" أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن الله تعالى جعلها رحمةً لأمتي، فمن استشار منها لم يُعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا"…
من المعلوم أن قواعد الإسلام سمحةٌ حاضنةٌ لكل الأساليب القيمية العملية المتحركة في كافة ميادين الحياة، والشورى مبدأ أساسي يشمل كل مواقع الفكر والعمل في المجتمع الإسلامي، وهي منهجٌ عملي للوصول إلى ما فيه الصلاح والإصلاح، كما أنها وسيلةٌ للبحث عن السبل الكفيلة بتنظيم القدرات وتطويرها وتنميتها.
لقد اختلف العلماء حول إذا ما كانت الشورى دستوراً عمليا شاملاً في كل القضايا السياسية، لكن الأكيد أن الله سبحانه وتعالى خصص لها سورة باسمها في المصحف المبين، وهي التي وردت في السياق القرآني في أكثر من موضع.
يقول الله تعالى 🙁 والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)..ليس من محض الصدفة أن ترد الشورى بين ركنين أو أمرين من الأمور الدينية الواجبة في الإسلام، والتي تتمثل في الصلاة أولاً، والإنفاق ثانيا"، فالحديث عنها هنا هو ذو شقين: الأول عبادي يتعلق ببناء الشخصية الإيمانية وتزكية النفس، والثاني عمليٌ حياتي، يتعلق بالأمور العامة فيما يخص المجال الإقتصادي وبناء الدولة ونظام الحكم… ومن هذا المنطلق، تمثل الشورى خط السلامة في حركة المجتمع الإسلامي، ليس على مستوى القاعدة فقط فحسب، بل على مستوى القيادة أيضاً، إذ يُطلعنا التاريخ على نماذج كثيرة استعمل فيها الصالحون-من موقع القيادة الذي يمثلونه- هذا المبدأ، فاستشارتهم لغيرهم تمثل أسلوباً انتهجه هؤلاء ليتبع المسلمون منحاهم، لما في ذلك من منفعةٍ لهم وللإسلام، ولما تؤدي له من انفتاحٍ على الآخرين، واجتنابٍ للكثير من الزلل، وجمعٍ للقلوب وتأليفٍ بينها على العلم والخير والإيمان…، وليس أدل على ذلك استشارة النبي (ص) لسلمان الفارسي في معركة الخندق، والشورى الواضحة في حديث النبي سليمان مع النملة. وهكذا، فإن وجوب طاعة ولي الأمر لا تمنع من توجيهه إلى الأخذ بالشورى في إصدار قراره، وذلك ما أمر الله به نبيه (ص)، عندما قال له: (وشاورهم في الأمر،فإذا عزمت فتوكل على الله)، فالأمر بالمشاورة ينطلق من الخط العام، بعيداً عما إذا كان النبي محتاجاً لذلك في الواقع الخارجي أم غير محتاجٍ له. ثمَّ إن الإسلام يرفض الإستبداد، حتى أنه أراد من خط المعاضة في الإسلام أن يتحرك على أساس أن يكون نوعاً من الشورى التي تقدم للحاكم النصيحة من موقع الإخلاص للقاعدة الإسلامية، بحيث لا يكون أسلوب التعبير عن الرأي أسلوب التهديم والإضعاف، بل أسلوب الإصلاح والتعاون…
وفي المقلب الآخر، ورحمةً بالطفل، يأمر ذاك الدين المحمدي الأصيل أن تتشاور الأم مع الأب قبل أن يُقررا فصله عن الرضاعة:(فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ أو تشاورٍ منهما فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف)، فتتسرب هنا الشورى إلى داخل الحياة الأسرية لتنظمها ولتؤدي بها إلى الصلاح. رجل يشاور أحداً إلا هُدي إلى الرشد". وعن علي (ع): "من استيد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها".
في الواقع، مهما بلغ الإنسان من درجاتٍ عاليةً في العلم، فإنه كلما تواضع لذاك الأخير أكثر، كلما أخذ فرصاً أكبر لتطوير علومه. والتواضع يتمثل في عدم استبعاد الأشخاص عن عالم الشورى، لأن الإنسان يبقى دائماً –نظراً لطبيعته المحدودة- يحتاج إلى آراء الآخرين، حتى تتكشف له الزوايا المختلفة للموضوع الذي يفكر فيه أو يعمل به..ولكن المفارقة هنا هي صوابية اختيار الشخص الذي يستشيره. وفي هذا السياق، يوصي الرسول الأكرم (ص) عليا (ع): "يا علي، لا تشاور جباناً فإنه يضيّق عليك المخرج، ولا تشاور بخيلاً فإنه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنه يزين لك شرهاً". ويقول علي (ع): "لا تستشر الكذاب، فإنه كالسراب، يقرب لك البعيدن ويبعد لك القريب"..
حرِيٌ بنا أن نتحرك في مواقع الحياة بعقلية المنفتح الخالي من العقد النفسية، والذي يقرأ في اليوم مائة كتاب وألف تجربة في بضع ساعات…إنها المشورة: عالمٌ من اختصار الوقت والتجارب، وعوالم من المعرفة..