ترجمة: عبد الهادي الموسوي
مدخل ـــــــ
تلمع في سماء الفلسفة والفكر بين الفينةِ والأخرى أسماء، ويُعدُّ الدكتور غلام حسين إبراهيمي ديناني من هذه الأسماء اللاّمعة، فهو من أساطين الفلسفة وأعلام الحكمة. انتحل علومه على أيدي جهابذة المعقول وفحوله، كالعلامة الطباطبائي الذي لا يزال ديناني واقعاً تحت تأثير جاذبيّته المعنويّة، وغيره من العلماء الأعلام.
إنّ نتاجات هذا العملاق في تاريخ الفلسفة الإسلاميّة ودوره يتعسّرُ استيعابهما في هذه العُجالة، إلاّ أنّه لا يفوتنا أن نُذكّر بأنَّ تجاهل أو تهميش دور ونتاجات ديناني في حقول المعرفة يعدّ مجانية لروح البحث والأمانة العلميّة، ومحاولةً لحجب الشمس بغربال، وها نحن نجري هذا الحوار معه.
نقد المنهج العرفاني وعقلنة التجربة الدينية ـــــــ
- يحظى موضوع التجربة الدينيّة عند متألهي الغرب بأهميّة فائقة، والأمر عينه في الشرق؛ حيث دوّنَ العرفاء الكثير حول السير والسلوك أو الشهود والتجربة العرفانية، وقد أكّد كلا الاتجاهين على أهمّية البعد العملي في الدين، المفكّرون الإيرانيون المعاصرون بدورهم أولوا هذا البحث بالغ العناية والاهتمام، غير أنّكم صببتم جُلَّ اهتمامكم على البعد العقلي في الدين، ودافعتم ـ وبشكل متواصل ـ عنه، فما هو سرّ تأكيدكم على هذا البعد؟ وهل ترتسم في ذهنكم معالم مشروع حول التجربة الدينية والعرفان؟
لي أنأتساءل ـ قبل أن أجيب ـ هل قرنُكم للعرفان بالتجربة الدينيّة ضمن حديثكم عنها، قائمٌ على أساس أنّ التجربة الدينيّة عند المفكّرين الغربيين تعادل الشهود والعرفان الإسلامي؟
يكتنفُ هذا الأمر الغموضُ وتحوطه الضبابية؛ إذ لا تبدو الحدود الدلاليّة لهذا التعبير دقيقةً وواضحة؛ فهل تنطبق التجربة الدينيّة على العرفان الإسلامي أيضاً؟ لا ندري.. فلعلّ التجربة الدينيّة هي الكشف والشهود ولعلّها شيءٌ آخر! إذ ربما تكون حصيلة الصبر والمرابطة في مراحل تهذيب النفس وبنائها، فالإنسان ـ ومن خلال تهذيب النفس ـ قد يَرقى إلى مقام الكشف والشهود، كما يشير العرفاء إلى ذلك، مثل ابن عربي وغيره؛ وقد تكون حالة تحصل لأيِّ شخص؛ وأرى ضرورة تحديد الزوايا الدلاليّة لهذا المفهوم ورشّه بالنور لينجليَ عنه ما يشوبه من الضبابية والغموض.
إنّني لا أنكر التجربة الدينية، سواء بمعناها المتداول عند الغربيين أم عند عرفاء الشرق، لكنّ التساؤل الذي ينقدح في ذهني هو: أنّ الإنسان صاحب التجربة الدينيّة أو من عاش التجربة الشهوديّة الذاتيّة في باطنه ـ مع كون هذه التجربة وهذا الشهود أمراً شخصيّاً ذاتياً ـ هل هناك آليّة تخرج هذه التجربة عنده من حيّزها الشخصي الصرف الضيّق لتضعها في متناول أيدي الآخرين؟
بل وحتى في مرحلة ما قبل انتقالها للآخرين، هل هي بالنسبة لمن يعيشها ذات معنى محدّد في أفق معرفته الذهنية؟ وإن لم تك ذات معنى واضح له ولا يستطيع تفسيرها للآخرين، إذاً فهي في الواقع أمرٌ لا معنى له! وما لا معنى له لا يمكن أن يكون منطقاً لأيّ شيء.
أمّا إذا كان لهذه التجربة الجوّانية الباطنية معنىً ولو بالنسبة لمن يعيشها، فبوسعه تفسيرها وتصور معنىً لها ثمّ إدراك ما هو لون هذه التجربة، وما هي غايتُها وطبيعة الآثار المترتبة عليها؟ وهنا يصبح قادراً على نقلها للآخرين؛ إذ إنّه من البديهي بمكان إمكان تعميم التجارب بعد أن تتبلور في الذهن وتنجلي معالمها وترتسم لها صورة محدّدة الأبعاد.
وبعد أن تتمتع التجربة بهذه الخصائص والمقوّمات، تتحوّل تلقائياً إلى مفردة في قاموس المعاني العقليّة، ولكن بأيّ معنى تدخل ضمن نطاق المعقولات؟
لقد دخلت بوصفها ممكنة الإدراك والتصوّر من جانب العقل، وكذلك ممكنة التفسير، ولصاحبها أن يحدّد منطلقها ويوضّح آثارها وحجم تواصلها أو قطيعتها مع باقي التجارب، وله إطلاق آلاف الأحكام عليها، وهذا يعني صيرورتها أمراً معقولاً ذا معنى.
وحركة التكامل المراحليّة هذه لا تقتصر على التجارب الجوّانية، بل تتعدّاها لتشمل كذلك البرّانية الحسيّة منها.
إنني أجزم بسبق الفرضيات الذهنيّة على الممارسات العمليّة التجريبيّة، سواء أكان ذلك في الخارج الميداني أو داخل المختبرات المختصّة mالتي تعتمد ظروفاً قياسيّة معينةn، إنّ التجارب ـ وبأشكالها المختلفة ـ تقوم على هذه الجهود الذهنية الخالصة، بل هي التي تكمن وراء نشوء التجارب وظهورها، وانبثاق الممارسات الميدانية بأشكالها المختلفة. إنّه لا يتسنّى لأحد ولوج عالم التجربيّات والاختبارات دون فكرة ذهنيّة مسبقة، أو فرضيّة قبلية، إنّك تقتحمُ عوالم الشدّ والجذب التجريبيّ بحافزٍ تختبىء العقلانيةُ وراءَه، بل إنّك تبحث عن شيءٍ ما هو الذي يقودُك إلى اقتحام هذه العوالم.
وبعد إجراء التجربة والاختبار والخروج بنتيجة عمليّة لابدّ من دراسة هذه النتائج العمليّة وتحليلها وتوضيحها على ضوء المعطيات العقليّة، هذا في التجربة الحسيّة البرّانيّة، وهو بعينه ينطبق على التجربة الباطنية الذاتيّة، نعم يمكن في التجربة الباطنيّة أن يُستغنى عن الفرضيات القبليّة، إنني أقبل هذا؛ ومعه يكن الفرق بين التجربة الجوانيّة والتجربة البرّانيّة في الفرضيات الذهنيّة التي تسبق التجربة حيث يمكن الاستغناء عنها في التجربة الجوّانية.
ولا ترتسم ملامح التجربة الباطنية إلاّ بعد أن تقطع شوطها التكاملي داخل الباطن الإنساني، وهنا أتساءل: ماذا تعني لي هذه التجربة الباطنيّة؟ وبماذا تهمس؟ إن التجربة تحاورك وعليك أن تستنطق أغوارها العميقة، وبمجرّد أن تتحاور مع هذه التجربة ويتبلور لديك معنى محدّد حولها فهذا يعني أنّك تتعاطى مع العقل، ويعني أيضاً أنّ العقل هو الذي منح هذه التجربة معنى ودلالة، وإذا لم يحاور العقل هذه التجربة ولم يستنطقها ستبقى بلا دلالةٍ ولا معنى، دون أن يترتّب عليها أثر يُذكر؛ فتمسي بمنزلة الأمر العدمي.
ولي أن أسجّل هنا توضيحاً بالغ الأهمّية موطّئاً له بتساؤل، هو: أيُّ شهودٍ وأيّ تجربة دينية أعظم من الوحي؟ فالوحي يُحدث صيرورةً باطنيّة صرفة، حتى وإن تلقّاه النبي 2 بالإفاضة من جبرئيل %، لكن العمليّة برمتها تحدث داخل قلب
النبي 2، سواء عند هبوط جبرئيل بالوحي أو عندما يكون بلا واسطة ـ إذ تلقّي الوحي له أقسام لسنا الآن بصدد تفصيلها ـ كيفما تصوّرنا نزوله فهو صيرورة باطنيّة وحركة جوّانية ذاتية، وحسب الاستدلال الآتي: إنّ جبرئيل % لما كان ينزل بالوحي على قلب النبي 2، لم يكن أحد ـ غير النبي 2 ـ يدرك هذا الأمر أو يتلقى هذا الإيحاء، مهما قرب من النبيّ وحتى لو كان مرهف السمع، لقد كان النبي يتلقى الوحي بمفرده ولوحده، وهذا يعني أنّ العملية كانت تتمُّ في الباطن، إنّ الوحي أرفع من شهود العارف وأدقّ وأبلغ من تجربة المؤمن الغربي؛ لأنّه أكمل تجربة يمكن أن تحدث في الباطن الإنساني.
عندما يتلقى النبيّ الوحي وتنفعل به ذاته المطهرة يتبلور ضمن القوالب اللفظية فيبرزه النبيّ ويبيّنه، وهو عبارة عن هذه النصوص الدينية التي بين أيدينا منذ ألف وأربعمائة سنة، والمتمثلة بالقرآن الكريم، وكلّ نص ديني آخر فهو كذلك سواء كان الإنجيل أو التوراة أو أيّ كتاب مقدّس آخر تكوَّن عن طريق الوحي الإلهي، ولا بدّ من تمتّع هذا الوحي بمعنى معقول، وإلاّ فلا يمكن أخذه بالقبول والرضا.
وقولي: إنّ هذه الرسالة معقولة معناه عدم وجود تناقض فيها، نعم، ربما تتعالى صيحات العرف ويصرّح باستهجانه لقراءتنا هذه للوحي، لكننّا لا نكترث به عند هذه الأعماق؛ لأن الثابت هو جريان التعاطي مع الوحي بوصفه أمراً معقولاً.
إنَّ ما أخبر به النبي 2 الناس وادّعى أنّه حاكم ومهيمن على المجتمعات البشرية إلى الأبد أمرٌ معقول، بمعنى أنّ العقل يدركه؛ إذ الإدراك والفهم وظيفة العقل، أي الفهم العقلاني لا الفهم الواقع تحت تأثير الهواجس والأحاسيس، كما أنّ الفهم المعقول يعني الذي لا يشوبه تناقض، وبناءً على هذا، فالنبي يدرك ويفهم الوحي ثمّ يترجمه للآخرين وفق هذه الشروط وبهذه الخصائص، وهذا ما ينسجم ويتناغم مع ما تبنّيناه سلفاً من أنّ العقل الذي نتحدّث عنه هنا من الممكن أن يسموَ على المنطق الأرسطي أو أيّ منطقٍ آخر، ولا أعني أن ينحو منحىً مخالفاً، بل أن يتسامى ويتألّق فوق تجلياته، مهما كان لونها وعمقها.
إنّ المنطق الأرسطي غير مسؤول عن تكبيل العقل وتقييده؛ فأنت إذا لم تُردْ أو تشأ أن ترقى إلى ما هو فوق المنطق الأرسطي وتسموَ عليه فستبقى حبيس أغلاله، إنّك بنفسك تقيّد نفسك وتعقلها، أمّا العقل فلم يقيّد نفسه، بل اعتبر هذا تجليّاً من تجليّاته أو رشحةً من وجوده ومن عالمه الكبير، والمنطق الأرسطي أو أيّ منطق آخر هو تجلٍّ للعقل لا نهايةً له! فليس العقل أسير هذه الرشحة أو هذا التجلّي، نعم، إذا كنت أنتَ أسيراً له فاستنقذ نفسك من الأسر، وأعِر سمعكَ للعقل؛ فهو يهتف أنني تجلّيت ثم حلّقت للأعالي، فلستُ أسيرَ تجلّياتي، وإذا أردت أن تتمسّك فتمسّك بالعقل المفارق لتجليّاته المتسامي عليها نحو المطلق.
ولست أعني أن الرتبة التي أنت عليها غير متعقّلة أبداً، بل هي معقولة؛ لأن ما هو منطقيّ معقول في حدّ نفسه، وكذلك القوانين الرياضيّة معقولة على هذا المستوى، والعقل يتجلّى بكلّ هذه الصور لكنّه لا يجمد عليها، بل ينطلق إلى الأمام إلى أن يبلغ المقامَ الذي يدرك به الوحي، ولو كان الوحي أمراً غيرَ معقولٍ لما أدركه العقل ووعاه، إنني في الواقع أتحدّث عن عَقلٍ بهذه الشروط والميّزات.
وبناءً على هذا، تكون خلاصة كلامي كالآتي: إنّ كلّ من يدّعي التسامي في التجربة الدينيّة أو بلوغ مقام الشهود والمكاشفة، ينبغي أن يُستَفهَم عمّا تبلور لديه من معنى حولهما، وإذا كان فعلاً قد تبلور لديه شيء فلابد أن يستجليَ ملامحه ويُرسِّمَ حدوده، ثم يبرزه للآخرين ويُبديه، وهو ما لا يتمّ قطعاً إلاّ عن طريق اللغة، فلسانُ المرء ترجمان عقله، من هنا فما لا عقل له لا بيان لديه، والجمادات لا لغة لها، كما الحيوانات mوأعني هنا اللغة المتعقَّلةn.
فإذا كانت التجربة الدينيّة معقولةً ذات معنى، فهي ذات قيمة فائقة، أمّا إذا لم تكن كذلك ولم تكن مفهومةً ولا ذات معنى، فلا قيمة لها عندي إطلاقاً، هذه هي رؤيتي على الإجمال.
هل العقل عاجز عن الوصول إلى الله؟! ـــــــ
- بعد أن اتضح لدينا أنّ ما يتمتّع بمعنى ودلالة واضحة من التجربة الدينيّة والكشف والشهود هو موضع رضاكم، نعود لنتساءل: هل قدرة الجهد العقلي تساوي في معطياتها قدرة التجربة الدينيّة؟ وهل يمكن بلوغ المطلق عن طريق العقل والاستدلالات العقليّة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ معطيات تجربةٍ دينيّة واحدة تفوق حصيلة جهود سنين من الجهود العقليّة المثابرة؟
بدءاً، ليس الأمر كما تذهب، فدعوى أنّ الاستدلالات الفلسفيّة لا توصل إلى الله تعالى دعوى غير تامّة على إطلاقها؛ فالكثير من هذه الاستدلالات يفتح الآفاق أمام المتأمّلين والمسترشدين، وقد يتفق أن لا تتمتّع الاستدلالات بهذه الخصوصيّة، وهذا يعني أنني أقبل هذا الادعاء على نحو الموجبة الجزئيّة، فليس كل من تفلسف وصل إلى الله تعالى؛ فالكثير يتفلسفون ولا يصلون، وبالمقابل لا يحصى عدد من فُتِحت أمامه الآفاق ووصل.
ثمّ ماذا يعني القول: إنّ الفلسفة والاستدلالات العقليّة لا تضاهي التجربة الدينيّة في عطائها؟ وعلى أي معيارٍ وقاعدة استندوا في حكمهم هذا؟
لقد قلت: إنَّ التجربة الدينيّة إذا لم يتبلور لها معنى في ضوء العقلانيّة فلا قيمة ولا وزن لها، وهو أمرٌ واضح لا يحتاج إلى كثير بيان؛ ألا يُراد لها الإسفار عن صورة الإله؟! فإن أجبت بصيرورة معنى له سبحانه فهو غير ميسّرٍ إلاّ في نطاق العقل، وإلاّ بقيَ إلهك بلا معنى، نعم، إن كان هذا الأمر لا يضيرك فلا اعتراض لديّ، لكن إلهلك يُمسي أوهنَ من الصنم؛ لأن الصنم له معنى على أقلّ تقدير، ومعه نعود ونقول: لابدّ من أن تسفرَ هذه التجربة عن معنى في نطاق العقل كي يسعك ادّعاء إدراك الإله أو أن تقول: وضعتُ يدي على شيء يقرّبني منه.
إنّ القراءة السيئة للفلسفة هي التي تكمن وراء هذا الفهم المغلوط؛ فعندما أتكلّم عن الفلسفة لا أعني أن تجلس في زاويةٍ تائهاً في شعاب صغرى وكبرى الفلسفة التقليديّة، هذه فلسفة، لكنّها تمهيد ليس إلاّ، لقد أشرت فيما تقدّم إلى تسامي العقل وتعاليه، الفلسفة هي العقلنة والإنسان فيلسوفٌ بالفطرة، إنّه في حالة تفلسفٍ دائم، من لا يطيقُ كلمة mالفلسفةn له أن يستبدلها بما شاء مثل mالعقلانيّةn، فالإنسان يتعقّل الأمور ويمنح ذاته معنى ودلالة. صحيح إنّ علمي بذاتي حضوري، لكنني باللاشعور أضفي على ذاتي معنىً ما ودلالة ضمن نطاق العقل؛ إذ لا يمكن أن يكون لي تأثير وفاعلية في حضوري المحض، والله تعالى كذلك إذ لو لم يُوح ولم يُواترْ رسلَه ويؤمّن أواصر ارتباطه مع خلقه لما كان لأحد أن ينعم بعطاءاته المادية والمعنويّة.
إنني أشكّل ـ بالتعرف على نفسي ضمن إطار العلم الحصولي والعقلنة ـ نواةً أمدّ من خلالها أواصر ارتباطي بالآخرين، بل إنني أعرف نفسي من خلال إشراقة نور الغير عليها، وحتى لو آمنتُ بأنني أتحقّقُ وأوجد بالحضور، إلاّ أنّني لا أمنحُ وجودي تأثيراً وفاعلية إلاّ من خلال تبلورِ معنى لي، ولا يمكن ذالك إلاّ في نطاق العقلانيّة.
- كيف تتلقّون المقولة السينويّة حول mالإنسان المعلّق في الفضاءn؟
رغم أنّ الإنسان المعلّق فرضٌ، لكنّه صحيح، وكما مرّ فطالما لم يتمتّع بصيرورة معنويّة ويشكّل له ما بإزاء معنوي فلن يكون له تأثير وفاعلية تُذكر حتى يتحقّق له معنى في نطاق العقل، ثمّ يتسنى له أن يقيم علاقاته ويدرك معنى السعادة والشقاوة ومعنى الحقّ تعالى وكلّ ما يعنيه.
استكمال الإنسانية مقولة وجودية صحيحة ـــــــ
- هل يعني هذا أنّك تتفق مع الوجوديين القائلين بأنّ الإنسان لا يستكمل إنسانيّته إلاّ من خلال تماهيه في النوع الإنساني؟
هذه المقولة في منتهى الصحّة، وأتفق معها تمام الاتفاق، وطبقها نلاحظ الأنبياء يؤكّدون على جهتهم الخلفيّة وأنهم جزء لا يتجزء من المجتمع الإنساني، من هنا لا أتفق مع ذلك العارف الذي يقول: إنّني لو كنت مكان الرسول 2 حين أسري به إلى السماء لما عدت إلى عالم الدنيا بل لمكثت في المحلّ الأعلى!! فهذا بنظري اشتباه كبير؛ لأن ذلك المحلّ هو مقام غيب الغيوب، ولو أنّ رسول الله 2 مكث ولم يعد إلى دار الدنيا، لما تمكّن من إحداث كلّ هذا التغيير، ولم يتسنّ لأحدٍ الحظوة بكلّ هذه البركة والتأثير؛ إذ ينقطع الارتباط به ويمتنع التواصل معه والانتفاع بوجوده المقدّس، ولو للمؤهّلين لذلك، وهذا ما تناولناه سابقاً من أنّ التكامل الوجودي يتحقّق بالخروج من الحضور المحض عبر انعقاد المعنى، ولا يتحقق هذا الانعقاد إلاّ في نطاق العقلانية التي هي منطلق المعرفة والتواصل مع الآخرين والتأثير والتأثر فيهم وبهم.
- وفق أيّ معياريّة يتحدّد انعقاد المعنى؟
لا أخفي ما تنطوي عليه الإجابة من تعقيد وإشكالية؛ حيث إنّ تحديد المعيارية من المباحث الفلسفيّة العميقة التي تحدّدت فيها وجهات نظر وآراء المناطقة الوضعيين مثل، فتنغنشتاين، وكواين، وآخرين؛ حيث تقاطعت الرؤى وتلوّنت، ولست بصدد بحث هذه الآراء هنا، وما أراه أنّ كل ما انطلق به البيان فهو ذو معنى، أيّ كل ما حملته السياقات اللغوية من دلالات مفهومة، بغض النظر عن صدقها وكذبها، فحتى الدلالة الكاذبة هي ذات معنى؛ لأن كون الشيء ذا معنى منفصل تماماً عن مطابقته الواقع أو عدمها، فملاك الصدق والكذب شيء وملاك المعنى شيء آخر، ومعه فما أراه ملاكاً هو ما يبرز ضمن السياقات اللغوية، مشكّلاً مادّة الخطاب الدلاليّة المعبّرة.
ما هو العقل ؟ ـــــــ
- نعود مرةً أخرى لنتساءل عن حقيقة العقل إكمالاً لما بدأناه، فما هو العقل؟
العقل نورٌ والإنسان في الواقع نورٌ أيضاً، وهذا ما تبنّاه شيخ الإشراق السهروردي، أمّا اليوم فنسمع دعواتٍ مخالفة، كما يرى التفكيكيون أنّ النفس الإنسانية مظلمة، ويعتبرون النفس الناطقة محضَ ظلمةٍ غير مدركين خطورة هذا الاتجاه؛ فالظلمة المحضة لا تتمكّن من معرفة ذاتها فضلاً عن غيرها، أو التواصل معه! إنّ النفس الإنسانيّة لا تتحقق كينونتها إلاّ بمعرفة الله تعالى، يقول شيخ الإشراق: النفس نور، ولو لم تكن نوراً لما استطاعت الارتباط بنور الأنوار.
أنا لو كنتُ ظلمةً محضة لما استطعتُ إدراك نور الأنوار.
غير أنّ هذا النور أحياناً يكون ضئيلاً وأحياناً مغيّباً.
وما أهدف إيضاحه هنا هو أنّ ذات الإنسان نور، ونورانيته بمعنى عقلانيّته؛ لأنّ النور ظاهرٌ بنفسه مظهرٌ لغيره، وهذه هي ميزة العقل، ثمّ إنك تتساءل عن أمر هو مثار اهتمام الجميع، لكنّني ـ وقبل الإجابة أو تعريف العقل ـ أتساءل عن الآليّة أو الوسيلة التي بواسطتها أعرّف العقل؟ ماهي يا ترى؟
أقول: هي العقل نفسه؛ لأنّه لا يُدركُ إلاّ بنفسه! إلاّ أنني هنا وإن حدّدت الآلية والأداة التي أعتمدُها في تعريفه، لكن ليس بوسعي تعريفه حتى أستجلي هذا الأمر، وهو أنّه ومهما كانت الكيفية وكيفما عُرِّف العقل، مَن يا ترى أرفع وأسمى: العقلُ المعرِّفُ بالكسر أم العقلُ المعرَّفُ بالفتح؟ لا شكّ أنَّ العقلَ المعرِّفَ بالكسرِ أسمى من العقل المعرِّف بالفتح؛ لأن التعريف تسامٍ وأيّ تعريفٍ يتبنّاه العقل أسمى منه وأشرف، وبما أننا وجدنا عالم العقل واستشرفنا آفاقه الرحبة فليكن معلوماً أنّ العقل هو الأداة الوحيدة التي تمنحني قدرة استكشاف حقيقة الوحي؛ إذ إنّه ـ ودون إدراك حقيقة العقل ـ ليس بوسعي ادّعاء الإيمان! فأنا لست قدّيساً، إذ يقول القدّيسون: mنؤمن لأنّنا لا ندركn، إنني غير قادر على الإيمان بما لا معنى له، أو ليس بوسعي إدراكه وفهمه، بل لا أعتبر الإيمان الذي لا يقوم على الفهم والمعرفة إلاّ عادةً أو استدراجاً.
مقولة عجز اللغة عن استيعاب التجارب الشهودية، وقفة نقديّة ـــــــ
- دعنا نتساءل عن بعض الملفّات الغامضة، فقد بينتم أنّ الشهود والتجربة الدينيّة يلزمهما تنقيحٌ متقن لمعنييهما، وفي الجهة المقابلة يقف من يقول: إنّ الألفاظ ـ مهما شُذّبت وصقلت ـ عاجزةٌ عن تجلية المعاني وإنارتها، بل ربّما تتسبّب بضبابيةٍ أكبر، فما هو تعليقكم على ذلك؟
ليس الأمر كما يُدّعى؛ إذ ليس هناك مفاهيم بلا ألفاظ تظهر من خلالها وتعرف بها، هل تستطيع طرح مفهومٍ واحد مجرّد من قالبه اللفظي؟! ولنفترض أنني عشتُ تجربةً باطنيّة انكشف لي خلالها وشاهدت ملاكاً على مستوى مذهلٍ مدهشٍ من الجمالِ يتعذّرُ وصفه وتصويره، وأردّت أن أحدّث بما شاهدت وأبيّن تجربتي الباطنيّة هذه، فلا يمكنني ذلك إلاّ باقتباس مثالٍ حسيّ أكشف به عمق تجربتي الجوّانية الباطنيّة وأبعادها، وهذا معناه أنّني لا أكشف عن المعاني التي عشتها كشفاً تاماً بل الكشف ناقص، ورغم هذا فقد بيّنت ما شاهدت، وحتى لو قلت: إنني أعجز عن وصف ما رأيت، فهذا بنفسه وصفٌ له وتبيين، وأنا أفهم ما بيّنت، وذلك الجمال مهما بلغ سحراً وجاذبيّة ليس سوى ما بيّنت وأسميت.
أمّا ما يرتبط بالأحكام الجاهزة التي تُطلق من هنا وهناك على التجربة الباطنية، فلا تعدو كونها أحكاماً جزافية لا تستند إلى دليل ولا تقوم على برهان؛ إذ من أين لك استكشاف حقيقة ما أدركه في باطني؟! فكما لا علم لي بما في نفسك، كذلك أنت لا علم لك بما في نفسي، فلا تملك القول بانّك فهمت أم لم تفهم، فالمطلوب في هذه المرحلة هو البيان، وحتى لو قلت: إنني أدركتُ ما لا يسعني وصفه فهو بيان، وإن تصورته خلاف ذلك. وهنا إن كانت لي تجربة سابقة مماثلة أيّدت كلامَك وإن لم تكن لدي مثلها قلتُ: إنّك خصب الخيال.
- هل لي أن استعمل هذه التعابير في أكثر من مناسبة؟
هذا يتوقّف على مصداقيّتك؛ فإن كنت صادقاً فلك ذلك بلا ريب.
- كيف لو انكشفَ لي وشاهدت آلاف الملائكة الذين يغشى جمالهم الأبصار ولا يحيط بهم الوصف ولا يوجد أدنى فرق بينهم؟
حتّى على هذا التقدير ليس ثمّة محذور، والكلام المتقدّم يجري هنا بعينه دون فرق، إنّك أدركت وبيّنت وأنا فهمت ما قصدت، فما تراه أنت من انتفاءِ الفرقِ بينها لا أراه أنا، بل إنني أعتقد بوجود مائزٍ بينها؛ إذ لولاه لما استطعتَ إدراك أنّها بلغت الآلاف عدداً، ولأنّك أدركت وكنت صادقاً في إدراكك فبوسعك أن تبيِّن وبوسع الآخر أن يفهم ذلك.
ثمَّ إني أتساءل: هل تجربتُك أعمق من تجربة الرسول الأكرم 2 الذي >دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى<، ومع هذه المكانة الخاتميّة التي تنحسِر عنها كلُّ الأوصاف فقد بيّن النبي ذلك كلّه.
إنَّني لا أعرف ـ وعلى أقلّ التقادير ـ من وجهة نظر عقائديّة تجربةً أسمى أو أرفع من تجربة النبيّ 2، وليس لأحد أن تسمو تجربته الباطنيّة على تجربة النبي؛ لأنّه خاتم الأنبياء والمرسلين، ورغم أنّ تجربة النبي كانت الأشدّ والأعمق بفرديتها وذاتيتها، لكن مع هذا كلّه نقلها وبيّنها، وإنّما أعدُّ نفسي مسلماً على هذا الأساس العقلاني الرصين الذي يتمتّع به الإسلام.
فإن قلت: إنّ التجربة الذاتيّة يتعسَّر بيانها، قُلت: على أيّ أساس اعتقدت وآمنت؟
إنّ النبي يترجم هذا الحدث الباطني الشخصي الصرف بعد أن يتبلور ضمن العمق العقلاني في نفسه المقدّسة، فيترجمه بلغةٍ يفهمها الجميع وبالألفاظ التي يتداولونها ليثير كوامنهم؛ إذ إنَّ حركة الإنسان التكاملية تقع من الباطن على الظاهر، إنّ الباطن الإنساني ـ وفق تعبير حافظ الشيرازي ـ mسرّ الأسرارn؛ إذ لا يطّلع عليه إلاّ الإنسان نفسه، وكما يعبّرون: mالباطن حريم سرّ القدس الملكوتيn؛ إذ هو المكان الذي لا تناله يد الغير ولا تَخاله، لكنّه يتجلّى ويظهر بالبيان، فليس لدينا تجربة ذاتيّة تستعصي على البيان، فهو يطال كلَّ شيء.
إنني أتفق في هذا الخصوص مع mفيتنغشتاينn حيث يقول:mإنني لا أؤمن باللغة الحصريّة؛ لأنّه لا وجود لما يستعصي على البيانn، ولا أستثني حتى العلم الحضوري؛ إذ هو الآخر يشرق بالبيان، يقول هايدغر: mاللغة منزل الوجودn، وهي جملةٌ بمنتهى العمق والدقة، وهذا يعني امتناع ما يستعصي بيانه، إنّ العلم الحضوري ينقلب حصولياً بمجرّد الحديث عنه.
ولا عليك بلغتي أو لغة النوع الإنساني برمّته؛ إذ ربما ليس بوسعي توضيح أبسط القضايا في الوقت الذي يتمكّن نبي أو شاعر من تناول أدقّ الخفايا وأعمق الأسرار، نعم، mاللغة منزل الحقّ تعالىn، فلولاها لما عرفنا معنى الله ولما ظهر له معنى، فالحقّ تعالى يتجلّى بصفاته كافّة عبر الكلام.
إنّنا نعتقد أنّ الحقّ سبحانه تجلّى في القرآن الكريم بتمام سُبُحات ذاته القدسيّة الجلالية والجمالية، وهذا ما يحفظ للقرآن الكريم تلك المكانة الشامخة والمنزلة العالية المتمثلة بتمامية الإحاطة وجامعية الوصف والتبيين.
- ذكرتَ في لقاءٍ سابق: إنّ لي علماً حضورياً بنفسي، لكنّني أسهم إسهاماً ذاتياً في تكوين معنىً لها، فما الذي تعنيه بذلك؟ وهل هو في عرض العلم الحضوري؟
أبداً، ليس هذا في عرض العلم الحضوري بقدر ما هو إشارة إلى انبثاق الحصول من صميم الحضور، فأنا أساوي حضوري، لا أنّ لي حضوراً! إذ ذلك تسامحٌ في التعبير أن تقول: أنا لي حضور!! أو هلِ الحضور مما يُملك ويُحاز؟! ولو كان كذلك فمن أنا حتى أملك حضوراً؟ فهل أنا الغائب الذي يملك الحضور؟ ثم إنّ هذا الحضور ليس عبثيّاً، بل يتمتّع بظهور؛ إذ ليس لدينا حضور بلا ظهور، فإذا كان الحضور حضوراً حقيقيّاً فلابدّ له من ظهور، وظهوري هو صيرورتي المعنائيّة، إنني أمنح نفسي معنىً فيتجلّى لي فكرٌ فينبثق من هذا الفكرِ نداء: من أنا؟ فأجيب: إنّني أنا، تماماً كما جاء في كلام الله:>إِنَّنِي أَنَا الله<.
ويقف الفلاسفة التحليليّون على الجهة الأخرى، ليزعموا أنّ هذه الجملة: mإنّني أناn خلوٌ من المعنى، رغم أنّها تنضح إيحائيّةً ودلالة، وهذا التعبير موجود في القرآن والتوراة والإنجيل.
إنّ الحضور الحقيقي لابدُّ له من إبراز حضوره، وإلاّ فهو محضُ غياب، وعندما يبرِز الحضور ذاتَه ينقلب ـ قهراً ـ إلى حصول عقلي، فتظهر المعاني، ثم يشرِق عالم المفاهيم.
فهم الذات من خلال الآخر ـــــــ
- سبق أن صرّحت بأنّك تدرك نفسك في مرآة الآخر، فهل لك أن توضح لنا رأيك في دور الآخر وحجم تأثيره؟
عندما أقول: أنا هو أنا، فلا ألبث حتى يغشاني الآخر، بل يَحول بيني وبين ذاتي، فألتفت إليه، إذاً لدينا هنا قضيّة مؤلّفة من موضوع ومحمول، كلمتان فقط لا غير، يقول بارمنيدس: mوجودn، ولم يقل: mالوجود موجودn، وهذا يعني أنه تصوّر فقط ولم يصدّق، وهو كلام في غاية العمق والجاذبيّة، لكنني عندما أقول: mأنا هو أناn، فهذا تأسيس للكثرة، يوحي بأنّني أتوهّم أولاً أنّ ذاتي غير ذاتي، ومن ثمّ أستيقن أنّني أنا.
ومن دون هذا التوهم يتعذّر القول: إنني أنا؛ إذ تبدو العبارة بلا معنى، فسلفاً توهّم الغير ثم قل: إنني أنا، من هنا تنبعث الكثرة؛ لأن الآخر يعني الكثرة! وأفق هذا الغير واسعٌ لاحَدّي، وهنا ندرك أنَّ الكثرة انبثقت من صميم الوحدة، إنّ الحضور يتجلّى لذاته أولاً وبالذات ثمّ ومن خلال تجلّيه لذاته يرتدي نسيجَ الثنائية ليلج نطاق الحصول، ثمَّ تناله الأفهام فتدركه.
وممّا نقطع به أنّ الله تعالى عرّف نفسه لنفسه أولاً وبالذات، ومن المغلوط القول: إنّ الله تعالى عرَّف نفسه لنا! فمن نحن حتى يعرّف الله تعالى نفسَه لنا؟ بل أظهر ذاته لذاته؛ فظهر لنا؛ فعرفناه.
وللعطّار في mرسالة المصابn لفتة رائعة؛ حيث يتساءل: هل مبدأ الخطّ الممتدّ بين الله والإنسان هو الإنسان أم الله تعالى؟ ثمّ يقول مجيباً: mالخطّ يمتدّ من الله وإلى اللهn، دون أن يوضح في امتداده من الله إلى الإنسان أو بالعكس! وإذا أجزتم لي سلّطت الأضواء على هذه القضيّة، فلا يمكن أن يمتدّ الخطّ من الإنسان إلى الله تعالى مع بقاء الإنيّة والالتفات إلى الذات، ولا يمكن أن يمتدّ من الله إلى الإنسان؛ إذ لابدّ من ثبوتي المنفصل حتى يتحرّك الحقّ تعالى نحوي، ومعه يثبت ـ وبشكل قهري ـ المقابل والندّ لله تعالى! أو هل للحقِّ تعالى مقابلٌ في عالم الوجود؟! فلا يبقى إلاّ الامتداد من الله وإليه، وهذا ما يُثبت لنا أن المعرفة الحقيقيّة تكمن في وحدة الوجود وبساطته. ثم إنّ الكثير يعتبر أنّ الطريق منه إلى الله! لكنّ العطار يَعُدُّ ذلك جهلاً.
منتهى المعرفة وحدة الوجود ـــــــ
- أليس يعمل هذا اللّون من الرؤية على بث اليأس والشعور بالعجز؛ فيجعل طريق معرفة الله تعالى ضمن دائرة المستحيل؟
ليس بوسعي إخفاء الحقيقة والواقع بسبب استيحاش الناس أو عدم رضاهم، وسوف أوضح لك رأيي النهائي فيما يرتبط بهذا الأمر، وإن كنت أعلم أنّ ما أقوله يفتقر إلى السلوك العملي والتجربة الميدانية، إنّ المعرفة ـ ومهما تعدّدت اتجاهاتها ـ سترسو في نهاية المطاف عند مرفأ وحدة الوجود، ولقد أصاب العرفاء حين اعتبروا مسألة إدراك وحدة الوجود ليست شرعةً لكلّ وارد، هذا فضلاً عن بلوغها بالسلوك العملي، فهنا تتفاقم الصعوبة، ولأنّ سلوك هذا الطريق وَقفٌ على الأولياء العظام فليس لأحد اقتحامه، فلكي ندرك وحدة الوجود يلزمنا إحداث انقلابٍ نوعي في طريقة تفكيرنا، وكذلك لابدّ من أن نتسلَّح بالدقة المتناهية والرياضة الفكرية العالية.
وهنا أقول: إنّك تريد أن تلبث البشرية في أطرِ إنيَّتِها، لكنني ـ على خلاف ذلك ـ أدرك أنّ الإقامة في أنفاق الإن والأنانيّة لا تمكّننا من إدراك المعرفة الحقيقيّة المتمثلة بوحدة الوجود، فالإنسان يرى نفسه محور الكلام، ولكي نفهم وحدة الوجود يتعيّن علينا أن نتساءل: هل يُمثل وجودنا محور هذا العالم ونقطة ارتكازه؟
أعود لأقول: إنّ فهم حقيقة وحدة الوجود يستعصي على الكثيرين، ويكمن سرّ ذلك في عدم قابليّة الألفاظ على تبيين المعاني البسيطة الصرفة بياناً ينقطع معه السؤال بلمَ؟ إذ هناك بون شاسع بين أن تبيِّن وبين أن تبيّن بطريقةٍ تقطع بها الطريقَ أمام الاحتمالات كافّة، وهنا عندما نريد أن نجلي حقيقةَ وحدة الوجود وبساطته فإنّ أوّل ما يعترض طريقنا أنّنا بمجرّد أن نحاول توضيحها بواسطة قوالب الألفاظ تنبعث الكثرة؛ لأنّ الكلام يساوي الكثرة، فليس بوسعي بالكلام إلاّ أن أقودَك إلى وحدة الوجود، وأدعوك إلى سلوك طريقها.
- لنعد الآن إلى الحضور، فقد أوضحتم أنّ المعنى يتبلور بظهور الحضور وتجسُّدِهِ، وأنّ كل ما له معنى فهو عقلاني، هنا نسأل: ماذا تقصدون بكلّ ما له معنى؟ هل كلّ ما يتمتّع بوجودٍ في هذا العالم، أم كلّ ما هو ثابت ومتحقّق في دائرة الوجود الإنساني؟
إنّ دائرة الوجود الإنساني دائرة واسعة لا تغادر مفردةً من مفردات قاموس الوجود العام، بل تختزل المشهد الوجودي برمّته في أقطارها، بل إنّ عالميّة هذا العالم لا تتحقق إلاّ بالإنسان، فهو قلبُ العالم النابض الكبير، وأرى أنّ كلّ شيء في هذا العالم له معنى، حتّى الحجر والمدر، وهذا ما يحكم به العقل نفسه، وكذلك ما يدركه عقلي حتى وإن امتنع فهمُه على الحجر، فعقلي يحكم أنّ كلّ شيء هو ذاتُه، إذاً فكلّ شيء في هذا العالم عقلانيّ وذو معنى.
- تعلمون أنّ محاولة ترسيم حدود العقل في الفلسفة الغربيّة بدأت على يد الفيلسوف كانط، كما آلت الفلسفة الحديثة في نهاية المطاف إلى إقصاء العقل، هل العقل الذي تتحدّثون عنه غير العقل الذي تتحدّث عنه الفلسفة الغربيّة؟ فبعض من يستمع محاضراتكم الحماسيّة في الدفاع عن الاتجاه العقلي وذبّكم عنه يعلّق بأنكم ربّما لم تُحكموا قراءة فلسفة عصر ما بعد كانط ولم تسبروا أغوارها، فما هو تعليقكم على ذلك؟
ينبغي أن نلتفت إلى وجود أكثر من تجلّ للعقل، كالعقل الرياضي، والعقل العلمي، والعقل الاقتصادي، والعقل السياسي و.. فالمدارس الفكرية المتعدّدة تفهم العقل بقراءاتٍ مختلفة، بل يمكننا الادعاء أنّ كلّ واحدٍ من الناس يُمثل عقلاً مستقلاً، وعندما يتحدّث عن العقل فإنّما يتحدّث عن عقله الخاص؛ فتتعدّد العقول.
ومهما كان النشاط الذي يتمتّع به العقل، فهو أشرف من تجلّياته ونشاطاته كلّها، والإنسان يسمو ويتعالى تبعاً للعقل، إنّه لا يسعني عندما أطالع عقليّة برتراند راسل إلاّ أن أقابلها بالمدح والثناء، غير أنّني في اللحظة عينها أشعر أنّها أمست معنىً باهتاً، عندما يعتريني الذهول والحيرة قبال عقليّة أبي يزيد البسطامي أو عين القضاة الهمداني، ثمّ أغادر عالمهما باحثاً عن عالمٍ أرحب وأسمى وهكذا.
هذه العقليّة المتسامية هي التي أتحدّث عنها وأدافع باستمرار، وبعد هذا العرض أرى أنّ ما يُثار حول عدم اطلاعي على مرحلة ما بعد كانط لم يعد جوهرياً، وأنا أوفّر عليهم القول بدعوتهم إلى قراءة عصر ما قبل كانط الفلسفي، وأعدهم بأنّني سأطلع على الفلسفة ما بعد الكانطيّة، لكنّي أجزم بأنهم لم يقرؤوا عصر ما قبل الكانطية، ليقرؤوا الحسين بن منصور الحلاج؛ فهو في ذروة العقلانيّة، وقد دوّنت هذا الأمر في المجلّد الثاني من كتابي: mدفتر عشق وآية حقn، وأشرت إلى أنّ الأزمة والإشكالية التي تخيّم على العقليّة الكانطيّة هي التسليم الأعمى بمعطياتها.
إنّ هذا اللّون من الاستلاب الفكري ـ سواء أمام العقليّة الكانطيّة أو ما يطرحه علماء الشريعة في عالمنا ـ هو سرّ انحطاطنا ودوراننا في الأنفاق المظلمة.
أزمة الانحطاط عند جواد طباطبائي ـــــــ
- يتبنّى السيّد جواد الطباطبائي نظريّة الانحطاط أو التخلّف في إيران، ويرى أنَّ الانحطاط ظهر ـ بادئ الأمر ـ على هيئة تسطّح سرى في المفصلية الفكرية، مما أدَّى إلى ظهور داء الجمود الفكري mامتناع الفكرn الذي هيمن بدوره على الواقع العملي، ويرى أنّ سبيل الحلّ يكمن في العودة إلى العقلانيّة، معتقداً بلابدّية تكرار المشهد الغربي، ووفق هذه القراءة يلزِمنا مطالعة مكوّنات الفكر الغربي الجديد، فهل بمقدور العقل الذي تنظّرون له أن ينتشلنا من تداعيات أزمة التحجّر الفكري هذه؟
من نافلة القول أن الأستاذ السيّد جواد الطباطبائي من زملائي المقرّبين الذين أكنّ له احتراماً كبيراً، وهو إنسان بمنتهى الصدق والشفافية، وما يتبنّاه من رؤى حول التراجع الأيديولوجي أو mالانحطاط الثقافيn لا يمكن إنكاره بشكلٍ من الأشكال، إني أتفق معه حول ما يراه من ضرورة تكرار التجربة الغربيّة، إلاّ أنّني أرى أنّنا إذا ما أردنا أن نعيش هذه التجربة فلابدّ أن تشكّل مكوّناتنا العقليّة صمّام أمان، وتعبّر عن الأفُق المعياري الذي تنطلق تجربتنا هذه ضمن إطاره، وإلاّ تحوّلت هذه التجربة إلى تجربة حرفيّة للواقع الغربي وتكريس للاستسلام والاستلاب أمام تحوّلاته.
وما نعنيه باستثمار مكوّناتنا وآرائنا العقلية في إعادة تطبيق التجربة هو توجيه هذه الآليات وجهةً نقدية استقصائية، تحاول أن تساهم في تخطّي بعض العقبات الكأداء التي أربكت حركة قطار الحضارة الغربية المتسارع وألقت بالضبابية على وجهته وأهدافه.
إنني لا أرى الغرب الحديث سعيداً آمناً، نعم، هو متقدّم ومتحضّر تقنياً لكنّه غير سعيد، ثم إنّني أتساءل: ما هي عناصر منظومتي الفلسفيّة؟
في هذا المستوى من التأمّل والاستفهام تتوحّد لديّ فلسفة ابن سينا مع فلسفة الحلاج، وأدرك أنّ تاريخ الفلسفة الإسلاميّة يُختزل في ترنيمة: mأنا الحقn الحلاّجية، وأنّ حقيقة بساطة الوجود أو رائعة وحدة الوجود هي قلب الفلسفة الإسلاميّة النابض وعمودها الفقري.
يقول عميد الإشراقيين ـ لأنّه مبتكر برهان الصدّيقين ـ : إننا إذا تأمّلنا الوجود نكتشف عدم حاجتنا إلى أيّ شيء آخر لإثبات وجود الله تعالى، فكيف لا تعيش وحدة الوجود في أعماق ابن سينا؟! لم يكن ابن سينا فيلسوفاً مشّاءً بالمعنى الأرسطي للكلمة! ليس هناك في العالم الإسلامي فيلسوف مشائي إلا ابن رشد، لقد مَدَّ ابن سينا في mالإشاراتn أواصرَ التواصلِ بين الفلسفة والعرفان، وكذلك السهروردي فهو من أئمّة وحدة الوجود ]لكنّه يطلق على الوجود تسمية: النور[.
وحتى صدر المتألّهين الشيرازي الذي يؤكّد في كلماته على الوحدة التشكيكية، إذ إنّ نظرةً ثاقبة لنظرياته المعرفية تقودنا إلى اكتشاف تبنّيه للوحدة الشخصيّة للوجود، لقد اختزلتُ ـ وبناءً على هذا الواقع ـ التاريخ الإسلامي بأغرودة: mأنا الحقn الحلاّجيّة.
وممّا ينبغي أن نروّض أنفسنا وعقولنا على قبوله أنّ الفلسفة الإسلاميّة الخالية من وحدة الوجود لا تمثل إلاّ فلسفةً تقليدية احترازيّة هابطة، وهذه هي النقطة التي أشرت لها تلويحاً وطرقتها في كتابي mدفتر عقل وآية عشقn، إنّ الفلسفة الإسلاميّة فلسفةٌ عرفانية الذّات، لكنّها ـ وكما تعلم ـ عانت مع الاتجاه العقلاني برمّته من الإقصاء والتغييب، كما عانى رموزُها التجاهل وكيل التّهم الرخيصة كالزندقة والتضليل، إذ كانت الهيمنةُ والذيوع للفكر اللاشعوريّ، وإنّي لأرى علّة الانحطاط والتراجع تكمن في عدم النهوض بواقع العلوم العقليّة وعدم التواصل معها.
لقد كان سعيي طيلة هذه السنين مركّزاً على تظهير واستجلاء النقاط التي تحوّلت إلى عللٍ تبريرية لكلّ من يحاول أن يصطاد بالماء العكر وينال وينتقص من الاتجاه العقلاني في المعرفة، إنني أعتبر حتى العرفاء في العالم الإسلامي عقلانيين، وأعتقد أنّ أكثرهم اختطّ له خطاً بعيداً عن اللاشعوريّة، فلا يمكن للعرفان أن يكون حبيس أنفاقِ ضيقِ الفكر اللاشعوري.
* * *
(*) أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة طهران، له مصنفات هامة مثل: مناجاة الفيلسوف، وحركة الفكر الفلسفي.