجفاء مع هذا الأمر، هذا ما لمسته واضحاً من كتاباته ولمسته في لقاءاته الخاصّة أيضاً. كانت هذه قناعاته العميقة وكان أداؤه العملي منسجماً مع هذه القناعات.
لعلّ بإمكاني أن أقول إنّ الرجل رحمه الله كان نسخة عن أستاذه السيد باقر الصدر في هذه النقطة ومتأثراً به جداً، فقد تفاعل فكريّاً وتنظيريّاً مع مشروع الدولة الإسلاميّة من جهة، في الوقت الذي تفاعل فيه عمليّاً وميدانياً مع هذا المشروع قبل وبعد انتصاره من جهة ثانية.
(*) نصّ الحوار الذي أجراه الموقع الرسمي للإمام السيد علي الخامنئي مع الشيخ حيدر حبّ الله، بتاريخ: 4 ـ 2 ـ 2019م. وهذا هو رابط الحوار باللغة الفارسيّة على الشبكة العنكبوتية: http://farsi.khamenei.ir/others-dialog?id=41533