ساد الاعتقاد بفكرة المصلح المنتظر أكثر المجتمعات البشرية، وكان ينبع في كثير من الأحيان من منابع عقديّة دينيّة بوجهٍ خاص، وإن تعدّت في أحيان اُخرى هذا الجانب لتخلع عليها طابعاً فلسفياً يتماشى مع القانون الطبيعي للحياة. إلا أن هذه الفكرة تبلورت بشكل مهم في صياغتها الإسلامية عموماً، والشيعية على وجه خاص، كما تمَّ التأكيد عليها كثيراً في الموروث الإسلامي، حتى اعتبرها الكثير من المسلمين جزءاً من عقائدهم، وعُرفت عندهم باسم المهدي المنتظر.
فالمهدي يشكّل جزءاً من تاريخ المسلمين ومن ثقافتهم، وقد وصلت هذه الفكرة إلى الحدّ الذي جعلهم يتسالمون عليها بجميع طوائفهم ومذاهبهم. وهم، وإن اختلفوا في بعض خصوصياتها ومجال تطبيقها، بيد أن هذا الاختلاف لم يؤثِّر على قوّتها ورسوخها في أذهان جميع المسلمين. كما أنه لم ينل من اهتمام أكثرهم بتدوينها في كتبهم، سوى ما قد يظهر من صحيحي البخاري ومسلم، حيث لم ينقلا في كتابيهما أحاديث صريحة في المهدي، وإن كان هناك العديد من الروايات التي تعتبر صحيحة على مبناهما في الصحة([1])، لكن مع ذلك كله، فقد ورد في هذين الكتابين ما يمكن أن يؤيد وجود فكرة المهدي عند المسلمين، عبر ما روي من روايات تتعلق بعصر الظهور.
وقد بقي هذا التسالم والإجماع حاجزاً منيعاً أمام من أراد الدغدغة في روايات المهدي ـ على ما وجدناه في تاريخ دراسة هذا الموضوع ـ إلى أن غاص المؤرخ ابن خلدون في غمار المناقشة فيها وإثارة الشكوك حولها، بيد أنّ ابن تيمية نقل عن أبي محمد بن الوليد البغدادي إنكاره لروايات المهدي، وناقشه في كتابه الخاص حول المهدي، كما ناقشه في كتاب منهاج السنة([2]).
وإذا صحّ هذا النقل من ابن تيمية، فسوف يكون البغدادي أول من أثار التساؤل حول المهدي ممن وصلنا، إلا أن عدم وصول أي كتاب أو رسالة إلينا تحكي ذلك عنه غير ما نسبه إليه ابن تيمية، يمكنه أن يصحِّح القضية القائلة: بأن أوّل ما وصلنا من كتاب اقتحم صاحبه فيه الكلام حول المهدي والمهدية، هو كتاب المقدمة لابن خلدون، فاتحاً بذلك الباب أمام الكثير من المشكِّكين، الذين اعتمدوا عليه فيما بعد، وإن حاول ابن خلدون نفسه إيهام القارئ وجود الكثير من المنكرين لأحاديث المهدي أو الخادشين برواياتها ممن تقدم عليه، كما سوف يأتي، إلا أن عدم إيراده اسماً لأحد منهم، يجعل كلامه مجرد دعوى لا دليل عليها، ولا يمكن اعتمادها كأساسٍ ومرجع في ذلك.
عقد ابن خلدون فصلاً خاصّاً بأمر الفاطمي المنتظر([3])، حيث قال «اعلم أنّ المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه لا بدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدين ويظهر العدل…، ويحتجّون في الشأن بأحاديث خرّجها الأئمة وتكلّم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار، وللمتصوّفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة اُخرى ونوع من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم»، ثم شرع بذكر حال بعض رواة أحاديث المهدي، ونقل طائفة من هذه الأحاديث وناقشها سنداً باتباع قاعدة «أن الجرح مقدَّم على التعديل، فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي، تطرّق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها».
لكن اتّباع هذه القاعدة قد يوقعه في متاعب كثيرة، إذ قلّما تجد من الرواة من تسالم عليه جميع علماء الرجال، ومن ثَمَّ، فيطال النقد والتفنيد صحيحي البخاري ومسلم ذاتهما، ويؤدّي ذلك إلى رفض الكثير من رواياتهما، وهذا ما لا يرضى به ابن خلدون نفسه، إذ أن روايات هذين الصحيحين غير قابلة للطرح، وإن كان في طرقها من جُرِّح من الرواة، إلا أن ابن خلدون تنبّه لهذه المفارقة فقال: «لا تقولّن مثل ذلك يتطرّق إلى رجال الصحيحين، فإن الإجماع قد اتصل في الأمّة على تلقّيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعاً، وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك».
ثمّ بعد ذلك، استعرض ثلاثة وعشرين حديثاً، وانتهى إلى تضعيف تسعة عشر منها عبر إعمال قاعدة: «أن الجرح مقدّم على التعديل»، مقرّاً في الوقت ذاته بصحة أربعة أخبار، فقد قال عقب ذلك: «وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد، إلا القليل والأقل منه».
ثمّ استعرض بعضاً من كلام المتصوّفة في حديثهم عن المهدي، وحلّل بعض رموزهم المدونة في تعيين زمن خروجه، وناقش كلام كبار علمائهم كأمثال ابن عربي وابن القيسي وابن أبي واصل وغيرهم، ثم عقّب على ذلك بقوله: «هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة، وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي، قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا».
ثم يشير بعد الانتهاء من استعراض ذلك إلى تنافي فكرة المهدية مع النظرية التي كان قد أسّسها سابقاً ـ عند حديثه عن العمران البدوي، وعن الدول العامة والملك والخلافة ـ واعتبر أن قيام الدول إنما يكون على أساسها، وهي نظرية العصبية بقوله: «والحقّ الذي ينبغي أن يتقرّر لديك أنه لا تتمّ دعوة في الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه، حتى يتمَّ أمر الله فيه، وقد قرّرنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك».
وبعد ذلك يشرع بتطبيق هذه النظرية على واقع المهدي المنتظر، في مقام استبعاد هذه الفكرة بقوله: «وعصبية الفاطميين ـ بل وقريش أجمع ـ قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين… فإن صحَّ ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية… وأما على غير هذا الوجه… فلا يتم ذلك ولا يمكن، لما أسلفناه من البراهين الصحيحة».
ثم يستعرض أخبار وحالات بعض من ادعى المهديّة في غير عصبية وشوكة في أهله، وكيف أنّ مصيره قد انتهى إلى الهلاك والإهلاك، وآل إلى موت هذه الحركات في مهدها، مستفيداً من ذلك في تدعيم أصل نظريته، وأنّ ما جرى من أحداث تاريخية يتوافق مع فكرة العصبية.
ما تقدم هو خلاصة ما ذكره ابن خلدون في شأن الفاطمي المنتظر، وما أثاره من تساؤل ومناقشة للروايات، انتهت إلى التشكيك في أصل الفكرة، وهذا التساؤل والتشكيك ينطلق في الواقع من ثلاثة أركان أساسية:
1 ـ ضعف روايات المهدي، وعدم صلاحها لتكوين فكرة عقدية.
2 ـ بيان كذب دعاوى المتصوفة التي كانت تعيِّن زمان ومكان خروج المهدي المنتظر، والتي استفاد منها في تأييد بطلان أصل الفكرة.
3 ـ معارضة فكرة المهدي المنتظر للنظرية التي تبنَّاها ابن خلدون في كيفية بناء الدول والحكومات، القائمة على أساس العصبية.
وما يهمّنا في هذه الوريقات، هو تسليط الضوء على الركنين الأول والثالث، تاركين الخوض في بيان الركن الثاني ومناقشة دعاوى المتصوفة، وهل أن مخالفة إخبارهم لواقعة تحكي فكرة معينة، تلازم القول بإنكار هذه الفكرة من أساسها، أو لا؟ وهل أن تفسير كلامهم بذكر زمن معين لخروج المهدي، كما حصل معهم، هو فعلاً ما يضربونه من وقت في ذلك؟
إن الخوض في استعراض هذه المطالب، قد يلجئنا إلى دراسة مفصَّلة لكيفية حلّ ألغاز المتصوفة، وطرق تحليل رموزهم. وإلا فمن الصعوبة بمكان أن يحصل الباحثون على نتيجة موحَّدة في حلِّهم لتلك الرموز، لإمكانية دعوى أن ما توصَّل إليه هذا الباحث في تحليله للرمز هو غير ما قصده كاتب الرمز نفسه، ومن ثَمّ فيصعب التوصل إلى نتيجة مقنعة ومبرهن عليها في هذا الصعيد، ما لم يتوصل إلى توحيد طرق تحليل هذا الرمز.
هذا، مضافاً إلى أن التعرض للإجابة على مثل هذه الإشكاليات، والدخول في أبحاث جانبية، قد يُلجئنا للخروج عن أساس بحثنا والموضوعية العلمية التي يجب المحافظة عليها.
وحتى يتضح المراد من استخدام نظرية العصبية في رد فكرة المهدي، لا بدّ من بيان أصل هذه النظريّة عند ابن خلدون التي يعتبرها الأساس في قيام أيِّ دولة.
نظريَّة العصبيَّة عند ابن خلدون([4])
من الصعب تعريف العصبية عند ابن خلدون، لما تحمله هذه الكلمة من معانٍ عنده قد تصل إلى حد التباين أحياناً، كما سوف يظهر، إلا أن ذلك لا يقف حائلاً أمام بيان ما تحتويه من معنى بشكل إجمالي؛ فقد عرَّفها الجابري «بأنّها رابطة اجتماعيّة سيكولوجيّة ـ شعوريّة ولا شعوريّة ـ تربط أفراد جماعة معيَّنة قائمة على القرابة المادّية أو المعنوية، ربطاً مستمراً يبرز ويشتدّ عندما يكون هناك خطر يهدّد أولئك الأفراد كأفراد، أو كجماعة»([5]).
ويعتبر ابن خلدون أن منشأ العصبية ينطلق من مبدأ «الوازع» الذي يردع الإنسان عن الاعتداء على بني جنسه، والمراد بالوازع يتّضح ببيان التناقض الموجود في الإنسان والمجبول عليه بنو آدم، فهو من جهة يُعتبر مخلوقاً اجتماعياً، لا يمكنه الاستغناء عن أخيه الإنسان، ومن جهة اُخرى مجبول على صفة عدوانيّة بطبيعته؛ «فمن امتدّت عينه إلى متاع أخيه امتدّت يده إلى أخذه، إلا أن يصدّه وازع». وهذا ما تشير إليه الآيات القرآنية >وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ<([6]) >فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا<([7]). كما أنّ هذا الخلق موجود في ثقافة العرب الجاهليين:
«والظلم من شِيَم النفوس فإن تجد *** ذا عفّةٍ فلعلّةٍ لا يظلمُ»
وهذا الوازع الذي يمنع من التعدي، ينقسم إلى نوعين: أحدهما وازع داخلي ينبع من ذات الإنسان، فهو لا يظلم ولا يعتدي لأنه يرى ذلك مخالفاً لقناعاته ومرتكزاته الفطرية، والوازع الآخر خارجي وهو الذي توجبه السلطة وتفرض احترامه على جميع أفراد المجتمع.
يحاول ابن خلدون ـ في كلامه عن الوازع ـ أن يسلّط الضوء على الوازع الخارجي تاركاً الخوض في معالجة الوازع الداخلي، باعتبار أنه لا يتعدّى كونه خُلقاً كريماً من خصوصيات الإنسان الفردية، لا يمكن قولبته في قالب نظري، كما أنه لا يساعد في الكشف عن صياغة قانونيّة في واقع اجتماعي.
إن انتظام حياة الإنسان إنما يكون على أساس الوازع الخارجي، وبه تستمر الحياة الاجتماعية، ومنه تنشأ الحاجة إلى وجود سلطة تحفظ تماسك المجتمع، وتمنع العدوان الخارجي عليهم، أو عدوان بعضهم على بعض.
لكنّ طبيعة المجتمعات تفرض تغايراً في إعمال السلطة والوازع:
فالمجتمعات المدنيّة ـ ولوجود الحكومات الحافظة لمصالح الرعيَّة ـ تعتمد على حكوماتها في الحماية من الأخطار الداخلية فيما بين سكان المدينة أنفسهم، كما أنها تعتمد على الأسوار المحيطة بالمدينة، وعلى مرتزقة السلطان والحاكم في دفع العدوان الذي يهدّدهم من الخارج.
والأمر يختلف تماماً في المجتمعات البدويّة، حيث تعتمد هذه المجتمعات على هيبة شيوخها وكبرائها في دفع عدوان الناس بعضهم على بعضهم الآخر، كما أنها تعتمد في دفع العدوان الخارجي ـ الذي كثيراً ما كان يقع لأجل السيطرة على موارد الرزق واستلاب بعضهم البعض الآخر، لشحِّ الموارد الخصبة في أماكن سكنى هذه القبائل في الصحاري ـ على حامية الحيِّ من فتيانهم ونجبائهم الشجعان، لكنّ هذا الدفاع عن حيِّهم والتضحية لذلك، لا يمكن أن يتمّ إلا إذا كانوا عصبيّة واحدة وأهل نسب واحد.
من هنا يتّضح أن العصبيّة عند ابن خلدون، إنما تتكوَّن في خصوص المجتمعات البدويّة ويُحتاج إليها في الحياة بالبادية، كما وأن الضرورة التي ألجأت إليها هي ردع العدوان المحتمل على القبيلة.
تنشأ العصبيّة أوّل الأمر بين أفراد القبيلة الواحدة الذين يجمعهم نسب واحد، لكن قد تتعدّى هذه الدائرة الضيّقة، لتشمل نسبة الولاء والتحالف مع القبائل الأُخرى الذين لا يشتركون معهم بعلاقة نسبيّة، وهذا التحالف والولاء كانا ينشأان غالباً من الشعور بالضعف أمام تهديدات الأعداء، فكانت القبائل تلجأ ـ غالباً ـ إلى التحالف لدفع هذه الأخطار، ويشير صاحب النظرية إلى هذه المسألة بعد عرضه للحمة النسب بقوله: «ومن هذا الباب الولاء والحلف، إذ نعرة كلّ أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها»، من هنا اضطرَّ الجابري إلى توسيع دائرة النسب عند ابن خلدون، مدخلاً إياها في عداد الاجتماع لأجل مصلحة مشتركة، حيث قال: «فإنّ النسب عند ابن خلدون ليس الانتماء إلى جدّ مشترك، سواء كان الانتماء حقيقياً أو وهمياً، بل إن المقصود بالنسب عنده هو الانتماء الفعلي إلى جماعة معينّة، أي إلى عصبة ما»([8]). بل سوف يظهر بعد قليل أن عامل وحدة الدين والنعرة الدينية قد تفوق عصبية النسب بالدم والانتماء القبلي.
لكن يبقى للحمة النسب أهمية بالغة في السيطرة على الرئاسة، فإنّ اللحمة كلّما كانت قريبة كانت العصبية أشد. لذا كانت عصبية الأخوة أكبر من عصبية أبناء العمومة، وهكذا في غيرهم، من هنا كانت الرئاسة في القبيلة الواحدة من نصيب من له الغلب، ويتوقف ذلك على وجود عصبية اُخرى تكون هي الأقوى في هذه القبيلة تعمل على تدعيم زعامة هذا الرئيس.
يجعل ابن خلدون الحصول على الملك والسيطرة على السلطة من أهم غايات العصبية، لأن طلب الملك من الأمور التي جبل عليها الإنسان، ولا يقنع باليسير منها، فإنه إذا حصل له ملك، امتدت عينه إلى ملك أوسع منه. وعندئذٍ، فهو بحاجة إلى قومه وعصبيته للوصول إلى ما يطمح إليه؛ يستعين بهم ويتقوى بقوتهم، وهم بالمقابل يعينوه على الوصول إلى غايته للعصبية الموجودة عندهم والتي تدفعهم إلى ذلك، فضلاً عمَّا سوف يعود عليهم من الترف والنعيم فيما إذا توسع ملك صاحبهم، ومن ثمّ… ملكهم.
وبعد أن يحصل الزعيم على الملك الجديد وتتوسع دائرة نفوذه، يتحسّن وضع القبيل ـ وهم أصحاب العصبية الواحدة ـ الذين أعانوه للوصول إلى ذلك، ويستولون على النعمة بمقدار سلطانهم، فيبدأ الترف يدخل إلى حياتهم عبر تدفّق الأموال والثروات عليهم، مما يؤثّر ذلك على خشونة البداوة وقوّة العصبية التي كانت لديهم، فتضعف عندهم العصبيّة، وينشأ بنوهم بعيداً عن الحاجة إليها، إلى أن تتناقص وتصل إلى حدّ الانقراض، وعند انقراض العصبية، يقصر القبيل عن الدفاع والحماية عن السلطة، مما يؤدّي ذلك إلى أن تطمع بهم الأمم الأُخرى فتلتهمهم وينتهي ملكهم إلى غيرهم.
د- أثر الدعوة الدينيّة في العصبيّة
يشير ابن خلدون إلى مدى تأثير الدعوة الدينية في بناء الدول وقوّة شوكتها، فيعقد فصلاً خاصّاً في أنّ الدعوة الدينيّة تزيد الدولة قوّة مضافاً إلى قوّتها العصبيّة، ويستشهد لذلك بما حصل في الفتوحات الإسلامية؛ حيث كان عدد جيش المسلمين في معركة اليرموك بضعاً وثلاثين ألف رجل، بينما كان جيش الروم فيها في حدود الأربعمائة ألف رجل، وكذلك في حرب القادسيّة حيث كان جيش الفرس فيها في حدود المائة وخمسين ألفاً والمسلمون ثلاثين ألفاً، ومع ذلك استطاع المسلمون التغلب على جيوش كسرى وقيصر بواسطة العصبية الدينية التي كانت تشدُّ هممهم.
ويعطي على ذلك نموذجاً آخر: وهو ما حصل للموحّدين في المغرب العربي، الذين غلبوا قبائل زناتة وملكوهم مع قوّة عصبيتهم، وذلك لاقتران قيامهم بالدعوة الدينية. لكنّهم بعد أن تخلّوا عن صبغتهم وعصبيتهم الدينية، تغلبت عليهم زناتة نفسها وبدَّدت شملهم.
ثم يحاول ابن خلدون أن يوسع من دائرة هذه النظرية على الأمم السابقة أيضاً، حيث يطبّقها على دعوة الأنبياء عليهم السلام، بدعوى أن الأنبياء أنفسهم لم يخرجوا في دعوتهم إلى الله تعالى عن هذه السنَّة القاهرة. مستدلاًّ لذلك بما ورد في (الصحيح) ـ والعجب منه كيف وصف هذا الحديث بالصحيح والحال أنه بناء على ما تقدم من مبانيه في التوثيق والتضعيف يكون ضعيفاً، كما سنذكر ـ «ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه»، مضافاً إلى أن الأنبياء قد دعوا إلى الله بعشائرهم وعصائبهم، ثم يستشهد على ذلك بما جرى في زمن بني العباس من قيام لأشخاص دعوا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون عصبية، حيث لم يكن أصحاب هذه الدعاوى يعرفون عاقبة دعواتهم، وأنهم ممن غلبهم الوسواس وسيطر عليهم الوهم؛ «والذي كان يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا هرجاً، وإما إذاعة السخرية منهم وعدّهم من جملة الصفّاعين».
ثمّ بعد أن ينتهي من استعراض الأثر الذي تتركه العصبية على قيام الدول، يشير إلى أنّ هذه العصبيّة ذاتها تؤثّر أيضاً في موت الدول والحكومات، حيث إنّ ضعف العصبية عند أهل النسب الواحد أو أهل عصبية واحدة، سيؤدي إلى تراجع الدفاع عن الملك والحكم. وبذلك يكون الملك لديهم قد فقد أهم عامل في حفظه، ممّا ينذر بنهايته، وانتقاله عنهم.
إلى هنا، تنتهي أبرز فصول نظرية العصبية عند ابن خلدون، وأهم مراحل تطوّرها وتأثيرها على بناء الدول وموتها، وقد عرضناها باختصار.
ربط نظرية العصبية بإنكار المهدي
استعان ابن خلدون ـ كما أسلفنا ـ بالنظريّة التي أسّسها في بناء الدول، على إنكار المهدي، واعتبر أن هذه الفكرة تتناقض مع نظريّته المسلّمة والثابتة بالأدلّة والبراهين، وذلك لأن هذه النظرية تُثبت عدم إمكان نجاح أيّ قيام أو ثورة من دون أن تشتمل على عصبيّة تُؤمِّن لها تغطية العامل البشري في هذه الثورة، وحيث إن أهم عامل في تقوية العصبيّة ينبع من النسب، ويعتمد اللحمة النسبية أساساً له ـ كما ذكرنا في بيان هذه النظرية ـ فهي بحاجة إلى وجود كمٍّ كبير من المنتمين إلى نسب واحد مستعدّين للتضحية في سبيل الدعوة التي يقوم بها صاحبهم وزعيمهم، وإذا طبّقنا ذلك على المهدي الفاطمي، وجدنا أن الهاشميين أو العلويين ـ وهم عصبة الفاطميين الذين يمكن للمهدي أن يعتمد عليهم في دعوته ـ قد انقرضت شوكتهم وانتهت عصبيتهم، ولم يعد منهم مجتمعين في مكان واحد وعلى رأي كذلك، إلا بقية لا تنفع في تلبية حاجات القيام والثورة، كما لا يمكنها أن تشكّل عصبية قويّة يمكن للمهدي أن يتّكئ عليها في حركته، فضلاً عن تأسيس دولة عالمية خالية من آفات الظلم والفساد، كما هو المفترض.
وقفة مع ابن خلدون في أخبار المهدي
سوف نتوقّف قليلاً مع ابن خلدون في معالجته لأخبار المهدي، وهو الركن الأوّل الذي بنى عليه ردّه لهذه الفكرة. وتوقُّفُنا في المقام سيقتصر على إثارة بعض الملاحظات الهامة:
1 ـ يظهر من ابن خلدون عدم امتلاكه الخبرة الكافية في تحقيق الأخبار، ومعرفة الصحيح من الضعيف من الروايات، كما أنّه ليس لديه إلماماً بالقواعد الرجالية المعمول بها عند الفقهاء والمحدّثين، يمكّنه من الخوض في غمار دراسة أسانيد الروايات. من هنا نرى أنه حاكم هذه الروايات بطريقة لم يسبقه إليها أحد من الباحثين في الحديث. فضلاً عن أنه لم يراع الطرق المعروفة والضوابط المتبعة عند المؤرخين ـ الذين ينتمي إليهم ابن خلدون ـ أضف إلى أنّه لا يلتزم بإطلاق الصيغة التي قدّمها في انتقاء الأخبار وتنقيتها في غير هذا المورد، وأبرز دليل على ذلك: ما تقدم منه قبل قليل في إطلاقه وصف (الصحيح) على رواية: «ما بعث الله نبيّاً إلا في منعة من قومه»، والحال أنّها ضعيفة بناء على القاعدة التي تبنّاها من أن الجرح مقدّم على التعديل، كما سوف نبين بعد قليل، مما يؤكّد أن هذه الطريقة في علاج الأخبار ليست ناجعة بالمستوى المطلوب، كما أنها ليست مقبولة حتى عند ابن خلدون نفسه.
2 ـ أوهم ابن خلدون القارئ ـ بعد استعراضه للأخبار ـ أنّ ما أورده منها هو تمام أو جلّ ما ذكره أهل الحديث، حيث قال: «وقد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا»، مع أنّه لم يذكر سوى ثمانية وعشرين طريقاً لثلاثة وعشرين حديثاً. وسوف نذكر أنّ الروايات المرويّة في الكتب التي يعتمد عليها ابن خلدون، والتي تمَّ فيها ذكر المهدي أو تتحدث عنه وعن عصر الظهور، تفوق الخمسمائة رواية، بطرق مختلفة.
3 ـ لقد اعترف ابن خلدون في نهاية عرضه للأخبار، بأن بعضها صحيح بناء على مبانيه في الصحة، حيث قال: «وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل». وقوله هذا يؤكِّد إقراره بصحة قسم من الروايات التي عرضها، وهي أربعة أخبار من ثلاثة وعشرين خبراً، وهي تعادل ما نسبته السبعة عشر بالمائة: 17%. وإذا افترض أنه لم يكن قد استثنى أيّاً من الروايات التي أعرض عن ذكرها، بل قام باستعراضها بأجمعها كما كان المتوقّع من باحث مثله، وهي خمسمائة وثمانين طريقاً لأحاديث تتحدث حول المهدي وقيامه، من كتب العامّة فقط، لكان من المفترض ـ بناء على حساب الاحتمال ـ أن يكون لديه من الأسانيد الصحيحة لهذه الأحاديث ما يفوق التسعين سنداً، كل ذلك مع مراعاة القاعدة المتقدّمة في الصحة التي اعتمدها هو. ومثل هذا العدد من الأسانيد الصحيحة كافٍ في إخراج هذه الأخبار عن كونها أخبار آحاد، لوصولها إلى حدّ التواتر([9]).
كما أنه يمكن أن يُكتفى بها في تكوين فكرة عقديّة، كما هو الحال في الكثير من الأفكار العقدية الأُخرى، حيث بُنيت على روايات أضعف دلالة وأقل صحّة من حيث السند، فيكون البناء على هذه الروايات بطريق أولى.
4 ـ إن القاعدة التي بنى عليها دراسته للحديث، والقائلة بأن الجرح مقدم على التعديل، سوف تفضي إلى إنكار الكثير من أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، وهذا ما لا يعمل به ابن خلدون ـ كما ذكرنا ذلك في بداية البحث ـ لذا حاول دفع هذه الإشكالية بالقول بأن روايات الصحيحين قد أخذت بالإجماع، وكفى به حامياً عن ضعف أسناد بعض أخبارهما.
لكن، إن كان المراد بقوله هذا، أنّ ما تمّ الإجماع عليه بين المسلمين قد اكتسب حصانة ومناعة لا يمكن معها أن يدغدغ فيه من جهة ضعف السند أو جهل الرواة، فهذا الأمر تشترك به فكرة المهدي عموماً، وبعض رواياتها على وجه الخصوص، إذ قد ادّعى الكثير من المخبرين والفقهاء وأهل الحديث الإجماع على فكرة المهدي، وتواتر أخبارها، وبل وادعى بعضهم قيام الإجماع على الاعتقاد بهذه الفكرة عند المسلمين جميعاً، ولعلّ ما أشار إليه ابن خلدون في مطلع بحثه عن الفاطمي، من قـوله «أن المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار…»، يكاد يكون صريحاً في صحّة هذه الدعوى. وعندئذٍ، لا يكون هناك أيّ فارق بين الصحيحين ـ بناء على دعواه ـ وبين أخبار المهدي من هذه الجهة، لأن المفترض أن الداعي للحصانة هو قيام الإجماع، وقد انعقد الإجماع على فكرة المهدي، وتسالم القوم على تواتر أخبارها.
وأما إذا كان مراده منها إثبات أنّ فكرة المهدي والأحاديث المحيطة بها لم ينعقد عليها الإجماع، بمعنى إنكار الإجماع صغروياً وعلى مستوى الإثبات، فهذا خلاف ما هو الموجود في كلمات العلماء الذين تعرّضوا لهذه المسألة، وقد أحصى بعضهم من ادعى الإجماع على فكرة المهدية، أو ادعى تواتر الأحاديث حول المهدي، ما يقرب من ثلاثين عالماً من أهل الاختصاص في هذا المجال([10])، ولعلّ ذكر أسمائهم وبيان أحوالهم، يُخرجنا في هذا البحث عن حدّ الاختصار.
نظرة في تطبيق العصبيّة على فكرة المهدي
الحقّ أن يقال إن نظريّة العصبيّة قد أعطت تبريراً معقولاً لقيام الدول والحكومات وموتها في العهود السابقة، والتي كانت تعتمد على أفراد القبيلة وأصحاب النسب الواحد، كما اتضح من خلال ذلك مدى قدرتها على تبيين سبب طول عمر الدول أو قصرها، ويعتبر هذا سبقاً من ابن خلدون لزمانه، في دراسة شاملة لبناء أساس الاجتماع البشري.
بل إنه يمكن القول إن الحكومات الحديثة والدول المعاصرة، ليست خارجة عن الأسس العامة لهذه النظرية، فإن أي انقلاب أو ثورة على نظام قائم وحاكم لا يكتب لها النجاح، ما لم تكن منبعثة من روح عصبية يمكنها أن تجمع أشخاص مختلفين لأجل هدف واحد، والعمل على إنجاح قضية محورية. سواء كانت هذه العصبية ناشئة من الحسب والقرابة، أو كانت ناشئة من الانتماء الديني والمذهبي، أو حتى من الاجتماع على مشروع سياسي واحد. وهذا ما تقوم به الأحزاب والنظم الحزبية المعاصرة، فإنها تبتني على أسس عصبية تحاول أن تعطّل تفكير الفرد بمصالحه الخاصة ـ التي لا تنسجم مع المصلحة العامة ـ لحساب مصلحة الجماعة والحزب.
لكن هذا لا يجعلها في منأى عن تسجيل بعض الملاحظات حولها. وقبل ذكر هذه الملاحظات، يحسن بنا أن نشير إلى أن الذين ناقشوا ابن خلدون في تشكيكه بفكرة المهدي، تناولوا مناقشته للأخبار فقط، ولم يتعرض أحد منهم ـ على حدّ مراجعاتنا المتواضعة ـ إلى ما ذكره من تنافيها مع نظرية العصبية التي أسسها في العمران.
لم يفلح ابن خلدون في مناقشته لفكرة المهدي، أن يشير أو يدلِّل على القاسم المشترك بين نظرية العصبية وبين تنافيها مع فكرة قيام المهدي بصياغتها المطروحة إسلامياً، لا الصياغة البدوية التي اعتبرها منشأ هذه النظرية. بمعنى أنه لم يقدِّم أيَّ طرح يمكنه أن يعمّم فيه النتيجة على كافة أنواع المجتمعات البشرية، واقتصر فقط على بيان تنافي هذه النظرية ـ التي افترض ضرورة وجودها في خصوص المجتمعات البدوية، والتي تعتبر مجتمعات ضعيفة ثقافياً أو متخلِّفة في كثير من الأحيان ـ مع فكرة المهدي، علماً بأن مثل هذه المجتمعات في الوقت الحاضر قد تلاشت، أو قلَّ وجودها بنسبة كبيرة لحساب المجتمعات المتمدنة. بل حتى في عصر ابن خلدون، كانت المجتمعات المتمدنة ـ بصيغتها الخلدونية ـ والمتأثرة بالحضارة والثقافة الإسلامية، طاغية في وجودها على المجتمعات البدوية.
مضافاً إلى أنه كان قد فرَّق بين المجتمعات البدوية والمجتمعات المدنية المتحضرة في تأثُّرها بالعصبية، أو تأثير العصبية عليها، فقال هناك، أنه لا حاجة للعصبية في تلك المجتمعات لكفاية الدولة مؤونة الحماية ـ التي هي السبب الرئيس في نشوء العصبية وقوة شوكتها ـ وأن العصبية في هذه المجتمعات أقل منها عند المجتمعات البدوية. ومع وجود هذا الفارق الأساسي بين كلا المجتمعين، لا يعود لدينا أي مبرِّر لحصر الكلام في مستلزمات الحياة البدوية، وإغفال الحديث عن مستلزمات الحياة الحضرية، فإن الواضح عندنا أن النظام الاجتماعي في الإسلام قد عقد آمالاً واسعة على بذور التغيير والإصلاح التي وضعها في المجتمعات البدوية، للسير قُدُماً نحو مجتمع أكثر تحضّراً في نمط تفكيره وحياته.
ولعلنا بغنىً عن تقديم أدلة على عدم إمكانية توسيع دائرة هذه النظرية إلى غير المجتمعات المتحضرة، لكن يحسن بنا الإشارة إلى أن هذا الفهم لم يأت من العدم، فقد فهم الجابري من ابن خلدون ـ حين استعراضه لهذه النظرية ـ أن العصبية ضرورة تفرضها طبيعة حياة المجتمعات البدوية لا غير، حيث قال: «فالعصبية إذن خاصة بالمجتمع البدوي، وهي ظاهرة تستلزمها المعطيات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في هذا النوع من العمران»([11]). كما ويصرِّح في مكان آخر بأن «العصبية ظاهرة خاصة بالبدو، لأن أحياءهم مفتوحة وتحتاج في الدفاع عنها إلى تكتّل وتعاضد فتيانها الشجعان»([12]).
وهذا كله يعني فقدان المبرِّر لمسألةِ تعارض نظرية سياسية واجتماعية مع فكرة عقدية وتاريخية مسلَّمة، كما شاء ابن خلدون أن يصوِّرها.
إن هذه النظرية ـ في صياغتها للعصبية ضمن إطارها النَسَبِي ـ ليست كافية لتبرير قيام الدول في الوقت الحاضر، بناء على تغيُّر نظام الحكم في هذا الوقت عنه عند القبائل العربية، حيث الرئاسة الآن، في أغلب الأنظمة السياسية، إنما تكون لمن يتراضى عليه الناس، ولو كانوا متباعدين نسباً، وحتى لو لم يكن صاحب قوّة ـ بالشكل الذي طُرح في النظرية ـ فإن تحديد ميزان القوة قد اختلف في هذا الوقت عنه في المجتمعات البدوية، فنرى أن القوة تتمثّل الآن بالقدرة على تشكيل ائتلاف سياسي، أو تخضع لإمكانية تشكيل شبكة علاقات واسعة، يستطيع الفرد من خلالها إرضاء خصومه بشكل أو بآخر. وبناء عليه، يمكن أن يصل أي إنسان إلى الرئاسة ـ إذا حاز على شروط تولي السلطة ـ حتى لو لم يكن صاحب عشيرة تتعصَّب له، مما يفتح المجال أمام احتمال نجاح أي قيام يمكن أن يحدث دون أن يكون معتمداً على العصبية النَسَبِيّة.
ومن الواضح أن هذا لا ينسف أساس النظرية التي قدَّمها ابن خلدون، حيث إنها تحكي نظام الحكومات في المجتمعات المتأثرة بالحياة البدوية ضمن الأنظمة السياسية التي كانت سائدة عندهم، بيد أن هذه النظرية ليست مطّردةً بالشكل الذي ذكره صاحبها، ولا يمكن تطبيقها على واقع مختلف عن ذاك الواقع، بل إن ما مارسه العرب من نظام سياسي بعد الإسلام، والذي عُرف باسم الخلافة ـ إلى ما قبل استيلاء معاوية على الحكم، إذ انقلب بعد تولي معاوية إلى ملك بني أمية ـ لا ينسجم مع هذه النظرية بتاتاً، لذلك ينقل الجابري في هذا السياق: «لقد بنى ابن خلدون نظريته في الحكم على العصبية، وبما أن الخلافة نوع خاص من الحكم، بل هو النوع الخاص بالإسلام، فإن إثبات صواب وعمومية نظريته في العصبية كان يتطلَّب منه إقامة الدليل على أن الخلافة نفسها قد نشأت وتطورت، ثم انقلبت إلى الملك بمقتضى العصبية ذاتها»([13]). وإلا، كان عليه أن يحدِّد فاعلية هذه النظرية ضمن دائرة الأنظمة السياسية البدائية، دون غيرها.
3- تعارض مصالح العصبة مع المصلحة الدينية
بيَّن ابن خلدون مدى تأثير الدعوة الدينية على العصبية النسبية، وأن الأخيرة تتأثر بالعصبية الدينية إيجاباً، لو فرض توافق كلتا المصلحتين على هدف واحد، لكنّه لم يقدِّم رؤية واضحة في مسألة تعارض مصالح العصبية النَسَبية، مع العصبية المتولدة من الدعوة الدينية، مكتفياً بالإشارة فقط إلى أن العصبية الدينية تزيد الدولة قوة إلى قوتها، وأعطى على ذلك مثال الجيوش الإسلامية في الحروب التي خاضوها لفتح بلاد الفرس والروم. بيد أن زيادة القوة المفترضة هذه، إنما تكون في حالة التقاء مصالح العصبية القَبَلِية مع المصالح الدينية، أو لا أقل عدم تعارضهما. وعندئذٍ يصحُّ القول بأن العصبية الدينية تزيد الدولة قوة إلى قوتها العصبية، كما افترضه هو في الأمثلة التي قدمها سابقاً.
أما إذا افترضنا وجود اختلاف في المصالح أو التوجُّهات القَبَلية والدينية، فالنظرية ساكتة عن هذه الحالة، ولا توجد أية إشارة إلى ذلك في كلام ابن خلدون، والحال أن التعرض إلى هذا الأمر ضروري، لما له من الأثر الكبير في تغيير المسار السياسي للدول والحكومات القائمة على أسس عصبية.
ويشهد بأهمِّية تعارض الدعوة الدينية مع المصالح القبلية، ما حصل للمهاجرين الأوائل في صدر الإسلام، الذين ترفَّعوا على عصبياتهم القبلية، وحاربوا عشيرتهم وآباءهم في المعارك التي خاضوها مع المشركين في بدر وأحد.
وهذا ما يساعدنا في الكشف عن وسائل اُخرى لم يتعرض لها ابن خلدون، يمكنها أن تزيد من قوة اجتماع جماعة وتعاضدهم في سبيل هدف أسمى وأفضل من الأهداف العصبية الأُخرى، وهو بدوره قد يكون متوافقاً مع العصبية النسبية، وقد يكون مغايراً لها.
حاول ابن خلدون ـ في مقام الاستدلال على صحة كلامه ـ تطبيق نظرية العصبية على دعوات الأنبياء الدينية، فاعتبر أنّ كل دعوة دينية لا بدَّ أن تعتمد في نجاحها على عصبية نَسَبية، مستدلاً على هذا الأمر بخبر «ما بعث الله نبياً إلا في مِنعة من قومه»، وبما حصل للأنبياء من اعتمادهم على عشيرتهم وعصبيَّتهم في دعواتهم الدينية.
إلا أن محاولته هذه لم تكن موفقة كثيراً، إذ يمكن أن يقال:
أولاً: إن تطبيق هذه النظرية على الدعوة الدينية يحتاج إلى أدلة أقوى وأوضح مما قُدِّم، بل يحتاج إلى تأويل العديد من الأحداث التاريخية الواضحة. فإن الشواهد التاريخية والقرآنية تؤكِّد حقيقة مهمَّة في هذا السياق، وهي أن أكثر الأنبياء قد أُرسلوا إلى أقوامهم وعشائرهم بالدرجة الأولى، لا أنهم أُرسلوا إلى أقوام آخرين يستنصرون عليهم بأقوامهم وعصبيتهم، وهذا ما يؤكده القرآن في حكايته عن النبي محمَّد 2 حينما قال: >وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ<([14]). بل إن أهم ما كان يعترض مسيرة الأنبياء، كان ينبع غالباً من المقرَّبين لهم، وفي هذا السياق نرى أن أول من خذل الرسول الأكرم2 هم قومه وبنو عمومته، وقد استنصر عليهم بالأنصار الذين لم يكن يربطه بهم أي علاقة رحمية، أو حتى علاقة سببية في بداية الأمر. وكذلك يُحدِّثنا القرآن عن سائر الأنبياء الذين كانوا يتلقُّون أشدّ أنواع الأذى والعذاب من خاصَّتهم المقربين، من قبيل ما جرى للنبي هود مع قومه عاد حيث يُخبرنا القرآن عنهم: >وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ<([15]).
كما ويوجد العديد من النصوص الروائية التي تؤكِّد هذه الحقيقة أيضاً، حيث ورد أن عمه أبا لهب هو أول من كان يقدم على أذيته، نذكر على سبيل المثال ما رُوي في سنن البيهقي: «عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسوق ذي المجاز، وأنا في بياعة لي، فمرَّ وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد أدمى كعبيه، وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوا هذا فإنه كذاب، فقلت من هذا؟ فقيل هذا غلام من بني عبد المطلب، فقلت فمن هذا يرميه بالحجارة؟ قيل عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب…»([16]).
ومثلها يوجد الكثير من الروايات.
وثانياً: إنه يمكن التشكيك في دلالة الرواية على ما ذهب إليه ابن خلدون، فالرواية مروية في مسند أحمد من المصادر الروائية فقط ـ وإن كان مضمونها مروي فيه وفي غيره، إلا أن الذي يهمنا هنا النقض على ابن خلدون في استدلاله بهذه الرواية مع ضعفها دلالة وسنداً ـ والأفضل أن ننقل نص الرواية مع سندها كما وردت هناك: «حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا حمّاد بن سلمة، وأبو عمر الضرير المعني، قال حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلّم: قال لوط: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قال: قد كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله عزّ وجل بعده بنياً إلا بعثه في ذروة قومه. قال أبو عمر فما بعث الله عزّ وجل نبياً بعده إلا في منعة من قومه»([17]).
فالمراد بالمنعة الموجودة هنا، هو الحماية والنصرة من الاعتداء عليه بشخصه، لا أن الدعوى الدينية التي يقوم بتبليغها تحتاج إلى هذه المنعة أو النصرة كي تتم، وبدونها لا يمكن لها النجاح، فموضوع الدعوة الدينية وتبليغ الرسالة، لا يرتبط أبداً بوجود الناصر والمعين. ولعل التأمّل في نص الحديث يغنينا عن الخوض في الاستدلال على صحة هذه الدعوى.
نعم، يمكن أن يكون مراد ابن خلدون: أن تربُّع الأنبياء على سدَّة الحكم والسلطة، ونجاح دعوتهم وحركتهم السياسية، لا يتحقق إلا بعصبية نسبية تحت قيادتهم، وهذا ما كان يفتقده الأنبياء. إذ إنهم، وإن كانوا يتوجَّهون بدعوتهم إلى أقوامهم وعشائرهم، إلا أنهم لم يكونوا يتجاوزون الدعوة الدينية كي تصل النوبة بهم إلى الحكم والسلطنة على قومهم، إلا بعد أن يجتمعوا حولهم ويساعدونهم ويعضدوا حكمهم بما أوتوا من قوَّة. لكن هذه الفرضية، وإن كانت قريبة من عبارات ابن خلدون، إلا أن إثبات هذا الأمر يحتاج أيضاً إلى تأويل العديد من الآيات القرآنية، وتبرير بعض الشواهد التاريخية والنصوص الروائية، التي قد لا تتوافق معه، ممّا يؤدي إلى إخراجها عن ظاهر دلالتها.
إنه لا بد من اتباع طريق موحّد لمعرفة صحّة الرواية من ضعفها، فإما أن نتبع القاعدة التي ذكرها الكاتب، أو أن نعتمد وسيلة اُخرى في ذلك، ونعتمدها في جميع الأخبار التي نريد معرفتها. ومن هنا يمكن لنا أن نسجل ملاحظة على منهج ابن خلدون في اعتماده طريقاً لمعالجة أخبار المهدي، وغضه النظر عن هذا الطريق بعينه، عند ذكره لرواية يمكنها أن تؤيد نظريته في العمران.
فنقول: إن سند هذه الرواية مخدوش به، بناء على طريقة ابن خلدون في تصحيح الروايات وطرحها ـ القائمة على أساس أن الجرح مقدّم على التعديل ـ فكان عليه أن يطرح هذه الرواية أيضاً، لضعف سندها بوجود بعض الرواة الذين ضُعّفوا من قبل بعض علماء الرجال؛ من قبيل أمية بن خالد، الذي نقل العقيلي تضعيفه في كتابه([18]).
كما نقل ابن حبان أيضاً في كتابه عن أمية أنه كان يروي المراسيل([19]).
وقد ذكره ابن حجر في كتاب تهذيب التهذيب، فبعد أن نقل عن بعض الرجاليين توثيقه، نقل عن العقيلي أنه ذكره في الضعفاء([20]).
كما وأن حمّاد بن سلمة، الموجود في السند أيضاً، نقل عنه ابن حبان أنه كان يخطئ في نقله للحديث([21]).
وكذلك محمد بن عمرو الذي ذكره العقيلي في الضعفاء ([22]).
وهؤلاء الرواة الذين تعرضنا إليهم، وإن لم يكونوا ضعافاً بالمعنى المشهور عند الرجاليين، لكن، إذا اعتمدنا طريقة ابن خلدون في الجرح والتعديل، فلا بدّ من القول بضعفهم، ومن ثمّ القول بعدم صحة هذا الخبر، الذي وصفه الكاتب بالصحيح. وهذا ما يؤيد الدعوى التي أُطلقت على ابن خلدون، من عدم درايته بالحديث والرجال، فضلاً عن القواعد المعتمدة في هذين العلمين. وإلا، كيف يجيز لنفسه أن يضعّف روايات المهدي، بناء على قاعدة «الجرح مقدم على التعديل»، والحال أنه يؤيد نظريته برواية تعتبر ضعيفة على القاعدة نفسها؟.
اتّضح إلى هنا، أن نظرية العصبية ـ بصياغتها المتقدمة ـ لا تغطي مساحة واسعة من عمليات استيلاء الحركات السياسية على السلطة. ونضيف هنا بأن الربط بين إنكار فكرة المهدي وبين وجود نظرية العصبية غير واضح، خصوصاً بعد أن صرَّح ابن خلدون في كلامه أن العصبية الدينية قد تتغلب على العصبية النسبية، فإن الحديث عن ضرورة وجود عصبية نسبية في ظل سيطرة الوعي الديني في المجتمعات، قد يكون في غير محله.
وبناء على المروي في الأخبار، فإن المهدي الموعود سوف يعتمد في قيامه على الدعوة الدينية، في مجتمع زاد فيه الوعي والثقافة الدينية عما كانت عليه في المجتمعات البدوية، كما أنه سيظهر في وقت يكون الناس فيه مهيئين لعملية التغيير الواسعة التي سيقوم بها. وهذا كاف في إمكانية غلبته، حتى مع افتراض عدم وجود العصبية الفاطمية أو الهاشمية، أو حتى لو تطرَّفنا في افتراضنا، وقلنا بأن قيامه كان على الهاشميين أو على الحكم الفاطمي، لأنه سيعتمد في قيامه على الدعوة الدينية، وهي أقوى عصبيةً من النسب والانتماء القبلي.
من هنا يمكن أن يكون ابن خلدون قد عالج فكرة المهدي من منطلق ما عايشه أو سمع به، من ثورات كثيرة كانت تنطلق بين الحين والآخر في البلدان الإسلامية، وخصوصاً في المغرب العربي ـ المنطقة التي عاين ابن خلدون تجاذباتها السياسية جيداً، بل كان جزءاً من تركيبتها ـ بدعوى أن صاحبها هو المهدي الذي أخبر عنه الرسول 2 في الروايات الواردة عنه، دون أن يأخذ المؤلف بعين الاعتبار في معالجته هذه، حقيقة المهدي الموعود في التراث الإسلامي بشكل جدي، وأنه مسدَّد من قبل الله، كما هو الحال في بدء دعوة الرسول الأكرم 2، الذي كان قد خرج في غير عصبية من قومه.
* * *
(*) باحث في الحوزة العلمية، من لبنان.
([1]) أنظر على سبيل المثال ما نقله الحاكم النيسابوري من روايات كثيرة في المهدي عند تعرضه لأخبار الملاحم والفتن، وقال إنها صحيحة على شرط الشيخين في الصحة، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، دار المعرفة، بيروت: 4 : 553 وما بعده.
([2]) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1406هـ : 8 : 256.
([3]) ابن خلدون، المقدمة، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2000م. عرض ذلك في الفصل الثاني والخمسين من الفصل الثالث الخاص بالدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية، ونحن سوف نقتصر على ذكر بعض المقتطفات منه، تاركين الإشارة إلى مصدر كل فكرة بعينها، وعلى القارئ أن يطلب الزيادة من المصدر المذكور.
([4]) استعرض ابن خلدون نظرية العصبية في الفصل الثاني من الكتاب الأول عند تعرضه لذكر العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال، وتممها في الفصل الذي يليه الذي يتحدث فيه عن الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية. ونحن لن نتعرض لذكر مصدر كل فكرة على حدى، فاسحين المجال أمام القراء لمراجعة المصدر المذكور.
([5]) الجابري، محمد عابد، فكر ابن خلدون العصبية والدولة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد : 254.
([9]) العميدي، ثامر هاشم، دفاع عن الكافي، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1415هـ : 1 : 239.
([10]) المقدم، الدكتور محمد أحمد إسماعيل، المهدي وفقه أشراط الساعة، الدار العالمية، الإسنكدرية، الطبعة الأولى، 1423هـ : 130.
([18]) العقيلي، محمد بن عمرو بن موسى، الضعفاء الكبير، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1418 هـ : 1 : 128.
([19]) ابن حبان، محمد، كتاب الثقات، نشر دا الفكر للطباعة، الطبعة الأولى، سنة 1398هـ : 4 : 40.
([20]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ : 1 : 324.
([21]) ابن حبان، محمد، كتاب المجروحين من المحدثين، تحقيق محمود إبراهيم زايد : 1: 32.